الرئيسية / بحوث اسلامية / الحسين في الفكر المسيحي – انطوان بارا

الحسين في الفكر المسيحي – انطوان بارا

الصفحة (284)

ولم يقف حدود تبكيت الضمير عند فرد من بني اُميّة ، ولا عند حدود فعل واحد ، فها هو هشام بن عبد الملك بعد أن علم بمقتل زيد بن علي وولده يحيى ، حزن عليهما حزناً شديداً ، وردد : وددت أني كنت افتديتهما . ويأتي مروان آخر خلفاء اُميّة ليمتنع عن شتم ولعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب .

وفي مواقف خلفاء بني اُميّة الذين اعتلوا العروش بعد ثورة الحسين (عليه السّلام) دِلالة كافية على أنهم بمواقفهم هذه كانوا يقدمون على فعل مسبق لما كانوا يحدسون تفجُّره بين يوم وآخر ، بدوام تذكُّر الناس مأساة آل البيت (عليهم السّلام) ؛ لهذا قال عبد الملك : جنِّبني دماء آل أبي طالب ؛ ولأجله امتنع مروان عن لعن أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، وبسببه تنصَّل معاوية الثاني من فعلة جدِّه معاوية وأبيه يزيد .

حتى يزيد نفسه لما رأى حزن أهل بيته على قتل الحسين(1) ، وسمع تقديسه مع أولاد علي وعظمتهم ومظلوميّتهم بين الناس ، صمت وأراد تبرئة نفسه ممّا جنت يداه بإلقاء المسؤولية على عماله . وقد سُمع ذات يوم يقول : إن سلطنة الحسين كانت أهون علي من هذا المقام العالي الذي فاز به آل علي وبنو هاشم .

وها هو يحيى بن الحكم يقول لبني اُميّة لما بلغه قتل الحسين : حُجبتم عن محمد (صلّى الله عليه وآله) يوم القيامة ، لن اُجامعكم على أمر أبداً .

ورد ذكر هذه الحوادث وما يليها في كتاب (رأس الحسين) لابن تيمية(2) ،

ـــــــــــــــــــــ

(1) لمّا رأت زوجة يزيد هند بنت عمرو بن سهيل الرأس المصلوب على باب دارها ، وشاهدت الدم الطري يتقطر منه ، عظُم المصاب في قلبها ؛ فدخلت على يزيد في مجلسه سافرة الحجاب وهي تصيح : رأس ابن بنت رسول الله مصلوب على دارنا ؟! فغطَّاها وقال لها : أعولي على الحسين ؛ فإنه صريخة بني هاشم عجَّل عليه ابن زياد .

(2) رأس الحسين / 161 وما بعدها ، ط القاهرة .

الصفحة (285)

وعلى الرغم من محاولة المؤرّخ تبرئة يزيد ، إلاّ أنه يعود إلى ذكر ما قيل بما يتَّفق وما تناقله الرواة بأسانيد قوية ، ويُعلِّق عليه بأنه اختلاق وبهتان ، وأن يزيد لم يعلم بقتل الحسين ، ولم يكن يريده ، ويذكر عنه أنه أمر النعمان بن بشير أن يبعث مع السبايا إلى المدينة رجلاً أميناً معه رجال وخيل ، ويكون علي بن الحسين معهن ، ثم أنزل النساء عند حريمه في دار الخلافة ، فاستقبلهن نساء آل معاوية بالبكاء والنواح على الحسين ، ثم أقمن للنياحة ثلاثة أيام .

وكان يزيد لا يتغدّى ولا يتعشّى إلاّ ومعه علي بن الحسين وأخوه عمر ، فقال يزيد يوماً لعمر ـ وكان صغيراً جداً ـ : أتقاتل هذا ؟ وأشار إلى ابنه خالد بن يزيد ، يريد بذلك ممازحته ، فقال عمر : أعطني سكّيناً وأعطه سكيناً حتّى نتقاتل . فأخذه يزيد وضمّه إليه وقال : شِنْشِنِة أعرفها من أخزم ، هل تلد الحية إلا حية ؟

ولما ودّعهم قال لعلي بن الحسين : قبّح الله ابن سمية(1) ؛ أما والله لو أني صاحب أبيك ما سألني خصلة إلاّ أعطيته إياها ، ولدفعت الحتف عنه بكلّ ما استطعت ولو بهلاك بعض ولدي ، ولكن الله قضى ما رأيت .

ثم جهزَّه وأعطاه مالاً كثيراً ، وكساهم وأوصى بهم رسولاً أميناً ، وقال له :

ـــــــــــــــــــ

(1) ظنّ يزيد أنه بكلامه عن القبيح ابن سميّة يبعد تهمة قتل الحسين عنه ؛ لإعماء عيون المسلمين عمّا اقترفه بحقِّ سبط النبي وآل بيت النبوة .

وقد رُوي عنه أنه قال بعد أن دمعت عيناه : كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين ، لعن الله ابن سمية ؛ أما والله لو أنّي صاحبه لعفوت عنه. يقول هذا متناسياً عن عمد كتابه إلى واليه الوليد بن عتبة الذي أمره به أن يأخذ الحسين أخذاً شديداً ليس فيه رخصة ، وإن أبى فليضرب عنقه ويبعث إليه برأسه .

 لكن المسلمين لم ينسوا هذا كله ، ولم يقنعوا بحزن يزيد المصطنع الذي بدل أن يقتصَّ من قاتلي الحسين بإعدامهم أو إقصائهم بأضعف الإيمان ، جزاهم وقَّربهم . وهذا ما فعله بابن زياد ؛ فلم يعزله ولا عاقبه ولا أرسل يعيب عليه . ( رأس الحسين لابن تيمية / 132 ـ 181 ) .

الصفحة (286)

كاتبني بكلّ حاجة تكون لك .

ولما دخلت النساء عليه ، قالت فاطمة بنت الحسين ، وكانت أكبر من سكينة : يا يزيد ، بنات رسول الله (صلّى الله عليه وآله) سبايا ؟!

فقال : يا بنت أخي ، أنا لهذا كنت أكره .

قالت : والله ما تركونا إلاّ خرصاً .

فقال : ابنة أخي ، ما أتى إليك أعظم ممّا ذهب لك .

ثم أدخلهن داره وأرسل إلى كلّ امرأة منهن يستطلعهن عما فقدْنه ، فليس منهن امرأة واحدة تدَّعي شيئاً بالغاً ما بلغ إلاّ أضعفه لها .

