وكالة الحوزة – کتب رئيس الحوزات العلمية في إيران مقالا تحت عنوان: التفاعل الإيجابيّ والبنّاء بين الأديان والمذاهب حاجةٌ لإنقاذ الحضارة العالميّة ولتعزيز المحبّة بين المجتمعات”، مؤكدا أن الحوار بين الأديان، من أهمِّ الضروراتِ وأكثرِها فائدةً في المجتمعات الإنسانيّة والدينيّة في عالمنا المعاصر.
وكالة أنباء الحوزة – ورد في قسما من مقال رئيس الحوزات العلمية في إيران آية الله علي رضا الأعرافي: يرى الإسلامُ والقرآنُ أنّ جميعَ الأنبياءِ عبارةٌ عن سِلْسِلَةٍ واحدةٍ مُمتَدَّةٍ، وأنّ الكُتُبَ والصُحُفَ السماويّةَ تُشَكِّلُ منظومةً واحدةً متكاملةً، وأنّ الأديانَ الإلهيّةَ كانت طوالَ التاريخِ الصراطَ المستقيمَ، وفيما يلي نص مقال سماحته:
إشارة:
نعتقدُ أنّ الأنظمةَ السياسيّةَ والاجتماعيّةَ غيرُ مبنيّةٍ على أساسِ الثقافاتِ المختلفةِ فقط، بل على أساس جملةٍ من المصادر التي تشترك في أنّ من شانها أن تكون الجامع الذي يوحّد بين الثقافات المختلفة. ويمكنُ للحوار المتّكِئ على هذا المنطق أن يكونَ شاملًا للعالَمِ كُلِّه. ويعتمدُ هذا الموضوع على أساس منطقٍ إنسانيٍّ عميقٍ وأصيل، ويشملُ الفلسفةَ الإنسانيّةَ والنظامَ الحقوقيَّ والفقهَ والنظامَ الأخلاقيَّ المشتَرَكَ. ويجبُ على البَشَرِ التقدُّمُ في هذا المجال بُغْيَةَ الوصولِ إلى هكذا حواراتٍ مبنيّةٍ على أصولٍ عقليّةٍ وإنسانيّةٍ وفلسفيّةٍ.
التفاعُل البنّاءُ والإیجابیُّ حاجةٌ لإنقاذِ الحضارةِ العالمیّة
(قُلْ یَا أَهْلَ الْکِتَابِ تَعَالَوْا إِلَی کَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَیْنَنَا وَبَیْنَکُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِکَ بِهِ شَیْئًا وَلَا یَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ) (آلعمران: ۶۴).
یُعَدُّ التفاعُلُ والحوارُ بین الأدیان المختلفة، من أهمِّ الضروراتِ وأکثرِها فائدةً فی المجتمعات الإنسانیّة والدینیّة فی عالمنا المعاصر. ویمکنُ للعلاقات الواسعةِ بین الشعوب وتفاعُلِ البشر فیما بینَهم وتعایشِهم السِّلْمِیّ بعضهم مع بعض، أن یُحدِثَ تقدُّمًا فیما یرتبط بالأهداف الإنسانیّة والبشریّة فی عالمنا المعاصر. وفی عصرنا الحالی الذی یتمیّز بتعقیداتٍ سیاسیّةٍ واجتماعیّةٍ وثقافیّةٍ أکثرَ من السّابق، یُعَدُّ التفاعلُ البنّاءُ والإیجابیُّ بین الأدیان والمذاهب من أهمِّ السِّمات والحاجات لإنقاذ الحضارةِ العالمیّةِ ولإیجادِ المحبّةِ بین المجتمعاتِ البشریّةِ، وهذا ما یصلُحُ لأن یکونَ العنوانَ العامّ لجمیع المناسبات وفی شتّی المیادین. کما یلعبُ التفاعُلُ المذکورُ دورًا مهمًّا ومؤثّرًا فی التقریب بین الأدیان وفی المجتمع الإنسانیّ. وتستطیعُ القیَمُ المشترکةُ بین الأدیان أن تُلَبِّیَ بسهولةٍ حاجاتِ البشر. ویشکِّلُ التنوُّعُ الدینیُّ وتعدُّدُهُ فرصةً استثنائیّةً للمجتمع الإنسانیّ؛ إذ یؤمِّنُ فی إطارٍ من الحوار بین الأدیان وتبادلٍ لمکتسباتها، فَهْمًا أَعْمَقَ ورؤیةً أوضحَ للمجتمع الإنسانیّ. ونحن نعیشُ فی عالمٍ تلعبُ فیه مقولاتٌ ثلاثةٌ هی الثقافةُ والهویّةُ والعاداتُ دورًا مُهمًّا لا مجالَ لإنکارِه أو الاستغناءِ عنه. فأیُّ تغییرٍ فی عالمنا المعاصر، هو فی أصله تغییرٌ فی الثقافة والهویّة. وفی هذا الصدد، تلعبُ الأدیانُ دَوْرًا مُهِمًّا فی تشکیلِ الهویّةِ العالمیّة. وممّا لا شکَّ فیه، أنّ جمیعَ القِیَمِ الإنسانیّةِ التی نعیشُ علی أساسها، لها جَذْرٌ فی بعض السُّنَنِ المعنویّةِ والدینیّةِ الموجودةِ فی العالم. علی هذا الأساس، صحَّ أن یُقالَ: إنّ للدِّینِ دَوْرًا لا بدیلَ عنه فی حیاةِ البشر ونَمَطِ حیاتِهِم. وقد سعی کلُّ واحدٍ من الأنبیاء والرسل (علیهم السلام) إلی إیجادِ نَمَطِ حیاةٍ توحیدیٍّ، وإلی نَفْخِ رُوح المحبّةِ والأُلْفَةِ فی أعماق البشریّة، کما انطلقوا من متطلِّبات المجتمع واحتیاجاته، فدعَوْا أتباعَهُمْ إلی أن یُحِبَّ بعضُهُم بَعضًا. فخطَوا بذلک خُطوَةً مُهِمَّةً تُجاهَ إیجادِ مجتمعٍ متّحدٍ منسجمٍ.
التعایُشُ السِّلمیُّ بین الأدیان من منظور القرآن الکریم
یری الإسلامُ والقرآنُ أنّ جمیعَ الأنبیاءِ عبارةٌ عن سِلْسِلَةٍ واحدةٍ مُمتَدَّةٍ، وأنّ الکُتُبَ والصُحُفَ السماویّةَ تُشَکِّلُ منظومةً واحدةً متکاملةً، وأنّ الأدیانَ الإلهیّةَ کانت طوالَ التاریخِ الصراطَ المستقیمَ، وأنّها نزّلت بِطَوْرٍ تدریجیٍّ تکامُلِیٍّ [۱]. ولقد أشار الله تعالی فی کتابه الکریم إلی أنّ الجبهة التوحیدیّة کان لها تواجُدٌ علی امتداد التاریخ الإنسانیّ، وأنَّ الانبیاءَ الإلهییِّینَ کانوا قادتَها وروّادَها [۲]. وذکر القرآنُ الکریمُ باحترامٍ وتبجیلٍ ما یقاربُ الثلاثین نبیًّا من بین آلافِ الأنبیاء. وتهدُفُ جمیعُ الأدیانِ الإلهیَّةِ إلی تحقیقِ سعادة البشر ونجاتهم فی الدنیا والآخرة. أمّا الرسائل السماویّة فَرُوحُهَا الاعتقادُ بالتوحیدِ وعالمِ الغَیْبِ والأنبیاءِ الإلهیِّینَ، والاهتمامُ بالأخلاقِ والقِیَمِ الإلهیَّةِ والإنسانیّةِ. هذا، ولیست الدُّنیا من منظور الأنبیاء الإلهیّین منفصلةً عن الآخرة؛ فحیاةُ الفرد فی هذا العالم تمهّدُ لحیاته فی العالم الآخر. وقد رسمت الأدیانُ الإلهیّةُ الخطوطَ العریضةَ الضامنة لسعادة البشر فی هذا العالم. وتجدُرُ الإشارةُ إلی أنَّ الأنبیاءَ أولی العزم کانوا بمنزلةِ نقاطِ تحوُّلٍ فی تاریخ الأنبیاء، فَهُمْ أصحابُ شرائعَ عالمیّةٍ وکتبٍ سماویّةٍ وبینهم کثیرٌ من المشترکات. هذا، وتزدادُ المشترکاتُ بین الأدیان الإبراهیمیّة، لا سیّما بین الإسلام والمسیحیّة. ویؤکّدُ القرآنُ علی العلاقة الوثیقة والرحیمة بین المسلمین والمسیحیّین، وقد اعترف بهذا الدین الکبیر بشکل رسمیٍّ، ودعا إلی التعایُشِ السلمیِّ مع أتباعه. [۳]
تعامُل النبیّ (ص) والأئمّة المعصومین (علیهم السلام) مع الأدیان المختلفة
تاریخیًّا، لَعِبَ الأنبیاءُ دورًا مهمًّا فی توحیدِ المجتمعِ وتعزیزِ المحبّةِ بین أفراده. کما استطاع کلُّ واحدٍ من الأنبیاء اعتمادًا علی هذه التعالیم وغیرها من التعالیم الأخری الکثیرة، أن یُوجِدَ نَحْوًا من الوحدة بین أجزاءِ المجتمعِ البشریِّ.
