الرئيسية / بحوث اسلامية / الحسين في الفكر المسيحي – انطوان بارا

الحسين في الفكر المسيحي – انطوان بارا

الصفحة (224)

إلاّ أنّ مشاعر المسلمين بعد موت معاوية وتولّي ابنه يزيد لم تقف عند حدود عدم الحزن أو الفرح ، بل تعدّتها إلى شعور الخوف والترقّب من عهد يزيد الذي لم يعرفوا له لوناً بعد . إذ كان معاوية قد استطاع أن يقيم توازناً ذكيّاً بين ما كان عليه وما ظهر منه للاُمّة ، وكان التكتّم هو وسيلته الناجعة في إحداث هذا التوازن ، فقنع الناس بهذا الحدّ من الإرهاب والتنكيل ولم يعودوا يجرؤون على الجهر بأكثر من الصمت .

وكانت هذه الخشية التي جاشت في قلوب المسلمين من عهد جديد بدأ ولم تتحدّد أبعاده بعد ، نابعة من معرفتهم لشخصيّة يزيد كما سمعوا عنها ، ورأوا ما رأوه منها .

فيزيد كان مثالاً لابن السلطان المدلّل المنحرف ، وكان كما تروي الكتب عنه أحمق مغروراً ، زاده التهوّر سطحية في التفكير ، وبُعداً عن الحيطة والتكتّم ، وكان اُسلوبه في التصرّف ومعالجة الاُمور اُسلوب مَن يركب كلّ مركب ومطيّة دون النظر في عواقب فعلته .

وكان على النقيض من أبيه معاوية ، فكلّ التكتّم عند معاوية كان يقابله عند يزيد المجاهرة والانفلاش ، وكلّ تكتيك عند أبيه كان يقابله عنده تهوّر واضح واندفاعة هوجاء .

وهذه الشخصيّة في مقياس علم النفس تسمّى بالشخصيّة ( العصابيّة ) وخصائصها هي ذات الخصائص التي عُرف بها يزيد ، ومن مزاياها الاستجابة الفوريّة والسريعة والعنيفة لردود الفعل ، وخفّة الشخصيّة وسرعتها في الانقياد للآراء الجديدة ، سواء أكانت صائبة أم خائبة ، وصاحب هذه الشخصيّة إنسان فتّاك يغدر بأقرب المقرّبين إليه ، ولا يتورّع عن ركوب أشنع الأساليب للوصول إلى غرضه .

الصفحة (225)

ويصفه ( سيجموند فرويد ) : بأنّ صاحب الشخصيّة العصابيّة إنسان ذو فائدة لعدد من الناس الأذكياء ، يدغدغون عصبيّته ويبتزّون منه الفوائد(1) .

وهذا الوصف كان ينطبق إلى حدٍّ بعيد على شخصيّة يزيد . إذ كان القرّادون والفهّادون والقيان والقوادّون وسمسارو الجواري والعاهرات يشكّلون طبقة عريضة مستفيدة من أعطياته التي كان يحجبها عن المحتاجين من اُمّته ، ويغدقها عليهم طالما هم يمتّعونه ويؤمّنون له الاستمراريّة في مباذله ومجونه .

كان موفَر الرغبة في اللهو والقنص والخمر والنساء وكلاب الصيد ، حتّى كان يُلبسها الأساور من الذهب والجلال المنسوجة فيه ويَهَب لكلّ كلب عبداً يخدمه . وساس الدولة سياسة مشتقّة من شهوات نفسه(2) .

ورجل هذه صفاته كان من غير الممكن أن يسكت عن معايبه رجل كالحسين (عليه السّلام) عُرف بالتقوى وخوف الله والبذل للمحتاجين ، والاقتطاع من فمه وإطعام أفواه الجياع . ورجل كهذا لا يمكن له من معالجة اُموره مع الحسين كما عالجها أبوه ، إذ كان الفرق شاسعاً بين الاثنين ، وكان منتظراً أن يتمّ التصادم في عهده بل في مطلع هذا العهد .

