جيش الكيان الصهيوني الغاصب يعدّ من أقوى جيوش العالم، اليوم يخوض عدواناً ممنهجاً ضد قطاع غزة الفلسطيني المحاصر، وفي هذا العدوان بدأت تتعزز نظرية أنه جيش مهزوم رغم كل إمكانياته العسكرية الهائلة، بعدما هزم شر هزيمة في جنوب لبنان في العام 2006.
وتثبت مجريات تاريخ الصراع مع هذا العدو الغاشم أنه يعتمد بشكل هائل على تسليح جيشه ولا يدخر وسيلة إلا ويقوم بها للمزيد من التمكين والتحكم والسيطرة على فلسطين المحتلة. ولكن دعونا نلقى الضوء ولو في هذه العجالة حول كيف يسعى هذا الجيش “الذي لا يقهر” إلى تسليح نفسه وكيف بدأ العدو يجهّز لاحتلال فلسطين.
منذ حرب العام 1973، بقي النقاش في الكيان الصهيوني قائماً بين مفهومين في عقيدة الأمن القومي الإسرائيلي، بين العقيدة الأمنية والصناعات العسكرية التي تلبي العقيدة الأولى. وهذا أدى بها إلى التحالف مع دول محورية لتكون بمثابة الركيزة الثانية التي تقف عليها “إسرائيل” بنوع من الاستقلالية عن قيود الولايات المتحدة الحليف الرئيسي الذي يمثل “الساق الأولى” على أمل أن يتيح لها ذلك إمكان المناورة تجاه قيود القوة العظمى. يناقش الكتاب الذي أصدرته مؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت في العام 2013، بعنوان “الصناعات الأمنية الإسرائيلية الوظيفة الاستراتيجية والاقتصادية (إشراف وتحرير : أحمد خليفة وإعداد رندة حيدر) هذه القضية الاستراتيجية من خلال وجهات النظر الاسرائيلية نفسها.
ومع أن الدعم الأميركي الهائل للكيان الصهيوني كان له أثر ملحوظ في تطور الصناعات الأمنية في فترة السبعينيات من القرن الماضي، إلا أن الصفقات التي أنقذت الصناعات الجوية العسكرية، وإلى حد كبير الاقتصاد الإسرائيلي، هي التي أبرمت مع النظام العنصري في جنوب أفريقيا، وهي التي أصبحت أكبر مستورد للأسلحة الإسرائيلية.
إنتاج الأسلحة بدأ قبل قيام الكيان :
يقول يعقوب ليفشتس (مركز بيغن- السادات للدراسات الاستراتيجية) إن الصناعة الأمنية في إسرائيل شهدت تقلبات وتناقضات عديدة. فالصادرات الأمنية التي بدأت كنشاط ثانوي، في ظل الدعم الاميركي، يهدف إلى موازنة تقلبات الطلب المحلي وتخفيض تكلفة تطوير السلاح المعد للجيش وانتجه، تطورت مع مرور الزمن وبلغت حجوما وضعت إسرائيل في مصاف كبار مصدري الأسلحة في العالم.
وكان لها تاليا تأثيرا مباشرا في تطور الاقتصاد وفي بنيته الداعمة لقيام دولة الكيان. ويسرد الباحث ليفشتس مسار تطورات الصناعات الأمنية بدءا من عشرينيات القرن العشرين حيث وضعت أسس انتاج السلاح والذخائر في أرض فلسطين قبل احتلالها. وذلك من أجل تزويد الييشوف اليهودي بالوسائل اللازمة لما أسماه الباحث للدفاع عن نفسه وصد موجات الاعتداءات العربية ضده. والجدير بالذكر أنه بدأت في سنة 1933 إنشاء شركة “تاعس” (الصناعات العسكرية الإسرائيلية – IMI) ولقد أدى هذا النتاج إلى تأدية دور بالغ الأهمية في احتلال فلسطين في العام 1948. إلى أن شكّلت حرب الأيام الستة (1967) والحظر الذي فرضته فرنسا على تزويد إسرائيل بالسلاح نقطة تحول.
