الرئيسية / من / طرائف الحكم / سنن النبي (صلى الله عليه وآله) العلامة الطباطبائي

سنن النبي (صلى الله عليه وآله) العلامة الطباطبائي

[78]

نعم لو كان الأمر على ضرب من الأهمية القاضية بزيادة الاهتمام به أو خرج العبد المأمور عن حكم الفطرة وزي العبودية جاز بحكم آخر من قبل الفطرة أن يوجه المولى أو كل من بيده الأمر إليه من الحكم ما هو خارج عن سعته المعتادة، كأن يأمره بالاحتياط بمجرد الشك، واجتناب النسيان والخطأ إذا اشتد الاهتمام بالأمر، نظير وجوب الاحتياط في الدماء والفروج والأموال في الشرع الإسلامي، أو يحمل عليه الكلفة ويزيد في التضييق عليه كلما زاد في اللجاج وألح في المسألة، كما أخبر الله بنظائر ذلك في بني إسرائيل. وكيف كان فقوله: ” لا يكلف الله نفسا ” إما ذيل كلام النبي (صلى الله عليه وآله) وإنما قالوه تقدمة لقولهم: ” ربنا لا تؤاخذنا… الخ ” ليجري مجرى الثناء عليه تعالى ودفعا لما يتوهم أن الله سبحانه يؤاخذ بما فوق الطاقة ويكلف بالحرجي من الحكم، فيندفع بأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها وأن الذي سألوه بقولهم: ” ربنا لا تؤاخذنا… الخ ” إنما هو الأحكام بعناوين ثانوية ناشئة من قبل الحكم أو من قبل المكلفين بالعناد لا من قبله تعالى. وإما كلام له تعالى موضوع بين فقرتين من دعائهم المحكي في كلامه أعني قولهم: ” غفرانك ربنا… الخ ” وقولهم: ” ربنا لا تؤاخذنا… الخ ” ليفيد ما مر من الفائدة ويكون تأديبا وتعليما لهم منه تعالى فيكون جاريا مجرى كلامهم لأنهم مؤمنون بما أنزل الله، وهو منه، وعلى أي حال فهو مما يعتمد عليه كلامهم ويتكئ عليه دعاؤهم. ثم ذكر بقية دعائهم وإن شئت فقل: طائفة اخرى من مسائلهم: ” ربنا لا تؤاخذنا… الخ ” ” ربنا ولا تحمل علينا إصرا… الخ ” ” ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا ” وكأن مرادهم به العفو عما صدر منهم من النسيان والخطأ وسائر موجبات الحرج ” واغفر لنا وارحمنا ” في سائر ذنوبنا وخطيئاتنا، ولا يلزم من ذكر المغفرة هاهنا التكرار بالنظر إلى قولهم سابقا: ” غفرانك ربنا ” لأنها كلمة حكيت عنهم لفائدة قياس حالهم وأدبهم مع ربهم إلى أهل الكتاب في معاملتهم مع

[79]

ربهم وبالنسبة إلى كتابهم المنزل إليهم، على أن مقام الدعاء لا يمانع التكرار كسائر المقامات. واشتمال هذا الدعاء على أدب العبودية في التمسك بذيل الربوبية مرة بعد مرة والاعتراف بالمملوكية والولاية، والوقوف موقف الذلة ومسكنة العبودية قبال رب العزة مما لا يحتاج إلى بيان. وفي القرآن الكريم تأديبات إلهية وتعليمات عالية للنبي (صلى الله عليه وآله) بأقسام من الثناء يثني بها على ربه أو المسألة التي يسأله بها كما في قوله تعالى: ” قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء ” إلى آخر الآيتين (1) وقوله تعالى: ” قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك ” (2) وقوله تعالى: ” قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى ” (3) وقوله تعالى: ” قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله… الخ ” (4) وقوله تعالى: ” وقل رب زدني علما ” (5) وقوله: ” وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين… الخ ” (6) إلى غير ذلك من الآيات وهي كثيرة جدا. ويجمعها جميعا أنها تشتمل على أدب بارع أدب الله به رسوله (صلى الله عليه وآله) وندب هو إليه امته. 7 – رعايتهم الأدب عن ربهم فيما حاوروا قومهم، وهذا أيضا باب واسع وهو ملحق بالأدب في الثناء على الله سبحانه، وهو من جهة اخرى من أبواب التبليغ العملي الذي لا يقصر أو يزيد أثرا على التبليغ القولي. وفي القرآن من ذلك شئ كثير، قال تعالى في محاورة جرت بين نوح وقومه: ” قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين * قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين * ولا ينفعكم نصحي

(1) آل عمران: 26 و 27. (2) الزمر: 46. (3) النمل: 59. (4) الأنعام: 162 و 163. (5) طه: 114. (6) المؤمنون: 97.

