الرئيسية / القرآن الكريم / الامثال في القران – الشيخ جعفر السبحاني

الامثال في القران – الشيخ جعفر السبحاني

( 109 )

سورة البقرة
7

التمثيل السابع


(مَثَلُ الّذينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ في سَبيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلّ سُنْبُلَةٍ مائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيم *الّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ في سَبِيلِ اللهِ ثُمّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا منّاً وَلا أَذى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُون * قَولٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللهُ غَنِىّ حَليم ). (1)
تفسير الآيات
وعد سبحانه في غير واحد من الآيات بالجزاء المضاعف، قال سبحانه: (مَنْ ذَا الّذِى يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثيِرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وإليهِ تُرْجَعُون ). (2)
ولاَجل تقريب هذا الاَمر أتى بالتمثيل الآتي وهو:
أنّ مثل الاِنفاق في سبيل الله كمثل حبة أنبتت ساقاً انشعب سبعة شعب خرج من كلّ شعبة سنبلة فيها مائة حبة فصارت الحبة سبعمائة حبة،بمضاعفة الله لها، ولا يخفى أنّ هذا التمثيل أبلغ في النفوس من ذكر عدد السبعة، فإنّ في
____________
1 ـ البقرة:261ـ 263.
2 ـ البقرة:245.


( 110 )

هذه إشارة إلى أنّ الاَعمال الصالحة يمليها الله عزّ وجلّ لاَصحابها كما يملي لمن بذر في الاَرض الطيبة.
وظاهر الآية أنّ المشبه هو المنفق، والمشبه به هو الحبة المتبدلة إلى سبعمائة حبة، ولكن التنزيل في الواقع بين أحد الاَمرين:
أ: تشبيه المنفق بزارع الحبة.
ب: تشبيه الاِنفاق بالحبة المزروعة.
ففي الآية أحد التقديرين.
ثمّ إنّ ما ذكره القرآن من التمثيل ليس أمراً وهمياً وفرضاً خيالياً بل هو أمر ممكن واقع، بل ربما يتجاوز هذا العدد، فقد حكى لى بعض الزُّرّاع أنّه جنى من ساق واحد ذات سنابل متعددة تسعمائة حبة، ولا غرو في ذلك فانّه سبحانه هو القابض والباسط.
ثمّ إنّه سبحانه فرض على المنفق في سبيل الله الطالب رضاه ومغفرته أن لا يتبع ما أنفقه بالمنّ والاَذى.
أمّا المنُّ، فهو أن يتطاول المعطي على من أعطاه بأن يقول: “ألم أعطك””ألم أحسن إليك” كلّ ذلك استطالة عليه، وأمّا الاَذى فهو واضح.
فهوَلاء ـ أي المنفقون ـ غير المتبعين إنفاقهم بالمنّ والاَذى (لهم أجرهم عند ربّهم ولا خوف عليهم ولا هم يَحْزنون ).
ثمّ إنّه سبحانه يرشد المعوزين بأن يردّوا الفقراء إذا سألوهم بأحد نحوين:
أ: (قول معروف )كأن يتلطف بالكلام في ردّ السائلين والاعتذار منهم والدعاء لهم.


( 111 )

ب: (ومغفرة )لما يصدر منهم من إلحاف أو إزعاج في المسألة.
فالمواجهة بهاتين الصورتين (خير من صدقة يتبعها أذى ).
وعلى كلّ حال فالمغني هو الله سبحانه، كما يقول: (وَالله غني )، أي يغني السائل من سعته ،ولكنّه لاَجل مصالحكم في الدنيا والآخرة استقرضكم في الصدقة وإعطاء السائل. (حليم) فعليكم يا عباد الله بالحلم و الغفران لما يبدر من السائل.


