الرواية الثّالثة: أول شهيد
الرواية الثّالثة: أول شهيد – رواية حضور الإمام الخامنئي دام ظله إلى منزل الشهيد زوريك مراديان في تاريخ 17/02/2011م.
الشهيد زوريك مراديان
مكان الاستشهاد: پيرانشهر، آذربيجان الغربية
تاريخ الاستشهاد: 11/10/1980م.
68
54
الرواية الثّالثة: أول شهيد
لم يكن زوجي ليسأل أبداً ما إذا كان المولود الجديد ذكراً أم أنثى، لم يسأل ولو مرّة واحدة. كان يقول دائماً الطفل هديّة من عند الله سواءً كان صبيّاً أم بنتاً، لا فرق. ولكن حسناً أنا كنتُ أحبُّ أن يكون لديّ صبيّ كما لديّ بنت. وكما يقولون فالتشكيل حلو، وأنا أحببت أن أكون أمّاً للصنفَيْن.
لم يحصل هذا الأمر حتى سنة 1960م، فقبل ذلك الوقت كان الله قد رزقنا بثلاث بنات، جميعهنّ بصحّة وعافية، وكلّ واحدة منهنّ أجمل من أختها. وفي النهاية، حقّق الله تعالى أمنية قلبي بالولد الرابع، ورزقنيه صبيّاً جميلاً كأخواته. أسميناه زوريك. وبعد زوريك رزقنا الله أيضاً ببنت أخرى ليكتمل شمل عائلتنا الدافئ.
قبل ذلك الوقت، لم أكن لأعرف كم كانت سعادة زوجي واهان بولادة زوريك، فأنا لم أكن أرى فرقاً في حنانه ومحبّته لزوريك بالمقارنة مع أخواته قبله. لقد فهمت عمق محبّته لزوريك بعد شهادته، فقد أُصيب زوجي على الأثر بسكتة دماغيّة أبقته لمدّة ستة عشر عاماً طريح الفراش.
كنّا أنا وأخواته الأربع نُحبّ زوريك كثيراً، كثيراً جدّاً. كان الصبيّ الوحيد في الأسرة، وقد تعلّقنا به بكلّ ما فيه. كان ولداً مجتهداً وذكياً. وكان التلميذ الأول في صفّه في كلّ مراحله الدراسيّة، حتّى عندما قدّم الامتحان الرسمي (الكونكور)، استطاع أن يُحصّل منحة للدراسة في الخارج لكنّه لم يُسافر. قال: “أنا لا أترك إيران أبداً، أُحبّ أن أخدم تراب وطني وأن أرتدي لباس الجنديّة”، قُلتُ: “وهل سأدعك تذهب إلى الجندية، وأنت ولدي الوحيد!”، لكن رغم كلّ شيء، استطاع أن يُهدّئ من روعي ويُحصّل رضاي ويذهب إلى الخدمة العسكرية.
69
55
الرواية الثّالثة: أول شهيد
قرّر أن يلتحق بالخدمة العسكرية سنة 1979م، وقد أمضى ثلاثة أشهر، هي مدّة الدورة التدريبيّة في مدينة شاهرود. بعد الأشهر التدريبيّة الثلاثة تلك، اتّصل بنا هاتفيّاً وأخبرنا أنّ خدمته العسكريّة ستكون في أُروميه. فعقدنا العزم على الذهاب إلى أُروميه بالقطار.
كان ذهابنا إلى أُروميه قبيل عيد الفصح بأيّام قليلة، ذهبنا جميعاً، أنا وأبوه وأخواته، محمّلين بالمكسّرات والفواكه والبيض الملوّن وأشياء أخرى. لقد أردنا أن نحتفل بعيد الفصح المبارك عند زوريك. كانوا في حال استنفار فلم نستطع البقاء عنده طويلاً، وقفلنا عائدين. بعد أيّام عدّة على عودتنا، وصلتنا رسالة من زوريك تقول: “والدتي الحبيبة! سلمت يداك. لقد أكل جميع أصدقائي من الأشياء التي أعطيتنيها، حتّى البيض الملوّن! وهم يشكرونك جميعاً على ما بذلتِ من جهد وتعب”.