بعد الأنبیاء، لَعِبَ الأوصیاءُ والعلماءُ دَوْرًا مُهِمًّا علی امتداد خطِّ الرسالةِ والهدایةِ البشریّةِ، وتوجّب علیهم القیامُ بالوظائف التعلیمیّة – التبلیغیّة، والتربویّة -الأخلاقیّة والاجتماعیّة المنوطة بهم علی أحسن وجهٍ ممکِنٍ. ولطالما أکّدت المعاهدُ والحواضرُ العلمیّةُ المبنیّةُ علی معارفَ اجتهادیّةٍ وعلی الفکرِ العقلیّ – الفلسفیّ، علی أهمّیّةِ التباحُث العلمیّ بین المفکّرین أَنْفُسِهِمْ وبین المدارسِ الفکریّةِ المختَلِفةِ، وعلی أهمّیّةِ الحوارِ العلمیِّ العمیقِ بین الأدیان والمذاهب، وضرورةِ الابتعادِ عن التعصُّبات والإفراطات السقیمة. وهذا ما یحتاجُهُ عالمنا الیوم أکثرَ من أیّ یومٍ مضی.
ومن یطالع التعالیمَ القرآنیّةَ والروائیّةَ والتاریخَ الإسلامیَّ لا سیّما فی عهدِ الأئمّةِ المعصومین (علیهم السلام)، یجدها ملیئةً بالضوابط والأحکام المرتبطةِ بکیفیّةِ التعامُل مَعَ أتباعِ الدیانات الأخری. وهذا یتجلّی أکثرَ فی عهد الإمام الرضا (علیه السلام) حیثُ توسّعت حدودُ العالمِ الإسلامیِّ، وبدأت العلاقاتُ بین الأدیان بالظهور، وزادت وتیرةُ التفاعُلات الثقافیّة والحضاریّة، وأخذت الأفکارُ ترِدُ إلی الحاضرةِ الإسلامیّةِ، سواءٌ المعارفُ المسیحیّة والیهودیّة أم ما یختصُّ بالحضارات الأخری، کالرومانیّة والإیرانیّة والمصریّة والهندیّة والصینیّة.
فی هذه الفترة، ولأجل الحیلولة دون تسلُّلِ الأفکار غیرِ الإسلامیّةِ بین المسلمین، تصدّی القادّة الحقیقیّون للأمّة الإسلامیّة، لبیانِ المعارفَ الإلهیّةِ العالِیَةَ بشکلِهَا الصحیح. عاش الإمام الرضا (علیه السلام) فی عصرٍ بلغت فیه المواجهةُ الثقافیّةُ والحضاریّةُ والفکریّةُ أَوْجَها. وإذا ما راجعنا الأحادیثَ الواردةَ عن الإمام الرضا (علیه السلام)، لا سیّما فی سنوات حضوره فی مرو، لأمکننا بوضوحٍ ملاحظةُ نشاطِهِ المکثَّفِ فی مواجهة الأدیان الأخری. لقد کان (علیه السلام) یبیِّنُ المعارفَ الدینیّةَ الخالصةَ من خلال التشبیه والتمثیل لِما لهما من جاذبیّةٍ وقدرةٍ علی إیصالِ الفکرة. کما أنّه قدّم فی مواجهته لأتباع الدیانات الأخری وسائر المذاهب الإسلامیّة، بل فی مواجهته أیضًا للمنحرِفین من الشیعة الواقفیّة، نموذجًا مبهرًا فی منطق الحوار مع الأدیان الأخری وکیفیّةِ التفاعل بین الأدیان.
