الحسين في الفكر المسيحي – انطوان بارا
1 أكتوبر,2022
بحوث اسلامية
307 زيارة
الصفحة (116)
بنيها(1) .
وعيسى (عليه السّلام) اعتقله اليهود وعذّبوه وأهانوه وبصقوا عليه ، وضفروا رأسه بإكليل شوك ، وجلدوه وتهكّموا عليه ، وسخروه بحمل صليبه على طريق الجّلجلة في فلسطين ، وأخيراً قتلوه وطعنوا جنبه بحربة قبل أن يلفظ أنفاسه ، وكانوا سيكسّرون رجليه لكنّهم وجدوه ميتاً فلم يفعلوا ، لتتمّ الآية ( لن يكسر له عظم )(2) .
والحسين (عليه السّلام) جاء في زمن كانت الديانة التي بشّر بها جدّه الكريم وليدة تحبو بعد أن حقّقت فتوحات عظيمة ، وأخضعت بقوّة تعاليمها وأخلاقيّاتها الاجتماعيّة العظيمة الشرق والغرب . وعندما شبّ عن الطوق لمس ما يعتري اُمّة جدّه من انحلال وتكالب على الأطماع الدنيويّة بما يناقض بعثها ، فكان عليه أن يتصدّى لهذا الأمر الجلل ، فكانت مهمّته أعمق غوراً ، ورسالته أكثر تعقيداً من رسالة عيسى (عليه السّلام) ، سيّما إذا نظرنا إلى نوعيّة الوسائل التي كانت بين يدَيه ؛ إذ كما سبق وذكرنا لم تكن للحسين صفة نبويّة ، بل كان عليه أن يلجأ إلى الوسائل البشريّة التي تسيّرها قوّة إلهيّة ؛ وما ذلك إلاّ لكي تؤدّي رسالته الهدف المنشود منها ، إذ لو جرت رسالته مجرى رسالة عيسى لما كان لها هذا الوقع المفجع ، ولو قُتل وحده كما قُتل عيسى وحده لمّا كانت واقعة قتله لتؤجّج كلّ هذا التأنيب والشعور بالذنب والإحساس بالتقصير لدى كلّ مسلم .
وبرأيي أنّ ظرف اُمّة الإسلام في ذلك الزمن كان لا بدّ له من تضحية فائقة تقرب من التهلكة الجماعيّة ؛ ليتسنّى لها الوقوف حيال تحلّل الاُمّة التي كان يتأكّلها من الداخل .
ــــــــــــــــ
(1) لوقا 7 / 31 ـ 35 .
(2) يوحنا 19 ـ 36 .
الصفحة (117)
إذاً فالظرفان مختلفان بين مجيء عيسى وبين مجيء الحسين ، وبين ما أعدّته العناية الإلهيّة لكلّ منهما ، وما زوّدتهما به من اختلاف السّبل والإمكانات ، سواء ما كان قبل الشهادة أو بعدها .
والحسين (عليه السّلام) لم يسلم عظمه كما سلم عظم عيسى ، بل إنّ ما حاقه فوق ثرى كربلاء المقدّس كان أعظم من احتمال البشر ، بل كان من نوع يقرّب سيّد الشهداء إلى قائمة الرسل والنبيّين .
فأيّ رسول زرع في جسده أكثر من مئة نبلة وأكثر من أربعين طعنة ، وأيّ نبي قتله العطش مثل ما فعل بالحسين (عليه السّلام) ؟ وها هو أمير الشهداء وسيّدهم يُرمى بسهم في جبهته ، ويُضرب بحجر فيها ، ويُطعن على قلبه بسهم ذي ثلاث شعب ، ويُرمى في حلقه ، ويُضرب على عاتقه ، ويُطعن في ترقوته وبصدره وبنحره وبجنبه ، ويُسلب وتُقطع إصبعه من أجل خاتم ، وتُقطع يده اليمنى ثمّ اليسرى من أجل تكّة سروال ، ويُحتزّ رأسه الشريف ، ويوطأ بعشر من الخيل صدراً وظهراً ، ثمّ يُحمل رأسه على سن رمح إلى دمشق ، حيث يوضع بمهانة أمام الفاسق يزيد لينكت ثناياه بالقضيب ، ويعلّق في سوق الصيارفة ويشرب الخمر حوله ، ويقال الكفر أمام كرامته .