فلم يكن ثمّة ما يمنع الحسين بعد موت معاوية من إعلان ثورته على يزيد ، فالنفوس عبّئت عن آخرها ضدّ هذا الخليفة الجديد ؛ فمن جهة يزيد ساهمت الانتهاكات المكشوفة للدِّين في إيغار الصدور ضدّه ،

ـــــــــــــــ
(1) سيكولوجيّة الشذوذ النفسي / 129 .
(2) راجع الفخري لابن طبا طبا الطقطقي / 103 ، والبلاذري في أنساب الأشراف .  

                                                                                       

      الصفحة (226)

إذ لم يكن له قدرة أبيه على الاحتفاظ بالغشاء الديني الذي كان يسبغه على أقواله وأفعاله .

ومن جهة الحسين ساهم موت معاوية في تحلّله من العهد والميثاق ، ولم يعد ملتزماً أمام أحد ليبرّر قعوده ، وها هو يزيد يقدّم له إشارة البدء بما بدأ به من رعونة وحماقات في مستهلّ عهده .

فما أن وُرِيَ معاوية التراب حتّى عجّل يزيد بأخذ البيعة لعهده من زعماء المعارضة ، مدّعياً أنّه رأى في منامه كأنّ بينه وبين أهل العراق نهراً يطرد بالدم جرياً شديداً … وقد جهد ليجوزه ، فلم يقدر حتى جازه بين يديه عبيد الله بن زياد وهو ينظر إليه . وكانت هذه أكذوبة افتتح بها عهده كما اختتم أبوه عهده وحياته باُكذوبات مماثلة تحدّث فيها عن رؤى قدسية لم تجُل إلاّ في خياله المريض .

وما لبث أن كتب إلى الوليد بن عتبة واليه على المدينة يخبره فيه بموت أبيه ، ومرفقاً به صحيفة صغيرة ذكر له فيها : أمّا بعد ، فخذ الحسين وعبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر وعبد الله بن الزبير بالبيعة أخذاً شديداً ليس فيه رخصة(1) ، ومَن أبى فاضرب عنقه وابعث إلي برأسه(2) .

وما جاء في هذه الصحيفة يعطي دلالة شاملة على شخصيّة يزيد . إذ في أوّل كُتبه لأحد وُلاتِه يطلب منه أخذ الحسين وجماعته بالشدّة ، ويأمره بقطع رؤوسهم

ــــــــــــــــــ
(1) الكامل ـ ابن الأثير 3 / 263 .

(2) مقتل الحسين (عليه السّلام) ـ الخوارزمي 1 / 178 ـ 180 .

الصفحة (227)

وإرسالها له إن أبَوا بيعته . وها هو بأوّل تحرّك له يخالف آخر وصيّة لأبيه على فراش الموت حينما قال له فيما قال : إن خرج الحسين من العراق وظفرت به فاصفح عنه ؛ فإنّ له رحماً ماسّة وحقّاً عظيماً وقرابةً من محمّد (صلّى الله عليه وآله) ، فإن قدرت عليه فاصفح عنه ، فإنّي لو أنّي صاحبه عفوتُ عنه .

ولكن يزيد صاحب الشخصية العصابيّة التي تفتك بأقرب الناس لها دون أن يرفّ لها جفن لم تكن لتهمّه كثيراً قرابة الحسين من محمد (صلّى الله عليه وآله) ، ولا تهزّه قرابة الرحم الماسّة ؛ إذ إنّ كل همّه الشدّة وإلاّ كان قطع الرؤوس هو البديل للإذعان لهذه الشدّة(1) .

ولكن الحسين (عليه السّلام) الذي انتظر هذه الفرصة طويلاً وصبر على معاوية حتى أيس منه أغلب صحبه ، هبّ سريعاً ، وكانت ردة فعله مدروسة ؛ إذ قال للوليد لمّا فاتحه بكتاب يزيد : (( مثلي لا يبايع سرّاً ، ولا يجتزئ بها منّي سرّاً ، فإذا خرجت للناس ودعوتهم للبيعة ودعوتنا معهم كان الأمر واحداً ))(2) .

