الرئيسية / القرآن الكريم / الميزان في تفسير القرآن سورة البقرة 183 – 185

الميزان في تفسير القرآن سورة البقرة 183 – 185

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)

بيان

سياق الآيات الثلاث يدل أولا على أنها جميعا نازلة معا فإن قوله تعالى: أياما معدودات، في أول الآية الثانية ظرف متعلق بقوله: الصيام في الآية الأولى، و قوله تعالى: شهر رمضان، في الآية الثالثة إما خبر لمبتدإ محذوف و هو الضمير الراجع إلى قوله: أياما معدودات، و التقدير هي شهر رمضان أو مبتدأ لخبر محذوف، و التقدير شهر رمضان هو الذي كتب عليكم صيامه أو هو بدل من الصيام في قوله: كتب عليكم الصيام، في الآية الأولى و على أي تقدير هو بيان و إيضاح للأيام المعدودات التي كتب فيها الصيام فالآيات الثلاث جميعا كلام واحد مسوق لغرض واحد و هو بيان فرض صوم شهر رمضان.

و سياق الآيات يدل ثانيا على أن شطرا من الكلام الموضوع في هذه الآيات الثلاث بمنزلة التوطئة و التمهيد بالنسبة إلى شطر آخر، أعني: أن الآيتين الأوليين سرد الكلام فيهما ليكون كالمقدمة التي تساق لتسكين طيش النفوس و الحصول على اطمينانها و استقرارها عن القلق و الاضطراب، إذا كان غرض المتكلم بيان ما لا يؤمن فيه التخلف و التأبي عن القبول، لكون ما يأتي من الحكم أو الخبر ثقيلا شاقا بطبعه على المخاطب، و لذلك ترى الآيتين الأوليين تألف فيهما الكلام من جمل لا يخلو واحدة منها عن هداية ذهن المخاطب إلى تشريع صوم رمضان بإرفاق و ملاءمة، بذكر ما يرتفع معه الاستيحاش و الاضطراب، و يحصل به تطيب النفس، و تنكسر به سورة الجماح و الاستكبار، بالإشارة إلى أنواع من التخفيف و التسهيل، روعيت في تشريع هذا الحكم مع ما فيه من الخير العاجل و الآجل.

و لذلك لما ذكر كتابة الصيام عليهم بقوله: يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام أردفه بقوله: كما كتب على الذين من قبلكم أي لا ينبغي لكم أن تستثقلوه و تستوحشوا من تشريعه في حقكم و كتابته عليكم فليس هذا الحكم بمقصور عليكم بل هو حكم مجعول في حق الأمم السابقة عليكم و لستم أنتم متفردين فيه، على أن في العمل بهذا الحكم رجاء ما تبتغون و تطلبونه بإيمانكم و هو التقوى التي هي خير زاد لمن آمن بالله و اليوم الآخر، و أنتم المؤمنون و هو قوله تعالى.

لعلكم تتقون، على أن هذا العمل الذي فيه رجاء التقوى لكم و لمن كان قبلكم لا يستوعب جميع أوقاتكم و لا أكثرها بل إنما هو في أيام قلائل معينة معدودة، و هو قوله تعالى: أياما معدودات، فإن في تنكير، أياما، دلالة على التحقير، و في التوصيف بالعدل إشعار بهوان الأمر كما في قوله تعالى: و شروه بثمن بخس دراهم معدودة: يوسف – 30، على أنا راعينا جانب من يشق عليه أصل الصيام كمن يطيق الصيام، فعليه أن يبدله من فدية لا تشقه و لا يستثقلها، و هو طعام مسكين و هو قوله تعالى: فمن كان منكم مريضا أو على سفر إلى قوله، فدية طعام مسكين اه.

و إذا كان هذا العمل مشتملا على خيركم و مراعى فيه ما أمكن من التخفيف و التسهيل عليكم كان خيركم أن تأتوا به بالطوع و الرغبة من غير كره و تثاقل و تثبط، فإن من تطوع خيرا فهو خير له من أن يأتي به عن كره و هو قوله تعالى.

فمن تطوع خيرا فهو خير له إلخ، فالكلام الموضوع في الآيتين كما ترى توطئة و تمهيد لقوله تعالى في الآية الثالثة: فمن شهد منكم الشهر فليصمه إلخ، و علي هذا فقوله تعالى في الآية الأولى: كتب عليكم الصيام، إخبار عن تحقق الكتابة و ليس بإنشاء للحكم كما في قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الآية:» البقرة – 178، و قوله تعالى «كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين و الأقربين»: البقرة – 180، فإن بين القصاص في القتلى و الوصية للوالدين و الأقربين و بين الصيام فرقا، و هو أن القصاص في القتلى أمر يوافق حس الانتقام الثائر في نفوس أولياء المقتولين و يلائم الشح الغريزي الذي في الطباع أن ترى القاتل حيا سالما يعيش و لا يعبأ بما جنى من القتل، و كذلك حس الشفقة و الرأفة بالرحم يدعو النفوس إلى الترحم على الوالدين و الأقربين، و خاصة عند الموت و الفراق الدائم، فهذان أعني القصاص، و الوصية حكمان مقبولان بالطبع عند الطباع، موافقان لما تقتضيها فلا يحتاج الإنباء عنها بإنشائها إلى تمهيد مقدمة و توطئة بيان بخلاف حكم الصيام، فإنه يلازم حرمان النفوس من أعظم مشتهياتها و معظم ما تميل إليها و هو الأكل و الشرب و الجماع، و لذلك فهو ثقيل على الطبع، كريه عند النفس، يحتاج في توجيه حكمه إلى المخاطبين، و هم عامة الناس من المكلفين إلى تمهيد و توطئة تطيب بها نفوسهم و تحن بسببها إلى قبوله و أخذه طباعهم، و لهذا السبب كان قوله: كتب عليكم القصاص اه، و قوله: كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إنشاء للحكم من غير حاجة إلى تمهيد مقدمة بخلاف قوله: كتب عليكم الصيام فإنه إخبار عن الحكم و تمهيد لإنشائه بقوله: فمن شهد منكم، بمجموع ما في الآيتين من الفقرات السبع.

قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اه، الإتيان بهذا الخطاب لتذكيرهم بوصف فيهم و هو الإيمان، يجب عليهم إذا التفتوا إليه أن يقبلوا ما يواجههم ربهم به من الحكم و إن كان على خلاف مشتهياتهم و عاداتهم، و قد صدرت آية القصاص بذلك أيضا لما سمعت أن النصارى كانوا يرون العفو دون القصاص و إن كان سائر الطوائف من المليين و غيرهم يرون القصاص.

قوله تعالى: كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم اه، الكتابة معروفة المعنى و يكنى به عن الفرض و العزيمة و القضاء الحتم كقوله: «كتب الله لأغلبن أنا و رسلي:» المجادلة – 21، و قوله تعالى: «و نكتب ما قدموا و آثارهم:» يس – 12 و قوله تعالى: «و كتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس»: المائدة – 45، و الصيام و الصوم في اللغة مصدران بمعنى الكف عن الفعل: كالصيام عن الأكل و الشرب و المباشرة و الكلام و المشي و غير ذلك، و ربما يقال: إنه الكف عما تشتهيه النفس و تتوق إليه خاصة ثم غلب استعماله في الشرع في الكف عن أمور مخصوصة، من طلوع الفجر إلى المغرب بالنية، و المراد بالذين من قبلكم الأمم الماضية ممن سبق ظهور الإسلام من أمم الأنبياء كأمة موسى و عيسى و غيرهم، فإن هذا المعنى هو المعهود من إطلاق هذه الكلمة في القرآن أينما أطلقت، و ليس قوله: كما كتب على الذين من قبلكم، في مقام الإطلاق من حيث الأشخاص و لا من حيث التنظير فلا يدل على أن جميع أمم الأنبياء كان مكتوبا عليهم الصوم من غير استثناء و لا على أن الصوم المكتوب عليهم هو الصوم الذي كتب علينا من حيث الوقت و الخصوصيات و الأوصاف، فالتنظير في الآية إنما هو من حيث أصل الصوم و الكف لا من حيث خصوصياته.

و المراد بالذين من قبلكم، الأمم السابقة من المليين في الجملة، و لم يعين القرآن من هم، غير أن ظاهر قوله: كما كتب، أن هؤلاء من أهل الملة و قد فرض عليهم ذلك، و لا يوجد في التوراة و الإنجيل الموجودين عند اليهود و النصارى ما يدل على وجوب الصوم و فرضه، بل الكتابان إنما يمدحانه و يعظمان أمره، لكنهم يصومون أياما معدودة في السنة إلى اليوم بأشكال مختلفة: كالصوم عن اللحم و الصوم عن اللبن و الصوم عن الأكل و الشرب، و في القرآن قصة صوم زكريا عن الكلام و كذا صوم مريم عن الكلام.

بل الصوم عبادة مأثورة عن غير المليين كما ينقل عن مصر القديم و يونان القديم و الرومانيين، و الوثنيون من الهند يصومون حتى اليوم، بل كونه عبادة قربية مما يهتدي إليه الإنسان بفطرته كما سيجيء.

و ربما يقال: إن المراد بالذين من قبلكم اليهود و النصارى أو السابقين من الأنبياء استنادا إلى روايات لا تخلو عن ضعف.

قوله تعالى: أياما معدودات، منصوب على الظرفية بتقدير، في، و متعلق بقوله: الصيام، و قد مر أن تنكير أيام و اتصافه بالعدد للدلالة على تحقير التكليف من حيث الكلفة و المشقة تشجيعا للمكلف، و قد مر أن قوله: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن «إلخ»، بيان للأيام فالمراد بالأيام المعدودات شهر رمضان.

و قد ذكر بعض المفسرين: أن المراد بالأيام المعدودات ثلاث أيام من كل شهر و صوم يوم عاشوراء، و قال بعضهم: و الثلاث الأيام هي الأيام البيض من كل شهر و صوم يوم عاشوراء فقد كان رسول الله و المسلمون يصومونها ثم نزل قوله تعالى: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن إلخ، فنسخ ذلك و استقر الفرض على صوم شهر رمضان، و استندوا في ذلك إلى روايات كثيرة من طرق أهل السنة و الجماعة لا تخلو في نفسها عن اختلاف و تعارض.

و الذي يظهر به بطلان هذا القول أولا: أن الصيام كما قيل: عبادة عامة شاملة، و لو كان الأمر كما يقولون لضبطه التاريخ و لم يختلف في ثبوته ثم في نسخة أحد و ليس كذلك، على أن لحوق يوم عاشوراء بالأيام الثلاث من كل شهر في وجوب الصوم أو استحبابه ككونه عيدا من الأعياد الإسلامية مما ابتدعه بنو أمية لعنهم الله حيث أبادوا فيه ذرية رسول الله و أهل بيته بقتل رجالهم و سبي نسائهم و ذراريهم و نهب أموالهم في وقعة الطف ثم تبركوا باليوم فاتخذوه عيدا و شرعوا صومه تبركا به و وضعوا له فضائل و بركات، و دسوا أحاديث تدل على أنه كان عيدا إسلاميا بل من الأعياد العامة التي كانت تعرفه عرب الجاهلية و اليهود و النصارى منذ بعث موسى و عيسى، و كل ذلك لم يكن، و ليس اليوم ذا شأن ملي حتى يصير عيدا مليا قوميا مثل النيروز أو المهرجان عند الفرس، و لا وقعت فيه واقعة فتح أو ظفر حتى يصير يوما إسلاميا كيوم المبعث و يوم مولد النبي، و لا هو ذو جهة دينية حتى يصير عيدا دينيا كمثل عيد الفطر و عيد الأضحى فما باله عزيزا بلا سبب؟.

و ثانيا: أن الآية الثالثة من الآيات أعني قوله: شهر رمضان إلخ، تأبى بسياقها أن تكون نازلة وحدها و ناسخا لما قبلها فإن ظاهر السياق أن قوله شهر رمضان خبر لمبتدإ محذوف أو مبتدأ لخبر محذوف كما مر ذكره فيكون بيانا للأيام المعدودات و يكون جميع الآيات الثلاث كلاما واحدا مسوقا لغرض واحد و هو فرض صيام شهر رمضان، و أما جعل قوله: شهر رمضان مبتدأ خبره قوله: الذي أنزل فيه القرآن فإنه و إن أوجب استقلال الآية و صلاحيتها لأن تنزل وحدها غير أنها لا تصلح حينئذ لأن تكون ناسخة لما قبلها لعدم المنافات بينها و بين سابقتها، مع أن النسخ مشروط بالتنافي و التباين.

