– لا تزال واشنطن تتعاطى ضمن سلوكها المعتاد في مقاربة الملفات السياسية. في وقتٍ يبدو فيه بأن إتفاق القرن، أي الإتفاق النووي مع إيران، يبقى محل مدٍ وجزرٍ سياسي في الداخل الأمريكي. في حين تتعامل أمريكا مع الموضوع ضمن براغماتيتها السياسية المعهودة، والتي لا تحترم الإتفاقات أو المعاهدات. أما بالنسبة لإيران، فالأمر ليس سوى إعترافٍ بحقٍ قومي. فماذا في محاولات واشنطن تعقيد تنفيذ الإتفاق النووي؟ وما هي دلالات ذلك؟
وافق مجلس النواب الأمريكي لكن بأغلبية ضئيلة على مشروع قانون يُقيد قدرة الرئيس باراك أوباما على رفع العقوبات بموجب الإتفاق النووي الدولي مع إيران بعد حوالي أسابيع من إلغاء تصويت مماثل. ووافق أعضاء مجلس النواب بأغلبية 246 صوتاً مقابل 181 صوتاً على ما سُمي “قانون شفافية تمويل إيران للإرهاب”. وجاءت نتيجة التصويت شبه متطابقة مع الإنتماء الحزبي إذ صوت الجمهوريون بالموافقة بينما عارض الديمقراطيون القانون بأغلبية ساحقة. ومن غير المتوقع أن يصبح التشريع قانوناً رغم سيطرة الجمهوريين على مجلسي النواب والشيوخ في الكونغرس. وحتى إذا وافق مجلس الشيوخ على التشريع فإن أوباما وعد باستخدام سلطة النقض الرئاسي أي الفيتو، قائلاً إن مشروع القانون سيقتل الإتفاق النووي التاريخي. وكان مجلس النواب وافق بأغلبية ضئيلة على التشريع في وقت سابق لكن جرى إبطال التصويت بعد حضور ما يقرب من ثلث النواب متأخرين للإدلاء بأصواتهم.
دلالات وتحليل:
على الرغم من أن الإتفاق النووي دخل حيز التنفيذ، فإن التعاطي الأمريكي مع مسألة الإتفاق النووي ليس تعاطياً يدل على المصداقية. وهو بحد ذاته السبب الذي يقف خلف انعدام الثقة الحالية لطهران بواشنطن. ناهيك عن أن الطرف الإيراني وبغض النظر عن المستجدات السياسية، فهو لم يثق يوماً بأمريكا التي لا تعرف معنىً للإلتزام. وهنا نشير للتالي:
- في وقتٍ تعتبر فيه إيران بأن الإتفاق النووي أعاد لها حقها ليس أكثر، تسعى واشنطن لإستخدام سياسة الإبتزاز، عبر محاولتها الضغط سياسياً أو دبلوماسياً من أجل الحؤول دون تنفيذ الإتفاق. وهو الأمر الذي يدل على حجم الإنجاز الإيراني الذي أجبر العالم على الإعتراف بطهران كقوةٍ واقعية، فيما يدل من جهةٍ أخرى على الصراع الحاصل بين الأطراف الأمريكية والتي يجد بعضها في الإتفاق إنجازاً تاريخياً، بينما تراه أطرافٌ أخرى أمراً يُقلِّل من هيبة واشنطن.
- وهنا فإن الحديث الدائر في الكواليس الأمريكية، وهو ما سرَّبته الفورين بوليسي مراراً، ينطلق من أن الحقيقة التي لا يجري تسليط الضوء عليها، هي أن أمريكا وإيران ليستا في حكم الحلفاء بعد الإتفاق، بل هم أعداءٌ كانوا ولايزالون. وهو الأمر الذي يجعل العديد من الأصوات الداخلية في واشنطن، تقتنع بأن الإنجاز التاريخي لحكم الرئيس الحالي أوباما، هو في الحقيقة إنجازٌ لإيران. إذ أنه شكَّل انتصاراً للدبلوماسية الإيرانية المُنبثقة من مبادئ الثورة الإسلامية، في حين شكل إنجازاً شكلياً لواشنطن.