( 112 )

سوره البقرة
8

التمثيل الثامن


(يَا أَيُّها الّذِينَ آمَنوا لا تُبطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالمَنّ وَالاََذى كَالّذى يُنْفِقُ مَالَهُ رئَاءَ النّاسِ وَلا يُوَْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصَابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُون َعَلى شيءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لا يَهْدِي القَومَ الكَافِرِين).(1)
الرئى من الروَية، وسمي المرائي مرائياً، كأنّه يفعل ليرى غيره ذلك.
والصفوان واحدته صفوانة، مثل سعدان وسعدانة، ومرجان و مرجانة، وهي الحجر الاَملس.
و”الوابل”: المطر الشديد الوقع.
و “الصلد”: الحجر الاَملس أي الصلب،و”الصلد” من الاَرض مالا ينبت فيه شيئاً لصلابته.
قدمرّ في التمثيل السابق انّ التلطف بالكلام في رد السائل والاعتذار منه، والعفو عما يصدر منه من إلحاف وإزعاج، أفضل من أن ينفق الاِنسان ويتبع عمله بالاَذى.
وأمّا ما هو سببه، فقد بيّنه سبحانه في هذا التمثيل، وذلك بأنّ المنَّ والاَذى
____________
1 ـ البقرة: 264.


( 113 )

يبطل الاِنفاق السابق، لاَنّ ترتب الاَجر على الاِنفاق مشروط بترك تعقبه بهما، فإذا اتبع عمله بأحد الاَمرين فقد افتقد العمل شرط استحقاق الاَجر.
وبهذا يتبيّن أنّ الآية لا تدلّ على حبط الحسنة بالسيئة، لاَنّ معنى الحبط هو إبطال العمل السىّء الثواب المكتوب المفروض، والآية لا تدلّ عليه لما قلنا من احتمال أن يكون ترتب الثواب على الاِنفاق مشروطاً من أول الاَمر بعدم متابعته بالمنِّ والاَذى في المستقبل، فإذا تابع عمله بأحدهما فلم يأت بالواجب أو المستحب على النحو المطلوب، فلا يكون هناك ثواب مكتوب حتى يزيله المنّ والاَذى.
وأمّا استخدام كلمة الاِبطال، فيكفي في ذلك وجود المقتضي للاَجر وهو الاِنفاق، ولا يتوقف على تحقّق الاَجر ومفروضيته على الله بالنسبة إلى العبد.
ثمّ إنّ الحبط باطل عقلاً وشرعاً.
أمّا الاَوّل فلما قُرِّر في محله من استلزامه الظلم، لاَنّ معنى الحبط أنّ مطلق السيئة يذهب الحسنات وثوابها على وجه الاِطلاق مع أنّه مستلزم للظلم، لاَنّ من أساء وأطاع وكانت إساءته أكثر ـ فعلى القول بالاِحباط ـ يكون بمنزلة من لم يحسن.
وإن كان إحسانه أكثر يكون بمنزلة من لم يسىَ، وإن تساويا يكون مساوياً لمن يصدر عنهما. (1)
وأمّا شرعاً فلقوله سبحانه: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَذَرَّةٍ شَراً يَرَه). (2)

____________
1 ـ كشف المراد: المقصد السادس، المسألة السابعة.
2 ـ الزلزلة:7ـ 8.


( 114 )

وإلى هذين الوجهين أشار المحقّق الطوسى بقوله:
والاِحباط باطل، لاستلزامه الظلم ولقوله تعالى: (فَمَنْ يَعْمَل مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه). (1)
ثمّ إنّ العبد بما انّه لا يملك شيئاً إلاّ بما أغناه الله وأعطاه، فهو ينفق من مال الله سبحانه، لاَنّه وما في يده ملك لمولاه فهو عبد لا يملك شيئاً إلاّ بتمليكه سبحانه، فمقتضى تلك القاعدة أن ينفق لله وفي سبيل الله ولا يتبع عمله بالمنّ والاَذى.
وبعبارة أُخرى: أنّ حقيقة العبودية هي عبارة عن حركات العبد وسكناته لله سبحانه، ومعه كيف يسوّغ له اتّباع عمله بالمنِّ والاَذى.
ولذلك يقول سبحانه: (يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالمَنّ وَالاََذى ).
ثمّ إنّه سبحانه شبّه أصحاب المنِّ والاَذى بالمرائي الذي لا يبتغي بعمله مرضاة الله تعالى، ولا يقصد به وجه الله غير انّ المانّ والموَذي يقصد بعمله مرضاة الله ثمّ يتبعهما بما يبطله بالمعنى الذي عرفت، والمرائي لا يقصد بأعماله وجه الله سبحانه فيقع عمله باطلاً من رأس، ولذلك صحّ تشبيههما بالمرائي مثل تشبيه الضعيف بالقوي.
وأمّا حقيقة التمثيل فتوضيحها بالبيان التالي:
نفترض أرضاً صفواناً أملس عليها تراب ضئيل يخيل لاَوّل وهلة أنّها أرض نافعة صالحة للنبات، فأصابها مطر غزير جرف التراب عنها فتركها صلداً
____________
1 ـ المصدر نفسه.