و أضعف من هذا القول قول آخرين – على ما يظهر منهم -: أن الآية الثانية أعني قوله تعالى: أياما معدودات إلخ، ناسخة للآية الأولى أعني قوله تعالى: كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم إلخ، و ذلك أن الصوم كان مكتوبا على النصارى ثم زادوا فيه و نقصوا بعد عيسى (عليه السلام) حتى استقر على خمسين يوما، ثم شرعه الله في حق المسلمين بالآية الأولى فكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و الناس يصومونها في صدر الإسلام حتى نزل قوله تعالى: أياما معدودات إلخ، فنسخ الحكم و استقر الحكم على غيره.

و هذا القول أوهن من سابقه و أظهر بطلانا، و يرد عليه جميع ما يرد على سابقه من الإشكال، و كون الآية الثانية من متممات الآية الأولى أظهر و أجلى، و ما استند إليه القائل من الروايات أوضح مخالفة لظاهر القرآن و سياق الآية.

قوله تعالى: فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر، الفاء للتفريع و الجملة متفرعة على قوله: كتب عليكم، و قوله: معدودات اه، أي إن الصيام مكتوب مفروض، و العدد مأخوذ في الفرض، و كما لا يرفع اليد عن أصل الفرض كذلك لا يرفع اليد عن العدد، فلو عرض عارض يوجب ارتفاع الحكم الفرض عن الأيام المعدودات التي هي أيام شهر رمضان كعارض المرض و السفر، فإنه لا يرفع اليد عن الصيام عدة من أيام أخر خارج شهر رمضان تساوي ما فات المكلف من الصيام عددا، و هذا هو الذي أشار تعالى إليه في الآية الثالثة بقوله: و لتكملوا العدة، فقوله تعالى: أياما معدودات، كما يفيد معنى التحقير كما مر يفيد كون العدد ركنا مأخوذا في الفرض و الحكم.

ثم إن المرض خلاف الصحة و السفر مأخوذ من السفر بمعنى الكشف كأن المسافر ينكشف لسفره عن داره التي يأوي إليها و يكن فيها، و كان قوله تعالى: أو على سفر، و لم يقل: مسافرا للإشارة إلى اعتبار فعليه التلبس حالا دون الماضي و المستقبل.

و قد قال قوم – و هم المعظم من علماء أهل السنة و الجماعة -: إن المدلول عليه بقوله تعالى: و من كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر، هو الرخصة دون العزيمة فالمريض و المسافر مخيران بين الصيام و الإفطار، و قد عرفت أن ظاهر قوله تعالى: فعدة من أيام أخر هو عزيمة الإفطار دون الرخصة، و هو المروي عن أئمة أهل البيت، و هو مذهب جمع من الصحابة كعبد الرحمن بن عوف و عمر بن الخطاب و عبد الله بن عمر و أبي هريرة و عروة بن الزبير، فهم محجوجون، بقوله تعالى: فعدة من أيام أخر.

و قد قدروا لذلك في الآية تقديرا فقالوا: إن التقدير فمن كان مريضا أو على سفر فأفطر فعدة من أيام أخر.

و يرد عليه أولا أن التقدير كما صرحوا به خلاف الظاهر لا يصار إليه إلا بقرينة و لا قرينة من نفس الكلام عليه.

و ثانيا: أن الكلام على تقدير تسليم التقدير لا يدل على الرخصة فإن المقام كما ذكروه مقام التشريع، و قولنا: فمن كان مريضا أو على سفر فأفطر غاية ما يدل عليه أن الإفطار لا يقع معصية بل جائزا بالجواز بالمعنى الأعم من الوجوب و الاستحباب و الإباحة، و أما كونه جائزا بمعنى عدم كونه إلزاميا فلا دليل عليه من الكلام البتة بل الدليل على خلافه فإن بناء الكلام في مقام التشريع على عدم بيان ما يجب بيانه لا يليق بالمشرع الحكيم و هو ظاهر.

قوله تعالى: و على الذين يطيقونه فدية طعام مسكين، الإطاقة كما ذكره بعضهم صرف تمام الطاقة في الفعل، و لازمه وقوع الفعل بجهد و مشقة، و الفدية هي البدل و هي هنا بدل مالي و هو طعام مسكين أي طعام يشبع مسكينا جائعا من أوسط ما يطعم الإنسان، و حكم الفدية أيضا فرض كحكم القضاء في المريض و المسافر لمكان قوله: و على الذين، الظاهر في الوجوب التعييني دون الرخصة و التخيير.

و قد ذكر بعضهم: أن الجملة تفيد الرخصة ثم فسخت فهو سبحانه و تعالى خير المطيقين للصوم من الناس كلهم يعني القادرين على الصوم من الناس بين أن يصوموا و بين أن يفطروا و يكفروا عن كل يوم بطعام مسكين، لأن الناس كانوا يومئذ غير متعوذين بالصوم ثم نسخ ذلك بقوله: فمن شهد منكم الشهر فليصمه، و قد ذكر بعض هؤلاء: أنه نسخ حكم غير العاجزين، و أما مثل الشيخ الهرم و الحامل و المرضع فبقي على حاله، من جواز الفدية.

و لعمري إنه ليس إلا لعبا بالقرآن و جعلا لآياته عضين، و أنت إذا تأملت الآيات الثلاث وجدتها كلاما موضوعا على غرض واحد ذا سياق واحد متسق الجمل رائق البيان، ثم إذا نزلت هذا الكلام على وحدته و اتساقه على ما يراه هذا القائل وجدته مختل السياق، متطارد الجمل يدفع بعضها بعضا، و ينقض آخره أوله، فتارة يقول كتب عليكم الصيام، و أخرى يقول: يجوز على القادرين منكم الإفطار و الفدية، و أخرى يقول: يجب عليكم جميعا الصيام إذا شهدتم الشهر، فينسخ حكم الفدية عن القادرين و يبقى حكم غير القادرين على حاله، و لم يكن في الآية حكم غير القادرين، اللهم إلا أن يقال: إن قوله: يطيقونه، كان دالا على القدرة قبل النسخ فصار يدل بعد النسخ على عدم القدرة، و بالجملة يجب على هذا أن يكون قوله: و على الذين يطيقونه في وسط الآيات ناسخا لقوله: كتب عليكم الصيام، في أولها لمكان التنافي، و يبقى الكلام في وجهه تقييده بالإطاقة من غير سبب ظاهر، ثم قوله: فمن شهد منكم الشهر فليصمه في آخر الآيات ناسخا لقوله: و على الذين يطيقونه في وسطها، و يبقى الكلام في وجه نسخه لحكم القادرين على الصيام فقط دون العاجزين، مع كون الناسخ مطلقا شاملا للقادر و العاجز جميعا، و كون المنسوخ غير شامل لحكم العاجز الذي يراد بقاؤه و هذا من أفحش الفساد.

