الرئيسية / بحوث اسلامية / الحسين في الفكر المسيحي – انطوان بارا

الحسين في الفكر المسيحي – انطوان بارا

الصفحة (184)

وكان من نتيجة هذه الحركة أن تولّدت منها طائفة تُدعى ( الزيديّة ) برهنت على استعدادها للاشتراك في كلّ ثورة ضدّ السلطة الغاشمة .

واستمرّت الثورات هنا وهناك آخذة شرارات اشتعالها من شرارات كربلاء المتّقدة أبداً ، ولم يعد للحكم الاُموي من شاغل إلا ّالتصدّي لها واستنباط الوسائل للقضاء عليها .

وجاءت ثورة العبّاسيين لتضع الخاتمة النهائيّة لتفجّر الثورات التي استهدفت الحكم الاُموي الذي كان مثالاً لفساد الحكم والعروش . واستطاعت بما رفعته من شعارات وتزوّدت به من مبادئ الكفاح الحسيني أن تنتصر في النهاية وتطيح بحكم بني اُميّة ، فإذا بالدولة الاُمويّة العريضة ذات العدد والعدّة تذهب بلا وناء في وقت أقلّ من عمر رجل مثل معاوية .

ورغم أنّ ثورة العبّاسيين لم يكن لها ذلك الدَور الجذري في تبديل واقع الشعب المسلم ، فيما عدا تبديلها للحاكمين فوق العروش ، فإنّ بنجاحها هذا لم تتوقّف الثورات بعدها ، بل استمرّت مشتعلة أبداً ، إذ قد توفّر للعروش دوماً أشباه ليزيد ، بينما ثمّة حسين واحد كان لعِظَم وخلود مبادئه أن كانت تلد في كلّ يوم ولكلّ جيل ثائرين جدداً يتصدّون للعمل بنورها العلوي ، ورفع راية الجهاد الحسيني الذي أضحى سِمة لكلّ جهاد في كلّ زمان ومكان نبت فيهما يزيد جديد .

وهكذا تمّت معجزات الشهادة التي أقدم عليها الحسين (عليه السّلام) وآله وصحبه الأطهار ، وبلغت مداها ـ وإن لم تتوقّف عنده ـ بالثورات الزمنيّة التي هدّت عروش الظلم وأطاحت بحكم كان من المستحيل الإطاحة به لولا ما قدّمته شهادة الطفّ من معجزات كان لها فعل السحر في النفوس والضمائر والمجتمعات .

الصفحة (185)

وإذا كانت معجزات استشهاد عيسى (عليه السّلام) قد تشابهت مع معجزات شهادة الحسين (عليه السّلام) في فعلها داخل الضمائر والأخلاق والمجتمع ، فإنّها لم تتشابه معها في المعجزة الزمنيّة التي تمثّلت في سقوط الحاكمين ، إذ انتهت شهادة المسيح عند حدود الضمائر والأخلاق ومناطق العقيدة ، بينما تجاوزتها شهادة الحسين إلى إتمامها بمعجزات زمنيّة ؛ وذلك لحكمة إلهيّة تدبّر وتسيّر .

فمن عجائب هذه الحكمة أن تجري هذه الحوادث والثورات التي تلت الشهادة كَلِماً على لسان مَن وقعت بجريرة قتله ، وذلك قبل وقوعها بعشرات السنين بنفس الشكل الذي صوّره الشهيد وكأنّه يقرؤها في لوح مكشوف أمام عينيه .

فبعد أن أنزل الله تعالى المذلّة على مَن أهانوا وقتلوا شهيده الحسين (عليه السّلام) ، فغدوا أذلّ من قوم سبأ ، تذكّر المسلمون نبوءة شهيدهم التي قالها ببني اُميّة في الرهيمة : (( إنّ بني اُميّة شتموا عرضي فصبرت ، وأخذوا مالي فصبرت ، وطلبوا دمي فهربت . وايم الله لَيقتلوني فيلبسهم الله ذلاً شاملاً ، وسيفاً قاطعاً ، ويسلّط عليهم مَن يذلّهم(1) حتّى يكونوا أذلّ من قوم سبأ ؛ إذ ملكتهم امرأة فحكمت في أموالهم ودمائهم ))(2) .