بعد أُروميه، انتقل زوريك إلى معسكر پيرانشهر1، المدينة التي تقع تمامًا على الحدود الإيرانيّة – العراقيّة. ولأنّ والده كان ينقل حمولات إلى تلك الأطراف، كان كثيراً ما يذهب لزيارته ويُجدّد لقاءاته به. وهو كان يُخبرنا أيضاً في أوقات مأذونيّاته كم أنّه محبوب لدى أصدقائه وما أكثر مودّتهم له.
1- من المدن الحدوديّة التي يقطنها الأكراد في محافظة آذربيجان الغربيّة. كان معسكر هذه المدينة من أهمّ مراكز جيش الجمهوريّة الإسلاميّة خلال الحرب المفروضة، وكان له دور في كثير من العمليّات العسكريّة.
70
56
الرواية الثّالثة: أول شهيد
كان قد مضى على خدمته في الجندية تسعة شهور عندما نشبت الحرب. حين شنّ البعثيّون1 هجومهم على إيران، ساورني إحساس قويّ بأنّ ابني سيستشهد. لا أعلم لماذا. ربما لأنّني كنتُ أعلم كم أنّه ولد غيور وشجاع. وبعد خمسة عشر يوماً على بداية الحرب، رأيتُ في المنام أنّه قد أُصيب بطلقٍ ناريّ في ركبته، وفيما رحتُ أصرخ، وضع يده على ركبته وقال: “أمّاه لا تقلقي، لم يحصل شيء”. استيقظتُ من النوم مذعورة وكلّي خوفٌ من أن تُفسَّر تلك الرؤيا.
كنتُ قد خرجت من المنزل لشراء بعض الأغراض حين شاهدت من بعيد جنديّاً باللّباس العسكريّ. كان يتحدّث مع عدّة أشخاص من جيراننا المسلمين. تذكرتُ زوريك ودعوت الله في قلبي أن يحفظ هؤلاء الجنود لآبائهم وأمّهاتهم. وحينما رآني الجيران أشاروا إليّ، فتقدّم الجندي نحوي وقال: “السلام عليكم. عفواً، حضرتك والدة زوريك مراديان؟”. انتابني السرور، وقد نسيتُ منام البارحة كلّياً. ظننتُ أنّه صديق زوريك
1- تمّ تشكيل حزب البعث في بعض الدول العربيّة، ومن جملتها العراق، مثلما تمّ تشكيل حزب رستاخيز (القيامة) في إيران، في عشرة الخمسينيّات (1950 ميلادية) بتأثير وإيعاز من أمريكا وبريطانيا تحت شعارات القومية والشعبوية لمواجهة التيّارات الدينيّة والتوجّهات الإسلاميّة في هذه البلاد. وقد استطاع هذا الحزب أن يتسلّم مقاليد الحكم في العراق بانقلاب عسكري.
71
57
الرواية الثّالثة: أول شهيد
وقد أتاني منه برسالة أو خبر أو أيّ شيء آخر. أجبته بسرور وفخر: “نعم ولدي، أنا أمّه. هل أنت صديقه؟”. حينما رأى الجندي حالة السرور والرضى التي كنتُ فيها، كظم غصّته وطأطأ رأسه، ووضع الورقة التي كانت في يده اليمنى، في يده اليسرى، ثم قال بصوت مرتجف: “عفواً يا أمّاه. هل والده موجود؟” قال كلمته هذه وانقلبت الدنيا فوق رأسي. تذكرتُ للتوّ منام البارحة، وفهمتُ أنّ هذا الجندي قد أتاني بخبر شهادة زوريك. صرختُ صرخةً من أعماق قلبي وسقطتُ توّاً وسط الزقاق على الأرض.