( 115 )

صلباً أملس لا تصلح لشىء من الزرع، كما قال سبحانه: (كمَثَل صَفْوان عَلَيْهِ تُراب فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكهُ صَلداً لا يَقْدِرُون على شيء مِمّا كسبوا ).
فعمل المرائي له ظاهر جميل وباطن ردىء، فالاِنسان غير العارف بحقيقة نيّة العامل يتخيل أنّ عمله منتج، كما يتصور الاِنسان الحجر الاَملس الذي عليه تراب قليل فيتخيل انّه صالح للنبات، فعند ما أصابه مطر غزير شديد الوقع ونفض التراب عن وجه الحجر تبين أنّه حجر أملس لا يصلح للزراعة، فهكذا عمل المرائي إذا انكشفت الوقائع ورفعت الاَستار تبين أنّه عمل ردىء عقيم غير ناتج.
ثمّ إنّ المانّ و الموَذي بعد الاِنفاق أشبه بعمل المرائي .


( 116 )

سورة البقرة
9

التمثيل التاسع


(وَمَثَلُ الّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ ابْتِغاءَ مَرضَاتِ اللهِ وَتَثْبيتاً مِنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَين فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلّ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ). (1)
تفسير الآية
“الربوة” : هي التلُّ المرتفع .
و”الطلّ”: المطر الخفيف، يقال: أطلّت السماء فهي مطلِّة. وروضة طلّة ندية.
شبّه سبحانه في التمثيل السابق عمل المانِّ والموَذي بعد الاِنفاقب والمرائى بعمله بالاَرض الصلبة التي عليها تراب يصيبها مطر غزير يكتسح التراب فلا يظهر إلاّ سطح الحجر لخشونته وصلابته، على عكس التمثيل في هذه الآية حيث إنّها تشبّه عمل المنفق لمرضاة الله تبارك و تعالى بجنة خضراء يانعة تقع على أرض مرتفعة خصبة تستقبل النسيم الطلق و المطر الكثير النافع، وقيّد المشبه به ببستان مرتفع عن الاَرض، لاَنّ تأثير الشمس والهواء فيه أكمل فيكون أحسن منظراً وأذكى ثمراً، أمّا الاَماكن المنخفضة التي لا تصيبها الشمس في الغالب إلاّ قليلاً فلا تكون كذلك .

____________
1 ـ البقرة:265.


( 117 )

قال الرازي: إنّ المراد بالربوة الاَرض المستوية الجيدة التربة بحيث تربو بنزول المطر عليها وتنمو ، كما قال سبحانه: (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الماء اهْتَزَّت وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ ).
ويوَيده أنّ المثل مقابل الصفوان الذي لا يوَثر فيه المطر.
وعلى كلّ حال فهذا النوع من الاَرض إن أصابها وابل أتت أُكلها ضعفين فكان ثمرها مِثْلَي ما كانت تثمر في العادة، وإن لم يصبها وابل بل أصابها الطلّ تعطي أُكلها حسب مايترقّب منها.
فالذين ينفقون أموالهم في سبيل الله أشبه بتلك الجنة ذات الحاصل الوافر المفيد والثمين.
ثمّ إنّ قوله سبحانه: (ابتغاء مرضات الله و تثبيتاً من أنفسهم )بيان لدوافع الاِنفاق وحواجزه وهو ابتغاء مرضاة الله أولاً، وتقوية روح الاِيمان في القلب ثانياً، ولعلّ السرّ في دخول “من” على (من أنفسهم )مع كونه مفعولاً لقوله (تثبيتاً) لبيان أنّ هذا المنفق ينفق من نفس قد روّضها وثبّتها في الجملة على الطاعة حتى سمحت لله بالمال الغزير فهو يجعل من مقاصده في الاِنفاق، تثبيتها على طاعة الله وابتغاء مرضاته في المستقبل.