تذكّر المسلمون هذه النبوءة واسترجعوا صور الذلّ التي ألبسها الله لبني اُميّة ، وكيف أهينوا وشرّدوا وولّوا هاربين متعقّبين وقُتلوا بأعداد هائلة ومُثّل بهم ، وأُنزلت بهم فظاعات من التنكيل لم تكن لتخطر ببال بني اُميّة ولا ببني هاشم يوم صُرع الحسين(3) .

ـــــــــــــــ
(1) أمالي الصدوق / 93 ، المجلس الثلاثون .

(2) روي الحديث بتمامه في مقتل الخوارزمي 1 / 226 ومثير الأحزان ـ لابن نما .
(3) ( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً )( سورة النساء / 93 ).

الصفحة (186)

وفي المواقف المتشابهة تبرز الكلمات التي قيلت ، سيّما إذا كانت تحمل استشفافاً بعيداً للمستقبل ، فقد تذكّر المسلمون قولة شهيدهم أمام ولده وأخواته وأهل بيته يوم نزل بكربلاء قال وهو يبكي : (( اللّهمّ إنّا عترة نبيّك محمّد قد اُخرجنا وطُردنا وأُزعجنا عن حرم جدّنا ، وتعدّت بنو اُميّة علينا ، اللّهمّ فخذ لنا بحقّنا وانصرنا على القوم الظالمين ))(1) .

وأخذ الله تعالى بحقّ المكروب والمبتلى بكربلاء ، وكانت أيّما أخذة بالحقّ ، تطايرت بها رؤوس بني اُميّة التي تعدّت على عترة النبي وأخرجتها وأزعجتها ، فلم يرَ مظلوم أخذ حقّه بمثل ما أخذ حقّ المظلوم الحسين من القوم الذين ظلموه(2) .

وقد روى الحاكم في مستدركه قولاً للخطيب عن ابن عباس فقال : أوحى الله تعالى إلى محمّد : إنّي قتلت بيحيى بن زكريّا سبعين ألفاً ، وأنا قاتل بابن بنتك سبعين ألفاً وسبعين ألفاً .

وكأنّ سبحانه وتعالى لمّا رأى عِظَم عذاب الحسين أعطاه سلطة وضع نهايات ظالميه بالشكل الذي يتصوّره ويصرّح به ، وهذا ما يفسّره وقوع كلّ ما تنبّأ به وحذّر منه اُولئك الذين لطّخوا أيديهم بدمه ودماء أهل بيته .

وما قاله للذين يحيطون به من جند الأعداء في صحراء كربلاء قبل بدء المعركة ، ليدخل في عِداد المعجزات التي ما اُوتيت إلاّ لعيسى (عليه السّلام) ، فكأنّ الزمن

ــــــــــــــــ
(1) ( لاَ يَنْهَاكُمْ اللهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ )( سورة الممتحنة / 8 ـ 9 ) .
(2) ( … وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً … ) راجع نصّ الآية ( سورة الإسراء / 33 ) .

الصفحة (187)

تصرّم واختزل ، وكأنّ عشرات السنين ليست بذي بال حيال ما قاله الشهيد للذين وقفوا يسمعونه ، فكان من أمرهم بعد ذلك لا يختلف مقدار شعرة عمّا رسمه لهم من مصائر ونهايات .

