14 جدال في شهر العسل – السيد حسين الحيدري
29 أكتوبر,2019
صوتي ومرئي متنوع, قصص وعبر
717 زيارة
الفصل الثالث عشر
لاحظ عليٌّ للمرة الأولى أنّ تصرفات هدى أصبحت غير طبيعية، فبدأتْ تشكُّ كثيراً في صلواتِها، تعيد الصلاة بعد إكمالها، تغرق بين لحظة وأخرى في تفكير عميق، كاد الطعام أنْ يحترق لولا نداء علي وتحذيره إياها، وخلال تناولهما لطعام العشاء، كانت تطرق برأسها متفكرة، يشرد ذهنها عما حولها، لا تكاد تشعر بوجود أحد قربها، ازداد قلق علي حين دام صمتها وسكوتها طويلاً، وهي تحدِّقُ النظر نحو الأرض كثيراً، تتكلم مع نفسها وتحرّك يديها هنا وهناك، ضاق عليٌّ ذرعاً بما يرى ونفذ صبره فناداها.
علي: ما الذي دهاكِ يا حبيبتي؟
هدى: عفواً، لا شيء .. لا شيء.
علي: هل أنتِ مريضة؟ أم هل تشعرين بشيء يؤذيكِ؟
هدى: (تبتسم) كلا يا عزيزي، لم يحدُثْ أيّ شيءٍ ولله الحمد.
علي: ولكنكِ أعدتِ صلاتكِ، وكاد الطعام أنْ يحترق، وتتكلمين مع نفسكِ، واختفت الابتسامة مِنْ مُحيّاكِ، والوجوم يُسيطرُ عليكِ.
هدى: (تقهقه عالياً) أقسم لكَ بالله يا عزيزي أني بخير وعلى ما يرام، المسألة وما فيها هي أني أستعيد مع نفسي حواراتِكَ لا غير.
علي: (يطمئنُّ قلبه ويعود الهدوء لنفسه) الحمد لله رب العالمين، والآن أخبريني إلى أين وصلتِ في أفكاركِ؟
هدى: فكرتُ طويلاً في حديث الغدير، فوجدتُه يدلُّ على ولاية الأمر بعد النبي ص كما تفضلتَ وشرحتَ، خصوصاً مع المقدمة التي قدّمها النبي ص، والتي قال لهم فيها: ألستُ أولى بكم من أنفسكم، إشارة للآية (النبي أولى بالمؤمنين ….)، ولكني أتصور أنه لو قال ص لهم: (عليٌ وليكم بعدي) لانتهى النزاع القائم بين المسلمين.
علي: وكيف ذلك يا عزيزتي؟
هدى: لأنّه لو قال النبي ص: (وليكم بعدي) لفهم المسلمون مُرادَ النبي ص مِنْ كلمة (بعدي)، بأنّ (وليكم) تعني ولاية الأمر بعده لا غير، لأنها لو كانتْ بمعنى حبيبكم كما يفسرها أصحابنا، فإنّ علياً هو حبيبهم في حياة النبي ص وبعد وفاته، فلا معنى لاختصاصها بعلي بعد وفاته ص فقط.
علي: صدقتِ وأحسنتِ، ولكني لا أتصور بأنه سينتهي النزاع.
هدى: اسمح لي بمخالفتك هذه المرة، فأنا أعتقدُ بعكس تصوّرك، وأقول لو كان مُراد النبي ص ولاية الأمر، فلماذا لم يأتِ بكلمة (بعدي) لكي يُنهي النِزاع؟
علي: ومَنْ قال لكِ بأنّ النبي ص لم يستعمل كلمة (بعدي) في أحاديثه؟
هدى: (تفتح عينيها بتعجُّبٍ شديدٍ) وهل استعملَ النبي ص كلمة بعدي؟
علي: ورد عنه ص في أحاديث كثيرة جداً يقول فيها: (عليٌّ وليُّكم بعدي).