و إذا أضفت إلى هذا النسخ بعد النسخ ما ذكروه من نسخ قوله: شهر رمضان إلخ لقوله: أياما معدودات إلخ، و نسخ قوله: أياما معدودات إلخ، لقوله: كتب عليكم الصيام، و تأملت معنى الآيات شاهدت عجبا.

قوله تعالى: فمن تطوع خيرا فهو خير له، التطوع تفعل من الطوع مقابل الكره و هو إتيان الفعل بالرضا و الرغبة، و معنى باب التفعل الأخذ و القبول فمعنى التطوع التلبس في إتيان الفعل بالرضا و الرغبة من غير كره و استثقال سواء كان فعلا إلزاميا أو غير إلزامي، و أما اختصاص التطوع استعمالا بالمستحبات و المندوبات فمما حدث بعد نزول القرآن بين المسلمين بعناية أن الفعل الذي يؤتى به بالطوع هو الندب و أما الواجب ففيه شوب كره لمكان الإلزام الذي فيه.

و بالجملة التطوع كما قيل: لا دلالة فيه مادة و هيئة على الندب و على هذا فالفاء للتفريع و الجملة متفرعة على المحصل من معنى الكلام السابق، و المعنى و الله أعلم: الصوم مكتوب عليكم مرعيا فيه خيركم و صلاحكم مع ما فيه من استقراركم في صف الأمم التي قبلكم، و التخفيف و التسهيل لكم فأتوا به طوعا لا كرها، فإن من أتى بالخير طوعا كان خيرا له من أن يأتي به كرها.

و من هنا يظهر: أن قوله: فمن تطوع خيرا من قبيل وضع السبب موضع المسبب أعني وضع كون التطوع بمطلق الخير خيرا مكان كون التطوع بالصوم خيرا نظير قوله تعالى: «قد نعلم إنك ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك و لكن الظالمين بآيات الله يجحدون» أي فاصبر و لا تحزن فإنهم لا يكذبونك.

و ربما يقال: إن الجملة أعني قوله تعالى: فمن تطوع خيرا فهو خير له، مرتبطة بالجملة التي تتلوها أعني قوله: و على الذين يطيقونه فدية طعام مسكين، و المعنى أن من تطوع خيرا من فدية طعام مسكين بأن يؤدي ما يزيد على طعام مسكين واحد بما يعادل فديتين لمسكينين أو لمسكين واحد كان خيرا له.

و يرد عليه: عدم الدليل على اختصاص التطوع بالمستحبات كما عرفت مع خفاء النكتة في التفريع، فإنه لا يظهر لتفرع التطوع بالزيادة على حكم الفدية وجه معقول، مع أن قوله: فمن تطوع خيرا، لا دلالة له على التطوع بالزيادة فإن التطوع بالخير غير التطوع بالزيادة.

قوله تعالى: و أن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون، جملة متممة لسابقتها، و المعنى بحسب التقدير – كما مر -: تطوعوا بالصوم المكتوب عليكم فإن التطوع بالخير خير و الصوم خير لكم، فالتطوع به خير على خير.

و ربما: يقال إن الجملة أعني قوله: و أن تصوموا خير لكم، خطاب للمعذورين دون عموم المؤمنين المخاطبين بالفرض و الكتابة فإن ظاهرها رجحان فعل الصوم غير المانع من الترك فيناسب الاستحباب دون الوجوب، و يحمل على رجحان الصوم و استحبابه على أصحاب الرخصة: من المريض و المسافر فيستحب عليهم اختيار الصوم على الإفطار و القضاء.

و يرد عليه: عدم الدليل عليه أولا، و اختلاف الجملتين أعني قوله: فمن كان منكم إلخ، و قوله: و أن تصوموا خير لكم، بالغيبة و الخطاب ثانيا، و أن الجملة الأولى مسوقة لبيان الترخيص و التخيير، بل ظاهر قوله: فعدة من أيام أخر، تعين الصوم في أيام أخر كما مر ثالثا، و أن الجملة الأولى على تقدير ورودها لبيان الترخيص في حق المعذور لم يذكر الصوم و الإفطار حتى يكون قوله: و أن تصوموا خير لكم بيانا لأحد طرفي التخيير بل إنما ذكرت صوم شهر رمضان و صوم عدة من أيام أخر و حينئذ لا سبيل إلى استفادة ترجيح صوم شهر رمضان على صوم غيره من مجرد قوله: و أن تصوموا خير لكم، من غير قرينة ظاهرة رابعا، و أن المقام ليس مقام بيان الحكم حتى ينافي ظهور الرجحان كون الحكم وجوبيا بل المقام – كما مر سابقا – مقام ملاك التشريع و أن الحكم المشرع لا يخلو عن المصلحة و الخير و الحسن كما في قوله: «فتوبوا إلى بارئكم و اقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم: البقرة – 54، و قوله تعالى: «فاسعوا إلى ذكر الله و ذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون:» الجمعة – 9، و قوله تعالى «تؤمنون بالله و رسوله و تجاهدون في سبيل الله بأموالكم و أنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون:» الصف – 11، و الآيات في ذلك كثيرة خامسا: قوله تعالى: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى، شهر رمضان هو الشهر التاسع من الشهور القمرية العربية بين شعبان و شوال و لم يذكر اسم شيء من الشهور في القرآن إلا شهر رمضان.

و النزول هو الورود على المحل من العلو، و الفرق بين الإنزال و التنزيل أن الإنزال دفعي و التنزيل تدريجي، و القرآن اسم للكتاب المنزل على نبيه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) باعتبار كونه مقروا كما قال تعالى: «إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون»: الزخرف – 3، و يطلق على مجموع الكتاب و على أبعاضه.