فاقتنع الوليد لكن مروان قال له : لئن فارقك الساعة ولم يبايع لا قدرتَ منه على مثلها أبداً حتّى تكثّر القتلى بينكم

ــــــــــــــ
(1) كان يزيد ( سيكوباتياً ) وفي علم النفس السيكوباتية تعني إيقاع الأذى رغم معرفة مقترفها بالقانون والأعراف . إذ إنّ لذّة المقترف الكبرى تتجلّى في اقتراف ما يعرفه أنه جريمة تمام المعرفة .
(2) تاريخ الطبري 6 / 189 .

الصفحة (228)

وبينه ، فاحبس الرجل حتّى يبايع أو تضرب عنقه . فوثب له الحسين قائلاً : (( ويلي عليك يابن الزرقاء ! أنت تأمر بضرب عنقي أم هو ؟! كذبت ولؤمت وأثمت ))(1) . وارتدّ إلى الوليد وقال : (( أيّها الأمير ، إنّا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة ، بنا فتح الله وبنا ختم ، ويزيد فاسق فاجر شارب الخمور وقاتل النفس المحرّمة معلن بالفسق ، ومثلي لا يبايع مثله ، ولكن نصبح وتصبحون ، وننظر وتنظرون أيّنا أحقّ بالخلافة ))(2) .

فأغلظ الوليد في كلامه وتطايرت الكلمات ، فهجم تسعة عشر رجلاً جاؤوا مع الحسين منتضين خناجرهم وأخرجوه(3) . فقال مروان للوليد : عصيتني ! فوالله لا يمكنك على مثلها . قال الوليد : وبّخ غيرك يا مروان ، اخترت لي ما فيه هلاك ديني ؛ أقتل حسيناً إن قال لا اُبايع ؟ والله لا أظن امرأً يُحاسب بدم الحسين إلاّ خفيف الميزان يوم القيامة(4) ، ولا ينظر الله إليه ولا يزكّيه ، وله عذاب أليم(5) .

وهكذا فبعبارة (( ومثلي لا يبايع مثله )) ختم الحسين (عليه السّلام) صيحة تحدّيه

ــــــــــــــــ
(1) تاريخ الطبري ، وابن الأثير ، والإرشاد ، وإعلام الورى نقلاً عن المقرّم .

(2) مثير الأحزان ـ لابن نما الحلي .

(3) مناقب ابن شهر آشوب 2 / 208 .

(4) تاريخ الطبري 6 / 19 .

(5) اللهوف / 13 .

الصفحة (229)

ليزيد ، وبدأ بالخطوة الأولى في رحلة الألف ميل نحو مصارع شهادته . وهذه العبارة فيها من الإيجاز ما لا يستوعبه مجلد بالشرح المستفيض . فقوله (عليه السّلام) ( ومثلي ) معناه أنّ مَن كان مثله على دين الحق وسلالة النبوّة لا ( يبايع مثله ) مَن كان على باطل الأباطيل ، وسليل مغتصبي حقّ آل البيت .

وحينما ألقاها ارتفع من أمامه آخر الحواجز النفسية والزمنية ، ووضعته العناية الإلهية أمام دوره العظيم في مسيرة الدين الإسلامي ، فصار منذ هذه اللحظة بطل هذه العناية وخادمها ، ومنفّذ إيحاءاتها العُلوية التي ستقوده إلى قدره المكتوب والمحتوم . في تلك الليلة خرج الحسين زائراً قبر جدّه الرسول (صلّى الله عليه وآله) وقد أثقله الدور الذي سيقوم به ، والذي شعر بأنه صار إليه منذ أعلن كلماته أمام الوليد ومروان ، فسطع له نور من القبر ، فناجى جدّه قائلاً : (( السّلام عليك يا رسول الله ، أنا الحسين بن فاطمة ، فرخك وابن فرختك ، وسبطك الذي خلفتني في اُمّتك ، فاشهد عليهم يا نبيّ الله أنّهم خذلوني ولم يحفظوني ، وهذه شكواي إليك حتى ألقاك ))(1)