قال لأعدائه : (( أمَا والله لا تلبثون بعدها إلاّ كريثما يركب الفرس ، حتّى تدور بكم دور الرحى ، وتقلق بكم قلق المحور ؛ عهدٌ عَهده إليَّ أبي عن جدّي رسول الله . فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثمّ لا يكن أمركم عليكم غمّة ، ثمّ اقضوا إليَّ ولا تنظرون ، إنّي توكّلت على الله ربّي وربّكم ، ما من دابّة إلاّ هو آخذ بناصيتها إنّ ربّي على صراط مستقيم(1) . والله لا يدع أحداً منهم إلاّ انتقم لي منه ؛ قتلة بقتلة وضربة بضربة ، وإنّه لينتصر لي ولأهل بيتي وأشياعي ))(2) .

فماذا يمكن أن نسمّي هذا القول ؟ نبوءة ، رؤيا ، سلطة علويّة خاصّة بالشهداء الأبرار ، نفحة من السرّ الإلهيّ للمختارين ؟ وإلاّ فكيف دالت الاُمور بعد سنوات معدودة من قول هذه الكلمات إلى نفس الشكل الذي حدّدته ، وبنفس الكيفيّة التي جاهرت بها ، فكانت القتلة بقتلة والضربة بضربة ؟

ولنسمع الشهيد يكمل استقراء مستقبل الأيّام فيقول (عليه السّلام) : (( اللّهمّ احبس عنهم قطر السماء ، وابعث عليهم سنين كسنيّ يوسف ، وسلّط

ـــــــــــــــ
(1) مقتل الحسين ـ المقرّم / 287 عن تاريخ ابن عساكر 4 / 334 واللهوف / 54 .

(2) مقتل العوالم / 84 .

الصفحة (188)

عليهم غلام ثقيف(1) يسقيهم كأساً مصبّرة )) .

فكانت السنوات التي وقعت بين تاريخ مقتله وتاريخ سقوط آخر أمير اُموي ألعن من سني يوسف ؛ تسلّط خلالها عليهم مَن هم أقسى من غلام ثقيف ، فأذاقهم ( زقاً ) مصبرة , ولم يكتف بكأس واحدة ، فتبدّد شملهم واندثر ذكرهم .

وكانت صرخته التي راحت شعاراً للثورة والمظلومين : (( أمَا من مغيثٍ يغيثنا ! أمَا من مجيرٍ يجيرنا ! أمَا من طالب حقّ ينصرنا ! أمَا من خائفٍ من النار فيذبّ عنّا ! )) . قد أضحت أمراً لكثيرين كي يهبّوا لإغاثة مبادئه ، فازداد المجيرون ، وكثر طلاّب الحقّ المناصرين لحقّه ، وصار عدد الخائفين من النار أكثر من عدد رمل البحر ؛ يذبّون عن العقيدة التي تكلّم باسمها وعنى بها قوله ( يذبّ عنّا ) ، فانقلبت الموازين ، وغدا شعار إغاثة الحسين وإجارته ونصرته والذبّ عنه ناموساً وشريعة لدى كلّ المؤمنين ؛ سواء أكانوا مسلمين ، أو تحت أيّ دين أو عقيدة انضووا , وفي كلّ عصر ومصر ، وغدا الحسين رمزاً وشعاراً واستلهاماً واُسلوباً .

ولئن تحدّثنا عن نبوءات الحسين التي تحقّقت بعد ردح من الزمن ، فإنّنا لن نغفل ما ألهمته هذه النبوءات للعقيلة زينب (عليها السّلام) ، من استقراء للمستقبل القريب وهي التي كانت قريبة على الدوام من أخيها تسمع كلّ ما يلفظه فوه من كلام ، وكانت تحفظ في قلبها استلهام أخيها الشهيد ، فيوحي لها هذا الاستلهام بكلّ ما تلفّظت به كاستقراء للمستقبل .

فها هي في واحدة من هذه الاستقراءات ، حينما وقفت أمام يزيد وقالت له :

ـــــــــــــ
(1) هو المختار بن أبي عبيدة الثقفي .

الصفحة (189)

اللّهمّ خذ لنا بحقّنا ، وانتقم ممَّن ظلمنا ، واحلل غضبك بمَن سفك دماءنا ، وقتل حماتنا .