فهل بعد هذه الوقائع والتصرفات من مزيد لمَن أبعد أسباب سقوط اُميّة عن فعل معجزة شهادة الحسين بكربلاء ؟ وكيف لا تصل الاُمور إلى ما وصلت إليه بعدها عبر ما كان قبلها ؛ انطلاقاً من مسلَّمات اتصال أوّل الشيء بآخره ؟

وما عذر اُولئك الذين ابتعدوا عن جوهر الحقيقة ليَردّوا سقوط عروش اُميّة إلى تعصب بني اُميّة للعرب ، بشكل أدى إلى تنمية الحقد في نفوس الموالي (المسلمون غير العرب) ؟

وأية حجّة تبرِّر آراء بعض المحرّفين الذين جردوا كربلاء من كلّ إعجاز ، مخالفين بذلك الحجج الإلهية ، وذاكرين أن الأطماع السياسية لفئة منظمة مستغلة اتخذت من مقتل الحسين ستاراً أشبه بقميص عثمان تلوح به لإزالة الدولة الاُمويّة ؟

الصفحة (287)

وسواء ردَّ بعض المؤرّخين سقوط اُميّة إلى التفاخر بين قيس واليمن ، أم إلى مصرع الوليد بن يزيد ، أم إلى دعوة الخوارج ، أم إلى جهل عمر بن عبد العزيز باُصول السياسة ، أم إلى سبب آخر . . . تظل خطيئة قتل الحسين التي اقترفها يزيد هي المؤشر الأوحد الذي بدأت منه بداية العد العكسي لسقوط الحكم الاُموي ؛ إذ ظل المسلمون ينظرون إلى خلفاء اُميّة نظرتهم إلى مختلسين سرقوا الخلافة بوسائل القهر والإذلال ، وقتلة لعِترة النبي المقدّسة التي راحت في سبيل رفع الظلم عن كاهل الأمة الإسلاميّة وحفظ روحانيتها من العبث .

وكان المسلمون يسمعون قبل استشهاد الحسين (عليه السّلام) على لسان الأخطل هذه الأبيات التي تصوّر لهم الإلهام السماوي الذي أوصل بني اُميّة إلى الحكم .

تَمَّت جُدودُهُمُ وَاللَهُ فَضَّلَهُم =وَجَدُّ قَومٍ سِواهُم خامِلٌ نَكِدُ

هُمُ الَّذينَ أَجابَ اللَهُ دَعوَتَهُم= لَمّا تَلاقَت نَواصي الخَيلِ فَاِجتَلَدوا

وَيَومَ صِفّينَ وَالأَبصارُ خاشِعَةٌ= أَمَدَّهُم إِذ دَعَوا مِن رَبِّهِم مَدَدُ

عَلى الأُلى قَتَلوا عُثمانَ مَظلِمَةً =لَم يَنهَهُم نَشَدٌ عَنهُ وَقَد نُشِدوا

وبعد استشهاد الحسين صاروا يسمعون كلّ ما يصوِّر مثالب خلفاء اُميّة ، فقد قال عبيد الله بن الحر الجعفي واصفاً اُميّة :

يَبيتُ النَشاوى مِن أُمَيَّةَ نُوَّماً =وَبِالطَفِّ قَتلى لا يَنامُ حَميمُها

الصفحة (288)

وَما ضَيَّعَ الإِسلامَ إِلا قَبيلَةٌ= تَأَمَّرَ نوكاها وَدامَ نَعيمُها

وَأَضحَت قَناةَ الدينِ في كَفِّ ظالِمٍ =إِذا اِعوَجَّ مِنها جانِبٌ لا يُقيمُها

فَأَقسَمتُ لا تَنفَكُّ عَيني حَزينَةً =وَعَيني تَبكي لا يَجِفُّ سُجومُها

حَياتي أَو تلقى أُمَيَّةَ خَزيةً =يَذِلُّ لِها حَتّى المَماتِ قرومُها

فكانت هذه المعادلات الشعرية المتضادَّة سبباً في إيقاظ العقول الخاملة ؛ فقد حملت هذه الأشعار بعد المقتل روح الإحساس بالظلم الفادح من خلافة اُميّة ، وكشفت عن فهم تام لما كان ، وإلاّ ما آلت الاُمور ، فكان أن بدأت مرحلة من الندم الجماعي تتفاعل بين أفراد المجتمع الإسلامي ، تُرجمت إلى مواقف وكلمات أظهرتها حالة المقت التي سادت في مختلف عهود بني اُميّة . وإذا قالها قائل فذلك أهون الشرّين ، أما إذا قالها خليفة اُموي فلا معنى لها إلاّ تفسير : ( وشهدَ شاهدٌ من أهلِها ) .

وهذه صورة للحكم الاُموي كما صوَّره أحد خلفاء بني اُميّة ، إذ قال(1) :

فَدَع عَنكَ أَدكارَكَ آلَ سُعدى= فَنَحنُ الأَكثَرونَ حَصىً وَمالا

وَنَحنُ المالِكونَ الناسَ قَسراً= نَسومُهُم المَذلَّةَ وَالنّكالا

ـــــــــــ

(1) هو الخليفة الوليد بن يزيد .

الصفحة (289)

وَنورِدُهُم حِياضَ الخَسفِ ذُلاً=وَما نَألوهُمُ إِلاّ خَبالا

فأي شاهد أبلغ من هذا على كلّ التساؤلات حول هوية الحكم الاُموي ؟ وأي شهادة على تمزّق الاُسرة الاُمويّة أدلِّ من قولة العباس بن الوليد لأخيه بشر حينما حرَّضه على خلع الوليد والبيعة ليزيد : يا بني مروان ، إني أظن أنّ الله قد آذن في هلاككم ؟ وقوله شعراً :

إنّي اُعيذكمُ باللهِ من فتنٍ=مثلِ الجبال تسامى ثم تندفعُ

إنّ البريةَ قد ملَّت سياستَكمْ=فاستمسكوا بعمودِ الدين وارتدعوا

لا تبقرنَّ بأيديكُم بطونَكُمُ=فثمَّ لا حسرةٌ تُغني ولا جزعُ

ومهما كانت المثالب التي آل إليها حكّام بني اُميّة حتّى اندثرت دولتهم وآلوا إلى الفناء ، فإنّ يزيد قد حوى عهده ما لم يَحْوِه حكم خليفة لا قبله ولا بعده .

ففي كتاب الفتن من صحيح البخاري أورد قول النبي (صلّى الله عليه وآله) : (( هلاك اُمّتي على يدَي اُغيلمة من اُمّتي )) . وعن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول : (( هلكة اُمّتي على يدَي غلمة من قريش )) .

وفي الصواعق المحرقة ، عن مسند الروياني ، عن أبي الدرداء ، عنه (صلّى الله عليه وآله) : (( أوّل مَن يبدل سُنتي رجل من بني اُميّة يُقال له يزيد )) .

الصفحة (290)

وفي مصادر اُخرى ، منها : معاوية ومقتل الحسين للخوارزمي ، وتاريخ أبي الفداء ، وكنوز الدقائق للمناوي ، وتاريخ الطبري ، وكتاب صفّين ، قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : (( إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه )) .