و الآية تدل على نزول القرآن في شهر رمضان، و قد قال تعالى: «و قرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث و نزلناه تنزيلا:، الإسراء – 106، و هو ظاهر في نزوله تدريجا في مجموع مدة الدعوة و هي ثلاث و عشرون سنة تقريبا، و المتواتر من التاريخ يدل على ذلك، و لذلك ربما استشكل عليه بالتنافي بين الآيتين.

و ربما أجيب عنه: بأنه نزل دفعة على سماء الدنيا في شهر رمضان ثم نزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نجوما و على مكث في مدة ثلاث و عشرين سنة – مجموع مدة الدعوة – و هذا جواب مأخوذ من الروايات التي سننقل بعضها في البحث عن الروايات.

و قد أورد عليه: بأن تعقيب قوله تعالى: أنزل فيه القرآن بقوله: هدى للناس و بينات من الهدى و الفرقان، لا يساعد على ذلك إذ لا معنى لبقائه على وصف الهداية و الفرقان في السماء مدة سنين.

و أجيب: بأن كونه هاديا من شأنه أن يهدي من يحتاج إلى هدايته من الضلال، و فارقا إذا التبس حق بباطل لا ينافي بقاءه مدة على حال الشأنية من غير فعلية التأثير حتى يحل أجله و يحين حينه، و لهذا نظائر و أمثال في القوانين المدنية المنتظمة التي كلما حان حين مادة من موادها أجريت و خرجت من القوة إلى الفعل.

و الحق أن حكم القوانين و الدساتير غير حكم الخطابات التي لا يستقيم أن تتقدم على مقام التخاطب و لو زمانا يسيرا، و في القرآن آيات كثيرة من هذا القبيل كقوله تعالى: «قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها و تشتكي إلى الله و الله يسمع تحاوركما»: المجادلة – 1، و قوله تعالى: «و إذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها و تركوك قائما»: الجمعة – 11، و قوله تعالى: «رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه و منهم من ينتظر و ما بدلوا تبديلا»: الأحزاب – 23، على أن في القرآن ناسخا و منسوخا، و لا معنى لاجتماعهما في زمان بحسب النزول.

و ربما أجيب عن الإشكال: أن المراد من نزول القرآن في شهر رمضان أن أول ما نزل منه نزل فيه، و يرد عليه: أن المشهور عندهم أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إنما بعث بالقرآن، و قد بعث اليوم السابع و العشرين من شهر رجب و بينه و بين رمضان أكثر من ثلاثين يوما و كيف يخلو البعثة في هذه المدة من نزول القرآن، على أن أول سورة اقرأ باسم ربك، يشهد على أنها أول سورة نزلت و أنها نزلت بمصاحبة البعثة، و كذا سورة المدثر تشهد أنها نزلت في أول الدعوة و كيف كان فمن المستبعد جدا أن تكون أول آية نزلت في شهر رمضان، على أن قوله تعالى: أنزل فيه القرآن، غير صريح الدلالة على أن المراد بالقرآن أول نازل منه و لا قرينة تدل عليه في الكلام فحمله عليه تفسير من غير دليل، و نظير هذه الآية قوله تعالى: «و الكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين»: الدخان – 3، و قوله: «إنا أنزلناه في ليلة القدر:» القدر – 1، فإن ظاهر هذه الآيات لا يلائم كون المراد من إنزال القرآن أول إنزاله أو إنزال أول بعض من أبعاضه و لا قرينة في الكلام تدل على ذلك.

و الذي يعطيه التدبر في آيات الكتاب أمر آخر فإن الآيات الناطقة بنزول القرآن في شهر رمضان أو في ليلة منه إنما عبرت عن ذلك بلفظ الإنزال الدال على الدفعة دون التنزيل كقوله تعالى: «شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن:» البقرة – 185 و قوله تعالى: «حم. و الكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلة مباركة»: الدخان – 3، و قوله تعالى: «إنا أنزلناه في ليلة القدر»: القدر – 1، و اعتبار الدفعة إما بلحاظ اعتبار المجموع في الكتاب أو البعض النازل منه كقوله تعالى: «كماء أنزلناه من السماء»: يونس – 24 فإن المطر إنما ينزل تدريجا لكن النظر هاهنا معطوف إلى أخذه مجموعا واحدا، و لذلك عبر عنه بالإنزال دون التنزيل، و كقوله تعالى: «كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته»: ص – 29، و إما لكون الكتاب ذا حقيقة أخرى وراء ما نفهمه بالفهم العادي الذي يقضى فيه بالتفرق و التفصيل و الانبساط و التدريج هو المصحح لكونه واحدا غير تدريجي و نازلا بالإنزال دون التنزيل… و هذا الاحتمال الثاني هو اللائح من الآيات الكريمة كقوله تعالى: «كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير»: هود – 1، فإن هذا الإحكام مقابل التفصيل، و التفصيل هو جعله فصلا فصلا و قطعة قطعة فالإحكام كونه بحيث لا يتفصل فيه جزء من جزء و لا يتميز بعض من بعض لرجوعه إلى معنى واحد لا أجزاء و لا فصول فيه، و الآية ناطقة بأن هذا التفصيل المشاهد في القرآن إنما طرأ عليه بعد كونه محكما غير مفصل.

و أوضح منه قوله تعالى: «و لقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى و رحمة لقوم يؤمنون، هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق:» الأعراف – 53، و قوله تعالى: و ما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله و لكن تصديق الذي بين يديه و تفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين – إلى أن قال: – بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه و لما يأتهم تأويله: يونس – 39 فإن الآيات الشريفة و خاصة ما في سورة يونس ظاهرة الدلالة على أن التفصيل أمر طار على الكتاب فنفس الكتاب شيء و التفصيل الذي يعرضه شيء آخر، و أنهم إنما كذبوا بالتفصيل من الكتاب لكونهم ناسين لشيء يئول إليه هذا التفصيل و غافلين عنه، و سيظهر لهم يوم القيامة و يضطرون إلى علمه فلا ينفعهم الندم و لات حين مناص و فيها إشعار بأن أصل الكتاب تأويل تفصيل الكتاب.