وإذا كان في قولتها هذه دعاء عامّ لكلّ مَن ظلمهم وقتل حماتهم ، فإنّها هنا في هذه القولة تحدّد أكثر فتقول موجّهة كلامها ليزيد : فوالله ما فريت إلاّ جلدك ولا حززت إلاّ لحمك ، ولتَرِدَنّ على رسول الله وآله بما تحمّلت من سفك دماء ذريّته وانتهكت من حرمته في عترته ولحمته ، حيث يجتمع شملهم ، ويلمّ شعثهم ، ويأخذ بحقّهم .

وهكذا أيضاً لم تشذّ الاُمور في ما تلا من أيّام عن هذا الاستلهام قيد أنملة ، فكان يزيد ممَّن حزّ لحمه وفري جلده بيده ، ودلّت ميتته وما تلاها على بعض ما ينتظره في الآخرة عندما يُحشر يوم القيامة ويُسأل عمّا تحمّله من سفك دماء عترة النبي (صلّى الله عليه وآله) .

ولعلّ الإلهام المستقرّئ للمستقبل كان في عبارة العقيلة ليزيد واضحاً محدّد المعالم بشكل غريب إذ قالت له : فوالله لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا ، ولا يرحض عنك عارها ، وهل رأيك إلاّ فند ، وأيّامك إلاّ عدد ، وجمعك إلاّ بدد ، يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين .

وقالت وهي مسبيّة : المستقبل لذكرنا ، والعظمة لرجالنا ، والحياة لآثارنا ، والعلوّ لأعتابنا ، والولاء لنا وحدنا .

وقالت لابن أخيها السجّاد قبل أن يترك ركب السبي أرض كربلاء : فوالله إنّ هذا لعهد من الله إلى جدّك وأبيك ، إنّ قبر أبيك سيكون علماً لا يُدرس أثره ، ولا يُمحى رسمه على كرور الأيّام والليالي ، وليجتهد أئمّة الكفر وأشياع الضلال في محوه

الصفحة (190)

وتطميسه ، فلا يزداد أثره إلاّ علوّاً(1) .

وقد برهنت الأيّام وتكرار القرون على صدق هذا الاستقراء ، فلم يرحض عار الجريمة عن يزيد حتّى فتكت به وراح بجريرتها ، فكانت أيّامه عدداً وجمعه بدداً .

وكان المستقبل لذكر آل البيت (عليهم السّلام) مرهوناً ، والعظمة لرجاله موقوفة ، والحياة لآثارهم ناصعة ، والعلوّ لأعتابهم يزداد ، والولاء لهم وحدهم يتعمّق .

واحتلّ قبر الحسين الشهيد كعلم لا يُدرس أثره في الضمائر قبل الأرض ، ولم يزده كرور الليالي والأيّام إلاّ رسوخ رسمه ، وما زادته اجتهادات أئمّة الكفر وأشياع الضَلال إلاّ بروزاً وتثبيتاً ، فازداد أثره علوّاً .

ولنَجِل عيوننا الآن إذا كنّا في شكّ من تمام هذه المعجزات التي اجترحتها شهادة سيّد الشهداء ، لنَجِلها في كلّ البقاع والأصقاع باحثين عن أيّ أثر ليزيد أو معاوية أو شمر أو ابن زياد ، فلا يمكن أن نعثر على أيّ أثر لهؤلاء ، فقد اندرست آثارهم ، وانمحى ذكرهم ، وإذا ذكروا فلأجل لعنهم والدعاء لهم بنارٍ حامية لا تنطفئ .

ولنَجِل أبصارنا بالمقابل إلى أيّ مكان فوق هذا الكوكب ، فيطالعنا خلود الحسين ونسمع اللهج بذكراه . ففوق كلّ مكان الحسين منارة هَدي ، وفوق كلّ يمّ الحسين طوق نجاة ، وفي كلّ مظلمة الحسين قبس من نور وحكمة ، وأمام كلّ طاغية الحسين ثورة لا تبقي ولا تذر .

