الشريعة الاسلامية من معين السنة النبوية بين حماية العلماء و تزييف العلمانيين
القسم الثامن
12 ـ السلطة التشريعيّة في الإسلام
ويؤكّد المؤلّف في عرض سلبيّات الحضارة الإسلامية ، على : « أنّ المجتمع الإسلامي كان ـ على توالي العصور ـ خالياً عن السلطة التشريعيّة اللازمة » . فيكرّر التأكيد في ص12 على : « غياب السلطة التشريعيّة في المجتمع الإسلامي » . وعلى الرغم من التفاته إلى وجود عنصر تشريعي هامّ في الحضارة الإسلامية ، وهو « الاجتهاد » فإنّه يحاول الإلتفات على هذا العنصر فيقول في ص15 : « لقد نشأ عن غياب السلطة التشريعيّة في المجتمع الإسلامي أن حلّ الإجتهاد محلّ هذه السلطة ، لاستنباط أحكام للمسائل التي لم تنصّ عليها الشريعة » . وحاول تزييف الاجتهاد بدعواه أنّ : « رجال الفقه الاسلامي لم يحصروا حقّ الإجتهاد بفرد أو جماعة ، وإنّما أعطوا لكلّ مسلم حقّ الإجتهاد ، دون أن يكون لإجتهاد أحد صفة الإلزام لأحد آخر » .
وجعل الإجتهاد سبباً للإختلاف في قوله : « قد إختلفت الإجتهادات وتشرذم الناس حولها بسبب الصفة الدينيّة التي اُعطيت لها ، ونشأ من إختلافها قيام المذاهب الفقهيّة التي تحوّلت إلى مذاهب دينيّة طائفيّة » . إنّ هذا الإشكال يعتمد على : 1 ـ عدم تحديد « الإجتهاد » فإذا كان هو « بذل الجهد وإستفراغه للوصول إلى الحجّة على ما يجب على المسلم فعله ، من خلال الأدلّة والمثبتات الشرعيّة » فمعنى ذلك أنّ « المجتهدين » هم يشكّلون هيئة المشرّعين ، الذين يحدّدون القوانين التي تعتبر تشريعاً في المجتمع الإسلامي . فالإجتهاد إنّما هو طريقة عمل السلطة التشريعيّة ، لا أنّه ينشأ من غياب السلطة التشريعيّة كما يوحيه . . أليست السلطة التشريعيّة في بلاد الغرب لا تتكوّن إلاّ من مجموعة من العارفين بالقانون والدستور ، يتداولون الاُمور ، ويقرّرون التشريع النهائي اللازم العمل به؟!
إنّ « العقليّة التزييفيّة » المسيطرة على « التيّارات العلمانية » تمنعها من رؤية الحقيقة ، كما هي ، وتبعثها على تشويه ما يمتّ إلى الإسلام حتّى لو كان « جيّداً » فالإجتهاد في الحضارة الإسلامية يُعدّ من أرقى المناهج المتّبعة في التشريع ومبنيّ على أقوى اُسس المنطق السليم ، لكن يأبى المؤلّف إلاّ أن يجعل منه أمراً سيّئاً ، فيحاول أن يجعل « عدم حصر الإجتهاد بفرد أو أفراد » نقطة ضعف ، بينما هي أكبر نقطة قوّة في نظام التشريع الإسلامي ، إذ تعني أنّ لكلّ فرد من أفراد المجتمع الإمكانية في التطلّع إلى هذا المقام ، إذا أمكن أن يحقّق لنفسه قابلية الإجتهاد وتمكّن من أن يتوصّل بالجدّ والدراسة إلى مرتبة علمية تؤهّله لذلك ، فليس الإجتهاد « تمراً » أو « سندويجاً » يأكله الفرد ، وإنّما هو بحاجة إلى متابعة ومثابرة حتّى تحصل ملَكته في عقله ونفسه . فهل القانون الغربي يمنع أيّ فرد أن يدرس القانون ويترقّى في مدارج المدارس القانونية ،
