الرئيسية / صوتي ومرئي متنوع / المجتمع والأسرة والزواج على ضوء القرآن الكريم 4

المجتمع والأسرة والزواج على ضوء القرآن الكريم 4

والمجتمعات التي هذا شأنها لا ترتضي الفطرة الانسانية السليمة ان تصفها بالصلاح أو
تذعن لها بالسعادة وإن أغمضت النظر عما يشخصه قضاء الدين وحكم الوصي والنبوة من
معنى السعادة . وكيف ترضى الطبيعة الانسانية أن تجهز أفرادها بما تجهزها على السواء
ثم تناقض نفسها فتعطي بعضا منهم عهدا أن يتملكوا الآخرين تملكا يبيح لهم دماءهم
وأعراضهم وأموالهم ، ويسوي لهم الطريق إلى اللعب بمجامع حياتهم ووجودهم والتصرف في
إدراكهم وإرادتهم بما لم يلقه ولا قاساه إنسان القرون الأولى ، والمعول في جميع ما
نذكره تواريخ حياة هؤلاء الأمم وما يقاسيه الجيل الحاضر من أيديهم فإن سمي عندهم
سعادة وصلاحا فلتكن بمعنى التحكم وإطلاق المشيئة .
– 6 –
بماذا يتكون ويعيش المجتمع الاسلامي ؟