نقد النظرة العقلانیّة وما بعدَ الحداثویّة فی التعامل مع الأدیان
تحتوی معارف أهل البیت (علیهم السلام) مجموعةً من القضایا البدیهیّة وال «ما قبل دینیّة»، وهی المعبّر عنها بالمستقلّاتِ العقلیّةِ وبالمفاهیمِ المشتَرَکَةِ العقلیّةِ والفلسفیّةِ. وهو ما یعنی رفضَها مفهومَ النسبیَّةِ المطلقةِ التی تسدُّ الطریقَ أمام الفهم الصحیح. لیس للنسبیّة المطلقة، لا سیّما تلک المبنیّةَ علی ما بعد الحداثة، أساسٌ عقلیٌّ أو فلسفیٌّ مُحْکَمٌ. ویعتمد اتجاهُ ما بعد الحداثة علی منطق النسبیّةِ التی تجعلُ من الحوار حوارًا سطحیًّا ونفعیًّا. أمّا فی المنطق المشیّد علی مبانٍ عقلیّةٍ وفلسفیّةٍ، فالحوارُ فیه عمیقٌ ودقیقٌ، وینطلقُ من مشترکاتٍ عقلیّةٍ وإنسانیّةٍ.
وفیما یرتبطُ بالحوار الدینیّ والعقلانیّ، تتمتّع الأدیانُ السماویّة بفلسفة حقوقیّة وأخلاقیّة مشترکة. وهو أمرٌ من شأنِه أن یهیِّئَ الأرضیّةَ المناسِبَةَ لحوارٍ دینیٍّ أعمقَ. وتجدر الإشارةُ إلی أنّ الأمورَ المشترکةَ هی أکثرُ بکثیرٍ ممّا یظهرُ لنا الیومَ، ونحنُ نعترفُ بالحوار الدینیّ والإنسانیّ بوصفه أمرًا حقیقیًّا وأصیلًا.
نعتقدُ أنّ الأنظمةَ السیاسیّةَ والاجتماعیّةَ غیرُ مبنیّةٍ علی أساسِ الثقافاتِ المختلفةِ فقط، بل علی أساس جُمْلَةٍ من المصادر التی تشترک فی أنّها من شأنها أن تکون الجامعَ الذی یوحِّدُ بین الثقافات المختلفة. ویمکنُ للحوارِ المتّکِئِ علی هذا المنطق أن یکونَ شاملًا للعالَم کلِّه. ویعتمدُ هذا الموضوعُ علی أساسِ منطقٍ إنسانیٍّ عمیقٍ وأصیلٍ، ویشملُ الفلسفةَ الإنسانیّةَ والنظامَ الحقوقیَّ والفقهَ والنظامَ الأخلاقیَّ المشتَرَکَ. ویجبُ علی البَشَرِ التقدُّمُ فی هذا المجال بُغْیَةَ الوصولِ إلی هکذا حواراتٍ مبنیّةٍ علی أصولٍ عقلیّةٍ وإنسانیّةٍ وفلسفیّةٍ. وتبتنی جمیعُ الأدیان والمذاهب علی عقلانیّةٍ منظَّمَةٍ، تتمحورُ معتقداتُها حول العالَم والمجتمع الهادفَین. وتسعی الأدیانُ المختلفةُ، حتی البشریّةُ منها وغیرُ الإبراهیمیّة، إلی فَهْمِ العلاقة بین الإنسان والوجود من جهةٍ، وبینَه وبینَ نفسِه من جهةٍ أخری. وقد سعت، لا أقلّ فی إطار المعاییر العقلیّة والعقلائیّة، إلی تقدیم تفسیرٍ واقعیٍّ وصحیحٍ لکلٍّ من الإنسان والوجود.
