الرئيسية / من / طرائف الحكم / سنن النبي (صلى الله عليه وآله) العلامة الطباطبائي

سنن النبي (صلى الله عليه وآله) العلامة الطباطبائي

[33]

مقدمة ثانية بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله على نعمه وآلائه، والصلاة والسلام على محمد وآله، سيما ابن عمه ووصيه الذي هو حامل لوائه. لقد اهتم القرآن الكريم بثلاث مسائل استندت التعاليم الإسلامية عليها وبعث بها الأنبياء (عليهم السلام) في تبليغ رسالاتهم الحقة الضخمة وتبيين وتقرير تكاليف البشر وهي: العقائد والأخلاق والأحكام. وذلك كله أن الإنسان مركب من جسم وقلب وعقل، والأنبياء (عليهم السلام) كانت وظيفتهم السامية تغذية وتزكية الناس من حيث الجسم والروح والفكر. أما الاولى: وهي تغذية العقل ورفده بالأفكار الصحيحة وأخذ وضبط التجارب الثرية والتشبث بالاستدلالات القاطعة من خلال تعلم العلوم من المنطق والفلسفة والرياضيات وغيرها التي يتقوم العقل والفكر بها. وأما الثانية: وهي تربية الروح والقلب، أي السير في ملكوت الأشياء والتوجه إلى عالم النفس، ونفي الكثرة، والتنبه إلى عالم الوحدة، والخروج من عالم الظلمة إلى النور، والعروج من الطبيعة إلى عالم القدس، كما في دعاء شهر شعبان المعظم:

[34]

” إلهي هب لي كمال الانقطاع إليك، وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك، حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور، فتصل إلى معدن العظمة وتسير أرواحنا معلقة بعز قدسك “. وأما الثالثة: وهي سلامة وتقوية الجسم والأعضاء، وتعني التعبد بكل مادعا إليه الشارع المقدس من أحكام وعبادات وغيرها من الحقوق كما أشار إليه الإمام السجاد علي بن الحسين (عليهما السلام) في رسالة الحقوق. ومن هذا الباب: الآداب والسنن التي هي أخص من المندوبات والمستحبات المصطلحة في الفقه، وقد مر بكم آنفا شرحها في المقدمة الأولى، وقد تجنبنا إطالة الكلام، ولكنه أعجبني إيراد ما أفاده سيدنا الاستاذ العلامة محمد حسين الطباطبائي (قدس سره) في تفسيره الذائع الصيت ” الميزان ” في إيضاح معنى الأدب (1). وكنا نريد أن نختصر ونتصرف في كلامه الرائع والقيم حول معنى الأدب، ولكننا تنحينا عن ذلك بدليلين بارزين: الأول: أن العلامة الطباطبائي أفاد حق الكلام جامعا وشاملا ولا يجد ربنا أن نغير ونضيف في كلامه الثري، وهذا من سوء الأدب بحق الاستاذ ولا نحب أن نقترف ذلك لا سامح الله. الثاني: أن العلامة نفسه اختصر في إيضاحه هذا – على ما يفهم من تضاعيف عباراته – ورأينا أنه لا يستحسن أن نحمل عباراته فوق ما تحتمل من الاختصار، فيمكن أن تفوتنا المفاهيم الرفيعة التي أراد العلامة إثباتها. [كلام في معنى الأدب] وعلى هذا فالأحرى بنا إيراده كاملا كي نستوعب المضامين كلها إن شاء الله. ولا يخفى أن العلامة الطباطبائي ذكر في إيضاحه هذا سننا عن الأنبياء (عليهم السلام) وبودنا – إن اتيح لنا المجال – أن نخوض في كتب الأحاديث عن كثب ونستخرجها ونرتبها ونبوبها في كتاب مستقل إن شاء الله، وإليكم النص من الميزان:

(1) الميزان: ج 6 ص 256.

