الرئيسية / شخصيات أسلامية / مشارق أنوار اليقين في أسرار أمير المؤمنين عليه السلام

مشارق أنوار اليقين في أسرار أمير المؤمنين عليه السلام

لو كنت تعلم كل ما علم الورى * طرا لكنت صديق كل العالم لكن جهلت فصرت تحسب كل من * يهوى بغير هواك ليس بعالم حتى أوصلوها بلسان البغضاء، إلى الأخوان من الفقهاء، وهم أهل المذهب المذهب، والمنهاج الذي ليس لهم منهاج، لكن لا يدرك غامض المعقول بالمنقول، فكيف بما وراء العقول، ولا يلزم من معرفة علم واحد الإحاطة بسائر العلوم، وما منا إلا له مقام معلوم، وكل ميسر لما خلق له، ومبتهج بما فضله الله وفض له، ونعم الله السوابغ والسوائغ (التوابع) الشرائع الدوائم الدوائب، الفوائض الفواضل، السائرة إلى عباده، الواصلة إلى بلاده، لا تنقطع ركائبها، ولا تنقشع سحائبها، وباب الفيض مفتوح، وكل من الجواد الكريم ممنوح، وليس وصول المواهب الربانية، والعثور على الأسرار الإلهية، بأب وأم، بل الله يختص برحمته من يشاء، وإن تقطعت من الحاسد الأحشاء، ولما أوردوها لهم بلسان يحرفون الكلم عن مواضعه، لم يلمحوا بالنظر الباطن وزواهر جواهرها من أصداف أصدقائها ولم ينهوا عيون العقول عن زيغها وأصدافها، ولم يتحلوا بها فيتزينوا ولم يصغوا بأسماع العقول إلى استماع (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) بل صدقوهم في الفتنة والريبة، وصادقوهم في استماع النميمة والغيبة، فجعلوا الكذب الشنيع، لسهام التشنيع غرضا، (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا،) فنسبوه إذ لم يفهموه، إلى قول الغلاة، ولا من أسرار الهداة، فكانوا كما قال أمير المؤمنين علي لقلنا غير مأمون على الدين بصرت فيهم بما بصرت كما قيل:
أعادي على ما يوجب الحب للفتى * وأهدأ والأفكار في تجول أو كما قيل:
حاسد يعنيه حالي * وهو لا يجري ببالي قلبه ملآن مني * وفؤادي منه خالي وغير ملومين في الإنكار لأنه صعب مستصعب، لا يحمله إلا نبي مرسل أو ملك مقرب، أو مؤمن قد امتحن الله قلبه للإيمان (1). وإذا أراد المنافق أسرار علي عليه السلام لبغضه، وردها الموافق بجهله بعدما نقل أنه صعب مستصعب فإن كان يعلمه فما هو الصعب المستصعب، وإن لم يعرفه فكيف شهد على نفسه أنه ليس بمؤمن ممتحن، فهلا صمت فسلم، أو قال إن علم، فمن وجد فؤاده عند الامتحان،
(١) كما في الأحاديث، راجع بحار الأنوار: ٢٥ / ٣٦٦ ح ٧ وبصائر الدرجات: ٢٦ ح 1 وما بعده.
(٢٠)

ورود نسمات أسرار ولي الرحمن، قد اشمأز وقشعر، ومال عن التصديق وأزور، فذاك بعيد عن الإيمان، قريب من الشيطان، لأن حب علي عليه السلام هو المحك بلا شك، فمن تخالجته الشكوك فيه فليسأل أمه عن أبيه (1)، من نقص جوهره عن العيار، فليس له مطهر إلا النار، وإنما دعاهم إلى الإنكار الجهل والحسد، وحب الدنيا التي حبها رأس كل خطيئة، والميل مع النفس والهوى، ومن يتبع الهوى فقد هوى، لأن هذه النفس الإنسانية هي التي تحب أن تعبد من دون الله وأن لا ترى الفخر والسؤدد إلا لها، وأن ترى الكل عبيدا لها، لأنها سلسلة الشيطان التي بها يتدلى إلى هذا الحرم الرباني، وإليها الإشارة بقوله وأجريته مجرى الدم مني، ولذلك قال عليه السلام (أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك) (2) وفي النقل أن الله تعالى لما خلق النفس ناداها من أنا؟ فقالت النفس: فمن أنا؟ فألقاها في بحر الرجوع الباطن حتى وصلت إلى الألف المبسوط وخلصت من رذائل دعوى الأنانية الأينية ورجعت إلى نشأتها، ثم ناداها: من أنا؟ فقالت: أنت الواحد القهار (3)، ولهذا قال: (اقتلوا أنفسكم فإنها لا تدرك مقاماتها إلا بالقهر) (4).
(١) روي أن مبغضه ابن زنا أو حيضة، راجع إرشاد القلوب: ٢ / ٤٣٣، وترجمة علي من تاريخ دمشق: ٢ / ٢٢٤.
(٢) بحار الأنوار: ٧٠ / ٣٦ ح ١ باب ٤٤.
(٣) مجموعة ورام: ٥٩ باب العتاب.
(٤) بحار الأنوار: ٦٠ / 294 باب 39.
(٢١)