[80]

إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون ” (1) ينفي (عليه السلام) عن نفسه ما نسبوا إليه من إتيان الآية ليعجزوه به، وينسبه إلى ربه ويبالغ في الأدب بقوله: ” إن شاء ” ثم بقوله: ” وما أنتم بمعجزين ” أي لله، ولذلك نسبه إليه تعالى بلفظ ” الله ” دون لفظ ” ربي ” لأن الله هو الذي ينتهي إليه كل جمال وجلال، ولم يكتف بنفي القدرة على إتيان الآية عن نفسه وإثباته حتى ثناه بنفي نفع نصحه لهم إن لم يرد الله أن ينتفعوا به، فأكمل بذلك نفي القدرة عن نفسه وإثباته لربه، وعلل ذلك بقوله: ” هو ربكم وإليه ترجعون “. فهذه محاورة غاصة بالأدب الجميل في جنب الله سبحانه حاور بها نوح (عليه السلام) الطغاة من قومه محاجا لهم، وهو أول نبي من الأنبياء (عليهم السلام) فتح باب الاحتجاج في الدعوة إلى التوحيد، وانتهض على الوثنية على ما يذكره القرآن الشريف. وهذا أوسع هذه الأبواب مسرحا لنظر الباحث في أدب الأنبياء (عليهم السلام) يعثر على لطائف من سيرتهم المملوءة أدبا وكمالا، فإن جميع أقوالهم وأفعالهم وحركاتهم وسكناتهم مبنية على أساس المراقبة والحضور العبودي، وإن كانت صورتها صورة عمل من غاب عن ربه وغاب عنه ربه سبحانه، قال تعالى: ” ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون * يسبحون الليل والنهار لا يفترون ” (2). وقد حكى الله تعالى في كلامه محاورات كثيرة عن هود وصالح وإبراهيم وموسى وشعيب ويوسف وسليمان وعيسى ومحمد (صلى الله عليه وآله) وغيرهم من الأنبياء (عليهم السلام) في حالات لهم مختلفة كالشدة والرخاء والحرب والسلم والإعلان والإسرار والتبشير والإنذار وغير ذلك. تدبر في قوله تعالى: ” فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي ” (3) يذكر موسى (عليه السلام) إذ رجع إلى قومه وقد امتلأ غيظا

(1) هود: 32 – 34. (2) الأنبياء: 19 و 20. (3) طه: 86.

[81]

وحنقا لا يصرفه ذلك عن رعاية الأدب في ذكر ربه. وقوله تعالى: ” وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون ” (1) وقوله تعالى: ” قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين * قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين ” (2) يذكر يوسف في خلاء المراودة الذي يملك من الإنسان كل عقل، ويبطل عنده كل حزم لا يشغله ذلك عن التقوى ثم عن رعاية الأدب في ذكر ربه ومع غيره. وقوله تعالى: ” فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم ” (3) وهذا سليمان (عليه السلام) وقد اوتي من عظيم الملك ونافذ الأمر وعجيب القدرة أن أمر بإحضار عرش ملكة سبأ من سبأ إلى فلسطين فاحضر في أقل من طرفة عين فلم يأخذه كبر النفس وخيلاؤها، ولم ينس ربه، ولم يمكث دون أن أثنى على ربه في ملائه بأحسن الثناء. وليقس ذلك إلى ما ذكره الله من قصة نمرود مع إبراهيم (عليه السلام) إذ قال: ” ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا احيي واميت ” (4) وقد قال ذلك إذ احضر رجلين من السجن فأمر بقتل أحدهما وإطلاق الآخر. أو إلى ما ذكره فرعون مصر إذ قال كما حكاه الله: ” يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون * أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين * فلولا القي عليه أسورة من ذهب ” (5) يباهي بملك مصر وأنهاره ومقدار من الذهب كان يملكه هو وملأه ولا يلبث دون أن يقول كما حكى الله: ” أنا

(1) يوسف: 23. (2) يوسف: 91 و 92. (3) النمل: 40. (4) البقرة: 258. (5) الزخرف: 51 – 53.