[35]

كلام في معنى الأدب نبحث فيه عن الأدب الذي أدب الله به أنبياءه ورسله (عليهم السلام) في عدة فصول: 1 – الأدب – على ما يتحصل من معناه – هو الهيئة الحسنة التي ينبغي أن يقع عليه الفعل المشروع إما في الدين أو عند العقلاء في مجتمعهم كآداب الدعاء وآداب ملاقاة الاصدقاء وإن شئت قلت: ظرافة الفعل. ولا يكون إلا في الامور المشروعة غير الممنوعة، فلا أدب في الظلم والخيانة والكذب ولا أدب في الاعمال الشنيعة والقبيحة، ولا يتحقق أيضا إلا في الأفعال الاختيارية التي لها هيئات مختلفة فوق الواحدة حتى يكون بعضها متلبسا بالأدب دون بعض، كأدب الأكل مثلا في الإسلام، وهو أن يبدأ فيه باسم الله ويختم بحمدالله ويؤكل دون الشبع إلى غير ذلك، وأدب الجلوس في الصلاة، وهو التورك على طمأنينة ووضع الكفين على الوركين فوق الركبتين والنظر إلى حجره ونحو ذلك. وإذا كان الأدب هو الهيئة الحسنة في الأفعال الاختيارية والحسن وإن كان بحسب أصل معناه وهو الموافقة لغرض الحياة مما لا يختلف فيه أنظار المجتمعات لكنه بحسب مصاديقه مما يقع فيه أشد الخلاف، وبحسب اختلاف الأقوام والامم والأديان والمذاهب وحتى المجتمعات الصغيرة المنزلية وغيرها في تشخيص الحسن والقبح يقع الاختلاف بينهم في آداب الأفعال. فربما كان عند قوم من الآداب ما لا يعرفه آخرون، وربما كان بعض الآداب المستحسنة عند قوم شنيعة مذمومة عند آخرين كتحية أول اللقاء، فإنه في الإسلام بالتسليم تحية من عند الله مباركة طيبة، وعند قوم برفع القلانس، وعند بعض برفع اليد حيال الرأس، وعند آخرين بسجدة أو ركوع أو انحناء بطأطأة الرأس، وكما أن في آداب ملاقاة النساء عند الغربيين امورا يستشنعها الإسلام ويذمها، إلى غير ذلك. غير أن هذه الاختلافات جميعا إنما نشأت في مرحلة تشخيص المصداق

[36]

وأما أصل معنى الأدب، وهو الهيئة الحسنة التي ينبغي أن يكون عليها الفعل فهو مما أطبق عليه العقلاء من الإنسان وأطبقوا أيضا على تحسينه فلا يختلف فيه اثنان. 2 – لما كان الحسن من مقومات معنى الأدب على ما ذكر في الفصل السابق، وكان مختلفا بحسب المقاصد الخاصة في المجتمعات المختلفة أنتج ذلك ضرورة اختلاف الآداب الاجتماعية الإنسانية فالأدب في كل مجتمع كالمرآة يحاكي خصوصيات أخلاق ذلك المجتمع العامة التي رتبها فيهم مقاصدهم في الحياة، وركزتها في نفوسهم عوامل اجتماعهم وعوامل مختلفة اخر طبيعية أو اتفاقية. وليس الآداب هي الأخلاق لما أن الأخلاق هي الملكات الراسخة الروحية التي تتلبس بها النفوس، ولكن الآداب هيئات حسنة مختلفة تتلبس بها الأعمال الصادرة عن الإنسان عن صفات مختلفة نفسية، وبين الأمرين بون بعيد. فالآداب من منشئات الأخلاق، والأخلاق من مقتضيات الاجتماع بخصوصه بحسب غايته الخاصة. فالغاية المطلوبة للإنسان في حياته هي التي تشخص أدبه في أعماله، وترسم لنفسه خطا لا يتعداه إذا أتى بعمل في مسير حياته والتقرب من غايته. 3 – وإذ كان الأدب يتبع في خصوصيته الغاية المطلوبة في الحياة فالأدب الإلهي الذي أدب الله سبحانه به أنبياءه ورسله (عليهم السلام) هو الهيئة الحسنة في الأعمال الدينية التي تحاكي غرض الدين وغايته، وهو العبودية على اختلاف الأديان الحقة بحسب كثرة موادها وقلتها وبحسب مراتبها في الكمال والرقي. والإسلام لما كان من شأنه التعرض لجميع جهات الحياة الإنسانية بحيث لا يشذ عنه شئ من شؤونها يسير أو خطير دقيق أو جليل فلذلك وسع الحياة أدبا، ورسم في كل عمل هيئة حسنة تحاكي غايته. وليس له غاية عامة إلا توحيد الله سبحانه في مرحلتي الاعتقاد والعمل جميعا، أي أن يعتقد الإنسان أن له إلها هو الذي منه بدأ كل شئ وإليه يعود كل