حتّى يترشح إلى المجلس التشريعي ويصير مشرّعاً؟! أو أنّ السلطة التشريعية ـ مثل أيّة سلطة اُخرى ـ محصورة في الغرب على أفراد معيّنين من طبقة معيّنة موصوفة لا تتعدّاها؟! نعم ، الإسلام لم يحصر الإجتهاد في شخص أو جماعة ، وهذه مفخرة في النظام الإسلامي ، فلا تتكوّن سلطته التشريعيّة من ثلّة من المتحزّبين في إطار وضعي معيّن ، ولا يتّبعون أهواءاً خاصّة ، بل جعل صفة « الإجتهاد » ومعرفة الأحكام من أدلّتها ملاكاً لقابلية الدخول ضمن السلطة التشريعيّة ، فهل هذا نقص حتّى يعرضه المؤلّف ضمن ما يتصوّره على الحضارة الإسلامية من « سلبيّات »؟! وأمّا أنّ الإجتهاد ليست له صفة الإلزام ، فهذا جهل ببحوث هذا الموضوع الهامّ في علم التشريع الإسلامي ، فالإجتهاد المتوصّل إليه ملزم لنفس المجتهد بلا نزاع ، ولمن يرى ذلك المجتهد أعلم من المجتهدين الآخرين ، وبالنسبة إلى الموضوعات العامّة التي ترتبط بإدارة الشؤون الحكومية ، فإنّ الإلزام حتميّ فيما إذا كان المجتهد الحاكم قائماً بالأمر ، بعد موافقة أهل الخبرة من المجتهدين ـ أصحاب السلطة التشريعيّة ـ وتعيّنه « وليّاً للأمر » ويكون حكمه نافذاً ، بعد ثبوت اجتهاده ، وموافقته للاُصول المقرّرة وعدم مخالفته للدستور الأساسي للشريعة ، ولا يجوز الردّ عليه حتّى من مجتهد آخر .
إنّ إغضاء المؤلّف عن كلّ هذه الحقائق ، وطرحه للإجتهاد كأنّه تمرّ يؤكل ، ليس إلاّ مبتنياً على غرضه في تزييفه وتهوين أمره . وأمّا أنّ الإجتهادت اختلفت ، وتشرذم الناس ، فهل أنّ البرلمانات في البلدان الغربية ـ ذات الحضارة الواحدة ـ لم تختلف ، ولم تختلف شعوبها ، في كلّ بلد حول برلمانه ، ولم تختلف تشريعاتها حسب تعدّد برلماناتها؟! وهل لهم « تشريع » واحد؟! ثمّ إنّ الإختلاف في المذهب الفقهي ، إنّما هو ناشئ من إختلاف وجهة النظر والفهم للمصادر ، وهو يتّبع إختلاف المنهج المذهبي في تحديد تلك المصادر ومدى حجّيتها ، وليس العكس كما يريده المؤلّف . فلو اتّحدت الكلمة ، واتّفقت الرؤية إلى اُصول الدين ، واُصول الفقه ، لما تعدّدت المذاهب الفقهيّة أصلا ، إلاّ بصورة ضئيلة . فليس الإجتهاد سبباً في وجود المذاهب الطائفية ، بل المذاهب الطائفية والرؤى الفكرية المتعدّدة هي السبب في إختلاف المذاهب الفقهيّة حسب مصادر الإجتهاد عندها .
13 ـ البديل الثقافي
ليست أيّة حضارة معصومةً من الأخطاء والعقبات التي تعترض طريقها مهما كانت الاُسس والنظريات المبنية عليها رصينة ومحكمة ، وحتّى تلك المستلهمة من السنن والشرائع الإلهيّة ، لما هو واضح من عدم عصمة الناس القائمين على عملية التطبيق ، وما يدخل في خلال ذلك من أهواء ورغبات ، أو أخطاء وتصرّفات تستند إلى السهو ، لكنّ الهجوم على حضارة ما ـ مهما كانت ـ وتخطئتها بالجملة ، وبصورة مطلقة ، والتركيز على سلبيّاتها ، والتغاضي عن إيجابيّاتها أمر مخالف لأبسط قواعد العدل والحكمة ، ومناف للنظرة الحياديّة التي يجب أن يتمتّع بهما الباحث الحيادي .