كان قد مضى تسعة عشر يوماً فقط على الحرب حينما صرنا أنا وزوجي، والدَيْ أوّل جندي أرمني شهيد في الحرب المفروضة.
كانت شهامة زوريك في جبهة الحرب وشهادته، غير متوقّعة بالنسبة للكثيرين، سواء أهالي محلّتنا الّذين كانوا بمعظمهم مسلمين أو الأرمن أنفسهم. لقد أُقيمت الكثير من المجالس المهيبة احتفاءً بزوريك بدءاً من الكنائس المختلفة في البلد حتى مساجد منطقة “حشمتية” في طهران حيث كُنّا نُقيم. رفقاؤه في الجبهة الّذين أتوا للمشاركة في مراسم عزائه، كانوا جميعاً يثنون على أخلاقه الحسنة ووجهه البشوش ولطفه ومحبّته، ويقولون إنّه لم يكن ممكنًا أبداً أن تُفارق البسمة وجه زوريك. لقد كان بابتسامته الطاهرة يمُدّ رفقاءه في الجبهة بالمعنويات.
كُنّا عائدين إلى المنزل بعد مراسم عزائه حين وجدتُ أنّ البريد قد جلب لنا رسالة من
72
58
الرواية الثّالثة: أول شهيد
زوريك. كان زوريك قد كتب هذه الرسالة وأرسلها لنا قبل يومٍ من شهادته. طمأنني في الرسالة إلى أنّه بخير وعافية، وأوصاني أن لا أقلق عليه ولا أحزن، ووعدني حين يُتمّ خدمته العسكريّة ويعود أن يفتح محلّاً تجارياً ويُريح والده من عناء الذهاب إلى العمل، وأن يشتري لنا منزلاً أكبر وأشياءً كثيرة من هذا القبيل، كان دائماً يبثّ الأمل والبهجة فينا.
حلّ علينا قائده العسكريّ ضيفاً للتعزية بعد مضي عدّة أسابيع على شهادته. ولأنّ پيرانشهر كانت منطقة باردة جدّاً، كنتُ قد بدأت من بداية خدمة زوريك العسكريّة بحياكة شال من الصوف وزوجيّ جوارب وقبّعة له. لقد قدّمت ما حكته إلى قائده العسكريّ حين أتى. سألني: “ماذا أفعل بهذه الأشياء يا أمّاه؟” فأجبت: “قدّمها لأحد الجنود، فهم جميعاً بمثابة زوريك عندي”.
لم يتحمّل زوجي فراق ابنه الوحيد، وبعد عدّة أيّام من شهادته أُصيب بسكتةٍ دماغية وصار طريح الفراش في المستشفى. وبعد أن عاد من المستشفى لم يستطع كذلك مزاولة عمله. بقي هو حبيس المنزل وبقيتُ أنا أسيرة وسط نار فراق ولدي الوحيد وحزن مرض زوجي وهواجس تربية بناتي ومسؤوليّة تكاليف المعيشة ونفقاتها.
لقد أرادوا بعد شهادة زوريك أن يُسمّوا الزقاق الّذي نعيش فيه باسمه، لكنّ والده لم يقبل. قال: “لا طاقة لي أن أرى اسم زوريك أمام ناظرَيّ كلّما مررت من الزقاق”. بعد أربعين يوماً من شهادة زوريك، استشهد صديقه المسلم محمد كرامي، فأسموا الزقاق باسم الشهيد كرامي.
طوال الستة عشر عاماً الّتي عاش فيها زوجي بعد زوريك، وكنتُ أثناءها ممرّضته، أتاه زوريك في المنام عدّة مرّات. في المرّة الأخيرة، سأله زوريك في المنام: “يا أبتِ، لماذا تقف هنا؟”، فأجابه والده: “وأين ينبغي أن أقف؟”، قال زوريك: “تعالَ إليّ، ألا ترى أيّ حديقة كبيرة قد اشتريت، انظر أيّ أشجار من التفّاح الأحمر فيها”.