[37]

شئ، له الأسماء الحسنى والأمثال العليا، ثم يجري في الحياة ويعيش بأعمال تحاكي بنفسها عبوديته وعبودية كل شئ عنده لله الحق عز اسمه، وبذلك يسري التوحيد في باطنه وظاهره، وتظهر العبودية المحضة من أقواله وأفعاله وسائر جهات وجوده ظهورا لا ستر عليه ولا حجاب يغطيه. فالأدب الإلهي – أو أدب النبوة – هي هيئة التوحيد في الفعل. 4 – من المعلوم بالقياس ويؤيده التجربة القطعية أن العلوم العملية – وهي التي تتعلم ليعمل بها – لا تنجح كل النجاح ولا تؤثر أثرها الجميل دون أن تلقى إلى المتعلم في ضمن العمل، لأن الكليات العلمية ما لم تنطبق على جزئياتها ومصاديقها تتثاقل النفس في تصديقها والإيمان بصحتها لاشتغال نفوسنا طول الحياة بالجزئيات الحسية وكلالها بحسب الطبع الثانوي من مشاهدة الكليات العقلية الخارجة عن الحس، فالذي صدق حسن الشجاعة في نفسها بحسب النظر الخالي عن العمل ثم صادف موقفا من المواقف الهائلة التي تطير فيها القلوب أدى به ذلك إلى النزاع بين عقله الحاكم بحسن الشجاعة ووهمه الجاذب إلى لذة الاحتراز من تعرض الهلكة الجسمانية وزوال الحياة المادية الناعمة، فلا تزال النفس تتذبذب بين هذا وذاك، وتتحير في تأييد الواحد من الطرفين المتخاصمين، والقوة في جانب الوهم لأن الحس معه. فمن الواجب عند التعليم أن يتلقى المتعلم الحقائق العلمية مشفوعة بالعمل حتى يتدرب بالعمل ويتمرن عليه لتزول بذلك الاعتقادات المخالفة الكائنة في زوايا نفسه ويرسخ التصديق بما تعلمه في النفس، لأن الوقوع أحسن شاهد على الإمكان. ولذلك نرى أن العمل الذي لم تعهد النفس وقوعه في الخارج يصعب انقيادها له، فإذا وقع لأول مرة بدا كأنه انقلب من امتناع إلى إمكان وعظم أمر وقوعه وأورث في النفس قلقا واضطرابا، ثم إذا وقع ثانيا وثالثا هان أمره وانكسر سورته والتحق بالعاديات التي لا يعبأ بأمرها، وإن الخير عادة كما أن الشر عادة.

[38]

ورعاية هذا الاسلوب في التعليمات الدينية وخاصة في التعليم الديني الإسلامي من أوضح الامور، فلم يأخذ شارع الدين في تعليم مؤمنيه بالكليات العقلية والقوانين العامة قط بل بدأ بالعمل وشفعه بالقول والبيان اللفظي، فإذا استكمل أحدهم تعلم معارف الدين وشرائعه استكمله وهو مجهز بالعمل الصالح مزود بزاد التقوى. كما أن من الواجب أن يكون المعلم المربي عاملا بعلمه فلا تأثير في العلم إذا لم يقرن بالعمل، لأن للفعل دلالة كما أن للقول دلالة، فالفعل المخالف للقول يدل على ثبوت هيئة مخالفة في النفس يكذب القول فيدل على أن القول مكيدة ونوع حيلة يحتال بها قائله لغرور الناس واصطيادهم. ولذلك نرى الناس لا تلين قلوبهم ولا تنقاد نفوسهم للعظة والنصيحة إذا وجدوا الواعظ به أو الناصح بإبلاغه غير متلبس بالعمل متجافيا عن الصبر والثبات في طريقه، وربما قالوا: ” لو كان ما يقوله حقا لعمل به ” إلا أنهم ربما اشتبه عليهم الأمر في الاستنتاج منه، فإن النتيجة أن القول ليس بحق عند القائل، إذ لو كان حقا عنده لعمل به، وليس ينتج أن القول ليس بحق مطلقا كما ربما يستنتجونه. فمن شرائط التربية الصالحة أن يكون المعلم المربي نفسه متصفا بما يصفه للمتعلم متلبسا بما يريد أن يلبسه، فمن المحال العادي أن يربي المربي الجبان شجاعا باسلا، أو يتخرج عالم حر في آرائه وأنظاره من مدرسة التعصب واللجاج وهكذا. قال تعالى: ” أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون ” (1) وقال: ” أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم ” (2) وقال حكاية عن قول شعيب لقومه: ” وما اريد أن اخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن اريد إلا الإصلاح ما استطعت ” (3) إلى غير ذلك من الآيات.