لكنّ الذين استهدفوا الإسلام في عصرنا لم ينصفوه في أيّ جانب ، لا في ماضيه ولا حاضره ، ولا في عقيدته ولا شريعته ، ولا في تاريخه ولا ثقافته ولا تراثه ، بل تراهم يشنّون الغارة تلو الاُخرى على كلّ ما يمتّ إليه ، وهذا هو دليل واضح على « العقليّة التزييفيّة » التي تسيطر عليهم ، وقد جعلت غشاوة على سمعهم وعلى أبصارهم ، وفي قلوبهم مرضاً هو التشكيك في كلّ شيء إسلامي! ومع أنّ المؤرّخين الغربيّين يشهدون بأنّ الإسلام إنّما جاء في عصر الظلم والظلمات الجاهلية ، ليهب للأرض العدل والنور ،
وينقذ البشرية من ورطات الوحشية والجهل والرذيلة ، فوهب لها الرحمة والعلم والفضيلة ، حتّى أصبح الشعب المسلم يحمل مشاعل الهدى ولخير والعلم ولقرون عديدة ، ومع هذا فإنّ العلمانيّين الجدد يتجاوزون هذه الحقيقة ، وبكلّ جسارة ووقاحة ، ويركّزون على السلبيات التي ابتليت بها الاُمّة الإسلامية وعلى يد شراذم ممّن دخلوا التاريخ بالتزوير ، فلا يمثّلون الإسلام في أيّ عنصر من إيجابيّاته ، ولكنّ العلمانية تركّز على هذه الأمثلة المشوّهة لتشويه صورة الإسلام والاُمّة الإسلامية ، وتسكت عن الأمثلة الرائعة التي تزخر بها الحضارة الإسلامية في الحكم والعلم والأخلاق . ومن أطوار تزييفهم مقارنتهم بين « التقدّم التكنولوجي » و « الثقافة الإسلامية » مع أنّهما من مقولتين ، لا يمكن المقارنة بينهما ، فالثقافة الإسلامية لابدّ أن تقاس بالثقافة الغربية المعاصرة ، حتّى يتبيّن ما بينهما من التفاوت ، أمّا التقدّم العلمي والتكنولوجي فلا يكون دليلا على التفوّق الثقافي والفكري ، بقدر ما هو دليل على المثابرة على العمل وإستغلال الظروف والإمكانات ، بينما ظلّت الاُمّة الإسلامية ، وبفعل الغربيّين المستعمرين وعملائهم الحكّام في المنطقة ، بعيدة عن كلّ إمكانات العمل الجادّ ، بل سدّ أبواب الإبداع والإختراع على الشعب المسلم ، ومواجهة المبتكرين بالإستهانة ، وحتّى التحقير والقتل والتشريد ،
ممّا اضطرّ العقول الشرقية إلى الهجرة إلى الغرب لتوفّر الإمكانات هناك ، وتقديرهم لكلّ عقل متتبّع مبدع ، واحتضانه إلى حدّ قطع ولائه عن أهله ووطنه وإنتمائه إلى شعبه ودينه! أمّا بعد الحرّية النسبيّة التي حصلت عليها البلدان الإسلامية ، فإنّ التقدّم العلمي والتكنولوجي يتحقّق بسرعة فائقة على أيدي أبناء المسلمين ، وإنّ إبداعاتهم تزهو ، وصناعتهم تزدهر بشكل فائق ، ولكن هل تسمح الدول الإستعمارية لها بمثل ذلك ، كلاّ ، فإنّها تحاول بشتّى الصور والإتّهامات صدّها وإيقاف كلّ محاولة من هذا القبيل ، ولو بشنّ الحرب ، وقصف المعامل والمصانع بأطنان القنابل ، كما حدث بالنسبة إلى العراق ، أو تسعى لفرض الحصار الإقتصادي أو العزلة السياسيّة لقطع السبل عن وصول البلدان الإسلامية إلى هذا الهدف ، كما تقوم بالنسبة إلى الجمهورية الإسلامية في ايران . إنّ محاولة المؤلّف تعتمد أساساً تضحيل الثقافة الإسلامية والإستهانة بها ، وتشويه صورة التاريخ الإسلامي ، مقدّمة للطعن في السنّة ، التي هي عماد التشريع الإسلامي ، فسرد مجموعة ممّا تصوّره « سلبيات » و « إشكاليات » لكنّها ضحلة لا تعتمد على المنطق السليم ، ولا النقل الصحيح ، ولا الإستنتاج الصائب ، ومع ذلك فقد حشّد في كتابه ـ بمناسبة ولا مناسبة ـ قضايا ووقائع تاريخيّة ، وتحدّث عنها بشكل يبدو
« صائباً » فيها . إنّ وجود فجوات عميقة في التاريخ الإسلامي ، تخدش في الموروث الإسلامي اعزيز ، وتنجرّ سلبياته على سمعة الدين والعقيدة والشريعة ، ممّا لا يمكن إنكاره ، ولكن على ماذا تدلّ؟! وبماذا تعالج؟! وكيف تعرض؟! ولماذا تعرض؟! إنّ المسلمين ـ عامّة ـ يعتقدون بالدين الإسلامي واُصوله الأساسيّة وهي التوحيد ، والنبوّة ، والمعاد ، على أساس الإستلهام من القرآن والنبي ، ولهم مشتركات تجمعهم هي الكعبة ، وصوم شهر رمضان ، والصلاة اليومية ، والزكاة ، ولم يختلف إثنان من المسلمين في شيء من هذه « الثوابت » المسلّمة وقد اختلفوا في معرفة أشياء اُخرى من الإسلام ومعارفه ممّا يشكّل الفروع العمليّة ، وإنّ ذلك نشأ من إختلافهم في طرق الإثبات ـ كمّاً وكيفاً ـ بما لا يشكّل أبداً عقبة في وحدتهم وإنتمائهم الديني ، ولا في اُخوّتهم الإسلامية . فطائفة كبيرة من المسلمين التزمت بأهل بيت النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) مرشدين لهم ، و أئمّة يعرّفونهم أحكام الدين ، ويهتدون بهديهم في السيرة والخُلُق والعمل ، لأنّهم خلفاء الرسول الذين نصبهم أئمّة للاُمّة ، وأمر بالتمسّك بهم للنجاة من الضلال ، و التخلّص من الإنحراف عن الإسلام . وطائفة اُخرى تمسّكت بسنّة الصحابة لفرضهم مرشدين اُمناء على هذا الدين ، وقد كانت هذه الطائفة الأكثر عدداً ، والأقوى يداً ،
وقد كانت السلطة على طول التاريخ بأيديهم وأيدي من وقف معهم في هذا الطريق . ومع أنّ الصحابة ، لم يقل أحد بعصمتهم من الأخطاء والإنحرافات ، لا عقيديّاً ولا فكرياً ولا عملياً ، فإنّهم أصبحوا في نظر الطائفة المتمسّكة بهم طرقاً إلى الدين ، من خلالهم تصل أحكامه وتفسّر آياته وتعرف سيرته ، فلابدّ أن يوثّقوا و يلتزم برأيهم ـ أيّاً كانوا ومهما كان فعلهم ـ ولأنّهم يمثّلون المسلمين الأوّلين القائمين بأمر الإسلام ، فلابدّ أن نلتزم بهم ، فإنّ التشكيك في هؤلاء يعني التشكيك في نفس الإسلام ومسلّماته ، وإنّ رفض الصحابة ، والتجاسر عليهم ، والاعتراض على سيرة أحدهم يساوي رفض الدين كلّه ، والكفر بالإسلام من أصله والمساس بالمعتقدات الأساسية الثابتة كلّها . ومهما كانت أسباب هذه الفكرة و دوافعها ، و منشأ وجودها في أنظار