وفي فتح الباري إنّ أبا هريرة كان يمشي في السوق ويقول : اللَّهمَّ لا تدركني سنة ستّين ، ولا إمارة الصبيان . وكان يشير بذلك إلى خلافة يزيد .

ولكن الاُمّة الإسلاميّة تجاهلت قول النبي (صلّى الله عليه وآله) ، ولم تمتثل له بقتل معاوية حينما ارتقى منبره ، وارتضت برشح الأطماع الذي كان يُطرش فوق عيونها من ميزاب معاوية فيعمي منها البصر .

وإذا كان المسلم بعد استشهاد الحسين يتذكر شيئاً ، فإنه لن ينسى تذكُّر قتل يزيد للحسين وعترة آل البيت (عليهم السّلام) ، وحمل رؤوسهم على أسنَّة الرماح ، وسبي حرم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلى دمشق ، ونكته لثنايا ريحانة الرسول (صلّى الله عليه وآله) بقضيبه ، وترديده ذلك البيت الشنيع : ليت أشياخي . . . إلخ .

وإذا لم ينسَ هذه الشناعة ؛ فلأنه تمثّل وجدانياً وفكرياً خطورة قتل مسلم لمسلم بدون حقٍّ ، وشناعة إيذاء مؤمن لمؤمن ، وخطيئة ثلم أمر الأمة القائم بالقسط ، فكيف إذا كان هذا المسلم المقتول بمكانة سبط النبي (صلّى الله عليه وآله) ؟ وهذا المؤمن المؤذّى هو الحسين بن علي ، حبيب الرسول وريحانته ، وسيد شباب أهل الجنّة ؟

هنا يتخذ القتل بُعداً فوق بعده اللا إنساني ؛ فزوال الدنيا لأهون من قتل مسلم لمسلم بدون حقٍّ ، فكيف بقتل مسلم لحفيد نبي الإسلام ؟ حيث كان يقصد في قتله قتل الحقّ الإلهي الذي يمثِّله ، فيكون قد أضاف إلى قتله بدون حقٍّ جريمة قتل الحقِّ أيضاً المتمثِّل في تعاليمه وثورته ، ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَأً )(1) .

ـــــــــ

(1) سورة النساء / 92 .

الصفحة (291)

وفي إيذاء المسلم لمؤمن إيذاء للنبي (صلّى الله عليه وآله) ، إيذاء لله ، وفي إيذاء الحسين نحى الآذون منحى يتّجه إلى العناية الإلهية التي أعدَّت الشهيد وهيّأت له سبل الدعوة إلى حقها الأسمى ، فلم يعد الإيذاء مقصوراً هنا على مؤمن ما ، بل اشتمل على قاعدة الإيمان ذاتها التي وضع ركيزتها سيّد مَن آمنوا وحافظوا على إيمانهم ، وسيّد مَن استشهدوا في سبيل بقاء الإيمان مُترعاً في الصدور والحنايا .

وفي قولة الرسول الأكرم : (( إن لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً )) . تفسيرٌ مؤكدٌ لمعنى ما سبق ؛ ففي قلوب المؤمنين فحسب أودع قتل الحسين حرارة لا تبرد أبداً مهما اشتد صقيع الضَلالة حول القلوب ، ومهما علا صقيع الانحراف فوق الصدور . إنها حرارة قتل المسلم لمسلم بدون حقٍّ ، بل بظلم لم يسبقه ويلحقه ظلم ، وهي دفء أذيّة غير المؤمن للمؤمن المستمدة طاقتها السرمدية من غضبة النبي (صلّى الله عليه وآله) , وغضبة الله تعالى لغضبة رسوله .

حرارة لا تبرد ؛ لأنها مُستمدَّة من نار قتل سيّد الحقِّ بدون حقٍّ . وحرارة لا ينضب دفؤها ؛ لأنها كوت قلوب المؤمنين التياعاً لإيذاء سيّد المؤمنين ظلماً وقسوة . فمهما نسى المسلم فإنه لن ينسَ كلَّ هذا الذي تمثَّل خير تمثيل في تجبُّر يزيد ودمويّته وموقفه الشامت من آل البيت ، حينما أشرف ركب السبي على ثنية جيرون ، فأنشد يقول :

لمّا بدت تلك الحمولُ وأشرقتْ=تلك الشموسُ على رُبى جيروني

الصفحة (292)

نعب الغرابُ فقلتُ قُل أو لا تقلْ=فلقد قضيتُ من النبيِّ ديوني

فمعنى ( قضيت من النبيِّ ديوني ) ، أنّه قَتَلَ للنبي (صلّى الله عليه وآله) ما سبق وقتل له (صلّى الله عليه وآله) يوم بدر ، ووضع نفسه بتوازٍ مع شخص الرسول الأعظم ، وهو الفاسق الشرير الذي قال فيه الرَّسول (صلّى الله عليه وآله) : (( لا يزال أمر اُمّتي قائماً بالقسط حتّى يكون أوّل مَن يثلمه رجلٌ من بني اُميّة يُقال له يزيد )) .

وقد رأى المسلمون نبوءة رسولهم (صلّى الله عليه وآله) تتحقق في شخص يزيد ، الذي ما أن عُقدت له تلك البيعة الشاذة حتّى هبَّ ينهب المدينة ، ويرمي الكعبة بالمنجنيق ، ويقتل الحسين وأهل بيته (عليهم السّلام) ، ويمثِّل بجسده الطاهر في فلاة كربلاء ، ويحمل رأسه على رمح إلى دمشق . وكان خليفة ماكراً , افتتح عهده بشناعة كبيرة تجلّت في قتل الحسين (عليه السّلام) ، وختمه بوقعة الحرة قبل أن يقتله داء الجنب في مطلع شبابه(1) .

فلو أرجعنا كلّ الحركات التي ناوأت الحكم الاُموي إلى مصدر واحد ، لوصلت إلى حيث تنطلق المظالم والانحرافات التي بدأت بسيطة ، وكبرت وتنوّعت أساليبها مع كلّ خليفة اُموي جديد . ولو وضعنا إصبعنا على مكمن هذه الحركات ، لاتّضح لنا أنها تستقي كلها من نبع واحد ؛ أوله في كربلاء حيث ينبع ، وآخره في الزاب حيث صبَّ جارفاً أمامه كلّ الركام من قشِّ الحكّام الظلمة الذي نصبه خلفاء بني اُميّة في

 ــــــــــــ

(1) اختلفت الروايات في موته .

الصفحة (293)

درب اُمة الإسلام ، باسم الإسلام الذي هو منهم براء ، فانقرضت عروشهم ، وسقطت دولتهم سقوطاً مروعاً وكأنها لم تقم .