هدى: سبحان الله، كنتُ أظنُّ بأنه لم تردْ مثل هذه الكلمة في أحاديثه ص، فما هو نصّ الحديث، ومَنْ رواه، ومَنْ صحّحه مِنْ عُلمائِنا؟
علي: أعتقد بأنكِ سوف تندهشين عند سماعكِ نصوص الحديث ومَنْ رواها ومَنْ صحّحها، فقد روي بألفاظ عديدة:
ألف: رواه بلفظ: (وهو وليُّ كلِّ مؤمنٍ بعدي) أو (وهو وليُّ كلِّ مؤمنٍ مِنْ بعدي):
ابنُ حبان في صحيحه ج15 ص373 حديث 6929، والترمذي في جامعه الصحيح ج5 ص632 وحسّـنه، والنسائي في السنن الكبرى ج5 ص45 حديث 8146 وج5 ص132 حديث 8474، وأحمد بن حنبل في مسنده ج4 ص437 حديث 19942، وأبو يعلى في مسنده ج1 ص293 حديث 355، وقال محققه حسين أسد: رجاله رجال الصحيح، والطيالسي في مسنده ج1 ص111 حديث 829، والطبراني في المعجم الكبير ج18 ص128، وهو في فضائل الصحابة لابن حنبل ج2 ص605 حديث رقم 1035، وج2 ص649 حديث 1104.
باء: ورواه بلفظ: (أنت ولي كل مؤمن بعدي):
الحاكمُ في المستدرك ج3 ص143 حديث 4652، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الذهبي في التلخيص: صحيح، وأبو داود الطيالسي في مسنده ج1 ص360 حديث 2752، والطبراني في المعجم الكبير ج12 ص97، وفي فضائل الصحابة لابن حنبل ج2 ص682 حديث 1168.
جيم: ورواه بلفظ: (وعليٌّ وليُّ كلِّ مؤمنٍ بعدي):
ابنُ أبي شيبة في مصنفه ج6 ص372 حديث 32121، وفي فضائل الصحابة لابن حنبل ج2 ص620 حديث 1060.
دال: ورواه بلفظ: (وهو وليُّكم بعدي):
أحمدُ بن حنبل في مسنده ج5 ص356 حديث 23062، وفي فضائل الصحابة ج2 ص688 حديث 1175.
هاء: ورواه بلفظ: (وهذا وليُّكم بعدي):
النسائي في السنن الكبرى ج5 ص133 حديث 8475.
واو: ورواه بلفظ: (وإنه وليُّكم مِنْ بعدي):
الطبراني في المعجم الأوسط ج6 ص163 حديث 6085.
هدى: لا إله إلا الله وما شاء الله، حقاً إنّ ما أسمعه منك لعجيبٌ وغريبٌ جداً، ولكنْ هل صرّح العلماء بصحته؟
علي: لقد ذكرتُ لكِ قبل قليل بعض مَنْ صحّحه، ورغم ذلك فاستمعي للمزيد، لأنّ هذا الحديث مروي بأسانيد صحيحة لا مطعن فيها، حيث صحّحه كبار علمائكم.
هدى: كلي آذانٌ صاغية لِسماع مَنْ صحّحهُ مِنْ علمائنا.
علي: أولاً: قال ابن حجر في الإصابة ج4 ص569: (وأخرج الترمذي بإسنادٍ قويّ عن عمران بن حصين قصة قال فيها: قال رسول الله ص: (ما تريدون مِنْ علي، إنّ علياً مني وأنا مِنْ علي، وهو وليُّ كلِّ مؤمنٍ بعدي).
هدى: سبحان الله، وفيه إضافة أنّ علياً منه وهو من علي.
علي: نعم، وثانياً: قال المتقي في الكنز ج11 ص608 حديث 32941: (علي مني وأنا من علي، وعلي ولي كل مؤمن بعدي) (ش عن عمران بن حصين، صحيح).
وقال أيضاً في كنز العمال ج13 ص142 حديث 36444: (عن عمران بن حصين قال: بعث رسول الله ص سريّة واستعمل عليهم علياً، فغنموا فصنع علي شيئاً أنكروه، وفي لفظ: فأخذ علي من الغنيمة جارية، فتعاقد أربعة من الجيش إذا قدموا على رسول الله ص أنْ يُعلِموه، وكانوا إذا قدموا مِنْ سفر بدأوا برسول الله ص فسلـّموا عليه ونظروا إليه، ثم ينصرفون إلى رحالهم، فلما قدمتْ السريّة سلّموا على رسول الله ص، فقام أحد الأربعة فقال: يا رسول الله! ألم تر أنّ علياً قد أخذ من الغنيمةِ جارية؟ فأعرض عنه، ثم قام الثاني فقال مثل ذلك فأعرض عنه، ثم قام الثالث فقال مثل ذلك فأعرض عنه، ثم قام الرابع، فأقبل إليه رسول الله ص يُعرَفُ الغضبُ في وجهه فقال: ما تريدون مِنْ علي؟ عليٌّ مني وأنا مِنْ علي، وعليٌّ وليُّ كلِّ مؤمنٍ بعدي) (ش وابن جرير وصححه).