- من هذا المنطلق، يقول الخبراء، يجب أن نرى الإتفاق النووي. وليس صحيحاً الحديث عن “تقاربٍ أمريكيٍ إيراني”، يُكمل المعنيون. فالإتفاق بالنسبة لطهران إعادةٌ لحقٍ وطنيٍ وقوميٍ كان موضوعاً في خانة الإبتزاز السياسي، ليس أكثر. أما بالنسبة لواشنطن، فهو رضوخٌ لقوةٍ لم يعد بالإمكان التغاضي عن حجمها، حاول أصحاب القرار الأمريكي إظهارها بأنها إنتصارٌ للدبلوماسية في العالم.
بناءاً لما تقدم، يجب الإشارة الى بعض المسائل، وذلك لوضع الأمور في نصابها:
- قد يكون الإتفاق النووي مُهدداً، وهو أمرٌ محتمل. لكن هذا الأمر سيجعل واشنطن أمام مساءلةٍ كبيرة، لا سيما من قبل الرأي العام الدولي. الى جانب أن مجموعة الـ 5+1 بأسرها، مطالبة للحؤول دون وقوع ذلك.
- لكن الأزمات المُعقدة للجميع، وتواجد تعارضٍ قد يصل الى التناقض في المصالح الخاصة للأفرقاء، يجعل الأمور صعبةً أكثر. وهو ما يمكن أن تكون قد عبَّرت عنه المستشارة الألمانية ميركل منذ يومين، حين أشارت الى حجم التناقض بين برلين وتل أبيب فيما يخص الرأي حول تنفيذ الإتفاق النووي. وهو ما يُعتبر نموذجاً، للحالة التي تسود الحلفاء الغربيين ومن ضمنهم تل أبيب، حول كيفية التعاطي مع القوة الإيرانية.
- من جهةٍ أخرى يجب الوقوف عند سياسة الطرف الإيراني. فعلى الرغم من وجود إختلافٍ كبيرٍ لدى الجهات الغربية، يبدو الطرف الإيراني موحداً، يسير وفق آليةٍ مدروسة، تتعاطى مع المسألة كحقٍ غير قابلٍ للنقاش. وتعتبر الإنجاز النووي إنتصاراً للدبلوماسية الإيرانية وقدرتها على انتزاع حقٍ قوميٍ لإيران من عدوٍ كواشنطن.
- وهنا يكمن التناغم بين السياسة العملية للمسؤولين عن الملف النووي في الحكومة الإيرانية، وبين توجيهات قائد الثورة الإسلامية الإمام الخامنئي، والذي وضع الخطوط الحمراء التي يجب مراعاتها. لذلك فإننا نجد المشهد الذي نراه اليوم، لا سيما على الصعيد الدولي، وخصوصاً نفاق أمريكا والغرب، يُمثِّل عين المشهد الذي صوَّره الإمام الخامنئي، حين وصف الغرب ومن خلفه واشنطن، بالطرف الذي لا يمكن الوثوق به.
لا شك بأن إحدى النقاط الأساسية التي تُعيق تحقيق التقدم في أي اتفاقٍ مع الغرب وتحديداً واشنطن، تكون عادةً، الإنعدام التام للمنطق السياسي والتفكير السليم عند الإدارة الأمريكية الحالية لفترة طويلة وكذلك السعي لوضع المصلحة الخاصة والتي لا تتماشى مع مصالح الشعوب، عبر تقويض الدفاع والقدرات العسكرية والصناعية للأطراف التي تختلف معها. وبالتالي فإن انهيار الإتفاقيات مع الغرب، أمرٌ محتمل في ظل تقديم الغرب أوراق اعتماده لواشنطن والتي لا تعرف الأمانة بل يمكن أن تلجأ الى بيعها من أجل مصالحها.
لكن الحقيقة التي يجب أن يعرفها العالم، هي أن إيران لم تراهن يوماً على الغرب. بل إن ما حققته أثناء الحصار المفروض عليها، كان أكبر مما يمكن أن يتصوره الكثيرون. لذلك فإن تهافت الأطراف الدولية والغربية إليها، رسَّخ واقعاً يعترف بها كقوةٍ إقليمية صاعدة. في حين يتساءل الكثيرون عن السلوك الأمريكي البعيد عن المنطق في ظل السعي وراء المصالح فقط. أما جنون واشنطن اليوم، فهي أنها وجدت نفسها، أمام لاعبٍ إيراني، يقول لها، كش ملك.