هذه الطائفة ، و لماذا يساوون بين الصحابة والإسلام ، فإنّ ثمارها واضحة ، فإنّ الحكّام الذين حكموا التاريخ الإسلامي قد استغلّوا هذه الفكرة لتبرير كلّ ما يصدر منهم من مخالفات ، و حصّنوا أنفسهم ضدّ كلّ خارج أو معترض ، وضدّ كلّ محاسبة أو مساءلة ، فلذلك بقيت الطبقة الحاكمة آمنة مطمئنّة من أن يثور عليهم عامّة المسلمين . أمّا الشيعة ، الذين لم يلتزموا بهذه الفكرة ، ولم يلتزموا بما فرّعوا عليها ، فإنّهم التزموا بالاُصول الإسلامية الثابتة ، واعتمدوا على أهل البيت النبويّ طريقاً إلى معرفة أحكام الإسلام ، ولم يسكتوا عن التصرّفات التي كان الحكّام والاُمراء والولاة يقومون بها متجاوزين أحكاماً ثابتة في الدين ، ولم يعترفوا لهم بحقّ في التعدّي على حقوق الله وحقوق الناس ،
وكان في مقدّمة هؤلاء أئمّة أهل البيت أنفسهم الذين تولّوا أمر الدين ، وهم : فاطمة الزهراء ، وعلي أمير المؤمنين والحسن والحسين سبطا رسول الله ، والأئمّة الآخرون ، وكذلك العلويّون الذين نذروا أنفسهم للتصدّي للمخالفات والخروج عن أحكام الدين . بينما عامّة الناس من الطائفة الاُخرى تحافظ على عقائدهم الأساسيّة بالإسلام ، وإنّما يجدون هم في الإلتزام بسنّة الصحابة طريقاً لتلك المحافظة ، ويعدّون تصرّفات الخلفاء ـ الذين يمثّلون الحكومة الإسلامية ـ اُموراً وقتية ، وتصرّفات خاصّة ، تزول وتفنى ، ولا يبقى سوى الإسلام باُصوله وشموخه وعظمته ، وقد دأب المنظّرون التابعون للسلطات في توجيه تلك التصرّفات بغرز أفكار إنحرافية مثل : الإرجاء ، والجبر ، والتذرّع بالإجتهاد والرأي ، وغير ذلك من الأفكار الإنحرافية التي تقنع الناس ، وتمنعهم من التحرّك للإصلاح ، ومن أخطر ما بثّوه : كفر المعارضة ، وخروجها عن الدين ووجوب التصدّي لها باسم الإسلام .
وفي نفس الوقت كان المؤمنون بالإسلام في اُصوله الثابتة ومسلّماته الأساسيّة يعارضون كلّ التصرّفات ويفنّدون الأفكار الموجّهة لها ، لكنّهم يعرضون البديل الحقّ والمتين والصادق ، وهم أئمّة أهل البيت وتوجيهاتهم الرائدة وفقههم الناصع العادل ، وسيرتهم المجيدة وبذلك كانت تتبخّر جهود المضلّلين بتكفير المعارضة ، وكيف تكفّر طائفة يقودها أئمّة أهل البيت النبويّ؟! وتسوقها إرشاداتهم القيّمة العادلة؟! إنّ الشيعة لمّا عارضوا ما لم يوافق الحقّ من التصرّفات المريبة والخارجة عن حدود الشريعة ومسلّماتها ، والسيرة الفاسدة التي قام اُناس باسم الخلافة والحكومة الإسلامية ، لم يزيّفوا إلاّ أعمال هؤلاء ، وكانت معارضتهم من أجل المحافظة على الإسلام واُصوله ، وجاؤا ببديل أوثق وأتقى وهم أهل البيت ( عليهم السلام ) . فإذا عرضوا إشكالات التاريخ الإسلامي ، ومخالفات الخلفاء والاُمراء ، فإنّما هو بهدف توجيه العامّة من الناس إلى الحقّ الصحيح ممّا جاء به الإسلام في أحكامه وفروعه وسيرته وتشريعه ،