هدى: غَضَـبُ النبي ص الشديدُ يدلُّ على شدّة حبه لعليٍّ، حتى أنه لا يرضى بسماع طعنٍ فيه مِنْ أحد.
علي: أحسنتِ، وثالثاً: قال الصالحي الشامي في سبل الهدى والرشاد ج11 ص297: (وروى ابن أبي شيبة وهو صحيح، عن عمر رض قال: قال رسول الله ص: عليٌّ مني وأنا منه، وعليٌّ وليُّ كلِّ مؤمنٍ مِنْ بعدي).
ورابعاً: أخرج ابن أبي عاصم في السنة ص550 حديث 1187، بسنده عن عمران بن حصين قال: (قال رسول الله ص: علي مني وأنا منه، وهو وليُّ كلِّ مؤمنٍ بعدي، وقال الألباني محققه: إسناده صحيح رجاله ثقات على شرط مسلم). كما صحّحه الألباني في سلسلته الصحيحة، وفي صحيح سنن الترمذي ج3 ص521 أيضاً.
وخامساً: قال الحافظ السيوطي في كتابه القول الجلي الحديث 40: (عن عمران بن الحصين: إنّ رسول الله ص قال: عليٌّ مني وأنا من علي وهو وليُّ كلِّ مؤمنٍ بعدي، أخرجه ابن أبي شيبة وصححه) راجعي: دراسات في منهاج السنة ص282.
هدى: أعتقد بأنّ هذا الحديث الصحيح يتضمن نصّاً صريحاً على ولاية علي بن أبي طالب بعد النبي ص، فهل شكك علماؤنا فيه من ناحية السند أو من ناحية المضمون؟
علي: أمّا من ناحية صحته سنداً، فعلى الرغم مِن تصحيح كلّ هؤلاء العلماء الذين مرّ ذِكرهم له، إلا أنّ إبن تيمية وكعادته مع فضائل الإمام علي ع، فقد أنكر صحّـته، بل جزم أنّه كذبٌ على رسول الله ص.
هدى: وماذا قال بالنصّ؟
علي: قال بالحرف الواحد في كتابه منهاج السنة ج7 ص391: (وكذلك قوله: وهو وليُّ كلِّ مؤمنٍ بعدي، كذبٌ على رسول الله).
هدى: يصحّحه كل هؤلاء العلماء، ويجزم هو بأنه كذب، فلماذا لم يردّ العلماء عليه؟
علي: لقد ردّ عليه بعضُ العلماء، وأنكروا عليه ذلك.
هدى: ومن الذي ردّ عليه؟
علي: الألباني في سلسلته الصحيحة ج5 ص263، حيث قال: (فمِنَ العجيب حقاً أنْ يتجرّأ شيخُ الإسلام ابن تيمية على إنكار هذا الحديث وتكذيبه).
هدى: أهكذا فقط؟
علي: بل اعتبر في ص264، تكذيبه له ناشئاً من تسرّعه ومبالغته في الرّد على الشيعة، حيث قال: (فلا أدري بعد ذلك وجه تكذيبه للحديث، إلاّ التسرّع والمبالغة في الردِّ على الشيعة).
هدى: يُكذِّب أحاديثَ النبي ص الصحيحة، ثم يُرَدُّ عليه بهذه البساطة، أجزمُ لو كان المكذِّبُ لأحاديث النبي ص عالمٌ شيعيٌّ، لأقاموا الدنيا وأقعدوها، ولكنّ الألباني مِنْ جماعة ابن تيمية، لذا يتساهل معه في الإنكار عليه، ولكنْ قل لي رجاءً، هل هناك مَنْ ردّ عليه غير الألباني؟
علي: نعم، ومِمَّنْ أنكر على ابن تيمية تكذيبه للحديث، عبد الله الهرري، فقد قال في كتابه (المقالات السنية) ص348 – 351: (سلك ابن تيمية عند كلامه على الأحاديث التي في فضائل علي رض مسلك التوسع في تضعيف هذه الأحاديث، بل والحكم على أكثرها بالوضع، وذلك ليصرفها عن إثبات فضائل لعلي رض، فحاله ما ذكر ابن حجر أنه ردّ في ردّه كثيراً من الأحاديث الجياد، يعني الصحيح والحسن).