لا ريب ان الاجتماع أي اجتماع كان إنما يتحقق ويحصل بوجود وغاية واحدة مشتركة بين
أفراده المتشتتة ، وهو الروح الواحدة السارية في جميع أطرافه التي تتحد بها نوع
اتحاد ، وهذه الغاية والغرض في نوع الاجتماعات المتكونة غير الدينية إنما هي غاية
الحياة الدنيوية للإنسان لكن على نحو الاشتراك بين الأفراد لا على نحو الانفراد وهي
التمتع من مزايا الحياة المادية على نحو الاجتماع .
والفرق بين التمتع الاجتماعي والانفرادي من حيث الخاصية ان الانسان لو استطاع أن
يعيش وحده كان مطلق العنان في كل واحد من تمتعاته حيث لا معارض له ولا رقيب إلا ما
قيد به بعض أجهزته بعضا فإنه لا يقدر أن
يستنشق كل الهواء فإن الرئة لا تسعه وإن اشتهاه ، ولا يسعه أن يأكل من المواد
الغذائية لا إلى حد فإن جهاز الهاضمة لا يتحمله فهذا حاله بقياس بعض قواه وأعضائه
إلى بعض ، وأما بالنسبة إلى إنسان آخر مثله ، فإذا كان لا شريك له في ما يستفيد منه
من المادة على الفرض فلا سبب هناك يقتضي تضييق ميدان عمله ، ولا تحديد فعل من
أفعاله وعمل من أعماله .
وهذا بخلاف الانسان الواقع في ظرف الاجتماع وساحته فإنه لو كان مطلق العنان في
إرادته وأعماله لأدى ذلك إلى التمانع والتزاحم الذي فيه فساد العيش وهلاك النوع وقد
بينا ذلك في مباحث النبوة السابقة أوفى بيان . وهذا هو السبب الوحيد الذي يدعو إلى
حكومة القانون الجاري في المجتمع غير أن المجتمعات الهمجية لا تتنبه لوضعها عن فكر
وروية وإنما يكون الآداب والسنن فيها المشاجرات والمنازعات المتوفرة بين أفرادها
فتضطر الجميع إلى رعاية أمور تحفظ مجتمعهم بعض الحفظ ، ولما لم تكن مبنية على أساس
مستحكم كانت في معرض النقض والإبطال تتغير سريعا وتنقرض ، ولكن المجتمعات المتمدنة
تبنيه على أساس قويم بحسب درجاتهم في المدنية والحضارة فيرفعون به التضاد والتمانع
الواقع بين الإرادات وأعمال المجتمع بتعديلها بوضع حدود وقيود لها ثم ركز القدرة
والقوة في مركز عليه ضمان إجراء ما ينطق به القانون .
ومن هنا يظهر أولا : أن القانون حقيقة هو ما تعدل به إرادات الناس وأعمالهم برفع
التزاحم والتمانع من بينهما بتحديدها .
وثانيا : أن أفراد المجتمع الذي يحكم فيه القانون أحرار فيما وراءه كما هو مقتضى
تجهز الانسان بالشعور والإرادة بعد التعديل ، ولذا كانت القوانين الحاضرة لا تتعرض
لأمر المعارف الإلهية والأخلاق ، وصار هذان المهمان
يتصوران بصورة يصورها بهما القانون فيتصالحان ويتوافقان معه على ما هو حكم التبعية
فيعودان عاجلا أو آجلا رسوما ظاهرية فاقدة للصفاء المعنوي ، ولذلك السبب أيضا
ما نشاهده من لعب السياسة بالدين فيوما تقضي عليه وتدحضه ويوما تميل إليه فتبالغ
في إعلاء كلمته ، ويوما تطوي عنه كشحا فتخليه وشأنه .
وثالثا : ان هذه الطريقة لا تخلو عن نقص فإن القانون وإن حمل ضمان إجرائه على
القدرة التي ركزها في فرد أو أفراد ، لكن لا ضمان على إجرائه بالنهاية بمعنى أن
منبع القدرة والسلطان لو مال عن الحق وحول سلطة النوع على النوع إلى سلطة شخصه على
النوع وانقلبت الدائرة على القانون لم يكن هناك ما يقهر هذا القاهر فيحوله إلى
مجراه العدل ، وعلى هذا القول شواهد كثيرة مما شاهدناه في زمننا هذا وهو زمان
الثقافة والمدنية فضلا عما لا يحصى من الشواهد التاريخية ، وأضف إلى هذا النقص
نقصا آخر ، وهو خفاء نقض القانون على القوة المجرية أحيانا ، أو خروجه عن حومة
قدرته .
وبالجملة الاجتماعات المدنية توحدها الغاية الواحدة التي هي التمتع من مزايا
الحياة وهي السعادة عندهم ، ولكن الاسلام لما كان يرى أن الحياة الانسانية أوسع
مدارا من الحياة الدنيا المادية بل في مدار حياته الحياة الأخروية التي هي الحياة
، ويرى أن هذه الحياة لا تنفع فيها إلا المعارف الإلهية التي تنحل بجملتها إلى
التوحيد ، ويرى أن هذه المعارف لا تنحفظ إلا بمكارم الأخلاق وطهارة النفس من كل
رذيلة ، ويرى أن هذه الأخلاق لا تتم ولا تكمل الا بحياة اجتماعية صالحة معتمدة على
عبادة الله سبحانه والخضوع لما تقتضيه ربوبيته ومعاملة الناس على أساس العدل
الاجتماعي أخذ ( أعني الاسلام ) الغاية التي يتكون عليها المجتمع البشري ويتوحد بها
دين التوحيد ثم وضع القانون الذي وضعه على أساس التوحيد ، ولم يكتف
فيه على تعديل الإرادات والأفعال فقط بل تممه بالعباديات وأضاف إليها المعارف الحقة
والأخلاق الفاضلة .
ثم جعل ضمان إجرائها في عهدة الحكومة الاسلامية أولا ، ثم في عهدة المجتمع ثانيا
، وذلك بالتربية الصالحة علما وعملا والامر بالمعروف والنهي عن المنكر .