( 118 )

سورة البقرة
10

التمثيل العاشر


(أَيَوَّدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الاََنْهارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلّ الثَّمَراتِ وَأَصابهُ الكِبَرُ وَلَهُ ذُرّيّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيّنُ اللهُ لَكُمُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُون ). (1)
تفسير الآية
ودّ الشيء: أحبه. و”الجنة” هي الشجر الكثير الملتفّ كالبستان سمّيت بذلك، لاَنّها تجن الاَرض وتسترها وتقيها من ضوء الشمس ونحوه.
و”النخيل” جمع نخل أو اسم جمع.
و”الاَعناب” جمع عنب وهو ثمر الكرم، والقرآن يذكر الكرم بثمره والنخل بشجره لا بثمره.
و”الاِعصار” ريح عاصفة تستدير في الاَرض ثمّ تنعكس عنها إلى السماء حاملة معها الغبار كهيئة العمود، جمعه أعاصير، وخصّ الاَعاصير بما فيها نار، وقال: (إعصار فيه نار )، وفيه احتمالات:
أ: أن يكون المراد الرياح التي تكتسب الحرارة أثناء مرورها على الحرائق
____________
1 ـ البقرة:266.


( 119 )

فتحمل معها النيران إلى مناطق نائية.
ب: العواصف التي تصاحبها الصواعق وتصيب الاَرض وتحيلها إلى رماد.
ج: البرد الشديد الذي يطلق على كلّ ما يتلف الشيء ولو بتجفيف رطوبته.
والمتعين أحد الاَوّلين دون الثالث، وإلاّ لكان له سبحانه أن يقول كمثل ريح صرّ وهو البرد الشديد، قال سبحانه في صدقات الكفار ونفقاتهم في الدنيا: (مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ في هذِهِ الحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ ريحٍ فِيهَا صِرّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُون ). (1)
نعم ربما يفسر الصرّ بالسموم الحارة القاتلة. (2)وعندئذ تّتحد الآيتان في المعنى.
وعلى كلّ حال فالمقصود هو نزول البلاء على هذه الجنة الذي يوَدي إلى إبادتها بسرعة.
ثمّ إنّه سبحانه بينما يقول: (جنّة من نَخيلٍ وَأَعْناب )الظاهر في كون الجنّة محفوفة بهما، يقول أيضاً: (فِيها مِنْ كُلّ الثَّمَرات )، فكيف يمكن الجمع بين الاَمرين؟
والظاهر انّ النخيل والاَعناب لمّا كانا أكرم الشجر وأكثرها نفعاًخصّهما بالذكر وجعل الجنة منهما، وإن كانت محتوية على سائر الاَشجار تغليباً لهما على غيرهما.
إلى هنا تم تفسير مفردات الآية.

____________
1 ـ آل عمران:117.
2 ـ مجمع البيان:1|491.


( 120 )

وأمّا التمثيل فيتركب من مشبه ومشبه به.
أمّا المشبه فهو عبارة عمن يعمل عملاً صالحاً ثمّ يردفه بالسيئة، كما هو المروي عن ابن عباس، عندئذٍ يكون المراد من ينفق ويتبع عمله بالمنّ والاَذى.
قال الزمخشري: ضربت الآية مثلاً لرجل غني يعمل الحسنات، ثمّ بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله كلها. (1)
وأمّا المشبه به فهو عبارة عن رجل طاعن في السن لَحِقته الشيخوخة وله أولاد صغار غير قادرين على العمل وله جنّة محفوفة بالنخيل والاَعناب تجري من تحتها الاَنهار وله من كلّ الثمرات، وقد عقد على تلك الجنة آمالاً كبيرة، وفجأة هبّت عاصفة محرقة فأحرقتها وأبادتها عن بكرة أبيها فكيف يكون حال هذا الرجل في الحزن والحسرة والخيبة والحرمان بعد ما تلاشت آماله، فالمنفق في سبيل الله الذي هيأ لنفسه أجراً وثواباً أُخروياً عقد به آماله، فإذا به يتبع عمله بالمعاصي، فقد سلط على أعماله الحسنة تلك أعاصير محرقة تبيد كلّ ما عقد عليه آماله.