[82]

ربكم الأعلى ” (1) وهو الذي كانت تستذله آيات موسى يوما بعد يوم من طوفان وجراد وقمل وضفادع وغير ذلك. وقوله تعالى: ” إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا ” (2) وقوله: ” وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا – إلى أن قال: – فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير ” (3) فلم يهزهزه (صلى الله عليه وآله) شدة الأمر والهول والفزع في يوم الخوف أن يذكر أن ربه معه ولم تنجذب نفسه الشريفة إلى ماكان يهدده من الأمر، وكذا ما أسر به إلى بعض أزواجه في الخلوة في اشتماله على رعاية الأدب في ذكر ربه. وعلى وتيرة هذه النماذج المنقولة تجري سائر ما وقع في قصصهم (عليهم السلام) في القرآن الكريم من الأدب الرائع والسنن الشريفة، ولولا أن الكلام قد طال بنا في هذه الأبحاث لاستقصينا قصصهم وأشبعنا فيها البحث. 8 – أدب الأنبياء (عليهم السلام) مع الناس في معاشرتهم ومحاورتهم، مظاهر هذا القسم هي الاحتجاجات المنقولة عنهم في القرآن مع الكفار، والمحاورات التي حاوروا بها المؤمنين منهم، ثم شئ يسير من سيرتهم المنقولة. أما الأدب في القول فإنك لا تجد فيما حكي من شذرات أقوالهم مع العتاة والجهلة أن يخاطبوهم بشئ مما يسوؤهم أو شتم أو إهانة أو إزراء، وقد نال منهم المخالفون بالشتم والطعن والاستهزاء والسخرية كل منال فلم يجيبوهم إلا بأحسن القول وأنصح الوعظ معرضين عنهم بسلام ” وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ” (4). قال تعالى: ” فقال الملأ الذين كفروا من قومه – يعني قوم نوح – ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين * قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني

(1) النازعات: 24. (2) التوبة: 40. (3) التحريم: 3. (4) الفرقان: 63.

[83]

رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ” (1). وقال تعالى حكاية عن عاد قوم هود: ” إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله وأشهدوا أني برئ مما تشركون * من دونه… ” (2) يريدون باعتراء بعض آلهتهم إياه بسوء ابتلائه (عليه السلام) بمثل جنون أو سفاهة ونحو ذلك. وقال تعالى حكاية عن آزر: ” قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا * قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا ” (3). وقال تعالى حكاية عن قوم شعيب (عليه السلام): ” قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين * قال يا قوم ليس بي سفاهه ولكني رسول من رب العالمين * ابلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين ” (4). وقال تعالى: ” قال فرعون وما رب العالمين * قال رب السماوات والأرض وما بينهما – إلى أن قال: – قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون * قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون ” (5). وقال تعالى حكاية عن قوم مريم: ” قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا يا اخت هارون ما كان أبوك امرء سوء وما كانت امك بغيا * فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا * قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا… الخ ” (6). وقال تعالى يسلي نبيه (صلى الله عليه وآله) فيما رموه به من الكهانة والجنون والشعر: ” فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون * أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون * قل تربصوا فإني معكم من المتربصين ” (7). وقال: ” وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا * انظر كيف ضربوا لك

(1) هود: 27 و 28. (2) هود: 54 و 55. (3) مريم: 46 و 47. (4) الأعراف: 66 – 68. (5) الشعراء: 24 – 28. (6) مريم: 27 – 30. (7) الطور: 29 – 31.