فی الحقیقة، سَعَتْ جمیعُ الأدیانِ إلی تأطیرِ علاقاتِها فی أطرٍ عقلانیّةٍ. وهو أمرٌ یجعلُ حیاةَ الإنسانِ ذاتَ معنی، ویَنْعَکِسُ بشکلٍ إیجابیٍّ علی أدائِه العملیِّ. لذا کان الرّبطُ بین الدینِ وعقلانیّة البَشَرِ أمرًا فی غایة الأهمّیّة. علی سبیل المثال، تُعدُّ العدالةُ والمساواةُ، سِمَةً من سمات العقلانیّةِ البشریّةِ التی تظهر علی شکلِ المستقلّاتِ العقلیّةِ؛ لأنّ العقلَ یحکُمُ بِحُسْنِ العَدْلِ وَقُبْحِ الظُّلْمِ. وفی الإطارِ نَفْسِهِ تَظْهَرُ العَقْلَانِیَّةُ الإنسانیّةُ فی صُورَةِ الحُکْمِ بِحُسْنِ السَّلَامِ وقُبْحِ الاعتداءِ وإراقةِ الدِّمَاءِ والحَرْبِ. من هنا أَمْکَنَ أن یُقالَ: إنّ العدالةَ والصُّلْحَ هما المحورُ الذی تَدُورُ حَوْلَهُ جمیعُ الأدیان والمذاهب، وهی تَسْعَی إلی إدارةِ المجتمعِ علی أساسِه. وینبغی الالتفاتُ إلی أنّ هذه العقلانیّةَ نَفْسَهَا هی التی تقتضی من الإنسان رَفْضَ الظُّلْمِ والدِّفَاعَ عَنِ المظلومِ. علی هذا الأساسِ، کان السعیُ إلی تحقیقِ العدالةِ والسلامِ، وإلی مجابهةِ الظُّلْمِ، أمرًا مقبولًا، بل ممدوحًا فی الأدیانِ کُلِّهَا. ولا معنی لتحقیقِ الأمنِ والسلامِ والاستقرارِ فی العالم قبل تحقیقِ السلامِ بَیْنَ الأدیانِ. ونعتقدُ أنّ الأدیانَ البشریّةَ وغیرَ الإلهیّةِ، تستفیدُ مِنْ نَوْعٍ من الشُّمُولِیَّةِ العقلانیَّةِ والسلوکیَّةِ، تکمُنُ فی أصلِ عَقْلَانِیَّةِ هذه الأدیانِ؛ لأنَّ الأدیانَ جمیعَهَا تنتمی إلی حُکْمَاءَ بَشَرِیِّینَ استفادوا من العقلانیّةِ الإنسانیّةِ، أو ممّا هو أبعدُ مِنْهَا، بأن کان لهم ارتباطٌ مباشِرٌ مَعَ عقلِ الوجود، أعنی: اللهَ تعالی. من هنا، کانت ﴿کلمة سواء﴾ حاضرةً فی جمیعِ الأدیان ذاتِ المنشإِ العقلانیِّ، هذا المنشأُ الذی یهیِّئُنا للتقاربِ والتحاورِ وتقبُّلِ القضایا الإنسانیّةِ الأساسیّةِ.
التفاعُلُ بین الأدیان والمذاهب مُبْتَنٍ علی منطقٍ عمیقٍ ولیس ناشئًا عن المجاملةِ والاضطرار
هناک حقیقةٌ أخری فی البین، وهی أنّ التفاعُلَ الحاصلَ بین الأدیان والمذاهب لیس ناشئًا عن المجاملة والاضطرار؛ بل یَتَّکِئُ علی مَنْطِقٍ عَمِیقٍ وَبِنَاءٍ مُحْکَمٍ. ویمکنُ للأدیانِ والمذاهبِ الموجودةِ فی عالمنا الیومَ، أَنْ تُشَکِّلَ جبهةً واحدةً مشترَکَةً فی العالم، انطلاقًا من القضایا والأصولِ المشتَرَکَةِ فیما بینها فی میادینِ الفلسفةِ والحقوقِ والقِیَمِ والفِقْهِ. وإلی جانب الحقیقةِ المتقدِّمَةِ، لطالما کان للبشریّةِ تعامُلٌ مع قضایا من قبیل: الحاجة إلی استعادةِ روحیَّةِ نشر المحبّة، والأمورِ المعنویَّةِ، والعدالةِ والسلامِ المبتنِیَین علی العدالةِ والمساواةِ بین البشر. هذه القضایا، وبقطع النَّظَرِ عن بُعدها السیاسیّ، هی أوّلًا وبالذات ذاتُ ماهیَّةٍ دینیَّةٍ، وتلعبُ الأدیانُ دَوْرًا مُهِمًّا فی بیانها وتحقیقها. أمّا نَحْوُ تحقیقِ السلام المبتنی علی العدالةِ، وکیفیّةُ مراعاة حقوق البشر، والطریقُ الذی یتعیَّنُ علی المجتمعات البشریّة اتِّبَاعُهُ بُغْیَةَ تنظیمِ العلاقاتِ فیما بینها انطلاقًا من الوظائف والتکالیف والتعهُّدات والحقوق