اخلاق أهل البيت – السيد مهدي الصدر 01
9 يونيو,2019
الاسلام والحياة, صوتي ومرئي متنوع
971 زيارة
بِسِم اللّهِ الرحَمنِ الرحيَمِ
مُقدمَة الكِتَابَ
الحمد للّه رب العالمين ، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين . وبعد :
فإنّ علم الأخلاق هو : العلم الباحث في محاسن الأخلاق ومساوئها ، والحث على التحلي
بالأولى والتخلي عن الثانية .
ويحتل هذا العلم مكانة مرموقة ، ومحلاً رفيعاً بين العلوم ، لشرف موضوعه ، وسمو غايته .
فهو نظامها ، وواسطة عقدها ، ورمز فضائلها ، ومظهر جمالها ، إذ العلوم بأسرها منوطة
بالخُلق الكريم ، تزدان بجماله ، وتحلو بآدابه ، فإن خلت منه غدت هزيلة شوهاء ، تثير
السخط والتقزز .
ولا بدع فالأخلاق الفاضلة هي التي تحقق في الانسان معاني الانسانية الرفيعة ، وتحيطه
بهالة وضّاءة من الجمال والكمال ، وشرف النفس والضمير ، وسمو العزة والكرامة ، كما
تمسخه الأخلاق الذميمة ، وتحطّه إلى سويّ الهمج والوحوش .
وليس أثر الأخلاق مقصوراً على الأفراد فحسب ، بل يسري إلى الأمم والشعوب ، حيث تعكس
الأخلاق حياتها وخصائصها ومبلغ رقيها ، أو تخلفها في مضمار الأمم .
وقد زخر التاريخ بأحداث وعبر دلّت على أنّ فساد الأخلاق وتفسخها كان معولاً هدّاماً
في تقويض صروح الحضارات ، وانهيار كثير من الدول والممالك :
وإذا أصيب القوم في أخلاقهم * فأقم عليهم مأتماً وعويلا
وناهيك في عظمة الأخلاق ، أن النبي صلّى اللّه عليه وآله أولاها عناية كبرى ، وجعلها
الهدف والغاية من بعثته ورسالته ، فقال :
( بعثت لأُتمّم مكارم الأخلاق ) .
وهذا هو ما يهدف إليه علم الأخلاق ، بما يرسمه من نظم وآداب ، تهذّب ضمائر الناس
وتقوّم أخلاقهم ، وتوجههم إلى السيرة الحميدة ، والسلوك الأمثل .
وتختلف مناهج الأبحاث الخلقية وأساليبها باختلاف المعنيين بدراستها من القدامى
والمحدثين : بين متّزمت غال في فلسفته الخلقية ، يجعلها جافة مرهقة عسرة التطبيق
والتنفيذ . وبين متحكّم فيها بأهوائه ، يرسمها كما اقتضت تقاليده الخاصة ، ومحيطه
المحدود ، ونزعاته وطباعه ، مما يجردها من صفة الأصالة والكمال . وهذا ما يجعل تلك
المناهج مختلفة متباينة ، لا تصلح أن تكون دستوراً أخلاقياً خالداً للبشرية .
والملحوظ للباحث المقارن بين تلك المناهج أنّ أفضلها وأكملها هو : النهج الاسلامي ،
المستمد من القرآن الكريم ، وأخلاق أهل البيت عليهم السلام ، الذي ازدان بالقصد
والاعتدال ، وأصالة المبدأ ، وسمو الغاية ، وحكمة التوجيه ، وحسن الملائمة لمختلف
العصور والأفكار .
وهو النهج الفريد الأمثل الذي يستطيع بفضل خصائصه وميزاته أن يسمو بالناس فرداً
ومجتمعاً ، نحو التكامل الخُلقي ، والمثل الأخلاقية العليا ، بأسلوب شيق محبب ، يستهوي
العقول والقلوب ، ويحقق لهم ذلك بأقرب
وقت ، وأيسر طريق .
هو منهج يمثل سموّ آداب الوحي الإلهي ، وبلاغة أهل البيت عليهم السلام ، وحكمتهم ، وهم
يسيرون على ضوئه ، ويستلهمون مفاهيمه ، ويستقون من معينه ، ليحيلوها إلى الناس حكمة
بالغة ، وأدباً رفيعاً ، ودروساً أخلاقية
فذة ، تشع بنورها وطهورها على النفس ، فتزكّيها وتنيرها بمفاهيمها الخيّرة وتوجيهها الهادف البنّاء .
من أجل ذلك تعشّقت هذا النهج ، وصبوت إليه ، وآثرت تخطيط هذه الرسالة ورسم أبحاثها
على ضوئه وهداه .