وذكر الشيخ عبد الله الهرري أحاديث صحيحة كذبها ابن تيمية مثل قوله ص لعمار بن ياسر: تقتلك الفئة الباغية، وقوله ص لعلي: أنت ولي كل مؤمن بعدي.
هدى: وماذا قال ابن تيمية عن هذا الحديث؟
علي: ذكرتُ لكِ قبل قليل قوله فيه: (وكذلك قوله: هو ولي كل مؤمن بعدي، كذبٌ على رسول الله ص). ولقد قال ابن تيمية في منهاجه عنه أيضاً: (ومثل قوله: أنت وليِّي في كلِّ مؤمنٍ بعدي، فإنّ هذا موضوعٌ باتفاق أهل المعرفة بالحديث).
هدى: ما أجرأه على الكذب، فهل عميتْ عينه عن هؤلاء الذين صحّحوه من علمائنا، الذين هم أهلُ معرفة بالحديث؟ ولكنك لم تذكر لي هل قبلَ بمضمونه العلماء؟
علي: أتقصدين بأنّ كلمة (بعدي) في الحديث تدلُّ على ولاية الأمر بعد النبي ص، وليس فقط المحبة؟
هدى: نعم، هذا ما قصدتُه.
علي: إنّ تكذيب ابن تيمية للحديث، هو أكبر دليلٍ على أنّه قد فهم مِنْ كلمة (بعدي) في الحديث ذلك، لأنّ طريقة ابن تيمية هو تفسير الحديث الصحيح في فضل علي ع – إذا عجز عن إسقاطه سنداً – بما يفرِّغه مِنْ مضمونه، فلمّا عَجَزَ عن صَرْفِ مضمونه عَنْ معناه، اضطرّ لِتكذيبهِ، رغم تصحيح العلماء لهذا الحديث.
هدى: كلامُك هذا صحيح، ولكنْ هل هناك مَنْ صرّح بأنّ معنى وليكم هو ولاية الأمر، بسبب وجود كلمة (بعدي) فيه؟
علي: قال الحافظ أبو العلاء المباركفوري في كتابه (تحفة الأحوذي) ج10 ص199: (وقد استدلَّ به الشيعة على أنّ علياً رض كان خليفة بعد رسول الله ص مِنْ غير فصل، واستدلالهم بهِ عن هذا باطلٌ، فإنّ مداره على صحّة زيادة لفظة: (بعدي) وكونها صحيحة محفوظة قابلة للاحتجاج، والأمر ليس كذلك…)، فهو يقرُّ ويعترف بدلالة كلمة (بعدي) على خلافة الإمام علي ع، حيث يقول: بأنّ مدار الاستدلال على ذلك هو وجود كلمة (بعدي)، لذا حاول تكذيبَ الأحاديثَ التي وردتْ فيها كلمة بعدي كما فعل ابن تيمية.
هدى: نعم، وأنا أفهم من كلام المباركفوري أيضاً أنه لم يُنكر دلالة الحديث على الولاية على الأمّة، بل إنه يرى دلالته على ذلك، لذا حاول تكذيب صحّة الحديث المتضمن لكلمة (بعدي) سنداً، لكي يتخلص مِنْ دلالته.
علي: صحيح، وهناك ردٌّ للألباني لطيفٌ جداً على المباركفوري في كتابه سلسلة الأحاديث الصحيحة ج5 ص262 – 263، أرجو منكِ مُراجعته.
هدى: إنْ شاء الله تعالى، لقد فهمتُ الآن بأنّ النبي ص قد استعمل كلمة بعدي لكي يفهم المسلمون أنّ كلمة وليّكم تدلُّ على ولاية الأمر، ولكني فكرتُ بأنه لو قال بصراحة أكثر أنّ علياً هو الخليفة، لما اختلف عليه اثنان.
علي: لقد فعلَ النبي ص ذلك أيضاً، وستندهشين إذا علمتِ بأنّ النبي ص ذكرَ هذا الأمر في أوَّلِ يومٍ للدعوة الإسلامية.