فهل يبقى للمقارن المتمعّن في هذه الميتة الأليمة تردّد في وضع شهادة الحسين (عليه السّلام) في المقام الأوّل بين كل الشهادات التي ذكرها التاريخ ؟
وإذا كانت قيمة الشهادة منوطة بما يتحمّله الشهيد من أذى ، فإنّه لا مراء فيه أنّ الشهادة التي تمّت في صحراء كربلاء ذات قيمة عليا ، لا تبلغها أيّة قيمة اُخرى لأيّة شهادة ، لا سابقة ولا لاحقة .
وهي شهادة أكبر في مقياس المعاناة من شهادة عيسى (عليه السّلام) ولئن تعادلت معها في مقياس النتيجة ، فإنّ لها وقع أشدّ على القلوب ، وإذا تذكّرتها العقول فإنّ
الصفحة (118)
لذكراها رنّة حزن وأسى تحفر في الحنايا والصدور أخاديد عميقة وأثلاماً لا تندمل .
وإذا كان غدر العدو متوقّعاً ، ولا يثير وقوعه أيّة دهشة ؛ فإنّ غدر القريب هو الغدر الأليم الوقع ، والحسين غدره أقرب الناس إليه ، وخذلته شيعته ، وحاصرته وقتلته ومثّلت به جموع مسلمة محتسبة على دين محمّد ، وقد حاربته باسم الإسلام الذي أنزل على جدّه الرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله) ، بينما قتل عيسى اليهود أعداء المسيحيّة ، وعلى الرغم من قسوتهم وتسفيههم لرسول الإنسانيّة فإنّهم في مرآة الدمويّة والوحشيّة يبدون حملاناً وديعة بالمقارنة مع الذين قضوا على الحسين وآل بيته وأصحابه الأطهار .
فالوحشيّة التي شهدتها كربلاء ليس لها شبيه حتّى بين أشدّ الوحوش ضراوة ، وكلمة ( وحشيّة ) لا تفيها حقّها من الدلالة عليها ، فقد فاقت الوحشيّة بمراحل ، وتقدّمت على الدمويّة بخطوات ، وصار لزاماً أن يوجد لها تعبير يلائمها . لكن العقل البشري الذي وضع لكلّ مظهر حدوداً قصوى في الفعل والتعبير عن هذا الفعل ، ولكلّ موقف أقصى ما يلائمه من كلمات تدلّل عليه ، لم يستطع تخطّي تعبيري الوحشية والهمجيّة ، مع أنّ الواقعة كانت تتخطّاهما بمراحل شاسعة .
ولعلّ خير شاهد على همجيّة ما جرى في كربلاء وبعدها هذه الحادثة الصغيرة في فعلها ، الكبيرة في مرماها ، والتي تدلّ بشكل واضح على موت كلّ ضمير وإحساس بشري في نفس صاحبها ، وتفاقم كلّ أنواع الخسّة والوحشيّة في وجدان فاعلها .
فها هو خولي بن يزيد الأصبحي يسرح برأس الحسين بأمر من ابن سعد ، وقد غدا به إلى قصر الإمارة حيث قابل ابن زياد ووضع الرأس بين يدَيه وهو يقول :
املأ ركابي فضّةً أو ذهبا إنّي قتلتُ السيّدَ المحجّبا
الصفحة (119)
وخيرَهم مَن يذكرون النَّسبا قتلتُ خير الناس اُمّاً وأبا(1)
هذا المسلم بالاسم الذي عافه الإسلام ، يفخر بكلّ الخسّة التي يمكن أن يعمر بها قلب بشري ، بأنّه قتل السيّد المحجّبا ، وقضى على خير الناس اُمّاً وأباً ، ويفتح باب نفسه التي باعها للشيطان ينتظر الفضّة والذهب .