____________
1 ـ الكشاف:1|299.


( 121 )

سورة البقرة
11

التمثيل الحادي عشر



(الّذينَ يَأْكُلُونَ الرّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَما يَقُومُ الّذي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ المَسِّ ذلِكَ بأنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرّبوا وَأَحَلَّ اللهُ البيعَ وَحَرَّمَ الرّبوا فَمَنْ جاءَهُ مَوعِظَةٌ مِنْ رَبّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولئِكَ أَصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ). (1)
تفسير الآية
“الربا” الزيادة كما في قولهم ربا الشيء يربو إذا زاد، والربا هو الزيادة على رأس المال، فلو أقرض أحد أحداً عشرة إلى سنة فأخذ منه في نهاية الاَجل أكثر ممّا دفع فهو ربا إذا شرطه في العقد.
و”التخبّط” والخبط بمعنى واحد ، و هو المشي على غير استواء، يقال: خبط البصير إذا اختلّت جهة مشيه، ويقال للذى يتصرف في أمر ولا يهتدي فيه: هو يخبط خبطة عشواء، أي يضرب على غير اتساق.
وعلى هذا فالمراد من قوله: (يَتَخَبَّطهُ الشَّيْطان )أي يخبطه الشيطان ويضربه، وبالتالي يصرعه.

____________
1 ـ البقرة:275.


( 122 )

و”السَلَف” أي الماضي يقال سلف يسلف سلوفاً، ومنه الاَُمم السالفة أي الماضية.
وأمّا قوله (مِنَ المَسّ )فالظرف متعلق بيقوم، أي لا يقومون إلاّ كما يقوم المصروع من المسّ.
وحاصل معنى الآية أنّ آكل الربا لا يقوم إلاّ كقيام من يخبطه الشيطان فيصرعه، فكما أنّ قيامه على غير استواء فهكذا آكل الربا.
فالتشبيه وقع بين قيام آكل الربا و قيام المصروع من خبط الشيطان ، فيطرح هنا سوَالان:
الاَوّل: ما هو المراد من أنّ آكل الربا لا يقوم إلاّ كقيام المصروع؟
الثاني: ما هو المراد من كون الصرع من مس الشيطان؟
أمّا الاَوّل: فقد اختلف فيه كلمة المفسرين على وجوه:
1. ذهب أكثرهم إلى أنّ المراد قيامهم يوم القيامة قيام المتخبطين، فكأنّ آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنوناً، وذلك كالعلامة المخصوصة بآكل الربا، فيعرفه أهل الموقف أنّه آكل الربا في الدنيا.
و على ضوء هذا فيكون معنى الآية انّهم يقومون مجانين كمن أصابه الشيطان بمسٍّ.
2. انّهم إذا بعثوا من قبورهم خرجوا مسرعين لقوله: (يخرجون من الاَجداث سراعاً )إلاّ آكلة الربا فانّهم يقومون ويسقطون ، لاَنّه سبحانه أرباه في بطونهم يوم القيامة حتى أثقلهم فهم ينهضون ويسقطون ويريدون الاِسراع ولا يقدرون.