فصل (قصور الفهم عن إدراك مرتبة أمير المؤمنين عليه السلام) كيف أنكروه، وما عرفوه، وبمجرد السمع له ردوه، وهو لعمري غرة فخر الأنوار، ودرة بحر الأسرار، وزبدة مخض الأسرار، ومعرفة أسرار الجبار، لأنه النهج الاسم، والاسم الأعظم، والترياق الأكبر، والكبريت الأحمر، ولكن ذا المذاق الوثي، والصدر الشجي، لا يفرق بين الحنظل والسكر.
ولما كانت الموهبة من الكلم (1) المخزون أنكرتها العقول لقصورها عن ارتقاء عالي قصورها، وصعقت عند سماع نفخة صورها، فالغالي والقالي هلكا في بحر الإفراط والتفريط، والتالي والموالي وقفا عند ظاهر التشكيك والتخليط. فالقالي حجبه عن نورهم العالي ظلمة الكبر والحسد، والغالي تاه في تيه أسرارهم فضل عن سبيل الرشد، والتالي قاسهم بالبشر فوقف عن أسرارهم وقعد، والعارف نظر إلى ما فضلوا به من المواهب الإلهية فعرف أنهم سر الواحد الأحد، وأن ظاهرهم باطن الخلايق، وباطنهم عين الحقايق، وغيب الإله الخالق، فعلم من قوله تعالى: (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو)، فهم مفاتح غيب الله التي لا يعلم فضلها وسرها إلا الله، وإن رفيع شرفهم لا تنال أيدي العقول علاه، وخفي سرهم لا تدرك الأفهام والأوهام معناه، ولهذا قيل في الحكمة: لا تحدث الناس بما يسبق إلى العقول إنكاره، وإن كان عندك اعتذاره، فليس كل من أسمعته نكرا يوسعك منه عذرا، وليس كل ما يعلم يقال، ولا كل ما يقال تجد له رجال. وقال ابن عباس للنبي صلى الله عليه وآله: يا رسول الله أأحدث بكل ما أسمع؟ فقال: نعم إلا أن يكون حديثا لا تبلغه العقول، فيجد السامع منه ضلالة وفتنة.
وقال رجل للصادق عليه السلام: أخبرني لماذا رفع النبي عليا على كتفه؟ قال: ليعرف الناس مقامه ورفعته. فقال: زدني يا بن رسول الله. فقال: ليعلم الناس أنه أحق بمقام رسول الله. فقال: زدني.
فقال: ليعلم الناس أنه إمام بعده والعلم المرفوع. فقال: زدني. فقال: هيهات والله لو أخبرتك بكنه ذلك لقمت عني وأنت تقول إن جعفر بن محمد كاذب في قوله أو مجنون.
وكيف يطلع على الأسرار غير الأبرار. وقال علي بن الحسين عليهما السلام:
(1) الصعب المستصعب (خ. ل).
(٢٣)

إني لأكتم من علمي جواهره * كيلا يرى الحق ذو جهل فيفتتنا وقد تقدم في هذا أبو حسن * إلى الحسين وأوصى قبله الحسنا (١) ولا غرو فقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله يقول للملأ من قريش: قولوا لا إله إلا الله. فيقولون، ثم يقول:
اشهدوا أني محمد رسول الله، فيشهدون، ثم يقول: صلوا إلى هذه البنية، فيصلون، ثم يقول: صوموا رمضان في الهواجر، فيصومون، ثم يأمرهم بإخراج الزكاة فيخرجون، ثم يقول: حجوا واعتمروا، فيحجون ويعتمرون، ثم يدعوهم إلى الجهاد وترك الحلائل والأولاد، فيجيبون. ثم يقول: إن عليا وليكم بعدي، فيعرضون، ولا يسمعون، فيناديهم بلسان التوبيخ وهم لا يسمعون: (قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون) (٢)، ثم يتلو عليهم مناديا وهم لا يشعرون: ﴿يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون﴾ (3).
ويؤيد هذه القواعد: ما رواه الحسن بن محبوب عن جابر بن عبد الله عن أبي عبد الله عليه السلام أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال لعلي عليه السلام: يا علي أنت الذي احتج الله بك على الخلايق حين أقامهم أشباحا في ابتدائهم وقال لهم: (ألست بربكم؟ قالوا: بلى.) (3) فقال: ومحمد نبيكم، قالوا: بلى. قال: وعلي إمامكم. قال: فأبى الخلائق جميعا عن ولايتك والإقرار بفضلك وعتوا عنها استكبارا إلا قليلا منهم وهم أصحاب اليمين وهم أقل القليل، وإن في السماء الرابعة ملكا يقول في تسبيحه: سبحان من دل هذا الخلق القليل من هذا العالم الكثير، على هذا الفضل الجزيل (4).
ويؤيد ذلك: ما ورد في كتاب الوحدة عن ابن عباس أنه قال: مبغض علي من يخرج من قبره وفي عنقه طوق من نار، وعلى رأسه شياطين يلعنونه، حتى يرد الموقف (5).
وعنه مرفوعا إليه من كتاب بصائر الدرجات عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: يا علي والذي بعثني نبيا بالحق، واصطفاني على سائر الخلق، أنك لو صببت الدنيا على المنافق ما أحبك، ولو
(١) غرر البهاء الضنوي: ٣١٨، وجامع الأسرار: ٣٥ والأصول الأصيلة: ١٦٧ وفيه زيادة:
يا رب جوهر علم لو أبوح به لقيل لي: أنت ممن يعبد الوثنا ولاستحل رجال مسلمون دمي يرون أقبح ما يأتونه حسنا (٢) ص: ٦٨.
(٣) النحل: ٨٣.
(٤) بحار الأنوار: ٢٦ / ٣١١ ح ٧٧ و ٢٥ / ٢٥ ح ٤٥.
(٥) بحار الأنوار: ٢٧ / 226 ح 21.
(٢٤)

شاهد أيضاً

الطفل بين الوراثة والتربية

أردى به الحرص والطمع وطلب الجاه والأنانية إلى هوة سحيقة وعيش أمض من الموت ومصير ...