وبقيت عقيدة الإسلام التي تكالبوا عليها قرناً من الزمان ، وأعملوا فيها تشويهاً واستغلالاً وتنكيلاً باسمها ، حتّى كفر الإسلام بهؤلاء المسلمين المحسوبين عليه اسماً ، الهادمين له من الداخل قولاً وفعلاً . فلا السيف نفعهم ، ولا الهدم ولا التنكيل والإرهاب ، وارتدَّت سهامهم الحاقدة إلى نحورهم ، وكانوا بأفعالهم إنما يحفرون قبور نهاياتهم بأيديهم .

ولم تكُ كلمة الشهيد قبل مصرعه بكربلاء صيحة تُطلق في الهواء جزافاً ، بل كانت نبوءة تحمل في معانيها مسلَّمات المستقبل ، حينما خاطب قاتليه مبيِّناً لهم قرب نهاياتهم بقوله : (( أما والله لا تلبثون بعدها إلاّ كريثما يُركب الفرس ، حتّى تدور بكم دور الرحى ، وتقلق بكم قلق المحور )) . فلم يلبثوا بعدها إلاّ كما قال الحسين (عليه السّلام) ، فدارت بهم الأحوال دور الرحى ، وانتقم الله منهم ؛ قتلة بقتلة ، وضربة بضربة .

وكان من فضل المعجزات الإلهية أن اقتلعت بغضبتها عروش اُميّة ، وأمحت ذكرهم إلى الأبد ؛ فلم يُعثر لهم على أثر ، ولم يرد لهم ذكر إلاّ في باب الغدر والضلالة ، وقتل ذرّيّة نبي الإسلام (صلّى الله عليه وآله) .

وظلَّ ذكُر الحسين وآل البيت (عليهم السّلام) يرتفع وينتشر كالضياء ، فيغمر بسناه وفوحه العاطر الدهورَ والأزمان والأكوان ، والضمائر والقلوب ، وصار كلّ مكان وطئته أقدامهم أعتاباً يقدِّسها الملايين من البشر ، يزداد عددهم يوماً بعد آخر .

وغدت مبادئ الحسين (عليه السّلام) دستوراً لكلّ مظلوم وثائر وطالب حقٍّ فوق سطح هذه

الصفحة (294)

الأرض ، تحت أي لواء انضوى ، وبأي لغة تحدث .

ومن يمجِّد آيات الله يقنع بأن الشهادة التي أقدم عليها الحسين (عليه السّلام) ، وقد خسرت في العاشر من محرَّم خسارة زمنية جسيمة ، وكسبت بعده كسباً دينياً أزلياً ، فكانت هذه الشهادة الخصم الأقوى بعوامل ضعفه ، وكانت القوة الغاشمة التي صارعته الخصم الأضعف بعوامل قوتها . شهادة خاسرة في التِّو والآن ، ورابحة في القادم والآت ؛ لأن الحقَّ سيفها ، والباطل ميدانها .

ونهاية المطاف هي خواتم الاُمور ؛ لأن الاُمور مرهونة بخواتيمها لا ببداياتها ، وقد تُخذل البدايات ، وتُجزى الخواتم خيراً عميماً .

غُررتُمْ لئن صدقتُمُ أنّ حالةً=تدومُ لكمْ والدهرُ لونان أخرجُ

لعل لهمْ في منطوى الغيبِ ثائراً=سيسمو لكمْ والصبحُ في الليلِ مولجُ

يودُّ الذي لاقوه أنّ سلاحه=هنالكَ خلخالٌ عليه ودملجُ

فيدرك ثأرَ اللهِ أنصارُ دينِهِ=ولله أوسٌ آخرون وخزرجُ

ويقضي إمامُ الحقِّ فيكم قضاءهُ=مبيناً وما كلّ الحوامل تُخدجُ(1)

ـــــــــــــــــــــ

(1) من أبيات لأبي العباس علي بن الرومي ، وقد أثبتناها للتوافق .

الصفحة (295)

المسيحُ هل تنبّأ بالحسين (عليه السّلام) ؟

أيها القاتلونَ جهلاً حُسيناً=أبشروا بالعذابِ والتنكيلِ

قد لُعنتُم على لسانِ ابن داو= دَ وموسى وصاحبِ الإنجيل

لقد لَعن المسيح قاتلي الحسين وأمر بني إسرائيل بلعنهم ، وقال : (( مَن أدرك أيامه فليقاتل معه ؛ فإنه كالشهيد مع الأنبياء مقبلاً غير مدبر . وكأني أنظر إلى بقعته ، وما من نبيٍٍّ إلاّ وزارها ، وقال : إنك لَبقعة كثيرة الخير ، فيك يُدفن القمر الزاهر ))(1) .

في هذا الإيراد ثلاث نقاط ذات دلالةٍ وأهميَّة :

1 ـ لَعْنُ المسيح لقاتلي الحسين ، وأَمرُه لبني إسرائيل بلعنهم .

2 ـ الحثُّ على المقاتلة معه ؛ بإيضاح أن الشهادة في هذا القتال كمثلها مع الأنبياء .

ــــــــــــــــــ

(1) راجع كامل الزيارات لابن قولويه / 67 .

الصفحة (296)

3 ـ التوكيد على زيارة كلّ الأنبياء لبقعة كربلاء ، بالجزم التام على أن : (( ما من نبيٍٍّ إلاّ وزارها )) .

وتذكر بعض المراجع التاريخية(1) أنّ عيسى بن مريم (عليه السّلام) مرَّ بأرض كربلاء ، وتوقَّف فوق مطارح الطَّفِّ ، ولَعَن قاتلي الحسين ومُهدري دمه الطاهر فوق هذه الثَّرى .

ولما مرَّ أميرُ المؤمنين (عليه السّلام) بكربلاء في مسيره إلى صِفِّين حيث نزل فيها ، أومأ بيده إلى موضع منها ، وقال : (( ها هُنا موضع رحالهم ومناخ ركابهم )) . ثم أشار إلى موضع آخر وقال : (( ها هُنا مِهراقُ دمائهم ، ثقلٌ لآل محمد ينزل ها هنا ))(2) . ثم قال : (( واهاً لك يا تُربة ! ليحشرنَّ منك أقوامٌ يدخلون الجنّة بغير حساب )) . وأرسل عبرته وبكى مَن معه لبكائه ، فأعلمهم بأن ولده الحسين (عليه السّلام) يُقتل ها هنا مع عصابة ، هو وأهل بيته وصحبه .

وفي المقاييس البشرية المتعارف عليها أنّ كلّ فرد ذي صفة معينة لا بدّ وأن يتواجد أو يزور الأماكن التي يرتادها أو يجتمع فيها نظراؤه ، أو التي من المنتظر أن يقدم إليها شبيهٌ له . وفي مقاييس العزّة الإلهية كانت ودائع النبوءات والشهادات تتردد على أفواه النبيِّين ، وتدور بين أشداق الوصيِّين ؛ فيمهِّدون للأمر , ويدرِّبون النفوس على تقبّل الشبيه المُنتظر لهم ، الذي سيتمم ما بدؤوه في المجال الذي انتدبتهم العناية الإلهية له .