ولكنّ ابن زياد الذي لا يقلّ عنه خسّة وضعة يستاء من قوله أمام الجمع ، فيجيبه : إذا علمت أنّه كذلك فلِمَ قتلته ؟ والله لا نلت منّي شيئاً .
وفي إجابته هذه لا يأخذنّ بك الظنّ أيها القارئ على أنّ ابن زياد قد تحرّك ضميره للحظات فنطق لسانه بما نطق .. لا ، بل هو اغتاظ من وصف خولي أمام الجميع بأنّه قتل خير الناس اُمّاً وأباً ، في وقت كان ينتظر منه أن يصف ويطنب ويلفّق ويسبّ على الحسين أمامه وأمام الجمع المستمع ؛ لذا فقد حجب عنه الجائزة التي كان ينتظرها .
وتتالت المعجزات الخارقة بعد شهادة الحسين (عليه السّلام) ، ولعلّ معجزات الطبيعة هي أبسطها ، فالمعجزات الحقّة كانت تلك التي قلبت اُمّة الإسلام رأساً على عقب بعد فترة من الزمن ، وسنأتي على ذكرها في مكان آخر من الكتاب .
وكانت المعجزات التي أنزلها الله تعالى بعد استشهاد عيسى والحسين (عليهما السّلام) ، البدايات الأولى المادّية ؛ لِما سيلي بعدها من معجزات على مستوى الروح والعقيدة
ــــــــــــــ
(1) اختلف المؤرّخون بقائل هذه الأبيات . فعند ابن جرير الطبري / 261 ، وابن الأثير / 33 إنّه سنان بن أنس ، أنشدها على عمر بن سعد ، وفي شرح المقامات للشربشي / 193 أنّه أنشدها على ابن زياد ، وفي كشف الغمّة للأربلي ، ومقتل الخوارزمي / 40 أنّ بشر بن مالك أنشدها على ابن زياد ، وفي رياض المصائب / 437 أنّ الشمر قائلها ، وفي العقد الفريد / 213 سمّاه خولي بن يزيد الأصبحي وقد قتله ابن زياد لقوله الأبيات .
الصفحة (120)
والصراط ، مما يدلّ دلالة واضحة على أن الأنبياء والشهداء إنما اُوذوا وصبروا من أجل أن يكشف سبحانه وتعالى للبشر قضايا الحقّ الاُولى ، وأن يبرزها لبصائرهم ، ويعلنها لهم على اختلاف أديانهم . على أنها قضايا واحدة لا تنفصم ، وهي لا تتغير ؛ لأنّ ناموس الطبيعة البشرية لا يتغير ؛ ولأنّ السرّ الإلهي كلٌّ لا يتجزأ .
وعندما ينيخ الضعف على النفوس فتغدو العقيدة ضعفاً لا يتّصل بقوة ، بعد أن كانت قوة لا تتصل بالضعف ، فإن المصلحين الشهداء ينبتون من بين المجتمع المتفكّك كما تنبت الشجرة الخيّرة من بين العليق ؛ فيشدّون على عوامل الضعف ، وينشطون العقيدة بنفحة من روح تضحياتهم التي تختتم دوماً بالجود في نفوسهم بعد أن يكونوا قدّموا لوحاً جديداً لدستور أخلاقي تتفتح عليه البصائر المعمية فجأة بعد استشهادهم , فتبدأ كيمياء هذا الدستور تفعل فعلها في النفوس والضمائر حيث مكامن العقيدة ؛ فتصلح العقائد وتسمو القلوب ، وتدعم الشهادة التي أطلقت هذا الدستور بشهادات تليها وتشابهها قوة وعنفواناً . وإذا بانتفاضة الإيمان الجديدة تتأجج كلهب البراكين التي سدّت عليها المنافذ قروناً فتفجّرت بغتة بفعل زلزال مُخلخل .
ولم تكن ثورة فرخ النبي (عليه السلام) إلا هذا الزلزال الذي خلخل كيان الاُمة الإسلاميّة ، فصدّع مداميك انحرافها ، وردم فجوات إيمانها ، فبدت بعده ناصعة متماسكة مغسولة بزوفى الشهادة ، ومعمّدة بدم الطُّهر الذي جعلها بيضاء كالسوسن , ونقية كالزنبق ، وشفافة كوردة في صباح مشرق .