هدى: هذا مما لا يُمكن تصديقة مطلقاً يا عزيزي، لأنّه معلومٌ لدى الجميع بأنّ النبي ص كان يدعو الناس إلى التوحيد فقط في بداية الدعوة الإسلامية، ويقول: قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا، فمتى ذكر موضوع خلافة علي؟
علي: نحنُ نريدُ أنْ نصلَ للحقيقة، فإنْ قام الدليل على صحّةِ ما قلتُهُ لكِ فلابدّ مِنْ قبوله، وأمّا إنْ كان عارياً عن الدليل والبرهان فلا قيمة له.
هدى: صحيح، تفضّلْ بعرض أدلتك، فإنْ كانتْ كما تقول فسأقبلها برحابة صدر، كما فعلتُ مع ما سبق مِنْ مواضيع.
علي: أحسنتِ، والآن أجيبيني، هل بدأ النبي ص دعوته العلنية منذ البداية؟
هدى: كلا، بل بدأ بالدعوة السرية أولاً، ثم بعد عدّة سنين بدأ بدعوته العلنية.
علي: أحسنتِ، وأيّ جماعةٍ دعاهم النبي ص أولاً في أوّل دعوتهِ السرية؟
هدى: لا أعلم.
علي: أولُ جماعةٍ دعاهم للإسلام هم عشيرته بنو هاشم.
هدى: صحيح صحيح، الآن تذكرتُ أنه لمّا نزلَ قولهُ تعالى: (وأنذر عشيرتك الأقربين) بدأ بعشيرتِهِ فدعاهم للإسلام.
علي: وماذا جرى في هذا اللقاء؟
هدى: ليس لديّ اطلاعٌ كاملٌ عما جرى فيه.
علي: لقد دعا رسول الله ص عشيرته بني هاشم إلى دار عمّه أبي طالب، وهم يومئذٍ أربعون رجلاً وفيهم أعمامه، فقال لهم: (يا بني عبد المطلب، إني والله ما أعلم شاباً في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله أنْ أدعوكم إليه، فأيّكم يؤازرني على أمري هذا، على أنْ يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم؟) فأحجم القوم عن جوابه إلا علي بن أبي طالب قال: أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه… فأخذ رسول الله ص برقبته وقال: (إنّ هذا أخي ووصيي وخليفتي فاسمعوا له وأطيعوا).
هدى: ماذا تقول؟ (أخي … وصيي … خليفتي) الله أكبر، ولم يكتفِ بهذه الأوصاف، حتى أمرَهم بطاعتهِ، حقاً إنه غريبٌ جداً، ولكنْ ما هي ردّة فِعل الآخرين؟
علي: قاموا يسخرون مِنْ أبي طالب قائلين له: لقد أمَرَكَ أنْ تسمعَ لابنك وتطيع.
هدى: أعتقد يا عزيزي أنّ هذا الحديث لو كان موجوداً في مصادرنا، لاتفقتْ كلمتهم على خلافة عليٍّ بعدَ النبي ص.
علي: نعم، هو موجود في مصادركم، حيث رواه كثيرٌ مِنْ علمائكم.
هدى: لو كان الأمرُ كما تقول، فيجب أنْ نقرأ الفاتحة على هذه الأمّة.
علي: اسمحي لي بذكر مصادره، فقد رواه:
1 – الطبري في تاريخه ج2 ص319 طبع مصر.
2 – ابن الأثير في الكامل ج2 ص62 طبع دار صادر بيروت.
3 – الحلبي في السيرة الحلبية ج1 ص313 طبع البهية بمصر.
4 – مسند أحمد بن حنبل ج2 ص165 حديث 883 طبع المعارف بمصر
5 – كنز العمال ج15 ص115 حديث 334 طبع حيدر آباد.
6 – معالم التنزيل للبغوي ج4 ص278 طبع دار الفكر بيروت.
7 – السنن الكبرى للبيهقي ج9 ص7 طبع دار المعرفة بيروت.
8 – سنن النسائي ج6 ص248 طبع دار إحياء التراث بيروت.
9 – مجمع الزوائد للهيثمي ج9 ص113 طبع دار الكتاب العربي.
10 – شرح الشفاء للقاضي عياض ج3 ص35.
11 – جمع الجوامع للسيوطي كما في ترتيبه ج6 ص392.
12 – السيرة النبوية لابن كثير ج1 ص459.
13 – البداية والنهاية له أيضاً ج3 ص53.
14 – تفسير ابن كثير ج3 ص364.
15 – الطبقات الكبرى لابن سعد ج1 ص187.
هدى: (يصيبها الذهول مِنْ كثرة المصادر) أتصور بأنّ هذا الحديث رغم كثرة رواته، إلا أنه غيرُ صحيح السند لذلك أهملوه.