ونبيٌ كعيسى وشهيد كابن مريم (عليه السّلام) لا بُدَّ وأن يقف على أمر الشهيد الذي سيليه بعد أحقاب من الزمن ؛ ليُتمَّ ما بدأه من إحقاقٍ للحقِّ ، ونُصرةٍ للمظلوم ،

ــــــــــــــــــ

(1) ومنها إكمال الدين للصدوق / 295 .

(2) رجال الكشّي / 13 .

الصفحة (297)

وإسعاد للبشرية المعذبة ، وتخليصها من نير العبودية .

والصحيفة التي قرأ بها عيسى (عليه السّلام) عن مجيء الحسين (عليه السّلام) ، قرأ بها يحيى عن مجيئ المسيح قبل أن يأتي ، وأُلْهِمَها قولاً واضحاً ونبوءة محدّدة ، فقال (عليه السّلام) : (( سيأتي من بعدي مَن لستُ أهلاً لأن أحلَّ له سيَر نعليه ))(1) .

وفي الآية الكريمة : ( وَإِذْ أَخَذْنَا مِنْ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا )(2) . ما يدلّ على أن ميثاق النبيَّين والشهداء مأخوذٌ منهم قبل أن يكونوا ، وأن لا مفر من الرضوخ لهذا الميثاق كما تشاء العزَّة الإلهية .

وفي إنجيل القديس يوحنا يبشِّر المسيح تلامذته بإرسال مؤيِّد لشهادته ، يُكمِل من بعده رفع راية الحقِّ الإلهي فوق الخطيئة والبرِّ والحُكم ، فيقول (عليه السّلام) : (( إنّي ذاهب الآن إلى الذي أرسلني , وما من أحد منكم يسألُني : إلى أين تذهب ؟ غير أني أقول لكم الحق : من الخير لكم أن أمضي ؛ فإن لم أمضِ لا يأتِكم المؤيِّد ، أمّا إذا مضيتُ فأُرسله إليكم ، ومتى جاء أخزى العالم على الخطيئة والبرِّ والحُكْم ))(3) .

وقد فسِّر بعض اللاهوتيِّين اسم (المؤيِّد) بـ (الرُّوح القدس) ، لكن المعاني التي

ــــــــــــ

(1) يوحنا 1 / 27 ـ 28 .

(2) سورة الأحزاب / 7 .

(3) يوحنا 16 / 5 ـ 8 .

الصفحة (298)

تدلُّ عليها لفظة (الروح القدس) جاءت في الأناجيل الأربعة مُغايرة لمعنى اسم (المؤيِّد) ؛ إذ لو تصفحنا صفحات الإنجيل المقدس ، وتمعنَّا في عِظاتِ المسيح وأمثاله ، لتبيِّن لنا عدم تفوُّههِ بكلمة (المؤيِّد) إلاّ قبل رحيله ، وبأنه ذكر في كلّ عِظاِته (الروح القدس) بالروح القدس ، ولم يُسمِّه باسم آخر حتّى يَحتملَ تأويل وتفسير (المؤيِّد) بالروح القدس .

ففي إنجيل يوحنا يحادث المسيح المرأة السامريّة بقوله : (( ستأتي ساعة يعبد فيها العباد الصادقون الآب بالروح والحقِّ ))(1) .

إن الله روح فيجب على العباد أن يعبدوه بالروح والحق ، فهنا إشارة واضحة بأن الروح هو الحق .

وحينما يكشف المسيح عن سرِّ الروح لنيقود يموس يقول : (( مولود الجسِد يكون جسداً ، ومولود الروحِ يكون روحاً ))(2) .

وفي إنجيل لوقا تحديدٌ أكثر إيضاحاً لمعنى الروح القدس ؛ إذ يقول المسيح لتلاميذه : (( وعندما تُساقون إلى المجامع والحُكّام وذوي السُّلطة ، فلا يهمنَّكم كيف تحتجُّون أو ماذا تقولون ؛ لأن الروح القدس يُلهمُكم فيما ينبغي أن تقولوا ))(3) .

في هذه العبارة ( الروح القدس يُلهمُكم ) إشارة إلى أن الروح القدس شيء

ـــــــــــــــ

(1) يوحنا 4 / 21 ـ 24 .

(2) المصدر نفسه 3 / 6 .

(3) لوقا 12 / 11 ـ 12 .

الصفحة (299)

هيولي غير ملموس أو مرئي ، وحينما يحضر فإنما يحضر إلهاماً وإيحاءً لا كجسم مادي . وهذا ما أكَّدته قولة المسيح لتلامذته في الناصرة : (( روحُ الربِّ نازلٌ عليَّ ؛ لأنه مسحني )) .

وكان بإمكان المسيح (عليه السّلام) أن يستعيض بكلّ ما تفوَّه به عن الروح القدس بكلمة (المؤيِّد) ، فيقول : ( المؤيِّد يُلهمكم ) بَدَل الروح القدس ، ولقال أيضاً : ( المؤيِّد نازلٌ عليَّ ) بَدَل روح الرب .

وفي كلِّ عِظاته يتكلِّم المسيح عن الروح القدس بصيغة (الأقوى والأعلى) ، ويضع نفسه دوماً في موضع (الأدنى والمنفِّذ) ، فروح الآب نَزَل عليه ، وروح القدس يُلهم تلاميذه . ولكن في قولته : (( إذا مضيت أرسل لكم المؤيِّد )) . صار معنى الروح القدس يُفسَّرُ على أنه إحدى مقدّرات المسيح يُرسله متى يشاء ، بما يُخالف المعاني السابقة التي كان يتكلَّمُ فيها عن الروح القدس ويصفه بأبيه السماوي الذي أَرسَلَه وأَلهَمَه ويلْهِمُ تلاميذه ، لا سلطة له عليه ، وإنما سلطة الروح هي العُليا فوقه ، وما عليه إلاَّ الرضوخ لها .

إذاً فالفرق واضح وبيِّنٌ بين عبارتي ( الروح القدس يُلهمُكم ) وبين ( إذا مضيت أُرسِلُ لكم المؤيِّد) . فالروح القدس في الاُولى هو نفحٌ هيوليٌ يتمدَّد في الفكر والضمير ، ولا سيطرة للمسيح عليه ، بل هو يخضع له . والمؤيِّد في الجملة الثانية كائنٌ ماديٌ له أبعاده ، ولعيسى سيطرةٌ على إرساله للبشر .

ولتوكيد هذا المعنى ، معنى أن الروح القدس نفحٌ هيوليٌ لا كما فُسِّر بأنه (المؤيِّد) ، هو ما جاء في نشيد زكريا : وامتلأ أبوه زكريا من الروح القُدس ، فأنبأ وقال . . . إلخ(1) .

