الدافع الثاني: غريزة البحث عن المنفعة والأمن من الضرر
ممّا يشدّد من رغبة الإنسان في معرفة الحقائق، أن إرضاء الحاجات الطبيعية وإشباع الدوافع الفطرية لديه لا يتحقّق إلا من خلال الإلمام ببعض المعارف الخاصة التي تجلب له النفع وتدفع عنه الضرر. فإذا أمكن للمعارف الدينية خاصة أن تساعد الإنسان على إشباع حاجاته، وتوفير المنافع التي ينشدها، والأمن المضار والأخطار التي تتهدّده، فسيكون الدين من المجالات التي ينشدها الإنسان بفطرته، وبذلك تكون غريزة البحث عن المنفعة والأمن من الضرر والخطر دافعا اخر للبحث عن الدين.
ومن هنا نحتاج إلى إثبات أهميّة البحث عن الدين ولو بنحو الإشارة، وبيان كيف أن المسائل الدينية تحظى بأهمية خاصة على مستوى حياة الإنسان ومصيره الأخروي، وأن البحث عن أي موضوع اخر لا يملك القيمة والأهمية التي يملكها البحث عن المواضيع الدينية.
وعلى ضوء ذلك نقول: حين يعلم شخص ما بوجود أفراد على امتداد التاريخ ادّعوا بأنهم مبعوثون من قِبل خالق الكون لهداية البشر لما فيه سعادتهم في الدنيا والاخرة، وقد بذلوا أقصى جهودهم في سبيل إبلاغ رسالاتهم، وهداية البشرية، وتحمّلوا كل ألوان المتاعب والتحدّيات، بل ضحّوا بأرواحهم في سبيل هذا الهدف، فإن هذا الشخص وبتأثير من الدافع الفطري فيه الذي يدعوه لجلب المنفعة ودفع الضرر، يتحرّك للبحث عن الدين ليرى مدى صحة دعوى الأنبياء، وهل يمتلكون الأدلة المنطقية الكافية على صحّة دعاواهم، وخاصّة حين يعلم بأنّ دعوتهم ورسالتهم تتضمّن البشرى بالسعادة والنعمة الخالدة، والإنذار بالشقاء والعذاب الأبدي، أي أن الإيمان بدعوتهم يتضمّن المنافع المحتملة اللانهائية، وأن عصيانهم تتعقّبه الأضرار والأخطار المحتملة اللانهائية، فلا يبقى أي مبرّر لمثل هذا الشخص في عدم الاهتمام بالدين، وفي اتّخاذ موقف اللامبالاة والتغافل عن محاولة البحث عن الدين.
ولهذا اعتبر القران الكريم أمثال هؤلاء الغافلين غير المبالين أضلّ من الأنعام ﴿أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾1، وفي آية أخرى يقول ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ﴾2.
1- الأعراف: 179.
2- الأنفال: 22.
شبهة وجوابها
قد يدعي البعض بأن الدافع للبحث عن شيء ما إنما يكون محرّكاً وفاعلاً فيما إذا كان احمال الوصول إلى نتيجة قوياً وعالياً، أما وإن احتمال الوصول إلى نتيجة في البحث عن الدين ضعيف جداً فلا يكون مثل هذا الاحتمال محركاً ولا يعبأ به أو يلتفت إليه، وعليه فمن الأفضل بذل الجهد في البحث عن مسائل تكون درجة الاحتمال فيها قوية ومؤثرة كما هو الحال في المسائل العلمية المعتمدة على التجربة.
والجواب: يقع من جهتين:
الجهة الأولى: إن الأمل في معالجة المسائل الدينية واحتمالها ليس ضعيفاً كما توهم، بل إن الأمل فيها ليس بأقل من المسائل التجريبية، خاصة وأن بعض المسائل العلمية التجريبية تحتاج إلى سنوات من الجهود المضنية والأمل فيها ضعيف جداً، ومع ذلك تبذل الجهود دون تردد ولا ملل، وهذا يفتح الباب للجهة الثانية من الجواب.
الجهة الثانية: إن الدافع والمحرك للبحث لا يعتمد فقط على درجة الاحتمال قوة وضعفاً فقط، بل لا بد من مراعاة درجة المحتمل أيضاً، وذلك لأن المحتمل يزود الاحتمال بقوة الدفع والتحريك باتجاه البحث، وهذا ما تجده في كثير من المسائل والقضايا، فلو احتملت قوياً 80% مثلاً أنك أضعت مبلغاً بسيطاً من المال لا يعتدّ به أثناء سيرك ليلاً، فإنك لن تبحث عنه، وما ذلك إلا لضعف المحتمل مع أن الاحتمال كان قوياً وكبيراً، بخلاف ما لو احتملت 20% أنك فقدت مبلغاً كبيراً من المال أثناءي سيرك ليلاً، ففي مثل هذه الحال ستجد في نفسك دافعاً قوياً للبحث عنه وستبدأ بالبحث مباشرة، وما ذلك إلا لأن المحتمل كان قوياً وكبيراً مهما كانت درجة الاحتمال ضعيفة وبسيطة.
والمحصل: إن لكلٍ من الاحتمال والمحتمل دوره في التحريك والدفع نحو البحث، وقصر النظر على قيمة الاحتمال مخالف للعقل والعقلاء.
وبما أن المنفعة المحتملة المترتبة على البحث عن الدين لا حدّ لها وهي كبيرة وقوية جداً بحيث تكفي لدفع الإنسان وتحريكه للبحث عنها فيجب على العامل في مثل هذه الحال أن يبحث عن مسائل الدين ويبذل الجهد في سبيل تحصيلها لأهميتها التي تفوق بدرجات قيمة المحتمل في أي مسألة علمية تجريبية.
هذا كله لو سلمنا أن درجة الاحتمال ضعيفة، فكيف لو كان هذا الاحتمال قوياً.