أما كفران النعم فيعرضها للزوال ، لأنها تجعل المرء غير مبال بما يعمل
ويبدد الثروة بدون منفعة ، ويتلف ما أنعم الله به عليه من نعم الصحة والعافية
ويسير على غير المنهج الذي رسمه له الخالق ، فيؤدي به إلى غضب الله والبعد
عن رحمته .
والقرآن يخبر بأن خراب الأمم كان سببه كفران النعم ، وعدم الشكر
لله تعالى . قال سبحانه : ( وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها
رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف
بما كانوا يصنعون ) .
وذكر القرآن قصة قوم سبأ ( لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن
يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور . فأعرضوا
فأرسلنا عليهم سيل العرم ، وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل
وشئ من سدر قليل . ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور ) .
فالشكر من الدعائم لسعادة الأمم ، والتنكب عنه لا يجلب غير الدمار
والخراب ، حبذا لو فهمته الشعوب وعملت به لتحصل على السعادة التي تنشدها
وهي عنه غافلة .
وهنا نادرة طريفة أقصها :
( حدث التاريخ أن السلطان ( سنجر السلجوقي ، مر في طريق وهو في
موكب سلطنته ، وكان في الطريق درويش من أهل الفقر فسلم على السلطان
فلم يرد عليه جواب التحية بلسانه بل حرك رأسه بدل الجواب . فقال الدرويش
أيها الملك إن الابتداء بالتحية مستحب وجوابها واجب ، وأنا قد أديت
المستحب فلم لا تؤدي الواجب . فأمسك السلطان بعنان مركبه وأخذ يعتذر من
الدرويش بأنه كان مشغولا بالشكر فغفل عن جواب التحية . فقال الدرويش
للسلطان لمن كنت تشكر . فقال : لله الذي هو المنعم على الإطلاق ، وما نعمة
إلا وهي منه ، ولا عطاء إلا من قبله . فقال الدرويش : بأي نوع كنت تشكره
فقال : بكلمة ( الحمد لله رب العالمين ) فإن فيها شكر سائر النعم . فقال
الدرويش : أيها السلطان ما أجهلك بطريق الشكر الواجب عليك ، إن ما جب
عليك من هذا الأمر هو مقدار ما أفاض عليك المنعم وأردف عليك عطاياه الغير
المتناهية من اقتدار أيامك وسعة زمانك ، فليس الواجب عليك قول الحمد لله
فإن الشكر من السلطان إنما يقع موقع القبول ويستزاد به النعمة إذا وقع منه
على كل نعمة عنده بما يناسبها .
فالتمس السلطان منه أن يعلمه ذلك ، فقال
له : شكر السلطان هو العدل والإحسان مع عامة العباد ، وشكر سعة
ملكه عدم الطمع في أملاك رعيته ، وشكر ارتفاع عرشه وإقباله الالتفات إلى
المنخفظين في تراب الفاقة والمذلة ، وشكر نعمة التأمر أداء حق المأمورين ،
وشكر الخزائن العامرة التصدق على أهل الاستحقاق والإدرار عليهم بالمقررات
وشكر نعمة القوة والقدرة النظر إلى العجزة والضعفاء بنظر الرأفة والرحمة . وشكر
نعمة الصحة شفاء المعلولين بعلة الظلم بقانون العدالة ، وشكر نعمة كثرة الجند
والعسكر منعهم عن إيذاء المسلمين والتعرض لأمتعتهم ، وشكر نعمة القصور
العالية والأبنية المشيدة منع الخدم والحشم عن النزول في منازل الرعية وإعفائهم
عن المزاحمة فيها ، وخلاصة شكر السلطان أن ينظر إلى المحق بعين الرضا
ويقدم راحة الرعية على راحة نفسه ) .
وفي قصة الأبرص ، والأقرع ، والأعمى ، التي عن رسول الله ( ص )
أبلغ الدرس :
قرأت في كتاب ( إسلامنا ) تأليف – السيد سابق – ( عن النبي ( ص ) :
أن ثلاثة من بني إسرائيل : أبرص ، وأقرع ، وأعمى ، أراد الله أن
يبتليهم . . فبعث إليهم ملكا ، فأتى الأبرص فقال : أي شئ أحب
إليك ؟ قال : لون حسن ، وجلد حسن ، ويذهب عني الذي قد قذرني
الناس . فمسحه فذهب عنه قذره ، وأعطي لونا حسنا ، وجلدا حسنا ،
فقال : فأي المال أحب إليك ؟ قال : الإبل . فأعطي ناقة عشراء . فقال :
بارك الله لك فيها .
فأتى الأقرع فقال : أي شئ أحب إليك ؟ قال : شعر حسن ويذهب
عني هذا الذي قد قذرني الناس . فمسحه فذهب عنه ، وأعطي شعرا حسنا .
قال : فأي المال أحب إليك ؟ قال : البقر . فأعطي بقرة حاملا ، قال :
بارك الله لك فيها .
فأتى الأعمى فقال : أي شئ أحب إليك ؟ قال : أن يرد الله إلي
بصري فأبصر الناس . فمسحه فرد الله إليه بصره . قال : فأي المال أحب
إليك ؟ قال : الغنم . فأعطي شاة والدا ، فأنتج هذان ، وولد هذا .
فكان لهذا واد من الإبل . ولهذا واد من البقر . ولهذا واد من الغنم . ثم
إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته . فقال له : رجل مسكين وابن السبيل ، قد
انقطعت بي الحبال في سفري ، فلا بلاغ إلى اليوم إلى بالله ثم بك ، أسألك
بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال ، بعيرا أتبلغ به في سفري ،
فقال : الحقوق كثيرة .
فقال له : كأني أعرفك ، ألم تكن أبرص بقذرك الناس ، فقيرا فأعطاك
الله ؟ فقال : إنما ورثت هذا المال كابرا عن كابر . فقال : إن كنت كاذبا
فصيرك الله إلى ما كنت .
وأتى الأقرع في صورته وهيئته ، فقال له : ما قال لهذا ، ورد عليه
مثل ما رد هذا . فقال : إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت .
وأتى الأعمى في صورته وهيئته . فقال له : رجل مسكين وابن سبيل
انقطعت بي الحبال في سفري ، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك ، أسألك بالذي
رد عليك بصرك وأعطاك المال . شاة أتبلغ بها في سفري .
فقال : قد كنت أعمى فرد الله إلي بصري ، فخذ ما شئت ، فوالله لا
أجهدك اليوم بشئ أخذته لله عز وجل .
فقال : أمسك مالك ، فإنما ابتليتم ، فقد رضي الله عنك وسخط على
صاحبيك )