عجائب شتّى في شخصيّة الإمام عليّ عليه السلام
15 سبتمبر,2022
شخصيات أسلامية
442 زيارة
الخصائص والصفات الظاهريّة لشخصيّة الإمام علي عليه السلام
لو شئنا الاكتفاء بإيراد بضعة جمل بحقّ شخصيّة أمير المؤمنين عليه السلام وأعرضنا عن ذكر التفاصيل عن هذه الشخصيّة التاريخيّة الاستثنائيّة العظيمة وهي تفاصيل لا تستوفيها الكتب لقلنا: إنّ أمير المؤمنين” عليه السلام يدخل في عداد الشخصيّات المحبوبة اليوم وبالأمس، ليس بين الشيعة فحسب وإنّما بين المسلمين كافّة، بل وبين أحرار العالم قاطبة حتّى من غير المسلمين، وقلّما تجد شخصيّة كبرى حتّى بين الأنبياء عليه السلام الإلهيّين حظيت حتّى بين غير أتباعها ومريديها بمثل ما حظيت به شخصيّة أمير المؤمنين عليه السلام من الثناء والتمجيد.
لا شكّ في أنّ معرفتنا ضئيلة ورؤيتنا قاصرة، وإلّا فهو عليه السلام ذو شخصيّة معنويّة خارقة.
ونحن غير قادرين على استكناه كلّ أبعاد شخصيّته على الوجه الصحيح، وخاصّة الجوانب المعنويّة والإلهيّة منها، وهي جوانب يتعسّر فهمها حتّى على الكثير من أولياء الله.
30- كلمة الإمام الخامنئي دام ظله ، في تاريخ: 20/ ذي الحجة/ 1421ﻫ.ق.
بَيْدَ أنّ الأبعاد الظاهريّة لشخصيّته كان لها من الجاذبيّة والروعة ما جعلها تنال الإعجاب والحبّ, حتّى لدى من لا يفهمون القضايا والأبعاد المعنويّة للشخصيّات الإنسانيّة وأولياء الله.
كان أمير المؤمنين عليه السلام يتّصف في مختلف أدوار حياته؛ سواء في مقتبل شبابه؛ أي في أوائل بعثة الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم ، أم في عنفوان شبابه؛ أي في الفترة الّتي وقعت فيها الهجرة إلى المدينة وكان حينها شاباً في العشرين ونيّف من العمر أم في مرحلة ما بعد رحلة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ؛ حينما واجه تلك الابتلاءات والمحن العسيرة، أم في السنوات الأخيرة من حياته، أي في السنوات الخمس الأخيرة من عمره حين أخذ بزمام الخلافة وتصدّى للمسؤوليّة، كان طوال هذه الخمسين سنة تقريباً، يتّصف بخصائص بارزة يمكن للجميع وخاصّة الشباب استقاء الدروس منها.
غالباً ما تحمل الشخصيّات التاريخيّة العظمى بعض الخصائص منذ شبابها، بل منذ صباها, أو أنّها تخلق تلك الخصائص في ذاتها.
إنّ بروز الناس الكبار والمرموقين يقوم عادة على جهود طويلة المدى، وهذا ما نراه في حياة أمير المؤمنين عليه السلام.
فأنا ألاحظ من خلال استشراف المسار العامّ لحياته المليئة بالمنعطفات أنّه كان يتحلّى منذ مطلع شبابه, وحتّى شهادته، بصفتين, هما: البصيرة والصبر (اليقظة والثبات)، فهو لم يقع ولا حتّى لحظة واحدة فريسة للغفلة, وسوء الفهم والانحراف الفكريّ, أو الخطأ في فهم الحقائق.
فمنذ أن خفقت راية الإسلام بِيَد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم انطلاقاً من غار حراء في جبل النور, وجرت على لسانه كلمة “لا إله إلّا الله”، وصدح مبشّراً بالنبوّة والرسالة، استطاع عليّ بن أبي طالب عليه السلام تشخيص هذه الحقيقة الوضّاءة وثبت على موقفه ذاك وألِفَ كلّ ما نجم عن ذلك الموقف من مشاكل وصعوبات؛ فإن تَطَلّب جهداً، بذل له جهده، وإن تَطَلّب حرباً حارب من أجله، وإن استلزم تضحية، وضع روحه على طبق الإخلاص ونزل إلى الميدان، وإذا استدعى عملاً سياسيّاً ونشاطاً إداريّاً وحكوميّاً، أدّاه خير أداء.