ـــــــــــ

(1) لوقا 1 / 67 وما بعدها .

الصفحة (300)

وأيضاَ ، فإن مريم بنت عمران عندما كانت مخطوبة ليوسف ، وُجدت قبل أن يتساكنا حاملاً من الروح القدس ، أي بنفحة من الله تعالى ، وبأمر من لدنه .

وفي القرآن الكريم : ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي )(1) .

وأيضاً : ( وآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ )(2) .

وفي إنجيل لوقا عبارة : (( إنّ الآب السماوي يمنح سائليه الروح القدس )) .

وأيضاً بنفس الإنجيل : (( إنّ الروح القدس سينطق بلسانكم في الاضطهاد )) .

وفي إنجيل يوحنا : (( الروح القدس يرشدكم إلى الحقِّ )) و (( سيخزي الروح القدس العالم )) و (( خذوا الروح القدس )) .

وكلمة (المؤيِّد) لم يرد ذكرها إلاّ في آخر الأناجيل الأربعة ، وقد فُسِّرت في متن بعضها بـ (الرُّوح القُدُس) بما لا يدع مجالاً للشك بأنّ التفسير قاصر لا يبلغ مبلغه في قولة المسيح ؛ إذا وضعنا في الاعتبار أن تعبير (الروح القُدُس) قد ذُكر بالنص الواضح الصريح في مواضع كثيرة من الأناجيل الأربعة ، وجاء في معاني الآيات بما يخالف طبيعة (المؤيِّد) من حيث درجتهما ومجال قدرتهما .

فلو أضفنا إلى اسم (المؤيِّد) عبارتي : ( أُرسله لكم ) و ( متى جاء أخزى العالم على الخطيئة والبرّ والحُكْم ) ، لا تضح لنا أن (المؤيِّد) بشرٌ وكيان مادِّي ، يُؤيدُه عيسى ويُعطيه راية الحقِّ التي استشهد من أجلها .

وبعد المسيح (عليه السّلام) جاء محمد (صلّى الله عليه وآله) خاتماً للأنبياء ، وبعد رسالة الإسلام ما

ـــــــــــــ

(1) سورة الإسراء / 85 .

(2) سورة البقرة / 87 .

الصفحة (301)

نزل للبشر رسل ولا هادون . فهل كان المسيح يتنبّأ بقدوم الحسين (عليه السّلام) ؟

من خلال التفسير السَّالف عرَّفْناه (المؤيِّد) بكائن مادِّي يؤيِّد شهادة عيسى (عليه السّلام) ، وتأييد الشهادة لا يكون إلاَّ باُخرى مشابهة لها ، تستمدُّ آلامها وشكلها من قسوة النفوس في زمن حلولها . ولو نظرنا لرأينا أن ليس ثمة من شهادة عظيمة أعقبت شهادة عيسى بعد مماته ، سوى شهادة ريحانة الرسول الأعظم ، وسليل النبَّوة وغذيُّها من إبهام النبي (صلّى الله عليه وآله) . وهي شهادة جرت على لسان شهيد المسيحية ، وأخذته إلى مطارحها في كربلاء قبل أن تكون بقرون .

وكأَن الشهيد عيسى (عليه السّلام) لما تمثَّل له أهوال الشهيد الحسين (عليه السّلام) فوق الأرض التي زارها ، والتي صارت مسرحاً لشهادته ، قد تأثَّر ولعن قاتليه ، وأمر بني إسرائيل بلعنهم ، وحثَّ الذين سيدركون أيامه على القتال معه . فما هو الحجم المقياسي لشهادة الحسين (عليه السّلام) في سفر المسلَّمات الإلهية والمعادلات البشرية ؟

كشهادة قربت بعظمتها وخِطَر نتائجها وعِظَمِها إلى حدود النبوَّة ، وقَرَّبت شهيدها إلى حدود ما في النبوَّة من قُدْسية وخلود ، فكانت ظلاً للنبوَّة ، وكان الحسين (عليه السّلام) شبيهاً بالرسل . ولا عَجَب في هذا المقتضي ما دام لم يخرج عما أوصى به عيسى (عليه السّلام) بني إسرائيل ، وما حثهم عليه من القتال مع الحسين (عليه السّلام) ؛ بوصف الشهادة معه ( كالشهادة مع الأنبياء ) .

ولا عَجَب أيضاً في تشبُّه الحسين بالرُّسُل ما دام لم يخرج عمّا أعلنه الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله) من قولته : (( حسين منّي وأنا من حسين )) . مبتدئاً إعلانه بالتركيز على كون الحسين منه قبل أن يكون هو من حسين .

الصفحة (302)

ولنُلقِ مزيداً من نور البصيرة والتبصُّرِ على تسمية (المؤيِّد) الذي وعد المسيح بإرساله ليشهد للحقّ ، فنلاحظ بأنه وصفه بـ (المؤيِّد) بكسر الياء ، وليس بـ (المؤيَّد) بفتح الياء .

وفي قاموس اللغة يعني اسم (المؤيِّد) : الذي يُثبِّت ويُقوِّي ويعضد غيره . وفي القول : أيّدَ فلانٌ فلاناً ، معناها : وافقَهُ ودعم رأيَهُ وموقفه أمام الآخرين . و (المؤيَّد) بفتح الياء وشدِّها ، يعني ذلك الشخص المُدعَّم والمعُضَّد رأيه وموقفه ، وهو يمثِّل في هذا الموضع اسم (المفعول به) ، بينما يمثِّل (المؤيِّد) بكسر الياء (اسم الفاعل) .

ولو ذكر عيسى (عليه السّلام) اسم (المؤيَّد) لصار (عليه السّلام) هو (المؤيِّد) له في مكان (الفاعل) ، ولمثّل هذا الذي سيُرسلهُ اسم (المفعول به) . وفي الأصل اليوناني للإنجيل جاءت اللفظة باسم (باراكلتس) ، أي المُعزِّي والمؤيِّد ، ومعنى (المُعزِّي) في العربية يجيء في نفس معنى (المؤيِّد) .

فلا يصحُّ إذاً تفسير المؤيِّد بالروح القُدُس ؛ لأن في سلطة المسيح على إرساله ليشهَد له معنى منافياً لهذا التفسير ، ومغايراً لسلطة الروح القدس على المسيح ، وهذا ما أكده (عليه السّلام) لتلاميذه في العشاء الأخير ، إذ قال لهم : (( الحقّ الحقّ أقول لكم : ما كان عبدٌ أعظم من سيّده ، ولا كان رسولٌ أعظم من مرُسِله ؛ لأنّ الذي أَرسلَهُ الله يتكلّم بكلامِ الله ))(1) .

ــــــــــــــ

(1) يوحنا 13 / 16 .

الصفحة (303)

وفي موقف آخر له ذكر يوحنا على لسانه قوله : (( إنّ الروح القدس أعظم مني )) .

