الدرس الثامن:
حسابُ القبر
أهداف الدرس
على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يبيّن التصوّر الصحيح لعالم القبر وأنّه أول منازل الآخرة.
2- يذكر حقيقة عذاب القبر وأنواعه والسؤال والمساءلة في البرزخ.
3- يبيّن كيفيّة ارتباط الأرواح في البرزخ بعالم الدنيا.
القبر
روي عن الإمام الصادق عليه السلام: “يدخل على الميِّت في قبره الصلاة والصوم والحج والصدقة والبرّ والدّعاء ويُكتب أجره للذي يفعله للميت”[1].
من الصعب علينا أن ندرك حقيقة الحياة في القبر. وبشكلٍ عام يصعب علينا أن ندرك حقيقة هذا العالم، تماماً كما يصعب على الجنين وهو في بطن أمّه أن يدرك حقيقة الدّنيا. لذا فإنّ الطريق الوحيد الذي بين يدينا لتصوّر عوالم ما بعد الموت، يتمثّل فيما تعكسه الآيات والروايات, فالثابت عندنا أنّ القبر أوّل منازل البرزخ، وأنّ الميِّت يُسأل حتماً عن أصول دينه وعقيدته وعن عمره فيما أفناه، وأنّ القبر إما أن يكون روضة من رياض الجنّة، أو حفرة من حفر النيران.
ففي الحديث النبوي الشريف: “القبر إمّا حفرة من حفر النيران أو روضة من رياض الجنّة”[2].
أوّل منازل القبر
إنّ أوّل منازل البرزخ هو سؤال القبر، فبعد أن يقبض ملك الموت روح الإنسان، ويرقى بها نحو السماء، ليضعها في محضر الله سبحانه، تعود بعد ذلك إلى منزلها الأصلي في القبر، وهو أوّل منزلةٍ من المنازل التي يمضيها الميِّت في القبر.
وتؤكّد الأخبار أنّه يأتي مَلكان باسم “منكر ونكير” فيسألانه عن التوحيد والنبوّة والإمامة والعدل. والمعلوم أنّ هذين الملَكين يأتيان الكفّار على صورةٍ مفزعةٍ مُخيفةٍ،
حيث جاء في الخبر أنّهما: “ملكان فظّان غليظان، أصواتهما كالرعد القاصف، وأبصارهما كالبرق الخاطف”[3]. وقد أخبر بعض الروايات عن حضور الإمام عليه السلام في مثل هذا الموطن[4].
السّؤال في القبر
ولكن عن أي شيءٍ يُسأل الإنسان في القبر؟
لم يتعرّض القرآن الكريم لذكر هذه الخصوصيات. وكل ما تعرّض له هو أنّ هناك برزخاً وأنّ فيه فريقاً يتنعّم بنعم الله تعالى، وفريقاً آخر في العذاب. إلا أنّ السنة المباركة تحدّثت بإسهاب عن هذه التفاصيل، فقد ذُكر في الروايات أنّ الإنسان عندما يوضع في القبر يأتي إليه اثنان من ملائكة الله فيسألانه عن أصول دينه، حتى أنّ بعض الروايات أشار إلى أنّه يُسأل حتى عن كيفية عمره من جوانب عدّة، كسُبل كسب المال ونحوه، وإن كان من المؤمنين فإنّه سوف يجيب بسهولة، وتغمره الرحمة الإلهيّة، وإلا فإنّه سوف يفشل في الإجابة ويغرق في العذاب. وقد أطلق على هذين الملكين اسم “ناكر ونكير، وفي رواية “منكر ونكير”، فيروى عن الإمام زين العابدين عليه السلام أنّه كان يعظ الناس ويذكّرهم بحضور “منكر ونكير” في القبر قائلاً: “ألا وإنّ أوّل ما يسألانك عن ربّك الذي كنت تعبد، وعن نبيك الذي أُرسل إليك، وعن دينك الذي كنت تدين به، ثمّ عن عمرك فيما أفنيته، ومالك من أين اكتسبته، وفيما أتلفته، فخذ حذرك وأعدّ للجواب قبل الامتحان والمساءلة”[5].
وقال أبو عبد الله عليه السلام: “يُسأل الميِّت في قبره عن خمس: عن صلاته وزكاته وحجّه وصيامه وولايته إيّانا أهل البيت، فتقول الولاية من جانب القبر للأربع: ما
دخل فيكنّ من نقص فعليّ تمامه”[6].