ومن أهم ما يشاهد في هذا الدين ارتباط جميع أجزائه ارتباطا يؤدي إلى الوحدة
التامة بينها بمعنى أن روح التوحيد سارية في الأخلاق الكريمة التي يندب إليها هذا
الدين ، وروح الأخلاق منتشرة في الأعمال التي يكلف بها أفراد المجتمع ، فالجميع من
أجزاء الدين الاسلامي ترجع بالتحليل إلى التوحيد ، والتوحيد بالتركيب يصير هو
الأخلاق والأعمال ، فلو نزل لكان هي ولو صعدت لكان هو ، ( إليه يصعد الكلم الطيب
والعمل الصالح يرفعه ) ، فإن قلت : ما أورد من النقص على القوانين المدنية فيما إذا
عصت القوة التنفذية عن إجرائها أو فيما يخفي عليها من الخلاف مثلا وارد بعينه على
الاسلام وأوضح الدليل عليه ما نشاهده من ضعف الدين وزوال سيطرته على المجتمع
الاسلامي ، وليس إلا لفقدانه من يحمل نواميسه على الناس يوما .
قلت : حقيقة القوانين العامة سواء كانت إلهية أو بشرية ليست إلا صورا ذهنية في
أذهان الناس وعلوما تحفظها الصدور ، وإنما ترد مورد العمل وتقع موقع الحس
بالإرادات الانسانية تتعلق بها ، فمن الواضح أن لو عصمت الإرادات لم توجد في الخارج
ما تنطبق عليه القوانين ، وإنما الشأن فيما يحفظ به تعلق هذه الإرادات بالوقوع حتى
تقوم القوانين على ساقها والقوانين المدنية لا تهتم بأكثر من تعليق الافعال
بالإدارات أعني بإرادة الأكثرية ، ثم لم يهتموا بما تحفظ هذه الإرادة ، فمهما كانت
الإرادة حية
شاعرة فاعلة جرى بها القانون ، وإذا ماتت من جهة انحطاط يعرض لنفوس الناس وهرم يطرأ
على بنية المجتمع ، أو كانت حية لكنها فقدت صفة الشعور والادراك لانغمار المجتمع في
الملاهي وتوسعه في الاتراف والتمتع ، أو كانت حية شاعرة لكنها فقدت التأثير لظهور
قوة مستبدة فائقة غالبة تقهر إرادتها إرادة الأكثرية ، وكذا في الحوادث التي لا
سبيل للقوة التنفيذية على الوقوف عليها كالجرائم السرية ، أو لا سبيل لها إلى بسط
سيطرتها عليها كالحوادث الخارجة عن منطقة نفوذها ففي جميع هذه الموارد لا تنال
الأمة أمنيتها من تطبيق القانون وحصانة المجتمع من المفاسد والتلاشي وعمدة
الانشعابات الواقعة في الأمم الأوروبية بعد الحرب العالمية الكبرى الأولى والثانية
من أحسن الأمثلة في هذا الباب .
وليس ذلك ( أعني انتقاض القوانين وتفسخ المجتمع وتلاشيه ) إلا لأن المجتمع لهم
يهتم بالسبب الحافظ لإرادات الأمة على قوتها وسيطرتها وهي الأخلاق العالية إذ لا
تستمد الإرادة في بقائها واستدامة حياتها إلا في الخلق المناسب لها كما بين ذلك في
علم النفس ، فلولا استقرار السنة القائمة في المجتمع واعتماد القانون الجاري فيه
على أساس قويم في الأخلاق العالية كانت كشجرة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار .
واعتبر في ذلك ظهور الشيوعية ، فليست إلا من مواليد الديمقراطية أنتجها إتراف طبقة
من طبقات المجتمع وحرمان آخرين ، فكان بعدا شاسعا بين نقطتي القساوة وفقد النصفة
، والسخط وتراكم الغيظ والحنق ، وكذا في الحرب العالمية التي وقعت مرة بعد مرة وهي
تهدد الانسانية ثالثة ، وقد أفسدت الأرض وأهلكت الحرث والنسل ولا عامل لها إلا
غريزة الاستكبار والشره والطمع ، هذا .
ولكن الاسلام بنى سنته الجارية وقوانينه الموضوعة على أساس الأخلاق ، وبالغ في
تربية الناس عليها لكون القوانين الجارية في الأعمال في
ضمانها على عهدتها فهي مع الانسان في سره وعلانيته وخلوته وجلوته تؤدي وظيفتها
وتعمل عملها أحسن ما يؤديه شرطي مراقب أو أي قوة تبذل عنايتها في حفظ النظم . نعم
تعتني المعارف العمومية في هذه الممالك بتربية الناس على الأخلاق المحمودة وتبذل
جهدها في حض الناس وترغيبهم إليها لكن لا ينفعهم ذلك شيئا .
أما أولا : فلأن المنشأ الوحيد لرذائل الأخلاق ليس إلا الاسراف والافراط في
التمتع المادي والحرمان البالغ فيه ، وقد أعطت القوانين للناس الحرية التامة فيه
فأمتعت بعضا وحرمت آخرين فهل الدعوة إلى فضائل الأخلاق والترغيب عليها إلا دعوة
إلى المتناقضين أو طلبا للجمع بين الضدين .
على أن هؤلاء كما عرفت يفكرون تفكرا اجتماعيا ، ولا تزال مجتمعاتهم تبالغ في
اضطهاد المجتمعات الضعيفة ودحض حقوقهم ، والتمتع بما في أيديهم ، واسترقاق نفوسهم ،
والتوسع في التحكم عليهم ما قدروا ، والدعوة إلى الصلاح والتقوى مع هذه الخصيصة
ليست إلا دعوة متناقضة لا تزال عقيمة .

https://t.me/wilayahinfo

https://chat.whatsapp.com/JG7F4QaZ1oBCy3y9yhSxpC

شاهد أيضاً

المجتمع والأسرة والزواج على ضوء القرآن الكريم 9

من الذي يتقلد ولاية المجتمع في الإسلام وما سيرته ؟ كانت ولاية أمر المجتمع الاسلامي ...