أسرار الصلاة – الجليل الشيخ الجوادي الآملي 22
25 يوليو,2020
صوتي ومرئي متنوع, طرائف الحكم
644 زيارة
أمّا الاستدلال : فهو المستفاد من غير واحدة من الآيات الدالَّة على إطلاق القدرة من ناحية الفاعل ، وإمكان الإعادة كالبدء من ناحية القابل . وأمّا الاستشهاد : فهو المستنبط من غير واحدة من الآيات الدالَّة على أنّ وزان الموت والبعث هو وزان النوم واليقظة ، نحو قوله تعالى * ( « وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيه ِ
لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْه ِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ » ) * « 3 » . وأمّا التمثيل له : فهو ما تقدّم من تأويل السجود بأنّ الإنسان من تراب ، ثمّ يعود فيه ، ثمّ يبعث منه ، فالمصلَّي الساجد للَّه في كلّ ركعة مرّتين يتمثّل له المعاد الذي إليه يصير ، فمن عثر على سرّ الصلاة يقف على مواقف القيامة ويراها كأنها قامت ، وتدعو نارها من أعرض وتولَّى ، فيجد ويجاهد ويجتهد في إخمادها ، كما هو المأثور عن الإمام زين العابدين – عليه السّلام – من وقوع حريق في حال صلاته عليه السّلام ، ولم يلتفت إليه حتّى فرغ من صلاته ، وقيل له عليه السّلام : ما الذي ألهاك عنها ؟ قال عليه السّلام : ألهتني عنها النار الكبرى « 4 » . والغرض : أنّ السجدتين تمثّلان للبدء والعود ، فتدبّر تجد سرّه .
وممّا يشهد للاستناد بالسجود في نيل الفضل الخاصّ من الجنّة والحشر مع أهل
العصمة ونحو ذلك هو ما رواه الكلينيّ رحمه اللَّه ، عن أبي عبد اللَّه – عليه السّلام – أنّه قال : مرّ بالنبيّ رجل وهو يعالج بعض حجراته ، فقال : يا رسول اللَّه ، ألا أكفيك ، فقال عليه السّلام : شأنك ، فلمّا فرغ قال له رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وآله :
حاجتك ؟ قال : الجنّة ، فأطرق رسول اللَّه – صلَّى اللَّه عليه وآله – ثمّ قال : نعم ، فلمّا ولَّى قال له : يا عبد اللَّه أعنّا بطول السجود « 1 » ، لدلالته على أنّ للسجود وطوله دخلا في الوصول إلى طول اللَّه وفضله الخاصّ .
كما أنّ قوما أتوا رسول اللَّه – صلَّى اللَّه عليه وآله – وقالوا : يا رسول اللَّه ، اضمن لنا على ربّك الجنّة ، قال : فقال صلَّى اللَّه عليه وآله : « على أن تعينوني بطول السجود » « 2 » ويلائمه أيضا ما قاله – صلَّى اللَّه عليه وآله – لربيعة بن كعب حيث سأله – صلَّى اللَّه عليه وآله – أن يدعو له بالجنة : « أعنّي بكثرة السجود » « 3 » ونحو ما قاله – صلَّى اللَّه عليه وآله – لرجل جاءه فقال : يا رسول اللَّه ، كثرت ذنوبي وضعف عملي ، فقال رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وآله : « أكثر السجود فإنّه يحطَّ الذنوب كما تحتّ الريح ورق الشجر » « 4 » إذ المستفاد من نطاق هذه الطائفة الَّتي أتينا ببعضها هو : أنّ لأصل السجود ولطوله ولكثرته سهما في نيل الشفاعة بالوصول إلى الغفران عن الذنوب ، وإلى الرضوان الإلهيّ ، وهو الجنّة بدرجاتها ، ومعنى قول الرسول صلَّى اللَّه عليه وآله :
« أعنّي . » هو : أنّ العبد يستعين بالصلاة كما قال سبحانه * ( « وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ » ) * « 5 » ، وهذه الاستعانة تكون لأمور شتّى ، منها : الوصول إلى الشفاعة ، ومن أهمّ أجزاء الصلاة الَّتي بها يستعان هو السجود ، فمن صلَّى وأطال سجوده فقد استعان للجنّة بالشفاعة بالصلاة والسجود ، كما أنّ من أطال السجود فقد استعان به للحشر مع الرسول – صلَّى اللَّه عليه وآله – حسبما يستفاد ممّا رواه الديلميّ ، عن أمير المؤمنين – عليه السّلام – أنّه جاء إلى النبيّ – صلَّى اللَّه عليه وآله – فقال : علَّمني عملا يحبّني اللَّه ، ويحبّني المخلوقون ، ويثري اللَّه مالي ، ويصحّ بدني ، ويطيل عمري ،
ويحشرني معك ، قال صلَّى اللَّه عليه وآله : « هذه ستّ خصال تحتاج إلى ستّ خصال ، إذا أردت أن يحبّك اللَّه فخفه واتّقه ، وإذا أردت أن يحبّك المخلوقون فأحسن إليهم وأرفض ما في أيديهم ، وإذا أردت أن يثري اللَّه مالك فزكَّه ، وإذا أردت أن يصحّ اللَّه بدنك فأكثر من الصدقة ، وإذا أردت أن يطيل اللَّه عمرك فصل ذوي أرحامك ، وإذا أردت أن يحشرك اللَّه معي فأطل السجود بين يدي اللَّه الواحد القهار » « 1 » .