الصفحة (121)
معجزات الشهادة في ضمير الإسلام
ليتَ أشياخي ببدر شهدوا = جزعَ الخزرجِ من وقع الأسلْ
لأهلّوا واستهلوا فرحاً = ثم قالوا يا يزيدُ لا تُشلْ
قد قتلنا القرمَ من ساداتِهمْ = وعدلناهُ ببدرٍ فاعتدلْ
لَعبتْ هاشمُ بالمُلكِ فلا = خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزلْ(1)
ــــــــــــــــ
(1) بعض المؤرّخين كالخوارزمي وابن أبي الحديد في شرح النهج / 383 ، وابن هشام في واقعة اُحد ذكروا أن عدد هذه الأبيات ستة عشر بيتاً , وليس فيها ما ذكره ابن طاووس إلاّ الأوّل والثالث . وكان عجز الثالث في روايتهم ( وعدلنا مَيل بدر فاعتدل ) ، وفي رواية أبي علي القالي في الأمالي / 142 , والبكري في شرحه / 387 ، وأقمنا ميل بدر فاعتدل .
الصفحة (122)
هذه مقولة يزيد أمام ركب السبي في دمشق ، وأمام رأس الحسين الطاهر ، وهي مقولة تدلّ على سدرة يزيد في كبريائه وغروره الذي عُرف به ، وكان يتمنّى لو أنّ أشياخه الذين قضوا ببدر شهدوا انتصاره هذا ، ويتنبّأ بأنّهم سيهلّون ويستهلّون فرحاً ، ويباركون يمينه ويدعون لها بألاّ تشلّ على تعديل ميزان بدر بكربلاء .
وكانت مقولة فيها من غفلة المتغافل الشيء الكثير ، يقابلها في الوعي المستشفّ للغد ، خطبة العقيلة زينب المستلهمة عن لسان أبيها أمير المؤمنين (عليه السّلام) : الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على رسوله وآله أجمعين ، صدق الله سبحانه حيث يقول : ( ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُون )(1) .
أظننت يا يزيد ، حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء فأصبحنا نساق كما تساق الاُسارى ، أنّ بنا على الله هواناً وبك عليه كرامة ، وأنّ ذلك لعظم خطرك عنده ، فشمخت بأنفك ونظرت في عطفك جذلان مسروراً حين رأيت الدنيا لك مستوسقة ، والاُمور متّسقة ، وحين صفا لك مُلكنا وسلطاننا ، فمهلاً مهلاً ، أنسيت قول الله تعالى : ( وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ ِلأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ )(2)(3) .
وكأنّ زينب في ردّها المفحم على يزيد الآثم كانت تصوّر له مستقبل الأيّام وما يخبّئه الغد لبني اُميّة من مخاز ونهايات ، وتعرض أمام الحضور الجانب الواعي المستشرف لموقف يزيد المتغافل المتعامي عن رؤية الحقائق كما ستكون في القريب العاجل .
ولم تطلّ فرحة يزيد ؛ إذ لم تنقضِ سوى ساعات معدودة على ذيوع الخبر في بيته
ــــــــــــــ
(1) سورة الروم / 10 .
(2) سورة آل عمران / 178 .
(2) جاء ذكر هذه الخطبة في بلاغات النساء / 21، ومقتل الخوارزمي 2 / 64 .
الصفحة (123)
قبل أن ينتشر في عاصمة ملكه وباقي الأنحاء الإسلاميّة ، حتّى كانت نساؤه تنحنِ مشفقات من هول ما بلغهنّ ، وابن الحكم ينعى فعلة ابن زياد ويقول : حُجبتم عن محمّد يوم القيامة ، لن اُجامعكم على أمر أبداً . وابنه معاوية يبكي ، وإذا سُئل عن بكائه كان يجيب : نبكي على بني اُميّة لا على الماضين من بني هاشم .