علي: ولكن كثيراً مِنْ علمائكم صرّحوا بصِحّتِهِ.
هدى: (لا تدري ما تقول) يجب أنْ يكون المصحِّح له مِنَ العلماء وأهل الخبرة.
علي: إليكِ قائمة بالذين صحّحوه مِنْ علمائِكم المعروفين:
1 – قال الهيثمي في مجمع الزوائد ج9 ص113: (وإسناده جيد)، وفي ج8 ص302 نقل الهيثمي عن أحمد بن حنبل قائلاً: (ورجال أحمد وأحد إسنادَيْ البزار رجال الصحيح غير شريك وهو ثقة).
2 – وقال القاضي عياض في الشفاء ج3 ص35: إنّ سند هذا الحديث صحيح.
3 – وقال المتقي في كنز العمال ج15 ص115: إنّ الطبري صححه.
ولكي لا نطيل بذكر كلام كل واحد نقول: وصححه الحاكم في المستدرك والذهبي في تلخيصه والضياء المقدسي في المختارة والإسكافي في نقض العثمانية وغيرهم.
هدى: تقصد أنه لا يوجد واحدٌ مِنْ علمائِنا قد ضعّف هذا الحديث.
علي: ستتعجبين إذا ذكرتُ لكِ قولَ ابن تيمية في المنهاج، وهنا سوف تتأكدين مِنْ طريقة الوهابية في تكذيبهم للأحاديث الصحيحة.
هدى: وماذا قال ابن تيمية عنه؟
علي: قال في المنهاج ج7 ص302: (هذا الحديث كِذبٌ عند أهل المعرفة بالحديث، فما مِنْ عالم يَعرف الحديث إلا وهو يعلم أنه كذبٌ موضوعٌ، ولهذا لم يروه أحدٌ مِنهم في الكتب التي يُرجع إليها في المنقولات، لأنّ أدنى مَنْ له معرفة بالحديث يعلم أنّ هذا كِذبٌ).
هدى: إنَّها وقاحة وصلفٌ ما بعدها وقاحة، وكذبٌ واضحٌ على العلماء الذين رووه وصحّحوه، وأنا أشكرك كثيراً لأنكَ ذكرتَ لي أولاً مَنْ رواه وصحّحهُ من كِبار علمائنا، ثمّ نقلتَ قولَ ابن تيمية، ولو لم أكنْ قد سمعتُ منكَ رواية علمائنا له، لصدَّقتُ هذا المعتوه الذي كنتُ أتصوره صادقاً في نقله.
علي: والشكر لكِ لتقبُّلكِ الحق بلا تعصّبٍ، ولو خالف موروثكِ الذي نشأتِ عليه.
هدى: وأخيراً اسمح لي أنْ أطرح إشكالاً أخيراً عليكم، فإنكم تعتقدون بعرض الحديث على القرآن، فإذا خالفه طرحتموه.
علي: شكراً لهذا السؤال الجميل، فهذه قاعدة صحيحة ومروية عن أئمتنا ع.
هدى: فهل هذا الحديث موافقٌ للقرآن أم مخالفٌ له؟
علي: بل هو موافقٌ له.
هدى: وما الدليلُ عليه؟
علي: قال تعالى: (واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي) طه: 29، وقال سبحانه: (ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا أخاه هارون وزيرا) الفرقان: 35، وقال عزّ وجلّ: (وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي) الأعراف: 142.
هدى: وماذا تريد أنْ تصل إليه مِنْ وراء تلاوة هذه الآيات؟
علي: لقد بيّن القرآن منزلة هارون من موسى، أنه (أخٌ) و(وزير) و(خليفة) لموسى.
هدى: وما عِلاقة ذلك ببحثنا حول خلافة الإمام علي؟
علي: العلاقة هي أننا نقول: إنّ جميع منازل هارون التي كانت له مِنْ موسى، هي لِعليٍّ ع أيضا بالنسبة إلى منزلته مِنَ النبي ص، فيكون عليٌّ أخاً ووزيراً وخليفةً للنبي ص، كما في حديث الدار المتقدم.
هدى: وكيف توصّلتَ إلى هذه النتيجة؟
علي: لقد ورد في صحيح البخاري ج5 ص24 وج3 ص6 طبع دار إحياء التراث، وأيضاً ورد في صحيح مسلم ج4 ص1870 طبع دار الفكر بيروت، حديثٌ نبويٌ شريفٌ هو الذي أوصلنا لهذه النتيجة.