و أوضح منه قوله تعالى: حم و الكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون و إنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم: الزخرف – 4 فإنه ظاهر في أن هناك كتابا مبينا عرض عليه جعله مقروا عربيا، و إنما ألبس لباس القراءة و العربية ليعقله الناس و إلا فإنه – و هو في أم الكتاب – عند الله، علي لا يصعد إليه العقول، حكيم لا يوجد فيه فصل و فصل.

و في الآية تعريف للكتاب المبين و أنه أصل القرآن العربي المبين، و في هذا المساق أيضا قوله تعالى: فلا أقسم بمواقع النجوم و إنه لقسم لو تعلمون عظيم إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون تنزيل من رب العالمين: الواقعة – 80، فإنه ظاهر في أن للقرآن موقعا هو في الكتاب المكنون لا يمسه هناك أحد إلا المطهرون من عباد الله و أن التنزيل بعده، و أما قبل التنزيل فله موقع في كتاب مكنون عن الأغيار و هو الذي عبر عنه في آيات الزخرف، بأم الكتاب، و في سورة البروج، باللوح المحفوظ، حيث قال تعالى: بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ: البروج – 22، و هذا اللوح إنما كان محفوظا لحفظه من ورود التغير عليه، و من المعلوم أن القرآن المنزل تدريجا لا يخلو عن ناسخ و منسوخ و عن التدريج الذي هو نحو من التبدل، فالكتاب المبين الذي هو أصل القرآن و حكمه الخالي عن التفصيل أمر وراء هذا المنزل، و إنما هذا بمنزلة اللباس لذاك.

ثم إن هذا المعنى أعني: كون القرآن في مرتبة التنزيل بالنسبة إلى الكتاب المبين – و نحن نسميه بحقيقة الكتاب – بمنزلة اللباس من المتلبس و بمنزلة المثال من الحقيقة و بمنزلة المثل من الغرض المقصود بالكلام هو المصحح لأن يطلق القرآن أحيانا على أصل الكتاب كما في قوله تعالى: بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ، إلى غير ذلك و هذا الذي ذكرنا هو الموجب لأن يحمل قوله: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، و قوله: إنا أنزلناه في ليلة مباركة، و قوله.

إنا أنزلناه في ليلة القدر، على إنزال حقيقة الكتاب و الكتاب المبين إلى قلب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دفعة كما أنزل القرآن المفصل على قلبه تدريجا في مدة الدعوة النبوية.

و هذا هو الذي يلوح من نحو قوله تعالى: «و لا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه»: طه – 114، و قوله تعالى: «لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه و قرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه:» القيامة – 19، فإن الآيات ظاهرة في أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان له علم بما سينزل عليه فنهي عن الاستعجال بالقراءة قبل قضاء الوحي، و سيأتي توضيحه في المقام اللائق به – إن شاء الله تعالى -.

و بالجملة فإن المتدبر في الآيات القرآنية لا يجد مناصا عن الاعتراف بدلالتها: على كون هذا القرآن المنزل على النبي تدريجا متكئا على حقيقة متعالية عن أن تدركها أبصار العقول العامة أو تناولها أيدي الأفكار المتلوثة بألواث الهوسات و قذارات المادة، و أن تلك الحقيقة أنزلت على النبي إنزالا فعلمه الله بذلك حقيقة ما عناه بكتابه، و سيجيء بعض من الكلام المتعلق بهذا المعنى في البحث عن التأويل و التنزيل في قوله تعالى: «هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات:» آل عمران – 7 فهذا ما يهدي إليه التدبر و يدل عليه الآيات، نعم أرباب الحديث، و الغالب من المتكلمين و الحسيون من باحثي هذا العصر لما أنكروا أصالة ما وراء المادة المحسوسة اضطروا إلى حمل هذه الآيات و نظائرها كالدالة على كون القرآن هدى و رحمة و نورا و روحا و مواقع النجوم و كتابا مبينا، و في لوح محفوظ، و نازلا من عند الله، و في صحف مطهرة إلى غير ذلك من الحقائق على أقسام الاستعارة و المجاز فعاد بذلك القرآن شعرا منثورا.

و لبعض الباحثين كلام في معنى نزول القرآن في شهر رمضان: قال ما محصله: إنه لا ريب أن بعثة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان مقارنا لنزول أول ما نزل من القرآن و أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) بالتبليغ و الإنذار، و لا ريب أن هذه الواقعة إنما وقعت بالليل لقوله تعالى: «إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين:» الدخان – 2، و لا ريب أن الليلة كانت من ليالي شهر رمضان لقوله تعالى: «شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن:» البقرة – 185.

و جملة القرآن و إن لم تنزل في تلك الليلة لكن لما نزلت سورة الحمد فيها، و هي تشتمل على جمل معارف القرآن فكان كأن القرآن نزل فيها جميعا فصح أن يقال: أنزلناه في ليلة على أن القرآن يطلق على البعض كما يطلق على الكل بل يطلق القرآن على سائر الكتب السماوية أيضا كالتوراة و الإنجيل و الزبور باصطلاح القرآن قال: و ذلك: أن أول ما نزل من القرآن قوله تعالى: اقرأ باسم ربك إلخ، نزل ليلة الخامس و العشرين من شهر رمضان، نزل و النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قاصد دار خديجة في وسط الوادي يشاهد جبرائيل فأوحى إليه: قوله تعالى: اقرأ باسم ربك الذي خلق إلخ، و لما تلقى الوحي خطر بباله أن يسأله: كيف يذكر اسم ربه فتراءى له و علمه بقوله: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين إلى آخر سورة الحمد، ثم علمه كيفية الصلاة ثم غاب عن نظره فصحا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و لم يجد مما كان يشاهده أثرا إلا ما كان عليه من التعب الذي عرضه من ضغطة جبرائيل حين الوحي فأخذ في طريقه و هو لا يعلم أنه رسول من الله إلى الناس، مأمور بهدايتهم ثم لما دخل البيت نام ليلته من شدة التعب فعاد إليه ملك الوحي صبيحة تلك الليلة و أوحى إليه قوله تعالى: «يا أيها المدثر قم فأنذر الآيات:» المدثر – 2.