وفي صلاته الكهنوتية يقول (عليه السّلام) مُخاطباً ربه : (( أنت الإلهُ الحقّ وحدك ، ويعرفون الذي أَرسلتَه يسوع المسيح ))(1) . وأيضاً : (( ليؤمن العالم بأنّك أنت أرسلتني ))(2) و (( عرف هؤلاء أنك أَرسلتني ))(3) .

وإنَّا لواجدون في أعمال الرسل توكيداً قاطعاً على كون الروح القدس هو الله تعالى بقدرته وجلاله ، بحيث لا تحتمل تسميتُه تفسيراً قاصراً كالذي فُسِّر به ، ولا تأويلاً آخر من المحتمل ظهوره .

فقد كُتِب : يا حناينا ، لماذا ملأ الشيطان قلبك حتّى تكذِّب على الروح القدس ؟ إنك لم تكذّب على الناس بل على الله(4) .

هنا نتبيَّن في كلمتي (الرُّوح القُدُس) و (الله) أنهما تأتيان متناوبتين مترادفتين تعطيان مدلولاً واحداَ ، وتُشيران إلى الطبيعة الواحدة للروح القدس والله ، وبأن أحدهما هو الآخر .

والدِلالاتُ على كون الروح القدس هو الله تعالى ، وأنّ له السلطة العليا على الرسل ، وأنّ لا سلطة للرسل عليه ، كثيرةٌ ومتواترة في الإنجيل المقدس . ففي مطلع

ـــــــــــــــــ

(1) يوحنا 16 / 3 .

(2) المصدر نفسه 17 / 21 ـ 25 .

(3) المصدر نفسه 17 / 21 ـ 25 .

(4) أعمال الرسل 5 / 3 ـ 5 .

الصفحة (304)

دستور الإيمان يقول المسيحي : وبالروح القدس الرب المُحيي ، مسجودٌ له وَمُمجَّدٌ الناطقُ بالأنبياء .

فـ (الناطقُ بالأنبياء) تعني (مُرسِل الأنبياء) ؛ على اعتبار أنّ النبي هو كلمة الله المتجسِّدة ، ونُطقهُ يعني إرساله . وفي الآية الكريمة عبارة : ( ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ )(1) . ويذكر يوحنا بأن الله روح ، والذين يسجدون له فبالروح والحقِّ ينبغي أن يسجدوا .

وروح الله في العهد القديم يشير إلى الريح : ( وكانت الأرض خَرِبَةً وخالية ، وروحُ الله يرفُّ على وجه المياه )(2) . ويشير إلى النفس : ( لو استرجع الله إليه روحَه ونسمَته لفاضت روح كلّّ جسد في الحال ، ولعاد الإنسانُ إلى التراب )(3) . فالروح بصفته ريحاً يعني السر والقوة ، وبصفته نَفَساً إلهياً يعني العنصر الحيوي الذي يُحيي اللحم والدم ، فروحُ الله هو الحي المُحيي .

وفي الإشارة إلى بعث الرسالات السماوية من لَدْنه تعالى ، حينما تستولي عزَّته على مختاريه ، فُيلهمُهم ويرسلُهم لإتمام رسالة تحريرية أو نبويَّة ، قال الربُّ لأرميا : ( ها أنذا جعلت كلامي في فمك ) ، وفي أشعيا النبي جاء عن بعث عيسى : ( فيستقر عليه روح الرب ، روح الحكمة والفهم ، روح المشورة والقوة )(4) .

وهكذا يكون روح الله صادراً عن الله ، فهو إذاً روحٌ قُدُس مقدَّس .

ــــــــــــــــ

(1) سورة مريم / 34 .

(2) سفر التكوين 1 / 2 .

(3) أيوب 34 / 14 .

(4) أشعيا : 11 / 2 ـ 4 .

الصفحة (305)

وفي عماد المسيح توكيد لهذا المعنى ، وفي الحمْل به من العذراء مريم تكريسٌ له ؛ فقد أُنبئَت العذراء : ( إن الروح القدس يحلُّ عليك ، وقوةُ العلي تظلِّلُك ، فالقدُّوس المولود منك يُدعى ابن الله )(1) .

وتؤيِّد هذه القولة قولة اُخرى لعيسى (عليه السّلام) حينما أَنبأ تلاميذه بخيانة يهوذا ، إذ قال لهم : (( الحقّ الحقّ أقول لكم : من قَبلَ الذي أُرسِلَه قَبلَني ، ومن قَبِلَني قَبلَ الذي أَرسَلَني ))(2) .

فهنا ثمَّة تعبيران واضحان لا لُبْسَ فيهما يؤكّدان أن ثمَّة قوةٌ عليا لا سيطرة للمسيح عليها ، هي التي أرسلته ، وهي قوة الروح القدس التي عناها (عليه السّلام) بأنها قوة أعظم منه ، بينما يؤكِّد المعنى الثاني على أن ثمة مَن هو تحت سيطرته وقدرته ، بحيث يتمكن مع هذه القدرة على إرساله بنفسه للبشر ، كما أرسلَهُ هو الروح القدس بدوره .

فالكتب السماوية تعلّمُنا بأن الله ليس مادة ، بل هو خالق المادة والروح معاً ، وهو نور السماوات والأرض ، ليس كمثله شيء ، لا تحيط به الأبصار ، ولا تدركه العقول ، لا يحدّه زمان ولا مكان ، وليس فكرة تعيش في العزلة بغير قابلية اتصال بالناس ، بل لسِّره تعالى إعلان يفصح عن أَزليَّته كلَّم به مختاريه ، وفوَّض إليهم مهمة إبلاغ كلمته للبشر . وطريقة القدرة الإلهية في هذا

ــــــــــــــــ

(1) يوحنا 3 / 34 .

(2) يوحنا 13 / 20 .

الصفحة (306)

الإعلان تختلف باختلاف المواقف والظروف والموضوعات .

فبعضهم كلَّمه تعالى بوساطة الرؤيا والحلم : ( إن يكن فيكم نبي للرب ، فبالرؤيا أتعرَّف له ، في الحلم أُخاطبه ) . كلَّم آخرين بوساطة إلهام داخلي : ( فكانت كلمة الرب إليَّ قائلاً . . . )(1) . أما موسى فكلّمه تعالى مواجهة : ( أما عبدي موسى فليس هكذا ، بل هو أمين في جميع بيتي ، فماً إلى فمٍ اُخاطبه ، وعَياناً لا بألغازٍ )(2) .

وكان الأنبياء والمصطفون على يقين أن الله هو المتكلِّم ، فكانت كلمتهُ تجتاح نفوسهم بقوة ، وتعبئ إمكاناتهم بشكل عجيب ، حتّى أنهم يُعزون مصدرها إلى عمل الروح القدس . وفي هذا المعنى يقول القدّيس بطرس : لم تأتِ النبوءات قط عن إرادة بشر ، بل إنما تكلّم رجال الله القدّيسون محمولين بإلهام من الروح القدس .