[84]

الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا ” (1). إلى غير ذلك من أنواع الشتم والرمي والإهانة التي حكي عنهم في القرآن، ولم ينقل عن الأنبياء (عليهم السلام) أن يقابلوهم بخشونة أو بذاء بل بالقول الصواب والمنطق الحسن اللين إتباعا للتعليم الإلهي الذي لقنهم خير القول وجميل الأدب، قال تعالى خطابا لموسى وهارون (عليهما السلام): ” اذهبا إلى فرعون إنه طغى * وقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى ” (2) وقال لنبيه (صلى الله عليه وآله): ” وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا ” (3). ومن أدبهم في المحاورة والخطاب أنهم كانوا ينزلون أنفسهم منزلة الناس فيكلمون كل طبقة من طبقاتهم على قدر منزلته من الفهم، وهذا ظاهر بالتدبر فيما حكي من محاوراتهم الناس على اختلافهم المنقولة عن نوح ومن بعده، وقد روى الفريقان عن النبي (صلى الله عليه وآله): إنا معاشر الأنبياء امرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم (4). وليعلم أن البعثة بالنبوة إنما بنيت على أساس الهداية إلى الحق وبيانه والانتصار له، فعليهم أن يتجهزوا بالحق في دعوتهم، وينخلعوا عن الباطل ويتقوا شبكات الضلال أيا ما كانت، سواء وافق ذلك رضا الناس أو سخطهم، واستعقب طوعهم أو كرههم، ولقد ورد منه تعالى أشد النهي في ذلك لأنبيائه وأبلغ التحذير حتى عن اتباع الباطل قولا وفعلا بغرض نصرة الحق، فإن الباطل باطل سواء وقع في طريق الحق أو لم يقع، والدعوة إلى الحق لا يجامع تجويز الباطل ولو في طريق الحق، والحق الذي يهدي إليه الباطل وينتجه ليس بحق من جميع جهاته. ولذلك قال تعالى: ” وما كنت متخذ المضلين عضدا ” (5) وقال: ” ولولا أن

(1) الفرقان: 8 و 9. (2) طه: 43 و 44. (3) الإسراء: 28. (4) الكافي: كتاب العقل والجهل ج 1 ص 23 ح 15، وموسوعة أطراف الحديث النبوي: ج 3 ص 479 نقلا عن الضعفاء للعقيلي. (5) الكهف: 51.

[85]

ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا * إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا ” (1) فلا مساهلة ولا ملابسة ولا مداهنة في حق ولا حرمة لباطل. ولذلك جهز الله سبحانه رجال دعوته وأولياء دينه وهم الأنبياء (عليهم السلام) بما يسهل لهم الطريق إلى اتباع الحق ونصرته، قال تعالى: ” ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرا مقدورا * الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا ” (2) فأخبر أنهم لا يتحرجون فيما فرض الله لهم ويخشونه ولا يخشون أحدا غيره، فليس أي مانع من إظهارهم الحق ولو بلغ بهم أي مبلغ وأوردهم أي مورد. ثم وعدهم النصر فيما انتهضوا له فقال: ” ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون ” (3) وقال: ” إنا لننصر رسلنا ” (4). ولذلك نجدهم فيما حكي عنهم لا يبالون شيئا في إظهار الحق وقول الصدق وإن لم يرتضه الناس واستمروه في مذاقهم، قال تعالى حاكيا عن نوح يخاطب قومه: ” ولكني أراكم قوما تجهلون ” (5) وقال عن قول هود: ” إن أنتم إلا مفترون ” (6) وقوله لقومه: ” قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان ” (7) وقال تعالى يحكي عن لوط: ” بل أنتم قوم مسرفون ” (8) وحكى عن إبراهيم من قوله لقومه: ” اف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون ” (9) وحكى عن موسى في جواب قول فرعون له: ” إني لأظنك يا موسى مسحورا * قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبورا ” (10) أي ممنوعا

(1) الاسراء: 74 و 75. (2) الأحزاب: 38 و 39. (3) الصافات: 171 – 173. (4) غافر: 51. (5) هود: 29. (6) هود: 50. (7) الأعراف: 71. (8) الأعراف: 81. (9) الأنبياء: 67. (10) الإسراء: 101 و 102.

