الرئيسية / من / قصص وعبر / المسيح في ليلة القدر14

المسيح في ليلة القدر14

الرواية الثّامنة: سليل الحواريّين

 الرواية الثّامنة: سليل الحواريّين – رواية حضور الإمام الخامنئي دام ظله في منزل الشهيد فازجن آفانسيان في تاريخ 01/01/1985م

 
الشهيد فازجن آفانسيان
مكان الاستشهاد: دهلران، ايلام
تاريخ الاستشهاد: 1983م
 
 
 
 
164

136

الرواية الثّامنة: سليل الحواريّين

 في اللّيالي كُنتُ أرى فازجن في المنام، وفي النهارات كُنتُ أبحث عنه. لم أكن لسبعة أيّام بلياليها في وضعٍ طبيعي. كُنتُ مشوّش الذّهن ولا أدري ما الّذي يجري من حولي. لقد صدمني آغاجل صدمة جعلتني أتخبّط كالموج. آغاجل هو ابن عمّي وفازجن هو أخي الأصغر. كان الوقت ظهراً، وكُنتُ أُصلح سيّارةً في الورشة، عندما جاءني آغاجل وقال: تعال معي، أُريد أن أشتري عدّة أدوات لسيّارتي، وأنا لست خبيراً بها.

أودعتُ الورشة بعهدة أحد العمّال، وركبت سيارة آغاجل بلباس العمل. كنّا مشغولين بالحديث خلال الطريق حينما رأيت آغاجل يركن سيّارته أمام مركز الطبّ القانوني، قال: “تعال لندخل، عدّة دقائق فقط، أُريد أن أرى أحد رفقائي، ندخل ثمّ نُكمل مشوارنا”. قلتُ: “لباسي ليس مناسباً، سأنتظرك في السيّارة”. قال: “ليس هناك مشكلة، تعال معي، ينبغي أن ترى هذا الرفيق حتماً”.
بعد إصراره رافقتُه مكرهاً، لكن عندما دخلنا كان المكان مزدحماً إلى درجة أنّ أحداً لم يلتفت إلى ملابسي. دخلنا إلى البرّاد، وهناك ذهب آغاجل ليتحدّث لدقائق عدّة مع شخص ما، ثم ذهبا معًا باتجاه أحد البرّادات المخصّصة لحفظ الموتى. وقد أشار إليّ آغاجل لأتبعه. تبعته.
أخذنا صديق آغاجل، وباتّباع الإرشادات الموجودة على الورقة الّتي كان يحملها بيده، إلى جوار برّاد مؤلّف من ثلاث طبقات. ثمّ راح يفتح كلّ طبقة إثر الأخرى ليُرينا الأجساد الّتي بداخلها. لم أستطع أن أفهم ما الذي يجري وما هي القضيّة! فقط عندما رأيتُ وجه ذلك الجسد في الطبقة الوسطى، فهمتُ المسألة. لقد كان وجه أخي فازجن. عندما رأيت فازجن في ذلك الوضع، اسودّت عيناي، ووقعتُ على الأرض.
 
 
 
 
165

137

الرواية الثّامنة: سليل الحواريّين

 لقد أدّت طريقة آغاجل في إخباري، إلى أن أفقد توازني العقلي لسبعة أيام. لقد أصبح أخي العزيز شهيداً وأنا مجنوناً. 