المتقابلة، فهی من جملةِ الأمورِ التی یتعیَّنُ علی الأدیان تحدیدُها وتوجیهُ المجتمعات نحوَها من خلال التعاوُن وتبادُلِ الأفکار والمعاییر والتجاربِ الخاصّةِ. من هنا، کان عالمُنا الیومَ فی حاجةٍ ماسّةٍ إلی تعلّم آداب المحاورة بین الأدیان والمذاهب المختلفة. وقد أکَّدَ الإسلامُ والعلماءُ المسلمون مرارًا وتکرارًا علی ضرورة التعایُشِ الحکیمِ بین الناس، والحوارِ بین الأدیان الإلهیّةِ، وعلی ضرورةِ احترامِ المقدَّساتِ. ولو جُمعَت الأدیانُ والطقوس البشریّةُ واتّبَعَتْ حُکْمَ العَقْلِ، لوجدناها تدعو النّاسَ إلی «السعادة» التی یُشَکِّلُ «الاستقرارُ والرَّاحَةُ» أحدَ مکوِّنَاتِهَا الأساسیّةِ. من هنا، کلّما انبری المفکّرون والعلماءُ الدینیّون للتحاور والتباحث، کان حکمهم طبق ﴿کلمة سواء﴾ ولم یکن بینَهُمْ أیّ تَفْرِقَةٍ أو اختلافٍ.
ضرورةُ التفاعُلِ والحوارِ بین الأدیان الإلهیّةِ والمذاهب
فی العقدین الأخیرین، کثُر الکلامُ حولَ الحوارِ بین الأدیان، حتّی غدا أحدَ أهمِّ الأسئلةِ والهواجس التی تلاحق المفکّرین والمنظّرین الدینیِّین. ولیس ذلک من جهةِ التشکیکِ فی أصل الحوار وضرورته، وإنّما سعیًا منهم لتوضیحِ متطلِّبَاتِهِ، وبیانِ ضرورَتِهِ وفوائِدِهِ. وثمّةُ ضروراتٌ عدیدةٌ جَعَلَتْ من الحوار الدینیِّ أمرًا لا مَفَرَّ مِنْهُ فی عالمنا الیومَ، نذکُرُ منها: الضرورةَ المعرفیّةَ، والضرورةَ الأنطولوجیّةَ، والضرورةَ الدینیّةَ، والحاجةَ إلی دفع التوهُّمات، وتعزیزِ الحوارِ بین الأدیان. وَمِنَ الوَاضِحِ أنّ الحوارَ الدینیَّ یساعدُ عَلَی فَهْمِ مَعَارِفِ الأدیانِ الأخری بشکلٍ صحیحٍ وواضحٍ، کَمَا یُسْهِمُ فی علاجِ العدیدِ من حالاتِ سوء الفَهْمِ والأحکامِ المسبقة، ویفتحُ البابَ أمامَ التقاربِ العَقَدِیِّ والقِیَمیِّ والسُّلُوکیِّ.
هذا، ولن تستطیعَ الحوزاتُ العلمیّةُ أن تستعیدَ دورَهَا التاریخیَّ والأصیلَ ما لم تَکُنْ علی معرفةٍ جیّدةٍ بالظروفِ الحالیّةِ والمستقبلیّةِ وباحتیاجاتِ شعوبِ العالمِ وبالحرکاتِ الفردیّةِ والجماعیّةِ المؤسّساتیّة ذاتِ الصِّلَةِ، معرفةً شامِلةً ومدروسةً، حتی تتمکّنَ من تعریفِ منتسِبیها بالجوِّ الحقیقیِّ والموضوعیِّ لدنیا الیوم. فحتی تتمکَّنَ الحوزاتُ من مخاطبةِ الفئة التی تستهدِفُها، یتعیّنُ علیها أوّلًا التعرُّفُ علی لُغَتِهَا وأدبیّاتِها وطریقةِ تفکیرِها، وعلی هواجِسِها وقضایاها ومشاکلِها. یجبُ علی الحوزات أن تعلمَ کَیْفَ یُفَکِّرُ مخاطَبوها وما الذی یتوقّعونه منها. ستُنجَزُ هذه المهمَّةُ العظیمةُ عندما یُدرَسُ تاریخُ المخاطَبین وجغرافیّتُهُم من قِبَلِ أشخاصٍ فاعلین واعتمادًا علی الأدواتِ المناسِبَةِ والأسلوبِ الصحیحِ والمناهجِ الأصولیّة، وعندما یُلتَفَتُ إلی جمیعِ الأمورِ المؤثِّرَةِ والفَعَّالَةِ، مِنَ الأدواتِ المستخدَمَةِ إلی الخطواتِ العملیّةِ والمضامینِ التبلیغیّةِ. فلیس التواجُدُ العلمیُّ والثقافیُّ للحوزویِّین فی مختلفِ المحافِلِ الدَّوْلِیَّةِ أَمْرًا مُمْکِنًا إلَّا مِنْ خِلَالِ زیادةِ قُدْرَتِهِمْ ورَفْعِ مُسْتَوَی مَعْرِفَتِهِمْ وبَصِیرَتِهِمْ.