( 123 )

ويوَيده ما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: أُسري بي إلى السماء رأيت رجالاً بطونهم كالبيوت فيها الحيّات ترى من خارج بطونهم، فقلت: من هوَلاء ياجبرئيل؟ قال: هوَلاء آكلة الربا.
3. انّ المراد من المسّ ليس هو الجنون، و إن كان المسّ يستعمل فيه، بل المراد من تبع الشيطان وأجاب دعوته، كما هو الحال في قوله سبحانه: (إِنَّ الّذينَ اتَّقَوا إِذا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُون ) (1)، وذلك لاَنّ الشيطان يدعو إلى طلب اللّذات والشهوات والاشتغال بغير الله ، فهذا هو المراد من مسّ الشيطان، و من كان كذلك كان في أمر الدنيا متخبطاً، فتارة يجرّه الشيطان إلى اتّباع النفس والهوى، وتارة تجرّه الفطرة إلى الدين والتقوى فتضطرب حياته ويسودها القلق.
فلا شكّ أنّ آكل الربا يكون مفرطاً في حب الدنيا متهالكاً عليها، ولذلك تكون حياته الدنيوية حياة غير منظمة وعلى غير استواء.
وهناك وجه رابع ذكره السيد الطباطبائي وهو:
إنّ الاِنسان الممسوس الذي اختلّت قوته المميزة لا يفرق بين الحسن والقبيح، والنافع والضار، والخير والشر، فهكذا حال المرابي في أخذه للربا فانّ الذي تدعو إليه الفطرة أن يعامل بمعاوضة ما عنده من المال الذي يستغني عنه مما عند غيره من المال الذي يحتاج إليه. وأمّا إعطاء المال وأخذ ما يماثله بعينه مع زيادة، فهذا شيء ينهدم به قضاء الفطرة وأساس المعيشة، فانّ ذلك ينجرّ من جانب المرابى إلى اختلاس المال من يد المدين وتجمّعه وتراكمه عند المرابي، فانّ هذا المال لا يزال ينمو و يزيد، ولا ينمو إلاّ من مال الغير، فهو
____________
1 ـ الاَعراف:201.


( 124 )

بالانتقاص والانفصال من جانب، والزيادة والانضمام من جانب آخر.
وينجرّ من جانب المدين الموَدىى للربا إلى تزايد المصرف بمرور الزمان تزايداً لا يتداركه شيء مع تزايد الحاجة، وكلما زاد المصرف أي نما الربا بالتصاعد زادت الحاجة من غير أمر يجبر النقص ويتداركه وفي ذلك انهدام حياة المدين.
فالربا يضادّ التوازن والتعادل الاجتماعي ويفسد الانتظام الحاكم على هذا الصراط المستقيم الاِنساني الذي هدته إليه الفطرة الاِلهية.
وهذا هو الخبط الذي يبتلى به المرابي كخبط الممسوس، فانّ المراباة يضطره أن يختل عنده أصل المعاملة والمعاوضة فلا يفرّق بين البيع والربا، فإذا دُعي إلى أن يترك الربا ويأخذ بالبيع، أجاب: انّ البيع مثل الربا لا يزيد على الربا بمزية، فلا موجب لترك الربا وأخذ البيع، ولذلك استدل تعالى على خبط المرابين بما حكاه من قولهم: (إِنَّما البيعُ مثْل الرّبا ). (1)
وهناك سوَال: وهو انّه لماذا قيل البيع مثل الربا بل كان عليهم القول بأنّ الربا مثل البيع، لاَنّ الكلام في الربا لا في البيع فوجب عليهم أن يشبهوا الربا بالبيع، لا على العكس.
والجواب انّهم شبهوا البيع بالربا لاَجل المبالغة وهو انّهم جعلوا حلّية الربا أصلاً، وحلّية البيع فرعاً، فقالوا: إنّ البيع مثل الربا.
هذا كلّه حول الاَمر الاَوّل.
وأمّا الاَمر الثاني وهو كون الجنون معلولاً لوطأة الشيطان ومسّه، فنقول:
إنّ ظاهر الآية أنّ الجنون نتيجة تصرف الجن في المجانين، مع أنّ العلم
____________
1 ـ الميزان:2|411.