وكيف يتم هذا السؤال؟ ومع من؟ مع الرّوح في عالم البرزخ، أم مع نفس هذا الجسم والرّوح؟ وما هي نوعية الأسئلة التي تُسأل هناك؟
وفي الإجابة عن السؤال الأوّل قولان:
الأول: أن يتوجّه السؤال إلى نفس هذا الجسم والرّوح على نحو أنّها تعاد الرّوح إلى الجسم المادي بصورة مؤقتّة. ومن البديهي أنّ المقصود هنا ليس عودة الرّوح بصورة تامة بحيث يعود الإنسان كما لو كان في الدّنيا، بل تعود على قدر ما يمكّنه من الإجابة عن الأسئلة. فالمستفاد من موضوع بعض الروايات هو أنّ الرّوح تتعلّق وترتبط بنفس هذا الجسم المادي بنوع من التعلّق على قدر ما يتمكّن الميِّت من فهم الأسئلة والإجابة عنها. ولكن يبقى الثابت عندنا، عدم عودة النَّفس إلى هذا الجسم المادي بعينه كما هو الحال في الآخرة.
الثاني: أن يتوجّه السّؤال إلى الرّوح التي في القالب المثالي والبرزخي. وإلى هذا أشار العلاّمة المجلسي في تحقيقه حول أحاديث هذا الباب في البحار: “فالمراد بالقبر في أكثر الأخبار ما يكون الرّوح فيه في عالم البرزخ”[7]. أما نوعية الأسئلة في القبر فيتّضح من الروايات أنّها ليست أسئلة وأجوبة عاديّة يتمكّن الإنسان من الإجابة عنها بما يحلو له، بل هي أسئلة تنبع إجابتها من أعماق روح الإنسان ومن صحيح معتقداته، وما تلقين الأموات للشهادة إلاّ للإشارة إلى هذه الأمور. ويضاف إلى هذا الكلام وجود روايات أخرى تشير إلى أنّ السؤال يتناول أحياناً تفاصيل حياة الإنسان كساعات عمره، وتحصيله لرزقه، وكيفية صرفه، وهذا يعني أنّ سؤال القبر لا يتعلّق فقط بالكفر والإيمان على مستوى العقيدة والفكر أو بالأمور العقائدية فقط.
ارتباط الرّوح في هذا العالم
نشير هنا إلى أمرين هامين:
1- عدم انفصال الرّوح عن الدّنيا مطلقاً.
2- انتفاع الأرواح بالأعمال الصالحة.
أمّا بالنسبة للأمر الأوّل، فيستفاد من خمس روايات ذكرها الشيخ الكليني في الكافي أنّ الرّوح عندما تنتقل إلى عالم البرزخ لا تنفصل عن الدّنيا بالمرّة بل تزور الدنيا بين الحين والآخر، فروي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: “إنّ المؤمن ليزور أهله فيرى ما يُحب ويُستر عنه ما يكره، وإنّ الكافر ليزور أهله فيرى ما يكره ويُستر عنه ما يحبّ”[8].
أمّا الأمر الثاني, وهو انتفاع الأرواح بأعمال الآخرين الصّالحة، فقد دلّت الروايات عليه بكثرة، حيث أشارت النصوص إلى أنّ عمل الخيرات لأرواح الأموات تصل إليهم على شكل هدايا.
جاء عن الإمام الرضا عليه السلام: “ما من عبد زار قبر مؤمن فقرأ عليه إنّا أنزلناه في ليلة القدر سبع مرّات إلاّ غفر الله له ولصاحب القبر”[9].
ويروى أنَّ السيد المسيح عليه السلام، مرّ على أحد القبور فوجد صاحبه في العذاب، وعندما مرّ في العام المقبل وجده في النعيم، فعندما سأل الله عن ذلك أخبره بأنّ السبب في هذا هو فعل خير أدّاه ابن مؤمن له، وهو إصلاحه لأحد الطرق وإيواؤه يتيماً.
هذا ويستفاد من روايات عدّة أنّ آثار بعض الأعمال ترافق الميِّت أو تتصل به إلى قبره وهي مثل الحسنات الجارية: من سنّ سنةً حسنةً، والولد الصّالح الذي يستغفر لوالده، غرس يغرسه، صدقة ماء يُجريها، إلخ…
روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:
“ما تصدّقت لميّت فيأخذها ملك في طبق من نور ساطع ضوؤها يبلغ سبع سماوات. ثمّ يقوم على شفير الخندق فينادي: السلام عليكم يا أهل القبور، أهلكم أهدوا إليكم بهذه الهدية، فيأخذها ويدخل بها في قبره، فيوسِّع عليه مضاجعه”[10].