وتوفّي زوجي. بعد وفاته أُصيبت إحدى بناتي بمرض ال-أم أس، وبقيتُ أنا لسنوات أرعاها وأُمرّضها. كنتُ أشعر أنّ الله يمتحنني بتلك الصعوبات.
لقد مرّت إلى الآن ثلاثون سنة على شهادة زوريك وها أنا قد جهزّتُ أغراض الضيافة وجلست على الكنبة أستعيد تلك الذكريات. أتساءل كيف انقضت تلك السنوات الثلاثون
73
59
الرواية الثّالثة: أول شهيد
بصعوباتها وشدائدها الّتي لا تُحتمَل. كنتُ في قلبي شاكرة للّه كثيراً لأنّه قبل أن يُنزل بنا تلك الشدائد كان قد وهبني قدرة تحمّلها.
لقلبي اللّيلة جناحان يُحلّق بهما من الفرح. أشعر بسعادة لم يسبق لي أن عشتها من قبل. فبعد شهادة زوريك، لم يكن شيء ليُدخل السرور على قلبي سوى زواج بناتي وولادة أحفادي. لكن اللّيلة، ولأنّ “السيّد” سيحلّ ضيفاً علينا، فإنّ شعوراً بالسعادة يتملّكني بكلّ وجودي. كنتُ قد سمعتُ وقرأتُ من هنا وهناك أخباراً عن زيارته بعضاً من عوائل الشهداء الأرمن، لكنّني في الواقع لم أكن لأُصدّق أنّه سيأتي يوماً لزيارتي أنا، خاصّة في زمن لم يكن فيه قائد الثورة في إيران فحسب، بل كان قائد المسلمين الأحرار في العالم، وعليه أن يُتابع آلاف الأعمال المُهمّة والأساسية كلّ يوم. حقيقةً، لم أكن لأظنّ أنّه يتحمّل عناء المجيء ليُشرّفنا في منزلنا.
تأتي ابنتي وتُخبرني أنّ السيّد الخامنئي قد وصل إلى أوّل الزقاق. أقف وأُعيد ترتيب طاولة الضيافة المرتّبة أصلاً. ثم أجرّ أطرافي إلى باب المنزل، لأكون أول شخص يستقبله ويتأهّل به. ويدخل السيّد الخامنئي بوجهه البشوش دوماً. يسألنا بكلّ دفء ومحبّة، أنا وابنتي وصهري، عن أحوالنا.
74
60
الرواية الثّالثة: أول شهيد
– أنت والدة الشهيد؟
– نعم.
– كيف حالك؟
– بخير. الحمد لله. سلامتنا من سلامتكم.
– عشتِ، دمتِ.
– العفو منكم. تفضّلوا. أهلاً وسهلاً.
– أسأل الله أن يتغمّد شهيدكم برحمته.
– شكراً لكم. سلمتم.
يجلس السيّد الخامنئي على الكنبة المخصّصة لشخص واحد، ونجلس أنا وابنتي وصهري إلى جانبه على الكنبات الأخرى.
وكأنّه يعرف ما مُنيتُ به من ابتلاءات:
– أسأل اللّه أن يمنّ عليكم بالأجر والصبر، لقد سمعت أنّكم تحمّلتم صعوبات كثيرة.
نفسي تُنازعني أن أتحدّث قليلاً عن زوريك العزيز للسيّد القائد:
– شهيدنا هو أوّل شهيد أرمني، لقد كان وحيداً.
75
61
الرواية الثّالثة: أول شهيد
– صبيّ واحد فقط؟
– نعم. لديّ أربع بنات وابن واحد.
– حقّاً! سمعتُ أنّه قد استشهد في الأيّام الأولى للحرب.
– صحيح. لم يكن قد مضى على بداية الحرب إلاّ تسعة عشر يوماً حين استشهد في پيرانشهر.