لم تكن طريقة إخبار والدي أحسن حالاً. كان من عادة والدي أن يجلس يوميّاً على كرسيّه أمام باب المنزل، يتحدّث مع جيرانه وأصدقائه. وفي اليوم نفسه الّذي أُعلمتُ فيه بخبر شهادة فازجن، كان شخص آخر قد ذهب إلى منزلنا ليُخبر أبي أو أمّي بالأمر.
كان والدي يجلس وحده أمام باب المنزل ظهر ذلك اليوم. يجيء ذلك السيّد باحثاً عن المنزل رقم ثمانية. يقول له والدي: إنّه ههن، تفضّل.
– أنتم أصحاب هذا البيت؟
– نعم. تفضّل. في خدمتكم.
– هل تعرف فازجن؟
– نعم أعرفه. إنّه جندي.
– ما هي علاقتك به؟
– تفضّل يا سيّد، ماذا تأمرون؟ لماذا تُحقّق بهذا الشكل؟
– يجب أن أعلم ما هي علاقتك بفازجن؟
– افترض أنّني من أقربائه.
– لقد استشهد فازجن منذ يومَيْن وقد وضعوا جثمانه في برّاد الطبّ القانوني. لو سمحت أعلم عائلته، أباه، أمّه، كي يذهبوا ويستلموا جثّته.
أصابت والدي وهو في مكانه على الكرسي، سكتة خفيفة، وبعدها بقي حتى آخر عمره طريح الفراش وأسير المنزل. 
كان قد بقي على خدمة فازجن العسكريّة اثنان وعشرون يوماً فقط حين استشهد. كان في الحادية والعشرين من العمر. ومع أنّه كان لوالدي خمسة أبناء وابنتان، لكنّ خبر شهادة فازجن كان ثقيلاً عليه وكأنّما كان هو ولده الوحيد في هذه الدنيا.
 
 
 
 
166

138

الرواية الثّامنة: سليل الحواريّين

 كان فازجن أصغرنا في العائلة، أصغرنا وأعزّنا وألطفنا.

بعد الدفن ومراسم عزاء اليوم الثالث والسابع، لم تبقَ لي طاقة على البقاء في المنزل. اشتريتُ بطاقة سفر إلى خرّم آباد لأذهب من هناك إلى المنطقة التي استشهد فيها فازجن. قصدت ثكنة الجيش في خرّم آباد. وهناك، عندما فهموا ماهيّة المسألة وسبب مجيئي، خصّصوا لي سيّارة عسكرية (جيپ) وجندياً يوصلني إلى المنطقة. أثناء الطريق، حاولوا أن يقصفوا السيّارة مرّات عدّة، لكنّهم لم يستطيعوا أن يُصيبوها، ووصلنا بالسلامة إلى مكان استشهاد فازجن، قاعدة في منطقة “أربعين كلم دهلران”. أول مكان قصدته كان غرفة قائد فازجن، القائد الذي لطالما تكلّم عنه فازجن خلال مأذونيّاته.
عندما دخلتُ غرفته، كان جالساً على كرسيّه خلف المكتب. وعندما علم أنني أخو فازجن، أجهش بالبكاء. وبمجرّد أن تحرّك من خلف مكتبه باتجاهي، رأيت أنّه يجلس على كرسي متحرّك، وأنّ كلتا رجليه قد بُترتا من الركبة إلى الأسفل. اقترب منّي وراح يُحدّثني عن فازجن. كان يبكي ويحكي، وكُنتُ صامتاً وأسمع.
 
 
 
 
167

139

الرواية الثّامنة: سليل الحواريّين

 – لقد كان تفاني فازجن مدهشاً، وكأنّما روح هذا الصبي كانت منفصلةً عن جسده، وكأنّه قد اتّصل بمكان لم يكن على هذه الأرض، لم يكن هناك من معنى للنوم والتعب والجوع في قاموسه. كان يعمل بهمّة خمسة رجال، لم يكن يهدأ. كان من عادتي أن أكون آخر من ينام، لكن كلّ مرّة أردت فيها أن أنام، كُنتُ أرى فازجن في خيمة الاتصالات، منهمكاً في إجراء إصلاحات لجهازَيْ اللّاسلكي والهاتف. وعندما كُنتُ أستيقظ صباحاً كُنتُ أراه أيضاً قد استيقظ قبل الجميع وقد انهمك في عمله. بفضل وجود فازجن وخدماته ليل نهار، لم تواجه فرقتنا أيّ مشكلة أو انقطاع في الاتصالات. أنت لا تعرف كم أنّ سلامة الاتصالات ودوام جريانها مهمّ وحيويّ في الحرب. إنّها بمنزلة العكّاز بالنسبة إلى شخص لا يستطيع أن يخطو من دونه خطوة واحدة.