وكانت أوّل صرخة لَوم وتأنيب بعد الشهادة أطلقتها زينب (عليها السّلام) في الكوفة ، فاهتزّت لها الضمائر واستيقظت ، وما قالته زينب ابنة علي للجموع الملتفّة حول ركب السبي له وَقْع الفجيعة ولائمة التقصير : الحمد لله والصلاة على أبي محمّد وآله الطيبين الأخيار .
أمّا بعد ، يا أهل الكوفة يا أهل الختل والغدر ، أتبكون ؟! فلا رقأت الدمعة ، ولا هدأت الرّنة ، وإنّما مَثَلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثاً ، تتخذون أيمانكم دَخَلاً بينكم ، ألا وهل فيكم إلاّ الصّلف النّطف ؟! والعجب والكذب والشنف وملق الإماء وغمز الأعداء ، أو كمرعى على دمنة ، أو كقصّة على ملحودة ، ألا بئس ما قدّمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم ، وفي العذاب أنتم خالدون !
وما أن سمع الجمع هذا القول حتّى أخذتهم العَبرة ، ونشجوا في بكاء شديد وقد لمس كلام زينب (عليها السّلام) شغاف ضمائرهم ، بينما أردفت (عليها السّلام) مكمّلة وسط نهنهاتهم ولومهم لأنفسهم ، فقالت : أتبكون وتنتحبون ؟! أي والله ، فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً فلقد ذهبتم بعارها وشنارها ، ولن ترحضوها بغسل بعدها أبداً . وأنّى ترحضون ؟! قتل سليل خاتم النبوّة ومعدن الرسالة ، ومدرة حجّتكم ومُنى محجّتكم ، وملا خيرتكم ومفزع نازلكم وسيذّد شباب أهل الجنّة ؟ ألا ساء ما تزرون .
الصفحة (124)
فتعساً ونكساً وبُعداً لكم وسحقاً ! فلقد خاب السعي ، وتبّت الأيدي ، وخسرت الصفقة ، وبؤتم بغضب من الله ورسوله ، وضربت عليكم الذلّة والمسكنة .
ويلكم يا أهل الكوفة ! أتدرون أيّ كبد لرسول الله فريتم ؟ وأيّ كريمةٍ له أبرزتم ؟ وأيّ دمٍ له سفكتم ؟ وأيّ حرمةٍ له انتهكتم ؟ لقد جئتم شيئاً إدّا ، تكاد السموات يتفطّرن منه ، وتنشقّ الأرض ، وتخرّ الجبال هدّا . ولقد أتيتم بها خرقاء شوهاء كطلاع الأرض وملء السماء ، أفعجبتم أن مطرت السماء دماً ؟ ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون . فلا يستخفّنكم المهل ؛ فإنّه لا يحفزه البدار ، ولا يخاف فوت الثأر ، وإنّ ربّكم لبالمرصاد(1) .
وكان خطاب العقيلة المؤنّب ردّ فعل عنيف بين الحشد المعمى بصيرته بالخداع والمطامع ، فحرّكت مكامن الخير في ضميره ، فأحسّوا بما جنوا ، وضربتهم حيرة أمام بلاغة العقيلة ، فما حاروا إجابة .
وأمام بلاغة زينب (عليها السّلام) والتي تتالت لتوقظ الضمائر في مواقف شتّى ، تتبدّى حكمة الله تعالى الذي أوحى للشهيد الحسين (عليه السّلام) بإشراك نساء آل البيت في ثورته ، إذ ما توجّهن إلى دمشق حتّى بدأن حربهنّ النفسيّة بالكلمة البليغة والبيان المؤثّر ، مكمّلات وثبة أسد كربلاء ، ومواصلات إيصال صرخته في فلاتها : (( أما من مغيثٍ يغيثنا ، أما من ناصرٍ يعيننا )) .
فتتواصل بعدها استجابات الضمائر النائمة ، كما استجابت ضمائر الأنصاريَين سعد بن الحارث وأخيه أبي الحتوف لصرخة الحسين ، فاستنصراه مستجيبين لها حتّى قُتلا .
ـــــــــــــــ
(1) ورد ذكر الخطبة في أمالي الشيخ الطوسي ، واللهوف ، وابن نما ، وابن شهر آشوب ، واحتجاج الطبرسي .
2022-10-01