هو (عليه السّلام) ملء الأبصار والأسماع ، أمل للحائرين والمظلومين ، وبلسم

ـــــــــــــــ
(1) كامل الزيارات / 261 .

الصفحة (191)

للمجروحين المحزونين ، وشفاء لكلّ علّة اجتماعيّة وأخلاقيّة .

ولنرى الآن أين اُولئك الظالمون ؟ وأين قبورهم ؟ وكيف يُذكرون ؟(1) لنقتنع بعظمة أقوال السبط العظيم ، وبخلود مبادئه خلود الإنسان الذي كانت لأجله .

ويكفي يزيد مهانة أن يعلن ابنه معاوية الثاني أمام حشدٍ كبير براءته ممّا جنت أيدي أبيه وجدّه ، ورفضه الجلوس على عرش ملوّث بدماء الحسين . ويكفي الحسين خلوداً وتكريماً أن يعلن ابن قاتله عن حمل شعلة ثورته والعمل بوحي من مبادئه .

ولنرى الآن كيف يكرّم المؤمنون على اختلاف أديانهم الحسين (عليه السّلام) ، وكيف يستلهمون ثورته في قيامهم وقعودهم(2) ، في صغائر اُمورهم الدنيويّة وكبائرها ؟

فلنمجّد لله الذي كان رفوقاً بعباده إذ أعدّ لهم طوق خلاصهم ، ورفع أمام بصائرهم الكليلة منارة الفضيلة والحقّ بشخص الحسين الشهيد . وإنّها لعبرة ودرس علوي لبني البشر ؛ كي لا يعموا بصائرهم ويصمّوا آذانهم عن دعوات الحقّ التي يرسل لها تعالى أربابها لحكمة فوق مستوى إدراكهم .

قالت عزّته : وكما عَلَت السماوات عن الأرض كذلك طُرقي عَلَت على طُرقكم ، وأفكاري على أفكاركم(3) .

ونهضة الحسين (عليه السّلام) هي السفينة التي عناها الرسول الكريم ، فمَن يركبها ينجو ، ومَن يتخلّف عن ركوبها يغرق .

ـــــــــــــــــــ
(1) قيل : إنّ يزيد مات أثناء تلهّيه بالصيد في ( حوّارين ) من بلاد الشام . ولم يعثر من جثّته إلاّ على فخذه ، فنقلت إلى دمشق ودفنت قرب الباب الصغير اليوم في غرفة مهجورة ليس لها سقف ، يرميها المارّون بالحجارة ويبصقون على العظام التي تضمّها ، تبرّؤوا من يزيد ومن أفعاله المنكرة .
(2) ذكرى عاشوراء تجديد لهذا الاستلهام ، وإعادة لذكرى الفداء العظيم الذي أنقذ دين الإسلام من الفناء .
(3) أشعيا 55 / 9 ـ 10 .

الصفحة (192)

فما أجدر بالبشريّة وهي تجتاز في هذا العصر المظلم أخلاقيّاً واجتماعيّاً وسلطويّاً درب آلامها لأن تتوجّه نحو منارة الحسين كي لا تضلّ ، وتتمسّك بأطواق مبادئه كي لا تغرق ، وتسترشد بصرخته كي تبعد عنها وحوش الضلالة وثعابين الظلم والإذلال .

وما أحرانا الآن أكثر من أيّ وقت مضى لأن نستدفئ بحرارة قتل الحسين المنبعثة من قلوبنا حارّة لا تبرد أبداً . وهي حارة تستوطن قلوبنا ، ولا داعي للبحث عنها بعيداً عن صدورنا ، فهي جزء من حرارة قلوبنا ، إذا كنّا مؤمنين .