( 125 )

الحديث كشف علّة الجنون وهو حدوث اختلالات في الاَعصاب الاِدراكية، فكيف يجمع بين مفاد الآية وما عليه العلم الحديث، وهذا من قبيل تعارض النقل والعقل؟
وأجاب عنه بعض المفسرين بأنّ هذا التشبيه من قبيل المجاراة مع عامّة الناس في بعض اعتقاداتهم الفاسدة حيث كان اعتقادهم بتصرف الجن في المجانين، ولا ضير في ذلك، لاَنّه مجرد تشبيه خال عن الحكم حتى يكون خطأً غير مطابق للواقع.
فحقيقة معنى الآية هو أنّ هوَلاء الآكلين للربا حالهم حال المجنون الذي يتخبطه الشيطان من المس، وأمّا كون الجنون مستنداً إلى مس الشيطان فأمر غير ممكن، لاَنّ الله سبحانه أعدل من أن يسلط الشيطان على عقل عبده، أو على عبده الموَمن. (1)
وأجاب عنه السيد الطباطبائي بأنّ الله تعالى أجلّ من أن يستند في كلامه إلى الباطل، و لغو القول بأي نحو كان من الاستناد إلاّ مع بيان بطلانه ورده على قائله، وقد قال تعالى في وصف كلامه: (وَإِنَّهُ لكِتابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ). (2)
وقال تعالى: (إِنَّهُ لَقَولٌ فَصْلٌ * وَما هُوَ بِالْهَزْلِ ). (3)
وأمّا انّ استناد الجنون إلى تصرف الشيطان و ذهاب العقل ينافي عدله تعالى، ففيه انّ الاشكال بعينه مقلوب عليهم في اسنادهم ذهاب العقل إلى
____________
1 ـ نقله في الميزان: 2|413 ولم يذكر المصدر ؛ وفي تفسير المنار : 3|95 ما يقرب من ذلك نقله عن البيضاوى في تفسيره .
2 ـ فصلت:42.
3 ـ الطارق:13ـ 14.


( 126 )

الاَسباب الطبيعية فانّها مستندة أخيراً إلى الله تعالى مع إذهابها العقل. (1)
وهناك كلام آخر للسيد الطباطبائي ولعلّه يقلع الشبهة: انّ استناد الجنون إلى الشيطان ليس على نحو الاستقامة ومن غير واسطة بل الاَسباب الطبيعية كاختلال الاَعصاب والآفة الدماغية أسباب قريبة وراءها الشيطان ، كما أنّ أنواع الكرامات تستند إلى الملك مع تخلل الاَسباب الطبيعية في البين، وقد ورد نظير ذلك فيما حكاه الله عن أيوب (عليه السلام) إذ قال: (أنّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ)(2)، وإذ قال: (أَنّى مَسَّنِيَ الضُرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ ) (3)والضرّ هو المرض وله أسباب طبيعية ظاهرة في البدن، فنسب ما به من المرض المستند إلى أسبابه الطبيعية إلى الشيطان. (4)

____________
1 ـ الميزان: 2|412.
2 ـ ص:41.
3 ـ الاَنبياء:83.
4 ـ الميزان:2|413.


( 127 )

آل عمران
12

التمثيل الثاني عشر



(إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُون * الحَقُّ مِنْ رَبّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِين ). (1)
تفسير الآية
ذكر سبحانه كيفية ولادة المسيح من أُمّه “مريم العذراء” وابتدأ بيانه بقوله: (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ…) وانتهى بقوله: (قالَتْ رَبّ أَنّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكَ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشَاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ). (2)
وبذلك أثبت انّ المسيح مخلوق لله سبحانه مولود من أُمّه العذراء دون أن يمسّها بشر وانّه (عليه السلام) آية من آيات الله سبحانه، ولما كانت النصارى تتبنّى ألوهية المسيح وانّه يوَلف أحد أضلاع مثلث الاَُلوهية الرب و الابن وروح القدس، وكانت توَمن انّه ابن الرب، لاَنّه ولد من مريم بلا أب .
ولما احتجوا بهذا الدليل أمام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وافاه الوحي مجيباً على
____________
1 ـ آل عمران:59ـ60.
2 ـ آل عمران: 45ـ47.