(1) يونس: 35. (2) البقرة: 44. (3) هود: 88.

[39]

فلذلك كله كان من الواجب أن يكون المعلم المربي ذا إيمان بمواد تعليمه وتربيته. على أن الإنسان الخالي عن الإيمان بما يقوله حتى المنافق المتستر بالأعمال الصالحة المتظاهر بالإيمان الصريح الخالص لا يتربى بيده إلا من يمثله في نفسه الخبيثة، فإن اللسان وإن أمكن إلقاء المغايرة بينه وبين الجنان بالتكلم بما لا ترضى به النفس ولا يوافقه السر إلا أن الكلام من جهة اخرى فعل، والفعل من آثار النفس ورشحاتها، وكيف يمكن مخالفة الفعل لطبيعة فاعله ؟ فالكلام من غير جهة الدلالة اللفظية الوضعية حامل لطبيعة نفس المتكلم من إيمان أو كفر أو غير ذلك، وواضعها وموصلها إلى نفس المتعلم البسيطة الساذجة فلا يميز جهة صلاحه – وهو جهة دلالته الوضعية – من جهة فساده – وهو سائر جهاته – إلا من كان على بصيرة من الأمر، قال تعالى في وصف المنافقين لنبيه (صلى الله عليه وآله): ” ولتعرفنهم في لحن القول ” (1) فالتربية المستعقبة للأثر الصالح هو ما كان المعلم المربي في هذا إيمان بما يلقيه إلى تلامذته مشفوعا بالعمل الصالح الموافق لعلمه، وأما غير المؤمن بما يقوله أو غير العامل على طبق علمه فلا يرجى منه خير. ولهذه الحقيقة مصاديق كثيرة وأمثلة غير محصاة في سلوكنا معاشر الشرقيين والإسلاميين خاصة في التعليم والتربية في معاهدنا الرسمية وغير الرسمية، فلا يكاد تدبير ينفع ولا سعي ينجح. وإلى هذا الباب يرجع ما نرى أن كلامه تعالى يشتمل على حكاية فصول من الأدب الإلهي المتجلي من أعمال الأنبياء والرسل (عليهم السلام) مما يرجع إلى الله سبحانه من أقسام عباداتهم وأدعيتهم وأسئلتهم، أو يرجع إلى الناس في معاشراتهم ومخاطباتهم، فإن إيراد الأمثلة في التعليم نوع من التعليم العملي بإشهاد العمل. 5 – قال الله تعالى بعد ذكر قصة إبراهيم في التوحيد مع قومه: ” وتلك حجتنا

(1) محمد: 30.

[40]

آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم * ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين * وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين * وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين * ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم * ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون * اولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين * اولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ” (1) يذكر تعالى أنبياءه الكرام (عليهم السلام) ذكرا جامعا، ثم يذكر أنه أكرمهم بالهداية الإلهية وهي الهداية إلى التوحيد فحسب، والدليل عليه قوله: ” ولو أشركوا لحبط عنهم ” فلم يذكر منافيا لما حباهم به من الهداية إلا الشرك، فلم يهدهم إلا إلى التوحيد. غير أن التوحيد حكمه سار إلى أعمالهم متمكن فيها، والدليل عليه قوله: ” لحبط عنهم ما كانوا يعملون ” فلولا أن الشرك جار في الأعمال متسرب فيها لم يستوجب حبطها، فالتوحيد المنافي له كذلك. ومعنى سراية التوحيد في الأعمال كون صورها تمثل التوحيد، وتحاكيه محاكاة المرآة لمرئيها، بحيث لو فرض أن التوحيد تصور لكان هو تلك الأعمال بعينها، ولو أن تلك الأعمال تجردت اعتقادا محضا لكانت هي هو بعينه. وهذا المعنى كثير المصداق في الصفات الروحية، فإنك ترى أعمال المتكبر يمثل ما في نفسه من صفة الكبر والخيلاء، وكذلك البائس المسكين يحاكي جميع حركاته وسكناته ما في سره من الذلة والاستكانة وهكذا. ثم أدب تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله) فأمره أن يقتدي بهداية من سبقه من الأنبياء (عليهم السلام) لا بهم، والاقتداء إنما يكون في العمل دون الاعتقاد، فإنه غير اختياري بحسب نفسه،

(1) الأنعام: 83 – 90.