صاروخ إسرائيلي متطور بايد محليةوصار مطلوبا من الصناعة الأمنية المحلية رفد الجيش الإسرائيلي بمنظومات أسلحة أساسية، وبوشر العمل على خطة تطوير وانتاج لطائرات مقاتلة (نيشر وكفير ) ودبابة قتالية (ميركافا) وزوراق وسفن مزودة بصواريخ وغيرها. واستمرت في تطور مطرد حتى انتهاء الحرب الباردة، واجهت شركات الصناعات الأمنية أزمة حادة وخاصة تلك التي تمتلكها الحكومة. فتبنت هذه الادارات مقاربة فضلت النمو والتوسع على حساب الربحية، ووضعت في رأس أولوياتها التحديات التقنية والتكنولوجية.
وقبل نهاية تسعينيات القرن العشرين بدأ يلوح في الأفق بعض الانتعاش، وفي بداية القرن العقد الأول من القرن الحادي والعشرين استقرت مبيعات الشركات الأمنية الحكومية الثلاث عند مستوى يزيد على 3 مليارات دولار سنويا. وفي سنة 2005 تجدد النمو المتسارع، وخلال أربعة أعوام ارتفعت مبيعات هذه الشركات بنسبة متراكمة بلغت 76% إلى نحو 5.8 مليارات دولار في سنة 2008. وبرز في الأعوام الأخيرة تطوران جديدان : الأول يتعلق بازدياد عدد الشركات الفرعية في الخارج، والثاني تمثل في النمو السريع لشركات صناعية أمنية صغيرة بسب حربي أفغانستان والعراق.
الوظيفة الاستراتيجية :
خلال الأعوام الأولى لقيام إسرائيل بذلت جهود قصوى لاستنفاد فرص شراء الأسلحة من الخارج، وفي الوقت نفسه وظفت موارد كبيرة في إنشاء صناعة محلية قادرة على إمداد الجيش الاسرائيلي بالعتاد العسكري الضروري. فالتطوير الذاتي والانتاج المحلي هدفا قبل اي شيء أخر، إلى اعتاق اسرائيل من الاعتماد الكلي على مصادر أجنبية. ولكن شكلت إمكانات شراء السلاح من الخارج عاملا مهما، وربما كان الأهم في بلورة اعتبارات أخرى كونت الوظيفة الاستراتيجية للصناعة الأمنية المحلية. وحتى قبل المرور بتجربة الحظر الفرنسي، التي يصفها الباحث بالمريرة، جرى تدوال وجعتي نظر وقد جزمت أولاهما أن توقع تمكن إسرائيل من انتاج جميع أنواع الوسائل القتالية لجيشها أمر غير واقعي، وبناء عليه سيبقى هناك ضرورة دائمة لاستيراد منظومات السلاح الأساسية من الخارج. وبالتالي يجب بناء صناعة عسكرية محلية تكون قادرة على المساهمة في المجهود الأمني من خلال تمكنها من إدخال تحسينات على منظومات السلاح المستوردة.
وخلال النصف الثاني من ثمانينيات القرن العشرين خضعت عقيدة عدم الاعتماد على الغير لإعادة النظر، وظاهرياً كان السبب إمكان شراء السلاح من أميركا ورصد هبات مالية أميركية لتمويله. بيد أنه خلال تلك السنين ولاحقاً لم يتبدد التخوف تماماً من ان يصبح التزود بالسلاح الأميركي رهينة في يد السياسة الخارجية الأميركية، وأن يتحول في اوضاع معينة إلى اداة ضغط على دولة الكيان. كما أن أميركا لم تكن متحمسة دائماً على تلبية مطالب الجيش الإسرائيلي بالنسبة إلى انواع معينة من العتاد العسكري.