أكتم غصّتي وأُطأطئ رأسي. إنّ حرقة شهادة زوريك لم تُفارقني لحظة، بحيث إنّني منذ ثلاثين سنة وإلى الآن لم أستطع أن أعدّ أيّ طعام كان يُحبّه هو. لا تزال حرارة شهادته حارقة حتّى اليوم وكأنّه استشهد توّاً. يرتجف قلبي وتخنقني الغصّة كلّما تحدّث أحدهم معي عن زوريك. إنّ حرارة فقدان الابن بالنسبة إلى الأم لا تبرد أبداً، خاصّة إذا كان ولدها الشاب الراحل هو ابنها الوحيد أيضاً.
يظلّ “السيّد” ساكتاً للحظات حتى أستعيد رباطة جأشي. ثم يقول مشفقاً:
– أجركم إن شاء الله محفوظ عند الله تعالى أيّتها السيّدة.
أتنهّد وأحاول أن أشكره من دون أن يرتجف صوتي:
– شكراً جزيلاً لكم.
يُشير السيّد القائد إلى الصورة المعلّقة على الجدار ويسأل:
– هذه صورته أليس كذلك؟
– نعم. نعم.
يبدأ السيّد القائد بالحديث عن إحدى ذكرياته خلال مواجهات الثورة، في تلك الفترة الّتي كان فيها سجيناً في سجن قزل قلعه، وقد تعرّف هناك إلى شاب أرمني اسمه آفانسيان. يروي السيّد القائد تلك الخاطرة حتّى يصل به الحديث إلى القول إنّ آفانسيان صار مؤسّساً لمجالس العزاء في السجن.
أقول: في النهاية كلّنا إيرانيّون، ليس هناك فرق. أنا نفسي أذهب أيضاً إلى المسجد كلّ سنة وأُقدّم النذور للإمام الحسين. ليس هناك فرق.
– كلا. فبمعزل عن كون الشخص إيرانيّاً، هناك شيء آخر. فمسيحيّو إيران علاقتهم جيّدة
76
62
الرواية الثّالثة: أول شهيد
جدّاً بالإمام الحسين وبأمير المؤمنين، وهذا الأمر يعود إلى جنبة أخرى غير جنبة كونهم إيرانيّين. فالبعض رغم كونهم إيرانيّين إلاّ أنّهم لا يعتقدون أبداً بهذه الأمور ولا يهتمّون بها، ولكنّ المسيحيّين عندنا ليسوا كذلك.
تُشارك في الحديث ابنتي الّتي تجلس إلى جانبي، وكانت لا تزال مستمعة وتقول للسيد القائد: للأرمن تاريخ قديم جدّاً في إيران، لقد بات لدينا أنسٌ بالإمام الحسين.
يهزّ القائد رأسه مؤيّداً كلام ابنتي ويقول:
– نعم. لديهم أنس بتلك القضايا المتعلّقة بالمسلمين والشيعة.
ثم يسأل “السيّد” عن بناتي: هذه السيّدة هي ابنتك. صحيح؟ والسيّد الجالس هو صهرك؟
– نعم.
– حسناً. أين هُنّ بناتك الأُخريَات؟
– ماذا أقول. إحداهنّ تسكن نارمك، والأخرى أُصيبت بمرض الـ”أم أس” منذ عشر سنوات، فأرسلناها إلى الخارج للعلاج.
– شفاها الله.
– شكراً جزيلاً.
لقد غادرتنا منذ عدّة سنوات. في الواقع، اثنتان منهنّ فقط هنا. أحد أحفادي وهو ابن الصهر هذا، ذهب لخدمة الجندية.
يتوجّه “السيّد” إلى صهري الّذي كان قد أحضر الشاي فيما كان يروي لنا خاطرة السجن. فيسأله: ابنكم جندي؟
– نعم. لقد أتمّ دورة التجنيد مؤخّرًا.