[41]

أي أن يختار أعمالهم الصالحة المبنية على التوحيد الصادرة عنهم عن تأديب عملي إلهي. ونعني بهذا التأديب العملي ما يشير إليه قوله تعالى: ” وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين ” (1). فإن إضافة المصدر في قوله ” فعل الخيرات… الخ ” تدل على أن المراد به الفعل الصادر منهم من خيرات فعلوها وصلاة أقاموها وزكاة آتوها دون مجرد الفعل المفروض، فهذا الوحي المتعلق بالأفعال في مرحلة صدورها منهم وحي تسديد وتأديب، وليس هو وحي النبوة والتشريع، ولو كان المراد به وحي النبوة لقيل: ” وأوحينا إليهم أن افعلوا الخيرات وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ” كما في قوله تعالى: ” ثم أوحينا إليك أن اتبع ” (2) وقوله: ” وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة ” (3) إلى غير ذلك من الآيات، ومعنى وحي التسديد أن يخص الله عبدا من عباده بروح قدسي يسدده في أعمال الخير والتحرز عن السيئة كما يسددنا الروح الإنساني في التفكر في الخير والشر، والروح الحيواني في اختيار ما يشتهيه من الجذب والدفع بالإرادة، وسيجئ الكلام المبسوط في ذلك إن شاء الله. وبالجملة فقوله: ” فبهداهم اقتده ” تأديب إلهي إجمالي له (صلى الله عليه وآله) بأدب التوحيد المنبسط على أعمال الأنبياء (عليهم السلام) المنزهة من الشرك. ثم قال تعالى – بعد ما ذكر عدة من أنبيائه (عليهم السلام) – في سورة مريم: ” اولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا * فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا * إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فاولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون

(1) الأنبياء: 73. (2) النحل: 123. (3) يونس: 87.

[42]

شيئا ” (1). فذكر تعالى أدبهم العام في حياتهم أنهم يعيشون على الخضوع عملا وعلى الخشوع قلبا لله عز اسمه فإن سجودهم عند ذكر آيات الله تعالى مثال الخضوع، وبكاءهم وهو لرقة القلب وتذلل النفس آية الخشوع، وهما معا كناية عن استيلاء صفة العبودية على نفوسهم بحيث كلما ذكروا بآية من آيات الله بان أثره في ظاهرهم كما استولت الصفة على باطنهم، فهم على أدبهم الإلهي وهو سمة العبودية إذا خلوا مع ربهم وإذا خلوا للناس، فهم يعيشون على أدب إلهي مع ربهم ومع الناس جميعا. ومن الدليل على أن المراد به الأدب العام قوله تعالى في الآية الثانية: ” فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات ” فإن الصلاة وهي التوجه إلى الله هي حالهم مع ربهم واتباع الشهوات حالهم مع غيرهم من الناس، وحيث قوبل اولئك بهؤلاء أفاد الكلام أن أدب الأنبياء العام أن يراجعوا ربهم بسمة العبودية، وأن يسيروا بين الناس بسمة العبودية، أي تكون بنية حياتهم مبنية على أساس أن لهم ربا يملكهم ويدبر أمرهم، منه بدؤهم وإليه مرجعهم. فهذا هو الأصل في جميع أحوالهم وأعمالهم. والذي ذكره تعالى من استثناء التائبين منهم أدب آخر إلهي بدأ فيه بآدم (عليه السلام) أول الأنبياء حيث قال: ” وعصى آدم ربه فغوى * ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى ” (2) وسيجئ بعض القول فيه إن شاء الله تعالى. وقال تعالى: ” ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرا مقدورا * الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا ” (3). أدب عام أدب الله سبحانه به أنبياءه (عليهم السلام) وسنة جارية له فيهم أن لا يتحرجوا

(1) مريم: 58 – 60. (2) طه: 121 – 122. (3) الأحزاب: 38 و 39.

شاهد أيضاً

الحجاب النوراني والحجاب الظلماني

لكن أنواع ذلك الجلال هو اشراقاتي وهو لفرط العظمة والنورانية واللانهائية، يبعد عنها العاشق بعتاب ...