ولئن اهتدى به أناس وقصر عنه آخرون ، فليس ذلك بقادح في حكمته وسمو تعاليمه ، وإنما
هو لاختلاف طباع الناس ، ونزعاتهم في تقبّل مفاهيم التوجيه والتأديب ، وانتفاعهم بها ،
كاختلاف المرضى في انتفاعهم بالأدوية الشافية ، والعقاقير الناجعة : فمنهم المنتفع
بها ، ومنهم من لا تجديه نفعاً .
ومما يحز في النفس ، ويبعث على الأسى والأسف البالغين ، أنّ المسلمين بعد أن كانوا
قادة الأمم ، وروّادها إلى الفضائل ، ومكارم الأخلاق ، قد خسروا مثاليتهم لانحرافهم عن
آداب الاسلام ، وأخلاقه الفذّة ، ما جعلهم في حالة مزرية من التخلف والتسيب الخلقيين .
لذلك كان لزاماً عليهم – إذا ما ابتغوا العزة والكرامة وطيب السمعة – أن يستعيدوا
ما أغفلوه من تراثهم الأخلاقي الضخم ، وينتفعوا برصيده المذخور ، ليكسبوا ثقة الناس
وإعجابهم من جديد ، وليكونوا كما أراد اللّه تعالى لهم : ( خير أمة
أخرجت للناس ) .
وتلك أمنية غالية ، لا تُنال إلا بتظافر جهود المخلصين من أعلام الأمة الإسلامية
وموجهيها ، على توعية المسلمين ، وحثهم على التمسك بالأخلاق الإسلامية ، ونشر مفاهيمها
البنّاءة والاهتمام بعرضها عرضاً شيقاً جذاباً ، يغري الناس بدراستها والإفادة منها .
وهذا ما حداني إلى تأليف هذا الكتاب ، وتخطيطه على ضوء الخصائص التالية :
( 1 ) إن هذا الكتاب لم يستوعب علم الأخلاق ، وإنما ضمَّ أهمَّ أبحاثه ، وأبلغها أثراً
في حياة الناس . وقد جهدت ما استطعت في تجنب المصطلحات العلمية وألفاظها الغامضة ،
وعرضتها بأسلوب واضح مركّز ، يُمتع القارئ ، ولا يرهقه بالغموض والإطناب ، الباعثين
على الملل والسأم .
( 2 ) إختيار الأحاديث والأخبار الواردة فيه من الكتب المعتبرة والمصادر الوثيقة لدى
المحدثين والرواة .
( 3 ) الاهتمام بذكر محاسن الخلق الكريم ، ومساوئ الخلق الذميم ، وبيان آثارهما الروحية
والمادية في حياة الفرد أو المجتمع .
والجدير بالذكر : أن المقياس الخلقي في تقييم الفضائل الخلقية ، وتحديد واقعها هو :
التوسط والاعتدال ، المبرأ من الإفراط والتفريط .
فالخلق الرضيّ هو : ما كان وسطاً بين المغالاة والإهمال ، كنقطة الدائرة من محيطها ،
فإذا انحرف عن الوسط إلى طرف الافراط أو التفريط غدى خلقاً ذميماً .
فالعفة فضيلة بين رذيلتي الشر والجمود : فإن أفرط الانسان فيها كان جامداً خاملاً ،
معرضاً عن ضرورات الحياة ولذائذها المشروعة ، وإن فرّط فيها وقصّر ، كان شرهاً جشعاً ،
منهمكاً على اللذائذ والشهوات .
والشجاعة فضيلة بين رذيلتي التهور والجبن : فإن أفرط الشجاع فيها كان متهوراً
مجازفاً فيما يحسن الاحجام عنه ، وإن فرَّط وقصّر كان جباناً هيّاباً محجماً عمّا
يحسن الاقدام عليه .
والسخاء فضيلة بين رذيلتي التبذير والبخل : فإن أفرط فيها كان مسرفاً مبذراً سخياً
على من لا يستحق البذل والسخاء ، وإن فرّط فيها وقصر كان شحيحاً بخيلاً فيما يجدر
الجود والسخاء فيه . . . وهكذا دواليك .
من أجل ذلك كان كسب الفضائل ، والتحلّي بها ، والثبات عليها ، من الأهداف السامية التي
يتبارى فيها ، ويتنافس عليها ، ذوو النفوس الكبيرة ، والهمم العالية ، ولا ينالها إلا ذو
خظ عظيم .
ولم أرَ أمثال الرجال تفاوتاً * لدى المجد حتى عُد ألف بواحد
وإني لأرجو اللّه عز وجل أن يتقبل مني هذا المجهود المتواضع ويثيبني عليه ، بلطفه
الواسع ، وكرمه الجزيل ، وأن يوفقني وإخواني المؤمنين للانتفاع به ، والسير على ضوئه ،
إنّه وليّ الهداية والتوفيق .
الكاظمية
مهدي السيد علي الصدر
2019-06-09