إن خطر اللسان عظيم ، ولا نجاة من خطره إلا بالصمت ، فلذلك مدح
الشرع الصمت وحث عليه ، قال ( ص ) : ( من صمت نجا ، وقال : ( الصمت
حكم وقليل فاعله ) ثم في الصمت راحة الجسم والحواس ، والأمان من
اللوم والإثم ، والاستغناء عن المعذرة من الهفوات ، وملك عنان النفس التي كثيرا
ما تقذف بقوس اللسان ، تلك القارصات الجارحات كأنها تقذف أسهما لا تندمل
جروحها ، بخلاف الأسهم التي تصيب الهدف فتميته ، وكثيرا ما تحيل الصديق
عدوا والخير شرا . وقد قيل في هذا المعنى :
جراحات السنان لها التئام
ولا يلتام ما جرح اللسان
هذه إحدى فوائد الصمت وحبس اللسان عن النطق إلا فيما يعود بالنفع
كما تقدم .
ومن فوائده أيضا : راحة الفكر وإمكان توسيع دائرته وإقامة الدلالة والبرهان
على ما يقرره من صواب أو خطأ ، وهذا ما لا يمكن أثناء التكلم ، إذ لا فكر
بدون صمت ، ولا إصابة بدون إمعان فكرة وإعمال بصيرة .
ومنها : إن بالصمت تكون أذنا المرء واقفتين بالمرصاد لكل ساقطة ،
فتلتقطان ما يحب ، وتنبذان ما يكره كما قيل : ( لكل ساقطة لاقطة ) وقد
يسمع المرء ما لا يفهم ، ويفهم ما لا يعلم ، فإذا يكون فتح بالصمت لذهنه
وذاكرته بابي الفهم والعلم اللذين يغلقهما بإطلاق العنان للسانه . إذ ما من
خلة ذميمة وسمة دنيئة ، وعادة مستهجنة تكون تبعتها عائدة على الإنسان من
لسانه ، إلا أمكنه إلقاء تلك التبعة عنه في صمته ، مستعيضا عنها بأجمل وأشرف
منها ، حيث ما بالتكلم نقص إلا بالصمت شرف يوازي ذلك النقص – من قبيل
التناقض – ويميته ، وما بالتكلم من أذى ولا ضعة إلا بالصمت سلامة من ذلك
الأذى ، ورفعة من تلك الضعة .
ونظرا لكثرة فوائده أخذت الأمم الراقية تتحلى بعقود درره المنظومة
بسلك العلم والعمل ( كاليابان ) و ( الإنكليز ) و ( الصين ) وغيرهم فقد يخال
من يمر بشوارعهم ويدخل أنديتهم أن القوم خرس وما بالقوم من خرس ، وقد
يكتفي أحدهم بالإشارة عن الصراخ المزعج ، فيتعاطى ( البوليس مثلا ) أعمالا
يندهش مثلنا كيف يتعاطاها بدون تكلم ولا اضطراب . بينما لأمر بسيط تختلف
عمالنا وتشكل أعمالنا وتقوم الضوضاء بين أظهرنا . وبالنتيجة الانزعاج والقلق
فالخصام ليس إلا !
فشتان بين عليم صموت
وبين جهول كثير الكلام
وبين مشير لقصد الوفاق
وبين مثير لنار الخصام
وقد أرى أن مثل المكثار : مثل تاجر يوزع بضائعه لزبائنه بدون نقد
ولا طلب ، غير مهتم إلا بالنفاد ساه عما يتكبده من الخسارة وفقد الأصحاب ،
تعب الفكر والوجدان ، صفر اليدين من المال والنوال . ومثل الصموت الخبير
مثل الصيرفي النقاد ، محكه أمامه لا يبذل دينارا ولا درهما قبل الحك والوزن
والنقد ، أخذا بالعوض عنه ما يعادله أو يزيده قيمة ، ولا يدخل عليه شيئا
إلا بعد النقد المذكور .
وقد قالت الشعراء ما ليس بالقليل في هذا المعنى فلنذكر طرفا منه :
واحفظ لسانك واحترز من لفظه
فالمرء يسلم باللسان ويعطب
وزن الكلام إذا نطقت ولا تكن
ثرثارة في كل ناد تخطب
كمثال جاهلة تطوف بليلها
مكثارة في كل واد تحطب
* * *
ومنه : إن كان منطق ناطق من فضة
فالصمت در زانه ياقوت
ما عيب ذو صمت ولا من ناطق
إلا يعاب ولا يعاب صموت
* * *
ومنه : أنطق بحيث العي مستقبح
واصمت بحيث الخير في سكتتك
الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب
زعم ابن سلمى أن حلمي ضر بي
ما ضر قبلي أهله الحلم
إنا أناس من سجيتهم
صدق الحديث ورأيهم حتم
لبسوا الحياء فإن نظرت حسبتهم
سقموا ولم يمسسهم سقم
إني وجدت العدم أكبره
عدم العقول وذلك العدم
والمرء أكثر عيبه ضررا
خطل اللسان وصمته حكم
علي بن هشام
لعمرك أن الحلم زين لأهله
وما الحلم إلا عادة وتحلم
إذا لم يكن صمت الفتى من بلادة
وعي فإن الصمت أهدى وأسلم
أصيحة بن الجلاح
والصمت أجمل بالفتى
ما لم يكن عي يشينه
والقول ذو خطل إذا
ما لم يكن لب يعينه
ولبعض الشعراء
وإذا خطبت على الرجال فلا تكن
خطل الكلام تقوله مختالا
واعلم بأن من السكوت لبابة
ومن التكلف ما يكون خبالا
وللأمام الشافعي
إذا شئت أن تحيا سليما من الأذى
وذنبك مغفور وعرضك صين
لسانك لا تذكر به عورة امرئ
فكلك عورات وللناس ألسن
وعينك إن أبدت إليك مساويا
فدعها وقل يا عين للناس أعين
وعاشر بمعروف وسامح من اعتدى
وفارق ولكن بالتي هي أحسن
* * *
لعمرك ما شئ علمت مكانه
أحق بسجن من لسان مذلل
على فيك مما ليس يعنيك قوله
بقفل شديد حيث ما كنت فأقفل
* * *
إذا الأمر أعيى اليوم فانظر به غدا
لعل عسيرا في غد يتيسر
ولا تبد قولا من لسانك لم يرض
مواقعه من قبل ذاك التفكر
ولا تصر من حبل امرئ في رضى امرئ
فيتصلا يوما وحبلك أبتر
* * *
إحفظ لسانك لا تقول فتبتلى
إن البلاء موكل بالمنطق
* * *
رأيت اللسان على أهله
إذا ساسه الجهل ليثا مغارا
عليك حفظ اللسان مجتهدا
فإن جل الهلاك في زلله
إلى غير ذلك من الأشعار التي اشتهرت عند الأدباء .
قال أحد الحكماء : ( في الصمت سبعة آلاف خير ، وقد اجتمعت في
سبع كلمات في كل كلمة ألف . أولها : الصمت عبادة من غير عناء . والثانية
زينة من غير حلي . والثالثة هيبة من غير سلطان . والرابعة : حصن من غير
حائط . والخامسة الاستغناء عن الاعتذار إلى أحد . والسادسة راحة الكرام
الكاتبين . والسابعة : ستر لعيوبه ) .