وفي الليلة الثانية خرج إلى القبر يصلّي ويدعو الله بحقّ القبر أن يختار له ما يرضى به عنه ولرسوله رضى ، ثمّ بكى . وما لبث أن غفا على القبر ، فإذا برسول الله (صلّى الله عليه وآله) قد أقبل في كتيبة من الملائكة عن يمينه وشماله وبين يديه ، فضمّ سبطه بين يدَيه إلى صدره ، وقبّل عينَيه وقال :

ــــــــــــــ
(1) أمالي الصدوق / 93 .

الصفحة (230)

(( حبيبي يا حسين ، كأنّي أراك عن قريب مرمّلاً بدمائك ، مذبوحاً بأرض كرب وبلاء مع عصابة من اُمّتي ، وأنت مع ذلك عطشان لا تُسقى ، وظمآن لا تُروى ، وهم مع ذلك يرجون شفاعتي ! لا أنيلهم شفاعتي يوم القيامة . حبيبي يا حسين ، إنّ أباك واُمّك وأخاك قد قَدِموا عليَّ وهم مشتاقون إليك ، وإنّ لك لدرجات في الجنان لا تنالها إلاّ بالشهادة )) . فجعل الحسين ينظر إلى جدّه ويقول : (( يا جدّاه ، لا حاجة لي في الرجوع إلى الدنيا ، خذني إليك ، وأدخلني معك في قبرك )) .

وعبارة الحسين (عليه السّلام) الأخيرة تصوّر أدقّ تصوير هول ما سيصيبه ممّا جعله يطلب من جدّه إدخاله إلى قبره ، وهذا التصوير يدلّ على همجيّة الذين سيؤذونه أكثر ممّا يصوّر شعوره من هذا الإيذاء وعلى قسوة ما سيناله ، لا على خوفه منه .

ولعلّ التصوير الأشدّ بروزاً لهذه الهمجيّة ما جاء في قول جدّه (صلّى الله عليه وآله) له عند قبره من أنّه سيراه قريباً مرمّلاً بدمائه ، مذبوحاً مع عصابة من اُمّته .

فوصف ( عصابة من اُمّتي ) فيه إشارة إلى نوعية اُولئك الذين سيتولّون الذبح ، فهُم عصابة ، والعصابة تتكوّن من مجموعة أشرار غلاظ الضمائر والقلوب ، قساة الصدور والأنفس ، وقد حدّدهم (صلّى الله عليه وآله) بأنّهم ( من اُمّتي ) . أيّ تلك الطغمة الفاسدة من الاُمّة الإسلاميّة الخارجة عن العرف والقانون والأخلاق مثلُها مَثل عصابات السرقة والإجرام وانتهاك الحرمات .

ثمّ يصوّر الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله) شناعة موقف هذه العصابة بقوله لسبطه : (( وأنت مع ذلك عطشان لا تُسقى ، وظمآن لا تروى )) ويبسط أمام البصائر وحشيّة العصابة التي تذبح حفيده ، والتي لا تكتفي بالذبح بل مع ذلك تتركه عطشان وظمآن لا

الصفحة (231)

يُسقى ولا يُروى ، وبهذا الفعل الاضطهادي لا تعطيه الحقّ البسيط الذي يعطى لأعتا المجرمين قبل إعدامه حينما يُسأل عن آخر رغباته ، والتي يكون أبسطها السّقي والإرواء .

ويعطف النبي (صلّى الله عليه وآله) هذه الفعلة على ما بعدها والتي ستكون من جانبه (صلّى الله عليه وآله) ، إذ يكمل : (( وهم مع ذلك يرجون شفاعتي ! لا أنيلهم شفاعتي يوم القيامة ))(1) .