قال: فهذا هو معنى نزول القرآن في شهر رمضان و مصادفة بعثته لليلة القدر: و أما ما يوجد في بعض كتب الشيعة من أن البعثة كانت يوم السابع و العشرين من شهر رجب فهذه الأخبار على كونها لا توجد إلا في بعض كتب الشيعة التي لا يسبق تاريخ تأليفها أوائل القرن الرابع من الهجرة مخالفة للكتاب كما عرفت.

قال «و هناك روايات أخرى في تأييد هذه الأخبار تدل على أن معنى نزول القرآن في شهر رمضان: أنه نزل فيه قبل بعثة النبي من اللوح المحفوظ إلى البيت المعمور و أملاه جبرائيل هناك على الملائكة حتى ينزل بعد البعثة على رسول الله، و هذه أوهام خرافية دست في الأخبار مردودة أولا بمخالفة الكتاب، و ثانيا أن مراد القرآن باللوح المحفوظ هو عالم الطبيعة و بالبيت المعمور هو كرة الأرض لعمرانه بسكون الإنسان فيه، انتهى ملخصا.

و لست أدري أي جملة من جمل كلامه – على فساده بتمام أجزائه – تقبل الإصلاح حتى تنطبق على الحق و الحقية بوجه؟ فقد اتسع الخرق على الراتق.

ففيه أولا: أن هذا التقول العجيب الذي تقوله في البعثة و نزول القرآن أول ما نزل و أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) نزل عليه: اقرأ باسم ربك، و هو في الطريق، ثم نزلت عليه سورة الحمد ثم علم الصلاة، ثم دخل البيت و نام تعبانا، ثم نزلت عليه سورة المدثر صبيحة الليلة فأمر بالتبليغ، كل ذلك تقول لا دليل عليه لا آية محكمة و لا سنة قائمة، و إنما هي قصة تخيلية لا توافق الكتاب و لا النقل على ما سيجيء.

و ثانيا: أنه ذكر أن من المسلم أن البعثة و نزول القرآن و الأمر بالتبليغ مقارنة زمانا ثم فسر ذلك بأن النبوة ابتدأت بنزول القرآن، و كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نبيا غير رسول ليلة واحدة فقط ثم في صبيحة الليلة أعطي الرسالة بنزول سورة المدثر، و لا يسعه، أن يستند في ذلك إلى كتاب و لا سنة، و ليس من المسلم ذلك.

أما السنة فلأن لازم ما طعن به في جوامع الشيعة بتأخر تأليفها عن وقوع الواقعة عدم الاعتماد على شيء من جوامع الحديث مطلقا إذ لا شيء من كتب الحديث مما ألفته العامة أو الخاصة إلا و تأليفه متأخر عن عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قرنين فصاعدا فهذا في السنة، و التاريخ – على خلوه من هذه التفاصيل – حاله أسوأ و الدس الذي رمي به الحديث متطرق إليه أيضا.

و أما الكتاب فقصور دلالته على ما ذكره أوضح و أجلى بل دلالته على خلاف ما ذكره و تكذيب ما تقوله ظاهرة فإن سورة اقرأ باسم ربك – و هي أول سورة نزلت على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على ما ذكره أهل النقل، و يشهد به الآيات الخمس التي في صدرها و لم يذكر أحد أنها نزلت قطعات و لا أقل من احتمال نزولها دفعة – مشتملة على أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يصلي بمرأى من القوم و أنه كان منهم من ينهاه عن الصلاة و يذكر أمره في نادي القوم و لا ندري كيف كانت هذه الصلاة التي كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يتقرب بها إلى ربه في بادىء أمره إلا ما تشتمل عليه هذه السورة من أمر السجدة قال تعالى فيها: «أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى أ رأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى أ رأيت إن كذب و تولى أ لم يعلم بأن الله يرى كلا لئن لم ينته لنسفعا بالناصية ناصية كاذبة خاطئة فليدع ناديه سندع الزبانية:» العلق – 18، فالآيات كما ترى ظاهرة في أنه كان هناك من ينهى مصليا عن الصلاة، و يذكر أمره في النادي، و لا ينتهي عن فعاله، و قد كان هذا المصلي هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بدليل قوله تعالى بعد ذلك: «كلا لا تطعه:» العلق – 19.

فقد دلت السورة على أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يصلي قبل نزول أول سورة من القرآن، و قد كان على الهدى و ربما أمر بالتقوى، و هذا هو النبوة و لم يسم أمره ذلك إنذارا، فكان (صلى الله عليه وآله وسلم) نبيا و كان يصلي و لما ينزل عليه قرآن و لا نزلت بعد عليه سورة الحمد و لما يؤمر بالتبليغ.

و أما سورة الحمد فإنها نزلت بعد ذلك بزمان، و لو كان نزولها عقيب نزول سورة العلق بلا فصل عن خطور في قلب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كما ذكره هذا الباحث لكان حق الكلام أن يقال: قل بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين إلخ، أو يقال: بسم الله الرحمن الرحيم قل: الحمد لله رب العالمين إلخ و لكان من الواجب أن يختم الكلام في قوله تعالى: مالك يوم الدين، لخروج بقية الآيات عن الغرض كما هو الأليق ببلاغة القرآن الشريف.

نعم وقع في سورة الحجر – و هي من السور المكية كما تدل عليه مضامين آياتها، و سيجيء بيانه – قوله تعالى: «و لقد آتيناك سبعا من المثاني و القرآن العظيم:» الحجر – 87.

و المراد بالسبع المثاني سورة الحمد و قد قوبل بها القرآن العظيم و فيه تمام التجليل لشأنها و التعظيم لخطرها لكنها لم تعد قرآنا بل سبعا من آيات القرآن و جزءا منه بدليل قوله تعالى: «كتابا متشابها مثاني الآية:» الزمر – 23.

و مع ذلك فاشتمال السورة على ذكر سورة الحمد يدل على سبق نزولها نزول سورة الحجر و السورة مشتملة أيضا على قوله تعالى: «فاصدع بما تؤمر و أعرض عن المشركين إنا كفيناك المستهزءين الآيات:» الحجر – 95، و يدل ذلك على أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان قد كف عن الإنذار مدة ثم أمر به ثانيا بقوله تعالى: فاصدع.