یوجَدُ عِدَّةُ نَظَرِیَّاتٍ حَوْلَ التَّقَارُبِ والتَّفَاعُلِ بَیْنَ الأَدْیَانِ:
فی النظریّة الأولی، کان السعیُ وراءَ دَمْجِ الأدیان بَعْضِهَا بِبَعْضٍ وَجَعْلِهَا دینًا واحِدًا. وهی نظریَّةٌ نُخالِفُهَا؛ إذ لا مجالَ للقولِ بها فلسفیًّا، فضلًا عن کونها غیرَ واقعیَّةٍ، ولا مجالَ لتحققّها خَارِجًا. أمّا النظریَّةُ الثانیّةُ، فتدعو إلی أصل التدیُّن دون اعتناق دینٍ معیَّنٍ، وهی النظریّةُ المطروحةُ الیومَ فی الغرب. طبقًا لهذه النظریّةِ، یجبُ التخلّی عن الفوارق بین المذاهب والترکیزُ علی المشترکات فقط، وهذا أمرٌ غیرُ مقبولٍ أیضًا. والنظریّة الثالثةُ هی التعدّدیّةُ الدینیّةُ، التی یعتقدُ القائلون بها بِصِدْقِ جمیعِ الأدیانِ والمذاهبِ وصحّتِها. وهی، کالنظریّةِ الأولی، مرفوضةٌ فلسفیًّا، لأنّه لا یُمْکِنُ عقلًا الحکمُ بصحّة جمیع الرؤی وصِدْقِهَا. أمّا النظریّةُ الرابعةُ، وهی التی یعتقدُها المسلمون وأتباعُ مدرسة أهل البیت (علیهم السلام)، فمُفَادُهَا احترامُ الأمورِ المشتَرَکَةِ بینَ الأدیان. وفقًا لهذه الرؤیة، لا ینبغی لنا القولُ بکُفْرِ غیر المنتسبین لهذه المدرسة وباستحقَاقِهِمُ الموتَ، بل یَجِبُ علینا وضعُ القتلِ جانبًا، والتخلّی عن مقولة نحن أهلُ الجنّة وغیرُنا فی النار. أمّا فی نقاط الخلاف مع سائر المذاهب والأدیان، فالمجالُ مفتوحٌ للنقاش والتحاور.
ونواجِهُ فی عالمنا الإسلامیِّ الیومَ عددًا من التحدّیات، من قبیل: التحدّیات العَقَدِیَّة – الفِکْرِیَّة، والتحدِّیات الأخلاقیّة وانهیار نظام القِیَم، وتحوُّلِ طَرَفَی الحرب والنزاع من المسلمین والمستکبرین إلی السنّة والشیعة، وإحیاءِ الفکرِ القومیِّ، وتجْزِئَةِ الدُّوَلِ الإسلامیّةِ، والخوفِ من الإسلام، والخشیةِ من الشِّیعَةِ، والذُّعْرِ مِنْ إیران، واستبدال الخطاب الإسلامیّ الطالبّانیِّ المتحجِّرِ أو الإسلامیِّ اللیبرالیِّ التنویریِّ بخطابِ الثورةِ الإسلامیّةِ، وکَسْرِ جبهةِ المقاومةِ. ویمکنُ للحوزة العلمیَّةِ أن تُجِیبَ عن هذه التحدّیاتِ من خلال فَهْمِ الجغرافیا المعرفیّة للعالم، واعتمادًا علی نشاطَاتِها الدینیّةِ.