– أنتم ما هو عملكم؟
– أنا مهندسٌ استشاريٌّ في مشاريع مصفاة النفط والغاز والبتروكيمياء، وكما يقول أحد المهندسين، نحن نذهب إلى الصحراء نُعمّرها ونعود. لقد عملت في مصفاة بندر عباس وفي أصفهان والأهواز وعَبادان، وكذلك في مصفاة خانكيران.
77
63
الرواية الثّالثة: أول شهيد
– جيّد جدّاً. مصفاة نفط، صحيح؟
– نعم. نفط وغاز وبتروكيمياء.
– غاز أيضاً؟
– نعم.
– في خانكيران يوجد مصفاة للغاز؟
– نعم. لقد عملت بحدود خمس وثلاثين سنة ثمّ تقاعدت. لقد مضى الآن حوالي أربعين سنة على انخراطي في هذا العمل.
وفيما يتحدّث السيّد القائد مع صهري، نستغرق أنا وابنتي في مشاهدته، وكأنّنا إلى الآن لم نُصدّق أنّه قد شرّفنا في منزلنا، وأنّه يتحدّث إلينا بهذا المقدار من اللّطف والمحبّة، فيُخبرنا عن ذكرياته ويُدفئ قلوبنا.
– حسنًا. كلّما أحسنتم العمل ازداد أجركم. اعملوا بدقّة وبقوّة، حاولوا أن تكونوا متقنين لعملكم. بحمد اللّه نحن اليوم نُعدُّ في مرحلة متقدّمة جدًّا في ما يتعلق بأعمال مصافي النفط، لدينا مصافٍ جديدة ويجري العمل على التطوير أيضاً. وإنّه لأمرٌ مُهمّ جدًّا أنّ بلدنا قد استغنى عن استيراد البنزين. نحن الآن نُنتج بنزينًا أكثر من حاجة البلد في الداخل. وهذا إنجاز مهمّ جدًّا. قبل عدّة سنوات كُنّا نستورد كلّ هذا البنزين. كُنّا نستورد بمليارات الدولارات، نُنفق مليارَيْن، ثلاثة مليارات وستة مليارات دولار، لأجل استيراد البنزين. الآن صرنا قادرين على التصدير.
بالطبع، صدّروا مقداراً بشكل رمزي، ولكن إن شاء الله يتطوّر هذا المسعى بشكل أسرع. وهذا عملكم أنتم. هكذا ينعكس عملكم هذا في داخل البلد وخارجه. ولهذا العمل مردود ونفع مادّي بالنسبة للبلد أيضاً وهو واضحٌ جدًّا، وبرأيي هناك ما هو أهمّ من الربح المادّي وهو المردود المعنويّ والسمعة الحسنة دوليّاً. بالنسبة إلينا، من المعيب جدًّا أن تضطر دولة منتجة للنفط إلى استيراد حاجتها من البنزين. وأنا بالطبع كنتُ أوصي الحكومات المتعاقبة دائماً، أن اهتمُّوا بأمر المصافي، ابنوا المصافي الجديدة. كانوا يتذرّعون بأنّها مُكلفِة وليست بمقدورنا. ولكنّ هذه الحكومة والحمد للّه بذلت الجهد والهمّة وعملت
78
64
الرواية الثّالثة: أول شهيد
على بناء المصافي بشكل جدّي، أعني مصافي النفط إذ كانت مصافي الغاز بوضع جيّد وكانوا يبنونها.
– يجري العمل على هذه المشاريع على قدمٍ وساق، وهناك مشاريع كثيرة في عسلوية.
أُقدّم للسيّد القائد قليلاً من التّمر في صحن وبعض الحلوى وأقول: “هذه الحلوى هي حلوى خاصّة بالأرمن اسمها “نازك”. لم أكن أعرف أنّكم ستُشرّفوننا بهذه الزيارة وإلّا لكنتُ أعددت طعام العشاء”.
يقول: “هذا يكفي”، ويشرب شايه مع الحلوى ثمّ يتحدّث إليّ قائلاً:
– هل تعملين أيضاً يا سيّدة؟
– كلا، أنا ربّة منزل، أعمل في المنزل فقط.