في ضوء معركة غزة : الصناعات الأمنية الإسرائيلية مرهونة بدعم الخارجوتضافرت أسباب وجيهة أخرى إلى اعادة النظر في السياسة الصناعية الأمنية، وهي قيود اقتصادية، مفهوم جديد للوظيفة التي من شأن التكنولوجيا المتطورة أن تؤديها في ساحة القتال، والتغيرات التي طرأت على السوق العالمية التي تحولت إلى سوق للمشترين. وبالتأكيد، فإن الأساس الأمني – الصناعي المتنوع الذي نشأ في تلك الأثناء في البلد والقدرة التكنولوجية المتطورة التي أظهرتها الشركات الأمنية المحلية كان لهما أيضاً تأثيراً لايستهان به.
وعلى مر السنين كان التطوير والانتاج المحليان يزدادان كلما ازدادت حاجات الجيش الإسرائيلي العملانية الحقيقية. كما تغيرت مراكز الثقل للنشاط الصناعي وفقاً للتهديدات، وبما يتلاءم مع الدروس المستخلصة من الحروب. فعلى سبيل المثال – كما يروي الباحث- أدت الإصابات التي تعرضت لها الدبابات في حرب يوم الغفران (1973) إلى تخصيص موارد لمشاريع متنوعة من أجل تحسين الحماية لهذه الدبابات وغيرها. وأدت الحروب الأخرى التي خاضها جيش الكيان الصيهوني إلى تأكيد قاعدة إن عدم الاعتماد على الغير لم يعد هدفاً أساسياً، وما عاد الإنتاج المحلي يشكل بديلا من الشراء من الخارج، وإنما بات متمماً له.
ولقد نشأ بصورة خاصة مبرر لوجود عدد من المراكز العلمية المتنافسة في المجالات التكنولوجية الأساسية، من شأن التنافس بينها أن يشجع على الابتكار اكثر من أي وسيلة أخرى. كما أن وضع تطوير مضاعفات القوة التكنولوجية وانتاجها في المرتبة الأولى يضيف قيودا على التصدير الأمني، وعلى التعاون الصناعي الدولي خوفاً من تسرّب الأسرار. وعمليا حصر التصدير في نماذج في أدنى مستوى من العتاد وبذلك أضر باحتمالات بيع الخارج منتوجات قامت على الميزة النسبية الواضحة للصناعة المحلية، أي الابتكار التكنولوجي.
رهان الجيش الإسرائيلي على التفوق التكنولوجي :
غلاف كتاب الصناعات الأمنية الإسرائيلية الوظيفة الاستراتيجية والاقتصاديةنظرا إلى أوضاع إسرائيل الخاصة فإن الرد على التهديدات، والتعبير للباحث، لا يمكن أن يرتكز على مفهوم نسب القوى و”ردم الفجوات” كمية، وإنما على نوعية نابعة من أمور أخرى، من التفوق التكنولوجي الذي يتطلب ضمان تحققه التحكم في تكنولوجيا متطورة تسمح بأداء أعمال عسكرية، والقدرة على تطوير وسائل جرت ملاءمتها مع الأوضاع الميدانية والعقيدة القتالية للجيش، والحفاظ على السرية إلى أن يحين أوان الاستخدام في أرض المعركة من أجل إحراز ميزة المفاجأة.
ومثل هذا التضافر لا يمكن تحقيقه إلا بواسطة الصناعة الأمنية المحلية. ويؤكد الباحث إيمان إسرائيل أنه حتى لو ثابرت أميركا على إظهار استعدادها لتلبية حاجات إسرائيل الأمنية، إلا إن منظومات الأسلحة الأميركية مصممة طبقاً لمذهبها العسكري الخاص بها، وسيبقى هناك دائماً مجالات لا تتوفر فيها اجوبة ملائمة لحاجات إسرائيلية محددة ذات أهمية حاسمة. كما أنه لا يلبي الشراء من الخارج ضمان تحقيق الخصوصية والسرية العلمية والمفاجأة. لكن بطبيعة الحال لا يمكن تحقيق التفوق التكنولوجي في المجالات كافة، فضلاً عن أنه لن يتم إحرازه بشكل متساو. فالفجوات في الخبرة والقدرات المتعلقة بمختلف التعقيدات التكنولوجية ليست من نوع واحد، وقد يكون هناك تباينات كبيرة في التكاليف والمدد الزمنية المطلوبة لردمها.