بقي لمدّة نصف ساعة يُحدّثني عن فازجن ويبكي. ثمّ فتح درج مكتبه وأعطاني دفتر مأذونيّات فازجن. وقال: “كلّما اشتقت إليه، أفتح هذا الدفتر وأتحدّث معه”.
وجدتُ أيضاً ثلاثة من أصدقاء فازجن الحميمين، تحدّثت مع كلّ واحد منهم. لم يستطيعوا أن يكبتوا دموعهم أمامي، وكأنّ أخاهم قد استشهد.
 
 
 
 
168

140

الرواية الثّامنة: سليل الحواريّين

 مهما حاولت لم أستطع أن أتقبّل شهادة فازجن. لكن بعد أن قصدت منطقته العسكريّة وتحدّثتُ مع قائده ورفاقه في العسكر، هدأت روحي واستقرّت نفسي وسلّمتُ لأمر شهادته. 

بعد سنة من شهادة فازجن، وفي أيّام عيد الميلاد، فيما كنتُ عائداً من عملي إلى المنزل، شاهدتُ شابَّيْن يجولان حول منزلنا. وبمجرّد أن أردتُ فتح باب المنزل، تقدّما نحوي: عفواً، ماذا تريد؟ 
فغرتُ فمي متعجّباً، وقلتُ في نفسي: “بدل أن أسألهما أنا هذا السؤال، هما يسألانني!”. قُلتُ: ههنا منزلنا. اعتذرا وقالا: “تفضّل إلى الداخل”. في داخل المنزل رأيتُ شخصَيْن آخرَيْن منشغلَيْن بالحديث مع أبي وأمي. لم أكن قد ألقيتُ السلام بعد حين رنّ جرس المنزل. عدتُ لأفتح الباب وجمدتُ في مكاني. السيّد رئيس الجمهورية، “السيّد” الخامنئي، كان خلف الباب. أسرعتْ أمّي وكذلك إخوتي إلى قربي، وراح الجميع يُرحّبون برئيس الجمهورية. قبل دقائق عدّة من دخول السيّد الخامنئي، كان مرافقوه قد أخبروا أبي وأمّي وإخوتي أنّه آتٍ لزيارتنا.
كان ذلك اللقاء بالنسبة إلينا عجيباً جدًّا، لأنّنا حتى ذلك اليوم لم نكن قد سمعنا أبداً أنّه يزور عوائل الشهداء الأرمن. في السنة الّتي تلت، وفي السنوات بعدها، صرنا نسمع ونقرأ في الجريدة المخصّصة للأرمن عن زياراته لعوائل شهداء الأرمن. لكن في تلك السنة، ولأنّها كانت المرّة الأولى الّتي يحدث فيها مثل هذا الأمر، كان بالنسبة إلينا حدثاً عجيباً جدًّا. بعد ذلك اللّقاء، كُنّا كلّما أخبرنا أحدهم بزيارة السيّد رئيس الجمهورية لمنزلنا لم يكن ليُصدّق.
خلاصة الأمر، أنّه شرّفنا في بيتنا وكان ضيفنا لقرابة الساعة. لم يستطع والدي الّذي كان طريح الفراش بعد شهادة فازجن، أن يجلس على الكنبة. والسيّد بدوره أراد احتراماً لوالدي أن يجلس على الأرض، ولكنّه عدل عن رأيه عندما علم أنّ الوالد سينزعج كثيراً. وبإصرار من الوالد، جلس على الكنبة وتحدّث معنا بمنتهى الدفء والحميمّية. في ذلك اليوم، بالإضافة إلى أفراد عائلتي، كان في المنزل اثنان من أولاد عمّي وأشخاص عدّة من أولاد إخوتي. 
كانت ليلة عيد الميلاد، وكان قد جاء ليُبارك لأمّي وأبي بالعيد. سأل السيّد الخامنئي أولاً عن أحوال والدي ووالدتي، وعن تاريخ إصابة والدي بمرضه، وعن طبيبه المعالج
 