– والمرحوم زوجك؟
– زوجي كان سائقَ مقطوراتٍ في الصحراء، وحين استشهد ولدي لم يعد قادراً على العمل. لقد أُصيب بسكتة دماغيّة. وصار طريح الفراش لستة عشر عاماً. كان وقع استشهاد ولده عليه ثقيلاً جدًّا. لقد كنتُ أرعاه طوال الستة عشر عاماً حتى وافته المنيّة. وبعد وفاة زوجي، مرضتْ ابنتي، أُصيبت بمرض “أم أس”، بقيتُ لمدّة عشرة أعوام أعتني بها وأرعاها.
– عجباً! من الواضح أنّكم قد عانيتم كثيراً. حسناً، شدائد الدنيا هذه ستعوّض جميعها عند اللّه. المعيار عندنا هو هذا؛ فكلّما عانى الإنسان هنا وامتحن، يُعوّضه الله حتماً بعطاء في المقابل.
– كلُّ ما يريده الله فهو خير. ولن يحصل خلافه. نحن أيضاً ينبغي أن نكون شاكرين، ونحن كذلك.
الجميع مسرورون جدًّا بحضور السيّد الخامنئي. وفي أغلب لحظات هذا اللّقاء لم تُفارقْنا البسمة أبداً، كما إنّها لم تُفارق شفتَيْه هو أيضاً. أتحسّر على غياب بناتي الثلاث عن هذا اللّقاء، وحرمانهنّ من توفيق رؤية القائد عن قرب.
– حسناً يا سيّدة، أنا في غاية السرور بسبب رؤيتكم ورؤية الأقارب المحترمين. وأُقدّم لكم هذه الهدية التذكاريّة، كذكرى، فالقيمة المادّية ليست منظورة.
79
65
الرواية الثّالثة: أول شهيد
لا أعرف كيف وبأيّ لسان ينبغي أن أشكره. ابنتي وصهري، حالهما كحالي أيضاً. لقد بدأْنا ثلاثتنا بشكره بكلّ ما نمتلك من عبارات.
يقول صهري بعد الشكر والامتنان: “لقد غمرتمونا بلطفكم وشرّفتمونا رغم مشاغلكم وأعمالكم الكثيرة”. ويُجيب “السيّد” بلحن خالٍ من المجاملة:
– اعلموا أنّ هذه الزيارات هي جزءٌ من أعمالنا الحسنة.
وبالفعل، كم أنّ تشريفه لنا بزيارته كان عملاً رائعاً. فالسّعادة الّتي غمرتني أنا شخصيًّا جرّاء اللّقاء به حقيقةً لا يُمكن أن توصف.
– وفّقكم الله وأيّدكم وأطال في أعماركم وحفظكم بحفظه سبحانه.
تخنقني الغصّة مجدّداً. هذه المرّة، غصّةٌ من نوع آخر، غصّة شوق. في الحقيقة، لا أُحبّ أن يُغادرنا “السيّد”، ولكن ما باليد حيلة. أمشي خلفه حتّى أُرافقه في طريق مغادرته. ولكنّ المرافقين الّذين معه لا يسمحون لي. يقولون إنّ السيّد لا يرضى بأن أُتعب نفسي. أقول لا أقلّه اسمحوا لي أن أنظر إليه عبر النافذة وهو يُغادر، فيسمحون بذلك. واللّافت أنّ أيّاً من جيراننا سواء سكّان الطبقة العليا أو الطبقة السفلى لم ينتبه إلى حضور الإمام الخامنئي في منزلنا.
80
66
الرواية الثّالثة: أول شهيد
أعلمُ أنّ الفرصة لرؤيته عن قرب قد لا تسنح مرّة أخرى. تنهمر دموعي وأنا أُراقب خروجه، وأدعو له بالسلامة وطول العمر, أينما كان، إلهي احفظه!
***
والدة الشهيد زوريك مراديان – 2014