فعبارتا ( وأنت مع ذلك ) و ( هم مع ذلك ) فيهما ربط النتائج بالمسبّبات ، وردّ الفعل إلى النيّة في الفعل ، وإبراز الفَرق بين ما يجب أن يكون وبين ما لا يجب أن يكون ، أو كان فعلاً خارجاً عن المألوف وحدود الكينونة الطبيعيّة .

فالقتل في عرف القانون هو جريمة لها حدودها الماديّة والقانونيّة والشخصيّة والدينيّة ، إذا تمّ ضمن هذه الحدود اعتبر قتلاً في خانة الجريمة الصرفة ، أمّا إذا سبقه تعذيب فيعتبر في عرف القانون جريمة أخرى تسبق الجريمة الحقيقية من شأنه مضاعفة العقوبة لها ، وإذا ما تبع القتل تمثيل بالجثة فإنّ هذا الفعل يعتبر أيضاً جريمة اُخرى أشنع من القتل(2) ؛ لأنّ التمثيل هو إهانة الميّت ، وتعذيب لروحه التي لا تترك مسرح مصرعها إلاّ بعد أن توارى الجثّة

ــــــــــــــــ
(1) في سفر التكوين 3 / 11 أنّه حين قتل قابيل أخاه هابيل كلّمه الله قائلاً : فالآن ملعون أنت من الأرض التي فتحت فاها لتقبل دماء أخيك من يديك .

(2) يرى فيكتور ماسيون المشرّع الفرنسي بأنّ التمثيل بالجثّة جرم أكبر من جرم القتل ذاته ، ويعتبر أنّ للميّت حرمة لا يجوز إهانتها ، فإذا أهينت اعتبرت إهانة للرب خالق الهيكل البشري ومكوّنه على صورته ومثاله .

الصفحة (232)

التراب ( كما يرى بعض الروحانيين )(1) .

وهكذا فإنّ التعذيب والقتل والتمثيل تعتبر جرائم ثلاثاً في عرف القانون . فإذا نظرنا بهذا المنظار القانوني إلى مقتل الحسين ، وكيف عذّب قبل الذبح ثمّ ذُبح ومُثّل بجسده الطاهر أشنع تمثيل وأشدّه مهانة ، لتفسّرت لنا مقولة النبي (صلّى الله عليه وآله) لسبطه بهذا الشكل من التعبير(2) .

والرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) لم يترك ولده يعاني خوف الشهادة ، وهو الذي رآه يبكي على صدره ويسأله إدخاله في قبره ، بعد زهده في العودة إلى الدنيا ، فقال (صلّى الله عليه وآله) له : (( لا بدّ أن ترزق الشهادة ؛ ليكون لك ما كتب الله فيها من الثّواب العظيم ، فإنّك وأبوك وعمّك وعمّ أبيك تحشرون يوم القيامة في زمرة واحدة حتّى تدخلوا الجنة )) .

إذاً فإنّ انتظار الحسين كلّ هذه المدّة وصبره على مكاره معاوية لم يكن كما فسّره الملفّقون من أنّه جبن وخوف . وخروجه إلى الشهادة بالشكل الذي خرج به لم يكن كما أوّله المخرصون من أنّه خروج عاطفي ، لا يحسب لصراع القوّة حساباً ؟

فالحسين (عليه السّلام) لم يأتِ بأمرٍ من عنديّاته ، بل كان مسيّراً ليس له خيار ، فما قول

ـــــــــــــ
(1) للروحاني الفرنسي الكبير ، نوستر اداميس ( علم خاص في بقاء روح الإنسان حائمة فوق الجسد الذي تركته لساعات أو أسابيع لا تقوى على فراقه تأسّياً عليه ، وخوفاً من انفلاتها طليقة ، وللروحانيين الشرقيين آراء عدّة في هذا الصدد ، ومنها أنّ البكاء حول الميّت يحزنه ؛ لأن روحه تحوم وتراقب ولا تبرح بعيداً عن الجسد حتى يوارى التراب . والله أعلم.