 
 
169

141

الرواية الثّامنة: سليل الحواريّين

 ومشكلات علاجه وأمثال هذه الأسئلة، ثمّ وصل به الكلام إلى فازجن والسؤال عنه. نقل كلٌّ من أبي وأمّي وأختي وإخوتي للسيّد خاطرة له عن فازجن، عن تفوّقه أيّام الدراسة وعن شغفه الاستثنائي والعلمي بالصناعات الحرفيّة وعن كيفيّة استشهاده وتشييع جثمانه المهيب في طهران.

كان السيّد الخامنئي قد أعلن لوالدي عن استعداده لتقديم أيّ خدمة أو مساعدة، وكان والدي قد أوضح له أثناء شكره على اهتمامه ومحبّته أنّ كلّ شيء، وللّه الحمد، يسير على ما يرام وليس هناك من حاجة تُذكر: “لقد أعطاني الله خمسة أبناء، قدّمتُ أحدهم فداءً في سبيله. يُقلقني فقط أن يكون المقاتلون في عجز أو حاجة إلى شيء لا سمح اللّه”. 
قدّم رئيس الجمهورية تعازيه بشهادة فازجن للجميع. وبارك لنا عيد الميلاد، وحدّثنا عن السيّد المسيح والحواريّين وشهداء صدر المسيحيّة ومقامهم عند الله. كلامٌ لم أكن أنا نفسي، حتّى ذلك اليوم قد سمعتُ معظمه، وكان سماعه من لسان القائد له حلاوة مضاعفة. لقد قال: إنّ الشهداء المسيحيّين في حربنا هم أيضاً كشهداء صدر المسيحيّة وكحواريّي عيسى عليه السلام.
 
 
 
 
170

142

الرواية الثّامنة: سليل الحواريّين

 بعد ذلك، قدّم بتواضع هديةً لأبي وأمّي وطلب الإذن بالمغادرة.

عندما قام عن الكنبة، حاول أبي رغم عجزه أن يقوم من مكانه، ولكنّ السيّد لم يسمح له. جلس هو إلى جواره على الأرض وسلّم عليه مودّعاً. 

طلب منّا الحرس المرافقون ألّا نُرافقه إلى الزقاق وأن نبقى في المنزل، حتى لا يحصل ازدحام في الخارج. لقد زارنا رئيس جمهورية بلدنا في منزلنا، وغادرنا بلا أيّ ضجيج أو صخب، حتى إنّ جيراننا لم يلتفتوا إلى ما جرى.

لا أذكر إن كنتُ قد نمتُ في تلك اللّيلة العذبة والمغمورة بالذكريات، فقد بقينا جميعاً حتى ساعة متأخّرة نتحدّث عن لطفه ومحبّته وصفائه وبساطته. ولم يكن الهاتف ليهدأ للحظة واحدة. كان الإخوة والأخوات وأولاد العمومة وأبناء الإخوة، الخلاصة، كلّ شخص موجود في المنزل، كان يُهاتف من يعرفه ويُخبره عن مجيء رئيس الجمهوريّة إلى منزلنا.

غداة ذلك اليوم، منذ الصباح الباكر وحتى منتصف اللّيل، كان منزلنا مسرحاً للضيوف. جميع أهل محلّتنا والأصدقاء والمعارف والعائلة الّذين عرفوا أنّ ضيفنا لليلة الماضية كان رئيس الجمهورية، جاؤوا ليستخبروا عن مجريات ذلك اللّقاء. ففي النهاية وحتى ذلك الزمان، لم يكن لرئيس جمهوريّة إيران سابقة أصلاً بزيارة منزل للأرمن.

كان منزلنا هو الأول.

 

 

شاهد أيضاً

الجهاد – طريقة العمل

طريقة العمل                                  * العمل  طبق التكليف والأحكام الشرعية                                * كسب محبة الشعب ...