هدى: وما هو هذا الحديث العجيب الذي أوصلكم لهذه النتيجة الكبيرة؟
علي: قال النبي ص لعلي ع: (أنت مني بمنزلة هارون مِنْ موسى إلا أنه لا نبي بعدي)، فلما استثنى النبي ص النبوة فقط – لأنّ هارون كان نبياً – علمنا بأنّ باقي منازل هارون مِنْ موسى، التي ذكرها القرآن، ثابتة لعلي ع بالنسبة للنبي ص، فيكون حديثُ الدار موافقٌ للقرآن وغيرُ مخالفٍ له.
هدى: ما شاء الله، حقاً إنه استنتاجٌ لطيفٌ وجميلٌ جداً، ما كنتُ أتخيّل أنكَ تستطيع بهذه البساطة التوصُّل لِمثل هذه النتيجة، ولكنْ رغم ذلك أقول: لو أنّ رسول الله ص اختصر لنا الطريق وصرّح بهذه الأمور بوضوح، قائلاً: إنّ منازل هارون المذكورة في القرآن هي ثابتة لعلي أيضاً لانتهى الخلاف بيننا، ولم يتركنا لكي نستنتج نحنُ مِنَ القرآن والحديث ذلك فيقع النزاع.
علي: أولاً: إنّ حديثَ الدار في أول الدعوة الإسلامية قد ذكر هذه المنازل حيث قال فيه النبي ص: (إنّ هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم) وقبلها قال لهم: من يؤازرني على هذا الأمر، أيْ يكون وزيراً لي، فهل ترك النبي ص التصريح بهذه الأمور؟
هدى: صدقتَ والله.
علي: وثانياً: إنّ القرآن جاء موافقاً له كما بيّنا.
هدى: وهذا صحيحٌ أيضاً.
علي: وثالثاً: فإنّ النبي ص قد سلكَ هذا الطريق الذي ذكرتيه أيضاً، ولم يتركه لاستنتاجاتنا نحن فقط.
هدى: ولكن أين؟
علي: رُوي عن رسول الله ص أنه قال: (اللهم إنّ أخي موسى سألك فقال: (ربِّ اشرح لي صدري…. واجعل لي وزيراً مِنْ أهلي هارون أخي اُشدُدْ به أزري وأشركه في أمري) فأنزلتَ قرآناً ناطقاً: (سنشدُّ عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطاناً)، اللهم وأنا محمد نبيك وصفيك فاشرح لي صدري ويسّر لي أمري واجعل لي وزيراً مِنْ أهلي علياً اشدد به ظهري) قال أبو ذر: فوالله ما أتمّ رسول الله هذه الكلمة حتى نزل جبرئيلُ فقال: يا محمد اقرأ: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون).
هدى: غريبٌ حقاً، لا أدري هل كان رسول الله ص يعلم بكلِّ ما سيردُ في خاطري مِنْ أفكار وأسئلة، حتى أجابَ عنها كلها قبلَ أنْ يخلقني الله في هذه الدنيا، والآن تفضل بذكر مَنْ روى هذا الحديث مِنْ عُلمائِنا.
علي: رواه: 1 – الفخر الرازي في تفسيره الكبير ج2 ص26، 2 – الطبري في تفسيره (جامع البيان) ج6 ص389، 3 – الجصاص في أحكام القرآن ج2 ص557، 4 – القرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن ج6 ص222، 5 – ابن كثير في تفسيره ج2 ص74، 6 – السيوطي في الدر المنثور ج2 ص293، 7 – الطبراني في المعجم الأوسط ج6 ص218، 8 – معرفة علوم الحديث ص102، 9 – تاريخ مدينة دمشق ج42 ص357، 10 – البداية والنهاية ج7 ص394.
هدى: فهذا الخبر يؤكد صِحّة استنتاجك مِنَ الآيات التي تلوتها عليّ في منازل ومقامات علي من رسول الله ص، كما هي منزلة هارون مِنْ موسى.
خيّمَ هدوءٌ وسكوتٌ عليهما، وغرق كلٌّ منهما في تفكيره العميق، حتى ناما على كرسيّهما، من شدّةِ التعب الذي أصابهما والإرهاق النفسي الذي اعتراهما هذا اليوم.
2019-10-29