[86]

من الإيمان بالحق مطرودا هالكا، إلى غير ذلك من الموارد. فهذه كلها من رعاية الأدب في جنب الحق واتباعه، ولا مطلوب أعز منه ولا بغية أشرف منه وأغلى، وإن كان في بعضها ما ينافي الأدب الدائر بين الناس لابتناء حياتهم على اتباع جانب الهوى والسلوك إلى أمتعة الحياة بمداهنة المبطلين والخضوع والتملق إلى المفسدين والمترفين سياسة في العمل. وجملة الأمر أن الأدب كما تقدم في أول هذه المباحث إنما يتأتى في القول السائغ والعمل الصالح، ويختلف حينئذ باختلاف مسالك الحياة في المجتمعات والآراء والعقائد التي تتمكن فيها وتتشكل هي عنها، والدعوة الإلهية التي يستند إليها المجتمع الديني إنما تتبع الحق في الاعتقاد والعمل، والحق لا يخالط الباطل ولا يمازجه ولا يستند إليه ولا يعتضد به، فلا محيص عن إظهاره واتباعه، والأدب الذي يتأتى فيه أن يسلك في طريق الحق أحسن المسالك ويتزيى فيه بأظرف الأزياء كاختيار لين القول إذا صح أن يتكلم بلينة وخشونة، واختيار الاستعجال في الخير إذا أمكن فيه كل من المسارعة والتبطي. وهذا هو الذي يأمر به في قوله تعالى: ” وكتبنا له – أي لموسى – في الألواح من كل شئ موعظة وتفصيلا لكل شئ فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها ” (1) وبشر عباده الآخذين به في قوله: ” فبشر عباد * الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه اولئك الذين هداهم الله واولئك هم اولو الألباب ” (2) فلا أدب في باطل ولا أدب في ممزوج من حق وباطل، فإن الخارج من صريح الحق ضلال لا يرتضيه ولي الحق وقد قال: ” فماذا بعد الحق إلا الضلال ” (3). وهذا هو الذي دعا أنبياء الحق إلى صراحة القول وصدق اللهجة، وإن كان ذلك في بعض الموارد مما لا ترتضيه سنة المداهنة والتساهل والأدب الكاذب الدائر في المجتمعات غير الدينية.

(1) الأعراف: 145. (2) الزمر: 17 و 18. (3) يونس: 32.

[87]

ومن أدبهم مع الناس في معاشرتهم وسيرتهم فيهم احترام الضعفاء والأقوياء على حد سواء، والإكثار والمبالغة في حق أهل العلم والتقوى منهم، فإنهم لما بنوا على أساس العبودية وتربية النفس الإنسانية تفرع عليه تسوية الحكم في الغني والفقير، والصغير والكبير، والرجل والمرأة، والمولى والعبد، والحاكم والمحكوم، والأمير والمأمور، والسلطان والرعية، وعند ذلك لغى تمايز الصفات، واختصاص الأقوياء بمزايا اجتماعية، وبطل تقسم الوجدان والفقدان، والحرمان والتنعم، والسعادة والشقاء، بين صفتي الغنى والفقر، والقوة والضعف، وأن للقوي والغني من كل مكانة أعلاها، ومن كل عيشة أنعمها، ومن كل مجاهدة أروحها وأسهلها، ومن كل وظيفة أخفها، بل كان الناس في ذلك شرعا سواء، قال، ” يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ” (1) وتبدل استكبار الأقوياء بقوتهم ومباهاة الأغنياء بغنيتهم تواضعا للحق، ومسارعة إلى المغفرة والرحمة، وتسابقا في الخيرات، وجهادا في سبيل الله، وابتغاء لمرضاته. واحترم حينئذ للفقراء كما للأغنياء، وتؤدب مع الضعفاء كما مع الأغنياء، بل اختص هؤلاء بمزيد شفقة ورأفة ورحمة، قال الله تعالى يؤدب نبيه (صلى الله عليه وآله): ” واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا ” (2) وقال تعالى: ” ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شئ وما من حسابك عليهم من شئ فتطردهم فتكون من الظالمين ” (3) وقال: ” لا تمدن عينيك إلى ما متعنابه أزواجا منهم ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين. وقل إني أنا النذير المبين ” (4). ويشتمل على هذا الأدب الجميل ما حكاه الله من محاورة بين نوح (عليه السلام)

(1) الحجرات: 13. (2) الكهف: 28. (3) الأنعام: 52. (4) الحجر: 88 و 89.

شاهد أيضاً

اليوم النوعي للمقاومة الإسلامية.. إما يذعن العدو الآن أو الآتي اعظم

عبد الحسين شبيب حتى تاريخه؛ يمكن القول إن الرابع والعشرين من تشرين الثاني/ نوفمبر 2024 ...