و أما سورة المدثر و ما تشتمل عليه من قوله: قم فأنذر: المدثر – 2، فإن كانت السورة نازلة بتمامها دفعة كان حال هذه الآية قم فأنذر، حال قوله تعالى: فاصدع بما تؤمر الآية، لاشتمال هذه السورة أيضا على قوله تعالى: «ذرني و من خلقت وحيدا إلى آخر الآيات:» المدثر – 11، و هي قريبة المضمون من قوله في سورة الحجر: و أعرض عن المشركين إلخ، و إن كانت السورة نازلة نجوما فظاهر السياق أن صدرها قد نزل في بدء الرسالة.

و ثالثا: أن قوله: إن الروايات الدالة على نزول القرآن في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى البيت المعمور جملة واحدة قبل البعثة ثم نزول الآيات نجوما على رسول الله أخبار مجعولة خرافية لمخالفتها الكتاب و عدم استقامة مضمونها، و أن المراد باللوح المحفوظ هو عالم الطبيعة و بالبيت المعمور كرة الأرض خطأ و فرية.

أما أولا: فلأنه لا شيء من ظاهر الكتاب يخالف هذه الأخبار على ما عرفت.

و أما ثانيا: فلأن الأخبار خالية عن كون النزول الجملي قبل البعثة بل الكلمة مما أضافها هو إلى مضمونها من غير تثبت.

و أما ثالثا: فلأن قوله: إن اللوح المحفوظ هو عالم الطبيعة تفسير شنيع – و أنه أضحوكة – و ليت شعري: ما هو الوجه المصحح على قوله – لتسمية عالم الطبيعة في كلامه تعالى لوحا محفوظا؟ أ ذلك لكون هذا العالم محفوظا عن التغير و التحول؟ فهو عالم الحركات، سيال الذات، متغير الصفات! أو لكونه محفوظا عن الفساد تكوينا أو تشريعا؟ فالواقع خلافه! أو لكونه محفوظا عن اطلاع غير أهله عليه؟ كما يدل عليه: قوله تعالى: إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون:» الواقعة – 79، فإدراك المدركين فيه على السواء!.

و بعد اللتيا و التي: لم يأت هذا الباحث في توجيهه نزول القرآن في شهر رمضان بوجه محصل يقبله لفظ الآية، فإن حاصل توجيهه: أن معنى: أنزل فيه القرآن: كأنما أنزل فيه القرآن، و معنى: إنا أنزلناه في ليلة: كأنا أنزلناه في ليلة، و هذا شيء لا يحتمله اللغة و العرف لهذا السياق!.

و لو جاز لقائل أن يقول: نزل القرآن ليلة القدر على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لنزول سورة الفاتحة المشتملة على جمل معارف القرآن جاز أن يقال: إن معنى نزول القرآن نزوله جملة واحدة، أي نزول إجمال معارفه على قلب رسول الله من غير مانع يمنع كما مر بيانه سابقا.

و في كلامه جهات أخرى من الفساد تركنا البحث عنها لخروجه عن غرضنا في المقام.

قوله تعالى: هدى للناس و بينات من الهدى و الفرقان، الناس، و هم الطبقة الدانية من الإنسان الذين سطح فهمهم المتوسط أنزل السطوح، يكثر إطلاق هذه الكلمة في حقهم، كما قال تعالى: «و لكن أكثر الناس لا يعلمون:» الروم – 30، و قال تعالى: «و تلك الأمثال نضربها للناس و ما يعقلها إلا العالمون:» العنكبوت – 43، و هؤلاء أهل التقليد لا يسعهم تمييز الأمور المعنوية بالبينة و البرهان، و لا فرق الحق من الباطل بالحجة إلا بمبين يبين لهم و هاد يهديهم، و القرآن هدى لهم و نعم الهدى، و أما الخاصة المستكملون في ناحيتي العلم و العمل، المستعدون للاقتباس من أنوار الهداية الإلهية و الركون إلى فرقان الحق فالقرآن بينات و شواهد من الهدى و الفرقان في حقهم فهو يهديهم إليه و يميز لهم الحق و يبين لهم كيف يميز، قال تعالى: «يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام و يخرجهم من الظلمات إلى النور و يهديهم إلى صراط مستقيم:» المائدة – 16.

و من هنا يظهر وجه التقابل بين الهدى و البينات من الهدى، و هو التقابل بين العام و الخاص فالهدى لبعض و البينات من الهدى لبعض آخر.

قوله تعالى: فمن شهد منكم الشهر فليصمه، الشهادة هي الحضور مع تحمل العلم من جهته، و شهادة الشهر إنما هو ببلوغه و العلم به، و يكون بالبعض كما يكون بالكل.

و أما كون المراد بشهود الشهر رؤية هلاله و كون الإنسان بالحضر مقابل السفر فلا دليل عليه إلا من طريق الملازمة في بعض الأوقات بحسب القرائن، و لا قرينة في الآية.

قوله تعالى: و من كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر، إيراد هذه الجملة في الآية ثانيا ليس من قبيل التكرار للتأكيد و نحوه لما عرفت أن الآيتين السابقتين مع ما تشتملان عليه مسوقتان للتوطئة و التمهيد دون بيان الحكم و أن الحكم هو الذي بين في الآية الثالثة فلا تكرار.

قوله تعالى: يريد الله بكم اليسر و لا يريد بكم العسر و لتكملوا العدة، كأنه بيان لمجموع حكم الاستثناء: و هو الإفطار في شهر رمضان لمكان نفي العسر، و صيام عدة من أيام أخر لمكان وجوب إكمال العدة، و اللام في قوله: لتكملوا العدة، للغاية، و هو عطف على قوله: يريد، لكونه مشتملا على معنى الغاية، و التقدير و إنما أمرناكم بالإفطار و القضاء لنخفف عنكم و لتكملوا العدة، و لعل إيراد قوله: و لتكملوا العدة هو الموجب لإسقاط معنى قوله: و على الذين يطيقونه فدية طعام مسكين، عن هذه الآية مع تفهم حكمه بنفي العسر و ذكره في الآية السابقة.

يتبع…

شاهد أيضاً

20-21-22-23-24 صلوات الليالي ودعوات الايّام في شهر رمضان

صلوات اللّيلة العشرين والحادِية والعشرين والثّانِيَة والعِشرين والثّالِثَة والعِشرين والرّابعة والعِشرين: في كُل مِن هذه ...