تبيّن ممّا تقدّم أنّ التدبير الالهي الحكيم يسوق الانسان وكلّ ما يحيط به وخلق لاجله (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّموَاتِ وَمَا فِي الاَْرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ)( [266]) إلى الغاية النهائية التي قدّرت لها (الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْء خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى)( [267]) فإذا عرض لهذا السير مانع يوجب الاعاقة عن الهدف (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى)( [268]) قوبل ذلك بما يدفع العائق المذكور، إمّا بإصلاحه، أو إزالة الجزء الفاسد منه، نظير العاهة التي تعرض بعض أجزاء البدن، فإنّه إمّا أن يصلح إن أمكن أو يقطع ويجتثّ بعملية جراحية.
كذلك في النظام العام الذي يحكم عالم التكوين، فإنّ الاُمّة إن رجعت إلى صراط الفطرة والعبودية لله تعالى، بإصلاح نفسها، فيغيّر الله حالها إلى أحسن الحال، قال تعالى: (إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْم حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)( [269]) «حيث يمكن أن يستفاد من الآية العموم، وهو أن بين حالات الانسان النفسية وبين الاوضاع الخارجية نوع تلازم، سواء كان ذلك في جانب الخير أو الشرّ. فلو كان القوم على الايمان والطاعة وشكر النعمة، عمّهم الله بنعمه الظاهرة والباطنة ودام ذلك عليهم حتى يغيّروا، فيكفروا ويفسقوا، فيغيّر الله نعمه نقماً، ودام ذلك عليهم حتى يغيّروا، فيؤمنوا ويطيعوا ويشكروا، فيغيّر الله نقمه نعماً، وهكذا»( [270]).
«أمّا إذا استمرّت الامّة على ضلالها وخبطها، طبع الله على قلوبهم فاعتادوا ذلك، وأصبحوا يحسبون أنّ الحياة الانسانية ليست إلاّ هذه الحياة المضطربة الشقيّة التي تزاحمها أجزاء العالم المادّي، وتضطهدها النوائب والرزايا، ويحطّمها قهر الطبيعة الكونية.
من هنا حاول الانسان أن يتسلّح بسلاح العلم، ليدفع قهر الطبيعة وحوادثها، بدل أن يرجع إلى نفسه، ليرى ما هي تلك الاسباب الحقيقية التي أدّت بالطبيعة أن تنتفض عليه، وتحوّل حياته إلى شقاء مستمرّ واضطراب وقلق دائم، فبدل أن يرجع إلى استقامة الطريق (وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لاََسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً)( [271]) وان تكون هذه المحن والمصائب والبلايا منبّهات للرجوع إليه تعالى: (لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)( [272]) تراه قد أخذه الخيلاء والتكبّر (اسْتِكْبَاراً فِي الاَْرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الاَْوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلاً)( [273]) فظنَّ أنّ التقدّم العلمي في مجالات الحياة المختلفة، يجعله قادراً في التغلب على السنن الالهية التي أودعها الله تعالى في النظام الكوني، فتكون الطبيعة منقادة لاهوائه، ونسي أنّه لو اتبعته لفسدت السموات والارض، ولكان الانسان من أقدم أجزائها في الفساد وأسرعها في الهلاك، قال تعالى: (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّموَاتُ وَالاَْرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ)( [274]).
قال الطباطبائي في ظل هذه الآية: «إنّ الانسان حقيقة كونية مرتبطة في وجودها بالكون العام، وله في نوعيته غاية هي سعادته، وقد خطّ له طريق إلى سعادته وكماله، يناله بطيّ الطريق المنصوب إليها، نظير غيره من الانواع الموجودة، وقد جهّزه الكون العام وخلْقته الخاصة به من القوى والآلات بما يناسب سعادته والطريق المنصوب إليها، وهي الاعتقاد والعمل اللذان ينتهيان به إلى سعادته.
فالطريق التي تنتهي بالانسان إلى سعادته، أعني الاعتقادات والاعمال الخاصّة، المتوسّطة بينه وبين سعادته، وهي التي تسمّى (الدين). وسنّة الحياة متعيّنة حسب اقتضاء النظام العام الكوني، والنظام الخاص الانساني الذي نسمّيه الفطرة، وتابعة لذلك، وهذا هو الذي يشير إليه تعالى بقوله: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ)( [275]).
فسنّة الحياة التي تنتهي بسالكها إلى السعادة الانسانية، طريقة متعيّنة، يقتضيها النظام بالحقّ، وتكشف عنها تجهيزات وجوده بالحقّ، وهذا الحقّ هو القوانين الثابتة غير المتغيّرة التي تحكم النظام الكوني، الذي أحد أجزائه النظام الانساني، وتدبّره وتسوقه إلى غاياته، وهو الذي قضى به الله سبحانه، فكان حتماً مقضياً.
فلو اتّبع الحق أهواءهم، فاقتضى لهم من الشرع ما تجازف به أهواؤهم، لم يكن ذلك إلاّ بتغيّر أجزاء الكون عمّا هي عليه، وتبدّل العلل والاسباب غيرها، وتغيّر الروابط المنتظمة إلى روابط جزافية مختلّة متدافعة، توافق مقتضياتها مجازفات أهوائهم، وفي ذلك فساد السموات والارض ومن فيهنّ في أنفسها، والتدبير الجاري فيها، لانّ كينونتها وتدبيرها مختلطان غير متمايزين، والخلق والامر متّصلان غير منفصلين»( [276]).
فتحصّل ممّا تقدّم «أنّ الانسان كغيره من الانواع الكونية، مرتبط الوجود بسائر أجزاء الكون المحيطة به، ولاعماله في مسير حياته وسلوكه إلى منزل السعادة، ارتباط بغيره، فإن صلحت (أي الاعمال) للكون، صلحت أجزاء الكون له وفتحت له بركات السماء، وإن فسدت أفسدت الكون، وقابله الكون بالفساد، فإن رجع إلى الصلاح فبها، وإلاّ جرى على فساده، حتى إذا تعرّق (تجذّر) فيه، انتهض عليه الكون وأهلكه بهدم بنيانه وإعفاء أثره، وطهّر الارض من رجسه»( [277]).
شاهد أيضاً
اليتيم في القرآن الكريم – عز الدين بحر العلوم
11- « يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والاقربين واليتامى والمساكين وابن ...