التعاون الهندي – الإسرائيلي والقيد الإيراني :
ويدور الكتاب على دراسة أخرى مهمة ومفصلة حول التعاون الهندي – الإسرائيلي في “مجال الدفاع” في القرن الحادي والعشرين، ويبحث هذا الفصل في ثنايا هذه العلاقات، التي بدأت في العام 1992، وبلغت شأناً كبيرا ومتقدما للغاية بين الطرفين، سواء في حجم التعاون والتدريب العسكري، ومشتريات الأسلحة، طبعاً شراء الهند من إسرائيل، وإلى وسائل نقل التكنولوجيا والانتاج المشترك وإلى التعاون البحري وفي مجال الفضاء. ولكن دعونا نتوقف عند ما يسميه باحث هذا الفصل بالقيد الإيراني حول هذه العلاقات.
التعاون الهندي الاسرائيلي العسكري في تزايدبينما ترى إسرائيل في إيران تهديداً رئيسياً بسبب مواصلة برنامجها النووي ومساعدتها “حزب الله”، والفصائل الفلسطينية المقاومة، تسعى الهند، من جهتها، للمحافظة على علاقات طيبة معها، كونها مزوداً أساسياً للنفط. وقد أدت اللجنة الهندية – الإيرانية المشتركة (1983) دورا فعالا في إيجاد روابط عسكرية ودفاعية وثيقة بين البلدين. وعقب انتهاء الحرب الباردة تعززت العلاقات أكثر نتيجة رغبة الهند في كبح النفوذ الباكستاني، إلى جانب الحاجة إلى تقوية الروابط الاقتصادية والتجارية في منطقة آسيا الوسطى التي أخذت أهميتها الجيوسياسية في النمو.
ونظرت إسرائيل إلى هذه العلاقة في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين على أنها تشكل قيداً على الروابط الهندية – الإسرائيلية . وقد أثارت دهشة إسرائيل مباحثات الهند في شأن مبيعات الأسلحة لإيران، والتي جرت مناقشتها سنة 2001. وتقدمت الطرفان في تعزيز العلاقات بينهما في مختلف انواع الدفاع العسكري وتمّ للطرف الإيراني من الاستفادة من اختصاصي البحرية واللوجستيات الهنود وقدموا مساعدات في صيانة الغواصات واصلاحها وتحديث الدبابات، إذ لم تتردد إيران في الاستفادة القصوى من الإمكانيات الهندية في كل هذه المجالات.
ولكن عندما تقدمت العلاقات باطراد في إطار بيع الهند إيران صواريخ كونكور المضادة للدبابات، أقلقت هذه الخطط إسرائيل ولم تسمح لها بالتحقق. وفي صفقة محتملة أخرى تفاوضت إيران سنة 2004 في شأن شراء منظومات رادار متقدمة هندية مصممة للتحكم في إطلاق النار وبطاريات استطلاع مضادة للطائرات وقدرت قيمة الصفقة بـ70 مليون دولار، ولكن تحت الضغط الأميركي الهائل لا تزال هذه الصفقة معلقة.
ويبلغ حد التدخل الإسرائيلي في العلاقات الإيرانية – الهندية حداً كبيرا يصل إلى منعها إقامة المناورات العسكرية البرية والبحرية المشتركة بين البلدين وتبادلهما الزيارات العسكرية. ولكن بعد الصفقة التي أبرمت بين نيودلهي وواشنطن في سنة 2005، بدأت المخاوف الإسرائيلية من العلاقة الهندية الإيرانية تتبدد.