ولم يكن في معزل عن الوعي والبصيرة حتّى لحظة واحدة.
الصفة الثانية هي الصبر والثبات؛ فقد تمسّك وثبت على هذا الصراط المستقيم.
ولا شكّ في أنّ الصبر والثبات والجهد الّذي لا يعرف الكلل, وعدم مطاوعة الأهواء النفسيّة الّتي تميل بالمرء إلى التكاسل وترك العمل، تُعدّ صفات بالغة الأهميّة.
أجل، إنّ عصمة أمير المؤمنين عليه السلام غير قابلة للتقليد، وشخصيّته لا يمكن أن تقارن بها شخصيّة أخرى.
وكلّ شخصيّة عرفناها في بيئتنا, أو في تاريخنا، إذا أريد مقارنتها بشخصيّة أمير المؤمنين عليه السلام تكون كمقارنة ذرّة بالشمس إذ لا وجه للمقارنة بينهما بَيْدَ أنّ هاتين الصفتين اللتين كانتا في أمير
المؤمنين عليه السلام يمكن تقليدهما والاحتذاء بهما.
فلا يمكن لقائل أن يقول: إنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان يحمل صفتي الصبر والبصيرة انطلاقاً من كونه أمير المؤمنين.
فعلى الجميع السعي لاكتساب هاتين الصفتين والتقرّب بهما كلّ حسب همّته وكفاءته من أمير المؤمنين عليه السلام31.
العناصر الّتي اجتمعت في شخصيّة الإمام عليّ عليه السلام
إنّ ما أريد التحدّث به عن هذا الرجل الفذّ هو: أنّ شخصيّته وحياته وشهادته التأمت فيها ثلاثة عناصر, تبدو غير منسجمة تماماً مع بعضها على الظاهر؛ وتلك العناصر الثلاثة هي عبارة عن: القوّة، والمظلوميّة، والانتصار.
فقوّته تكمن في إرادته الصلبة وعزمه الراسخ، وفي تسيير دفّة الشؤون العسكريّة في أعقد المواقف، وفي هداية العقول نحو أسمى المفاهيم الإسلاميّة والإنسانيّة، وتربية وإعداد شخصيّات كبرى من قبيل مالك الأشتر وعمّار وابن عباس ومحمّد بن أبي بكر وغيرهم، وشقّ مسار مميّز في تاريخ الإنسانيّة.
ويتمثّل مظهر قوّته في اقتداره المنطقيّ, واقتداره في ميادين الفكر والسياسة، وفي اقتدار حكومته وشدّة ساعده.
31- كلمة الإمام الخامنئي دام ظله ، في تاريخ: 13/ رجب/ 1419 ﻫ.ق.
ليس ثمّة ضعف في شخصيّة أمير المؤمنين عليه السلام, في أيّ جانب من جوانبها، إلّا أنّه في الوقت ذاته من أبرز الشخصيّات المظلومة في التاريخ، وقد كانت مظلوميّته في كلّ جوانب حياته؛ لقد ظُلم في أيام شبابه، حيث تعرّض للظلم حينذاك من بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، وظُلم في سنوات كهولته وفي عهد خلافته واستشهد مظلوماً، وظل من بعد استشهاده يُسبّ على المنابر على مدى سنوات طوال، وتُنسب إليه شتّى الأكاذيب.
لدينا في تاريخنا الإسلاميّ شخصيتان أطلقت عليهما صفة ثار الله.
نحن لا توجد لدينا في اللغة الفارسيّة كلمة معادلة تماماً لكلمة “الثأر” في اللغة العربيّة؛ فعندما يُقتل شخص ظلماً فأسرته هي وليّ دمه، وهذا هو ما يسمّى بالثأر، ولأسرته حقّ المطالبة بثأره.
أمّا ما يسمّى بثار الله فهو تعبير قاصر وناقص لكلمة الثأر, ولا يوصل المعنى المطلوب.
فالثأر معناه حقّ المطالبة بالدم؛ فإذا كان لأسرة ما ثأر، فلها حقّ المطالبة به.
وورد في التاريخ الإسلاميّ اسما شخصيّتين، وليّ دمهما الله، وهو الّذي يطلب بثأرهما؛ أحدهما الإمام الحسين عليه السلام ، والآخر هو أبوه أمير المؤمنين عليه السلام: “يا ثار الله وابن ثاره”، أي أنّ الطالب بدم أبيه هو الله تعالى أيضاً.