وهناک أمورٌ أخری لا بدّ منها إذا ما أردنا إیجادَ تفاعُلٍ بین الأدیان، من قبیل: التعریفِ بآراءِ علماءِ الحوزة العلمیّةِ فی الحواضر العلمیّةِ الدینیّةِ العالمیّةِ، وحضورِ الحوزویّین واطّلاعِهِمْ علی القضایا العالمیّة المرتبطة بالأدیان الأخری وعلی کیفیَّةِ التعامُلِ مَعَ عُلَمَاءِ تلک الأدیان، وضَرُورَةِ فَهْمِ الدیاناتِ الأخری بشکلٍ صحیحٍ، ودراسةِ علم اجتماعِ الدِّینِ والتاریخِ وموقعیّةِ الأدیان فی العالم المعاصر، ومتابَعَةِ الأبحاثِ والدراساتِ العالمیّةِ التی تتناولُ المعارفَ الإسلامیّةَ الأصیلةَ، بل المساهمة فیها کتابةً وتصحیحًا، وبیانِ ضرورةِ تهیِئَةِ الأرضیَّةِ الثقافیَّةِ اللّازِمَةِ بحیثُ یکونُ للحوزویّین تأثیرٌ علی الساحةِ العالمیّةِ، والتشاوُرِ والتعاوُنِ بینَ الأدیانِ فی مواجهةِ المشاکلِ التی تُهَدِّدُ مصلحةَ البشریَّةِ جمعاء، وحاجتِنا الیومَ إلی ثورةٍ دینیّةٍ تملأُ الفراغَ المعنویَّ لدی البشر، والعلاقاتِ الوثیقةِ والمنظَّمَةِ بینَ النُّخَبِ والمؤسّساتِ والجهاتِ الدینیّةِ الفاعلةِ بُغْیَةَ العَمَلِ مَعًا علی السَّاحَةِ الدینیّةِ العالمیَّةِ، وضرورةِ الخروجِ عن الحالةِ الانفعالیّةِ والحضورِ الفعَّالِ فی الحوار الدینیِّ والمذهبیِّ وتبلیغِ معارفِ أهلِ البیتِ (علیهم السلام) وتَعْزِیزِ مَکانَتِهَا فی قِبَالِ الأدیانِ والمذاهب الأخری.
وانطلاقًا من وجودِ ضروراتٍ یقتضیها البحثُ الدینیُّ، فإنَّ الحوزةَ العلمیَّةَ مصمِّمَةٌ علی تبنّی سیاسیاتٍ کُلِّیَّةٍ ووضعِ أهدافٍ وأولویّاتٍ واستراتیجیّاتٍ عامَّةٍ طویلة الأمد ومتوسّطة الأمد وقصیرة الأمد والعمل علی وفقِهَا، وعلی دراسةِ نحوِ تعامُلِهَا مع المؤسّساتِ الدَّوْلِیَّةِ الرسمیَّةِ منها وغیرِ الرسمیَّةِ الفاعلةِ علی السَّاحَةِ الدینیّةِ. کما أنّه من الضروریِّ مراقبةُ سَیْرِ الأنشِطَةِ والفعّالیّات الدینیّةِ، والتأکُّدِ من حُسْنِ تنفیذِهَا، ومن فعالیَّةِ العَمَلِ الحوزویِّ المنظَّمِ، حتی یکونَ حضورُ الحوزةِ فی المحافلِ الدینیّةِ العالمیّةِ بالشَّکْلِ المطلوب.
[۱] کما فی الآیة ۲۵ من سورة الحدید (لَقَد أَرسَلنا رُسُلَنا بِالبَیِّناتِ وَأَنزَلنا مَعَهُمُ الکِتابَ وَالمیزانَ لِیَقومَ النّاسُ بِالقِسطِ).
[۲] ومن ذلک ما جاء فی الآیة ۴۶ من سورة النساء (وَما أَرسَلنا مِن رَسولٍ إِلّا لِیُطاعَ بِإِذنِ اللهِ).
[۳] من ذلک ما جاء فی الآیة ۸۲ من سورة المائدة (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِینَ آمَنُوا الَّذِینَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَی ذَلِکَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّیسِینَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا یَسْتَکْبِرُونَ).