( 128 )

استدلالهم بأنّ كيفية خلق المسيح يضاهي كيفية خلق آدم. حيث إنّ آدم خلق من تراب بلا أب وأُمّ، فإذا كان هذا أمراً ممكناً، فمثله المسيح حيث ولد من أُمّ بلا أب فهو أهون بالاِمكان.
وبعبارة أُخرى: انّ المسيح مثل آدم في أحد الطرفين، ويكفي في المماثلة المشاركة في بعض الاَوصاف، ففي الحقيقة هو من قبيل تشبيه الغريب بالاَغرب ليكون أقطع للخصم وأحسم لمادة الشبهة.
إنّ من الاَسئلة المثارة حول قوله سبحانه: (ثُمَّ قال لَهُ كُنْ فيكون) هو انّ الاَنسب أن يقول: “ثم قال له كن فكان” فلماذا قال: (فيكون) لاَنّ أمره سبحانه بالتحقّق أمر يلازم تحقّق الشيء دفعة؟.
والجواب انّه وضع المضارع مكان الماضي وهو أمر جائز، والنكتة فيه هي تصوير الحالة الماضية فإنّ تكوّن آدم كان أمراً تدريجياً لا أمراً دفعياً.
وبعبارة أُخرى: انّ قوله: (كن )وإن كان دالاً على انتفاء التدريج ولكنّه بالنسبة إليه سبحانه، وأمّا بالنسبة إلى المخلوق فهو على قسمين: قسم يكون فاقداً له كالنفوس والعقول الكلية، وقسم يكون أمراً تدريجياً حاصلاً بالنسبة إلى أسبابها التدريجية، فإذا لوحظ الشيء بالقياس إليه تعالى فلا تدريج هناك ولا مهلة ـ لانتفاء الزمان والحركة في المقام الربوبي، ولذا قال سبحانه: (وَما أَمْرنا إِلاّ واحدةٌ كَلَمْحٍ بالْبَصَر ) (1)وأمّا إذا لوحظ بالقياس إلى وجود الممكن وأسبابه فالتدريج أمر متحقق، وبالجملة فقوله (فيكون )ناظر إلى الحالة الماضية. (2)
وهناك وجه آخر ذكره المحقّق البلاغي عند تفسير قوله سبحانه: (بَدِيعُ
____________
1 ـ القمر : 50.
2 ـ الميزان: 3|212؛ المنار:3|319.


( 129 )

السَّمواتِ والاََرْض وَإِذا قَضى أَمْراً فَانَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُون ).
إنّ قوله: (فيكون )تفريع على قوله (يقول )وليس جزاءً لقوله تعالى (كن)، لاَنّ الكون بعد الفاء، هو نفس الكون المأمور به لا جزاءه المترتب عليه، وتوهم أنّه جزاء لذات الطلب أو ملكوت مع الطلب مدفوع، بأنّه لو صحّ لوجب أن ينصب مع أنّه مرفوع.(1)
وعلى كلّ تقدير فالقرآن الكريم يستدل على إبطال إلوهية المسيح بوجوه مختلفة، منها هو تشبيه ولادة المسيح بآدم. والتمثيل المذكور يتكفّل بيان هذا الاَمر أيضاً، وفي الحقيقة الآية منحلّة إلى حجتين تفي كلّ واحدة منهما بنفي الاَلوهية عن المسيح.
إحداهما: انّ عيسى مخلوق لله ـ على ما يعلمه الله لا يضل في علمه ـ خلقة بشر وإن فقد الاَب ومن كان كذلك كان عبداً لا رباً.
وثانيهما: انّ خلقته لا تزيد على خلقة آدم، فلو اقتضى سنخ خلقه أن يقال بإلوهيته بوجه لاقتضى خلق آدم ذلك مع أنّهم لا يقولون بها فيه فوجب أن لا يقولوا بها في عيسى (عليه السلام) أيضاً لمكان المماثلة.
ويظهر من الآية انّ خلقة عيسى كخلقة آدم خلقة طبيعية كونية و إن كانت خارقة للسنّة الجارية في النسل وهي حاجة الولد في تكوّنه إلى والد. (2)

____________
1 ـ آلاء الرحمن:1|120.
2 ـ الميزان:3|212.

شاهد أيضاً

الزهراء الصديقة الكبرى المثل الأعلى للمرأة المعاصرة / سالم الصباغ‎

أتشرف بأن أقدم لكم نص المحاضرة التي تشرفت بإلقائها يوم 13 / 3 في ندوة ...