المفاهيم الرئيسة
1- الطّريق الوحيد الذي بين يدينا لتصوّر عوالم ما بعد الموت، يتمثّل فيما تعكسه الآيات والروايات من معالم لذلك العالم، إذ إنّ الثابت عندنا أنّ القبر أوّل منازل البرزخ. يُسأل الميِّت حتماً عن أصول دينه وعقيدته وعن عمره فيما أفناه، وأنَّه إمَّا أن يكون روضة من رياض الجنّة أو حفرة من حفر النّيران، ففي الحديث النّبوي الشّريف: “القبر إمّا حفرة من حفر النيران أو روضة من رياض الجنّة”.
2- تؤكّد الأخبار أنّه يأتي مَلكان باسم “منكر ونكير” فيسألانه عن التوحيد والنبوّة والإمامة والعدل. والمعلوم أنّ هذين الملَكين يأتيان الكفّار على صورة مفزعة مُخيفة.
3- يتوجّه السؤال في القبر إمّا: إلى نفس هذا الجسم والرّوح على نحو أن الرّوح تعاد إلى الجسم المادي بصورة مؤقتّة وبقدر ما يمكّنه من الإجابة عن الأسئلة، أو أن يتوجّه السؤال إلى الرّوح التي في القالب المثالي والبرزخي.
للمطالعة
سرُّ النَّصر[11]
إنَّ سرَّ نصركم هو الإيمان الثابت أولاً، ثم وحدة الكلمة، فاحفظوا هذين الأمرين، ورسِّخوا إيمانكم، فأنتم لستم مخلوقات مادية كما يقول أولئك إنّ الإنسان موجود مادي، ويعتبرون الإنسان كسائر الحيوانات، فأنتم مخلوقات لها بعدها المادي، ولها أسمى من ذلك البعد المعنوي. إنّ فيكم أنفساً قدوسية. إنَّ فيكم أنفساً مجردة. وإذا كنتم في خدمة الإسلام وطاعة الله تبارك وتعالى، فإنّ هذه الأنفس ستصبح أنفساً طاهرة وزكية وسعيدة، أينما كانت وعلى أي هيئة كانت. إنّ موت الإنسان، الإنسان الطاهر، هو بداية حياته الإنسانية، فهنا حياته الحيوانية، وحياته المحدودة، أما تلك الحياة الإنسانية فهي غير المحدودة ولعالم غير محدود. ولو نزّهتم أنفسكم وطهرّتموها، ولو جعلتم أعمالكم منسجمة مع القرآن الكريم ومع أحكام الإسلام، وجعلتم أخلاقكم قرآنية، إذا طهرّتم أنفسكم فلا تخافوا شيئاً.
إنَّ الموت أمرٌ يسيرٌ وليس ذا بال. فإنّ أمير المؤمنين سلام الله عليه مولى الجميع، حينما يقول: “إنّي لآنس بالموت مثلما يأنس الطفل بثدي أمه”، فلأنّه فهم حقيقة الدّنيا وحقيقة ما وراءها، فهم حقيقة الموت وحقيقة الحياة. لقد أعطينا الشهداء، ولكن شهداءنا أحياء، أحياء يرزقون، وخالدون. ونحن ندعو الله أنْ يوفِّقنا للشهادة، فهي عناء لحظة وسعادة دائمة، تعب لحظة وبعدها سعادة دائمة، سعادة مطلقة.
الإمام الخميني قدس سره
[1] الصدوق، محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي، من لا يحضره الفقيه، تصحيح وتعليق علي أكبر غفاري، الطبعة الثانية، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، ايران، ج 1، ص 185.
[2] الفيض الكاشاني، محمد محسن، علم اليقين، ج 2، ص 873.
[3] بحار الأنوار، ج 6، ص 223.
[4] إشارة إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهي قوله لعلي: “يَا عَلِيُّ إِنَّ مُحِبِّيكَ يَفْرَحُونَ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاطِنَ عِنْدَ خُرُوجِ أَنْفُسِهِمْ وَأَنْتَ هُنَاكَ تَشْهَدُهُمْ وَعِنْدَ الْمُسَاءَلَةِ فِي الْقُبُورِ وَأَنْتَ هُنَاكَ تُلَقِّنُهُمْ وَعِنْدَ الْعَرْضِ عَلَى اللَّهِ وَأَنْتَ هُنَاكَ تَعْرِفُهُمْ” بحار الأنوار، ج 6، ص 200.
[5] م. س.
[6] بحار الأنوار، ج 21، ص 260.
[7] بحار الأنوار، ج 6، ص 270.
[8] الكافي، ج 3، ص 230.
[9] بحار الأنوار، ج 79، ص 169.
[10] القمي، الشيخ عباس، منازل الآخرة، تعريب وتحقيق السيد ياسين الموسوي، الطبعة الأولى، 1419 هـ. ق، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، إيران، ص 163.
[11] صحيفة الإمام الخميني قدس سره، ج 6، ص 248.