ولنا في قولة الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله) : (( إنّ لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً )) دافعاً لإدراك حقيقة جوهريّة لطالما تغافلنا عنها ، وهي أنّ حرارة قتل الحسين قد احتلّت قلوبنا وامتزجت في دمائنا وصارت خليّة من خلايانا ، ولو لم تكن حرارته كذلك لَما أعطاها الرسول الكريم صفة الحتميّة التي لا تتحمّل تأويلاً .

فصلوات الله عليه لم يقُل : ستظلّ حرارة قتل الحسين حارّة فيعطيها صفة المرحليّة ، ولم يقُل : اجعلوها حارّة في قلوبكم فيعطيها صفة البدء ، ويعطينا خاصيّة الاختيار والتقرير بين جعلها حارّة أو تركها باردة ، ولم يقُل : يجب أن يكون لقتل الحسين حرارة فيربطها بإرادة الإنسان ، فتخضع لمبدأ الوجوب أو عدمه ، بل كان في قولته (صلّى الله عليه وآله) تضمين حتمي بأنّ لقتل الحسين حرارة لا تبرد أبداً ، وهو تضمين لا يحمل صفة التعمية أو اللبس ، بل هو تأكيد مجزوم بأنّ قلب المؤمن هو مقرّ ومستقرّ حرارة استشهاد الحسين ؛ لأنّ سدى هذا الاستشهاد من لحمة إيمان قلب المؤمن ، فهو إذاً لا يحيا إلاّ بهذه الحرارة ، وهذه الحرارة لا تتأجّج حيث لا تبرد

الصفحة (193)

أبداً إلاّ في هذا القلب(1) .

قولة نبويّة فيها من إعجاز الحكمة الشيء الكثير لو عملنا بمقتضاها لتبدّلت حياتنا ، وما أظنّ إلاّ أنّا عاملون بهذا المقتضى ملتفتون إلى ما فيه من جوهر ، فحتمية اندفاعتنا العصريّة وما يحيق بها من مظالم وقهر ستؤول بنا في النهاية إلى حظيرة الحسين ، حيث نجد فيها العدل والرحمة والطمأنينة ، وننفض عن ذاتيّتنا كلّ وهنٍ وخوفٍ وشكٍّ .

فمَن أحقّ من المؤمن في الاستفادة من نتائج شهادة الحسين ، ومَن أحقّ منه في الدفء المنبعث من هذه الشهادة ، حيث يذوب أمامه صقيع أوهامه ؟ فهلاّ كنّا من المؤمنين الذين كرّمهم تعالى بأن جعل لقتل الحسين في قلوبهم حرارة لا تبرد أبداً ؟ وهل نحن أهلٌ لهذه التكرمة ؟ وجديرون حقّاً بهذه الحرارة ؟

قبل الإجابة لنسأل أوّلاً : هل وعَينا هذه الحرارة ؟ وهل تأكّدنا من وجودها في قلوبنا(2) ؟

ــــــــــــــــــ
(1) حرارة المشاعر في القلوب هي المُلهم للفكر والمحرّك لإرادة الفعل . وفي استيلاء حرارة الحبّ في القلب المُحبّ دافعاً له لإظهار مودّته وعطفه نحو محبوبه بقدر كبير من الجزل والحبور . وحرارة قتل الحسين (عليه السّلام) المستوطنة في قلوبنا تؤجّج في أفكارنا إلهامات إنسانيّة خيّرة . وفي قلوبنا التماعات قدمية عذبة ، فننحو نحوها بجوارحنا لنذوب في نداء مجهولها ، فتخضوضر مناطق اليبوسة في حنايانا . وفي هذا سرّ الحرارة والتأجّج .

(2) التأكّد يكون بعدّة مظاهر أوّلها القدرة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونصرة المظلوم .

الصفحة (194)

شاهد أيضاً

مصباح الهداية إلى الخلافة والولاية

مصباح    26 إعلم، أيها الخليل الروحاني، وفقك الله لمرضاته وجعلك وإيانا من أصحاب شهود ...