(2) القتل يستجلب لعنة الله . وقد جاء النهي عنه في الإنجيل والقرآن والتوراة ، على قدر خطورته الدينية والاجتماعية والإنسانية ؛ لأنّ الإنسان مخلوق على صورة الله ومثاله ، وقتله معناه تغييب لصورة الله ومثاله فيه . وإزهاق لوديعة غالية أودعها الله في هيكله البشري . فكيف إذا كان المقتول قبساً من النبوّة وبضعة من الرسولية . وجزءاً كبيراً من محبّة الله للإنسان … ونفحة قوية من إلهاماته وسرّه … ! .

الصفحة (233)

الذين قالوا بعكس ذلك بكلمة الرسول (صلّى الله عليه وآله) لسبطه (( لا بدّ أنّ ترزق الشهادة ليكون لك ما كتب الله فيها )) . وهل بعد تنبّؤ الأنبياء ادّعاء ، وهل بعد تقريرهم نقض ؟

واُولئك الذين وضعوا ويضعون شهادة الحسين على مشرحة الحروب العسكريّة والصراعات البشريّة من أجل مغانم زمنيّة مؤقّتة ، أمَا علموا أنّ حركته كانت استشهاداً وفداءً من حيث كان يقصد بها ذلك قبل أن يقوم بها بزمنٍ بعيد كما حلّلنا ذلك في مطلع كتابنا ؟! أمَا لفت بصيرتهم إلى كون الشهادات العظيمة تشابهت في الشكل والوسائل والنتائج ، وإنّها دوماً كانت تبدأ من أضعف المواقف حيث تستلزم القوّة ، ومن أقوى المواقف حيث يستلزم الضعف ؟!

أمَا قرؤوا نبوءات الرسل والوصيّين عن الشهداء الذين سيأتون بعدهم لإنقاذ العقائد وبني البشر من غيّهم وضلالهم ، وانتشالهم من بؤر الظلم إلى شمس الحقّ ، فيوفّروا على أنفسهم اجتهادات تؤول مصائرها إلى الرياح تذروها بدداً حيال سطوع وتجلّي الحقيقة الإلهيّة الجوهريّة التي لن يعلو على سناها سناء ، ولا على إشعاعها إشعاع ؟! فهي كالشمس ، واجتهادات المحرّفين عُمي الأبصار والبصائر الذين يرون الحقيقة فيشيحون بوجوههم عنها ، هي كظِلالٍ باهتة لأشجارٍ عرّيت من أثمارها وورقها ، وعصفت بها أرياح الشتاء .

فما أعجب أولئك الموتورين الذين كفروا بنعمة الله تعالى الذي أعطاهم نعمة ( الكلمة ) فألصقوا بها المعايب والسوءات ، وسكبوها على الورق تحريفاً لكلام الله وكلام رسله وأوصيائه ، فمَن لهم بشفيع يوم القيامة ، ومَن لهم بمنقذ من هواتف صدورهم إذا ما استيقظت ضمائرهم وهتفت في داخلهم تطلب ماء الرحمة والإيمان لتبرّد به جحيمها ؟

الصفحة (234)

يا ليت مَن يمنع المعروفَ iiيمنعهُ=حتّى يذوقَ رجالٌ غبّ ما صنعوا
ولـيت للناس خطّاً في iiوجوههمُ= تـبين أخـلاقُهمْ فيه إذا iiاجتمعوا
وليت ذا الفحش لاقى فاحشاً أبداً=ووافق الحلمَ أهلُ الحلم iiفابتدعوا(1)

ــــــــــــــــ
(1) هذه الأبيات لأبي دعبل الجمحي ، وقد أثبتناها هنا للاستشهاد بمعناها الموافق مع معاني الرأي الذي سبقها .

شاهد أيضاً

الابحاث العرفانية –  السيّد محمّد الحُسين‌ الحسينيّ الطهرانيّ

الابحاث العرفانية –  السيّد محمّد الحُسين‌ الحسينيّ الطهرانيّ کتاب الشمس الساطعة منهج‌ المرحوم‌ القاضي‌ قدّس‌ ...