وتنبيههم إلى أنّ الصحبة للنبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) إنّما تكون فضيلة ـ وما أعظمها ـ إذا لم تقترن بمخالفته فيما جاء به من اُصول وفروع وسيرة ، وأنّ الصحابة الطيّبين الذين لم يخالفوا النبي في شيء من ذلك وبقوا إلى آخر الخطّ على هديه وسيرته كثيرون ، لكن من خرج منهم عن السيرة الإسلامية والنبوية فلا أبقى لنفسه كرامة ، وليس له عند الله ورسوله والمؤمنين حرمة . ولا يجوز لأحد أن يعتدي على أحد منهم ما لم يثبت تعدّيه هو على الإسلام . فالمهمّ لكلّ مسلم الحفاظ على الإسلام واُصوله وهديه ، وليس لأحد حقّ على حساب كرامة الإسلام مهما كان ، خليفة أو صحابياً أو سلطاناً أو أميراً . وأمّا العلمانيّون ـ ومنهم المؤلّف ـ فإنّهم يستغلّون السلبيّات التي وقعت في التاريخ الإسلامي وعلى أيدي رجال من الصحابة وغيرهم ، لضرب أصل الإسلام وتشويه صورته وتزييف تشريعاته ، ووسيلة إلى ضرب السنّة التي هي مصدرها . وإستخدامهم لهذا إنّما هو من قبيل « كلمة حقّ يراد بها باطل » فوقوع تلك المخالفات أمر ثابت ، لكنّ المسؤول عنها إنّما هو القائمون بها ، لا الإسلام ولا السنّة ولا التشريعات المعتمدة عليها . فليست المخالفات سبباً للهجوم على الدين بقدر ما هي وسيلة لتوجيه عامّة المسلمين وتصحيح مسارهم ،
وهديهم إلى الإسلام الحقّ والصحيح . إنّ محاولة ضرب الدين بتصرّفات السلاطين ، إنّما هو الهدف الذي أراده السلاطين الفاسدون أنفسهم ، أمثال معاوية والحجّاج وخلفاء بني اُميّة وبني العبّاس وآل عثمان ، و من تلاهم من قوّاد وملوك ورؤساء الدول الإسلامية في هذا العصر . ثمّ إنّ العلمانية التي تستهدف ضرب الإسلام بعرض هذه القضايا ، فإنّما تفرّغ ساحة العالم الإسلامي من أيّة ثقافة أو حضارة ، لتدعو إلى إستبدالها بالحضارة الغربية الحديثة ، فإذا زيّفت الشريعة الإسلامية ، فلابدّ من تبنّي الشريعة الغربية ، وبذلك تتحقّق مآرب عملاء الغرب في تضحيل الحضارة الإسلامية ، وتعظيم حضارة الغرب المادّية محلّها . وفي نفس الوقت فإنّ العلمانية تكون ـ بعملها اللئيم هذا ـ قد أسقطت الأوراق التاريخيّة من أيدي الباحثين الذين يعرضون مآسي التاريخ الإسلامي ، لدعوة الناس إلى الإسلام ، فإنّ عملهم ـ وهو يحاولون تزييف الإسلام به ـ يجعلهم في نظر عامّة الناس ، من المعارضين للإسلام . ويجرّون معهم ، كلّ من يحاول فهم التاريخ بصورة صحيحة إلى قفص الإتّهام بالمعارضة للإسلام وتزييف شريعته! وهذا في نفسه مكسب للعلمانية ، أن تبدّد مساعي الإصلاح في العالم الإسلامي ، إن لم تحظ بمأربها الأوّل على الأقلّ .
ولكن إذا كانت العلمانية فاشلة في أساليبها لتزييف الشريعة ، فهي في هذه المحاولة أكثر فضلا .