أمّا العنصر الثالث الّذي طبع حياته عليه السلام فهو النصر؛ حيث تغلّب
في حياته على جميع التجارب العصيبة الّتي فرضت عليه؛ ولم تستطع جميع الجبهات الّتي فتحها ضدّه أعداؤه أن تنال منه, وإنّما تقهقرت كلّها أمامه.
ومن بعد استشهاده أخذت حقيقته الناصعة تتجلّى وتتفتح يوماً بعد آخر أكثر ممّا كانت عليه حتّى في أيام حياته.
ففي عالم اليوم، ليس العالم الإسلاميّ وحده وإنّما العالم كلّه، هناك أناس كثيرون لا يؤمنون حتّى بالإسلام، إلّا أنّهم يؤمنون بعليّ بن أبي طالب عليه السلام كشخصيّة تاريخيّة لامعة.
وهذا هو جلاء ذلك الجوهر الوهّاج، وكأنّ الله يكافئه على ما لَحق به من ظُلم.
فلا بدّ من أنّ لتلك المظلوميّة, ولذلك الكبت والضغط والتعتيم على ضوء الشمس، وتلك التهم الشنيعة، وما واجهها به من صبر، ثواباً عند الله، وثوابها هو أنّك لا تجد على مدى التاريخ شخصيّة على هذه الدرجة من الإشراق ونالت كلّ هذا الإجماع في القبول.
ولعلّ أفضل الكتب الّتي أُلّفتَ حتّى اليوم بحقّ أمير المؤمنين عليه السلام ، كان أكثرها ولهاً وحبّاً هي تلك الّتي كتبها أشخاص غير مسلمين.
وتحتفظ ذاكرتي حالياً بأسماء ثلاثة كتّاب مسيحيين كتبوا حول أمير المؤمنين عليه السلام كتباً جديرة بالثناء حقاً؛ وهذا الحبّ نشأ منذ اليوم الأوّل، أي من بعد استشهاده، حيث تكالب الجميع على الإساءة
إليه والانتقاص منه، من الطغمة الّتي كانت تحكم الشام ومَنْ كان يدور في فلكها، وممّن امتلأ غيظاً من سيف أمير المؤمنين عليه السلام ومن عدل أمير المؤمنين عليه السلام.
فكانت هذه القضيّة قد اتّضحت منذ ذلك الوقت، وأنا أذكر ها هنا مثالاً واحداً على ذلك:
انتقص ذات يوم ابن عبد الله بن عروة بن الزبير من أمير المؤمنين عليه السلام ، أمام أبيه عبد الله بن عروة بن الزبير.
وكان آل الزبير كلّهم ضد عليّ عليه السلام, إلّا واحداً منهم وهو مصعب بن الزبير الّذي كان رجلاً شجاعاً كريماً، وهو الّذي دخل لاحقاً في صراع مع المختار الثقفي في الكوفة، ومن بعده مع عبد الملك بن مروان، وهو زوج سكينة؛ أي إنّه أوّل صهر للحسين عليه السلام.
كان آل الزبير باستثنائه كلّهم خصوماً لأمير المؤمنين عليه السلام أباً عن جدّ.
وهذا ما يدركه الإنسان من خلال دراسته للتاريخ.
وبعدما سمع عبد الله ذلك الانتقاص على لسان ابنه قال جملة ليست حياديّة كثيراً، إلّا أنّها تنطوي على نقطة مهمّة، وهي: “والله يا بُنيّ، ما بنى الناس شيئاً قطّ إلّا هدّمه الدين، ولا بنى الدين شيئاً فاستطاعت الدنيا هدمه”. أي إنّهم يحاولون عبثاً هدم اسم أمير المؤمنين عليه السلام القائم اسمه على أساس الدين والإيمان، “ألم ترَ إلى عليّ كيف تظهر بنو
مروان من عيبه وذمّه، والله لكأنّهم يأخذون بناصيته رفعاً إلى السماء. وترى ما يندبون به موتاهم من التأبين والمديح، والله لكأنّما يكشفون به عن الجيف”32.
لعلّ هذه الكلمة قيلت بعد حوالي ثلاثين سنة من شهادة أمير المؤمنين عليه السلام ، أي إنّ أمير المؤمنين عليه السلام وعلى الرغم من فداحة الظلم الّذي نزل به، أضحى هو المنتصر في حياته, وفي التاريخ, وفي ذاكرة الإنسانيّة.
32- البيان والتبيين، الجاحظ، ج2، ص 173.
2022-09-15