وحيث إنّ لطول السجود وكثرته فضلا خاصّا عدا ما لأصل السجود من الفضل ، كان بين عيني عليّ بن الحسين السجاد – عليه السّلام – سجّادة كأنّها ركبة عين « 2 » ، وكانت مواضع سجوده – عليه السّلام – كمبارك البعير « 3 » .
وروى ابن طاوس ، عن السجّاد – عليه السّلام – أنّه برز إلى الصحراء فتبعه مولى له ، فوجده ساجدا على حجارة خشنة ، فأحصى عليه ألف مرّة « لا إله إلَّا اللَّه حقّا حقّا ، لا إله إلَّا اللَّه تعبّدا ورقّا ، لا إله إلَّا اللَّه إيمانا وصدقا » ، ثمّ رفع رأسه « 4 » .
ولمّا كان لطول السجود وكثرته أثرا هامّا كثر سجود إبراهيم عليه السّلام ، ولذا اتّخذه اللَّه خليلا له كما قاله الصادق عليه السّلام « 5 » . وطال سجود أبي عبد اللَّه الصادق – عليه السّلام – حسبما قال منصور الصيقل : حججت فمررت بالمدينة ، فأتيت قبر رسول اللَّه – صلَّى اللَّه عليه وآله – فسلَّمت عليه ، ثمّ التفتّ فإذا بأبي عبد اللَّه – عليه السّلام – ساجد ، فجلست حتّى مللت ، ثمّ قلت : لاسبّحنّ ما دام ساجدا ، فقلت : سبحان ربّي العظيم وبحمده ، أستغفر اللَّه ربّي وأتوب إليه ثلاثمائة مرّة ونيفا وستّين مرّة ، فرفع رأسه ثمّ نهض « 6 » . وقال حفص بن غياث « 7 » : رأيت أبا
عبد اللَّه – عليه السّلام – يتخلَّل بساتين الكوفة ، فانتهى إلى نخلة فتوضّأ عندها ، ثمّ ركع وسجد ، فأحصيت في سجوده خمسمائة تسبيحة ، ثمّ استند إلى النخلة ، فدعا بدعوات ثمّ قال : يا حفص ، إنّها واللَّه النخلة التي قال اللَّه – عزّ وجلّ – لمريم عليها السّلام :
* ( « وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا » ) * « 1 » .
ومن هنا قال الصادق عليه السّلام : « السجود منتهى العبادة من بني آدم » « 2 » ، وقال سلمان الفارسيّ : « لولا السجود للَّه ومجالسة قوم يتلفّظون طيب الكلام كما يتلفّظ طيب الثمر لتمنّيت الموت » « 3 » . وقد ورد في مدح الساجدين قوله تعالى :
* ( « سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ » ) * « 4 » لأنّ السجود الطويل أو الكثير يؤثّر في الجبهة ، فتنقش فيها سمة السجدة ، وهكذا ورد في قدح الفاقدين لسمة الإيمان والسجود قول أمير المؤمنين عليه السّلام : « إنّي لأكره للرجل أن أرى جبهته جلحاء ليس فيها أثر السجود » « 5 » ، والجلحاء هي الجبهة الَّتي انحسر شعرها عن جانبي الرأس . ومن طال سجوده أو كثر ينحسر شعره ، أو تتّسم جبهته بما وصفه اللَّه حسبما مرّ ، وقد قال السجّاد – عليه السّلام – لقوم يزعمون التشيّع لأهل البيت عليهم السّلام :
« . أين السمة في الوجوه ؟ أين أثر العبادة ؟ أين سيماء السجود ؟ إنّما شيعتنا يعرفون بعبادتهم وشعثهم ، قد قرحت منهم الآناف ، ودثرت الجباه والمساجد » « 6 » .
والسرّ في ذلك كلَّه – عدا ما تقدّم من أنّه تمثّل للبدء من التراب ، وللعود فيه ، وللنشور منه – هو ما قاله النبيّ صلَّى اللَّه عليه وآله : « إنّ الأرض الَّتي يسجد عليها المؤمن يضيء نورها إلى السماء » « 7 » ، ومن المعلوم أنّ الأرض الغبراء الَّتي تقلّ الساجد إنّما تضيء للسماء الخضراء الَّتي تظلَّه ببركة السجدة الَّتي سرّها الضياء ، فإذا كان السجود ضياء كان الساجد أكثر ضياء ؛ لأنّ خيرا من الخير فاعله ، كما قاله
عليّ : « فاعل الخير خير منه » « 1 » إذ المؤثّر أقوى من أثره ، والفعل أضعف من فاعله ، فإذا كان السجود وصفا بعنوان الحال للساجد ، ثمّ صار ملكة له ، ثمّ صار فصلا مقوّما لهويّته الأصليّة بمعنى : ما ليس بخارج منه ، لا لماهيته الاعتباريّة يصير الساجد نورانيّا جعل له نور يمشي به في الناس ، وكفى بذلك سرّا للسجود ، ولعلّ ما حكم بأنّ الساجد شكرا يرى وجه اللَّه تعالى « 2 » فإنّما هو بذلك الضياء .
وقد ورد اختصاص السجود للَّه تعالى ، وانّ ما أتى به الملائكة لآدم عليه السّلام ، وكذا ما فعله يعقوب عليه السّلام وولده ليوسف عليه السّلام فإنّما كان ذلك كلَّه سجودا للَّه ، وطاعة له تعالى ، وائتمارا بأمره سبحانه ، ومحبّة لآدم وفضيلة له ، وكذا تحيّة ليوسف وتكرمة له عليه السّلام « 3 » .
2020-07-25