والوحي الإلهي يتضمن دائماً موضوعاً دينياً ؛ فالله يعلن عن سر تدبيره وما يريده للبشرية ، ويحدّد للإنسان طريق خلاصه ، كما يُعلن عن ذاته ليتمكن الإنسان من الالتقاء به .

ويُعلن الله عن وجوده من خلال الكون ، ويُعلن أيضاً عن ذاته بنوع خاص من خلال تاريخ شعبه ؛ فأعماله تبيِّن مَن هو ، إنه الإله الرَّهيب الديَّان ، والإله الرحيم المعزِّي ، ومعرفته هذه تُملي على البشر موقفهم منه ، وهو موقف إيمان وثقة ، وموقف رهبة ومحبَّة .

وقد امتاز مختارو الله بالتنفيذ الأمين ؛ لما كشفه الله لهم وأمرهم به ، وقد

ـــــــــــــ

(1) أرميا

(2) العدد 12 / 4 .

الصفحة (307)

قاموا بمهمَّتهم بإلهام من الروح القدس ، وفي عملهم لم يكونوا مجرد أدوات صمَّاء غير مسؤولة ، ولم يقفوا منه موقف المحايد المتفرج ، إنما كانوا أشخاصاً أحراراً اختارهم الله لتلقِّي الوحي الإلهي ، وتقديمه للأجيال التالية . فكانوا في الفكر والقول والفعل يعملون بتحريك من الروح القدس وبعون منه ؛ إذ كان ينير عقولهم ، ويقوِّي إرادتهم ، ويستخدم مَلَكاتهم الفكرية والأدبية في التعبير عن الوحيد الإلهي ، ويسدِّدُ خُطاهم ساعة يحلُّ أجلُ المسيرة المُلهمَة .

والحسين (عليه السّلام) سبط الرسول ، وسيد شباب أهل الجنّة ، وأبو الشهداء في عمر البشرية ، كان واحداً من اُولئك الذين خصَّهم تعالى بذلك الإلهام الداخلي ، وأنفَذَهُم بوحي منه لمعالجة موضوعٍ ديني ، وقيادة بشر ضلُّوا عن طريق خلاصهم . فتقدّم بثباتٍ إلى حيث مصرعه وموطن استشهاده .

ومن مقتضى هذه القُدُرات التي اختصَّ بها تعالى مختاريه نجد بأن (المؤيِّد) الذي تلفَّظ المسيح باسمه ، هو اسم يُستدلُّ به على كائنٍ بشري مختار ، يختلف بتركيبه ورُتبته كليَّةً عن خاصيَّة اسم الروح القدس المُستدلّ به على ذاتِ الله العلي . وبهذا ينتفي التفسير القاصر الذي يَدَّعي بأن المؤيِّد هو الروح القدس ؛ لأنه من غير الممكن ولا المعقول أن يقصد المسيح بقولته بأنه سيرسل من لَدُنه ، ربَّهُ الأعلى .

كذلك من غير المنطقي أيضاً أن يكون قصدُه (عليه السّلام) إرسال رسول آخر مثله ، لكن الاستدلال الأقرب إلى التفسير المنطقي المعلن عن عقلانية هو قدرته (عليه السّلام) على إرسال مَن هو أدنى رتبة منه كنبيٍّ .

فلفظتا ( الذي أُرسِلُه ) و ( الذي أَرسَلَني ) , معطوفتان على لفظة ( المؤيِّد ) المعطوفة بدورها على عبارتي ( هو يشهدُ لي ) و ( أَرشدَكُم إلى الحقِّ كله ) ؛ لتُعرِّف بوضوح وتحديد مُهمَّة المؤيِّد الرئيسة والوحيدة ، والمتلخصِّة في تأييد شهادة عيسى (عليه السّلام) والإرشاد إلى الحقِّ كلِّه الذي بشّر به .

الصفحة (308)

وهذا التأييد لا يمكن إلاَّ أن يكون من ذات لحمة الهدف الذي يرمي إليه ؛ فالشهادة لا تؤيَّدُ إلاّ بشهادةٍ مماثلة ، ولا تؤيِّدُ البطولة إلا البطولة ، وعلى هذا المقياس تتجانس الاُمور ذوات الخصائص الواحدة .

فإذا ما قرنّا كلَّ ما سبق من عبارات بعبارة الحسين (عليه السّلام) : (( فمن قَبلني بقبول الحقِّ ، فالله أولى بالحق )) . فإن تساؤلاً عقلانياً تدعمه قناعة بدهية تلِجُ في خاطر الدِّلالاتِ المنطقية ؛ ليخرج منه أكثر شفافية ونصوع ، ليطرح هذا السؤال : هل كان عيسى (عليه السّلام) يقصد الحسين (عليه السّلام) في حديثه عن المؤيِّد ؟

فقد قال عيسى : (( ومتى جاء أخزى العالم على الخطيئة والبِرَّ والحُكْم )) . فعلى الخطيئة ؛ فلأن الخطيئة ستسود وتصبح من المُسلَّمات في وجدان الكائن البشري الفرد ، وفي سويداء الحاكم على اُمور هذا الفرد ، بحيث تصبح هذه الخطيئة من الفداحة بمكان في زمن مجيء المؤيِّد ؛ حيث يمحوها بشهادة مُدوِّية .

وعلى البِرِّ ؛ فلأن البرَّ لا يُعمل به ، والحقَّ تحيد عنه النفوس ، ويلزم الناس طاعة الشيطان ويتركون طاعة الرحمن ، ويُظهرون الفساد ، ويُحِلُّون حرام الله ويُحرِّمون حلاله .

وعلى الحُكم ؛ فلأن الحكم يكاد أن ينجح في اقتلاع جذور دين الله الواحد على زمن الرسالة الإلهية الثالثة ( الإسلام ) ، ولا بدّ من إعادة هذه الجذور إلى تربتها الإلهية .

الصفحة (309)

ولنتبصّر في كلمة الحسين الشهيد (عليه السّلام) التي هتف بها ضد هذا الاقتلاع : (( يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون . . . )) ؛ لتزداد القناعات قُرباً من أذهاننا ، وتغلغُلاً في داخل صدورنا .

ولئن جرت لفظة الحقِّ ومؤيِّده على لسان عيسى (عليه السّلام) ، فذلك أدعى لنا كي نتبصّر مليّاً في (( قبول الحقِّ )) ، ذلك التعبير الذي جرى أيضاً على لسان الحسين (عليه السّلام) ؛ فالحقُّ لِلّه تعالى ، وعزته أوْلى به ، وقد حملت لواءه الرسالاتُ السماوية الثلاث ، وكان القاسم المشترك الأوحد الذي دعت إليه وانتشرت لأجله .

وفي هذا السرِّ تكمن كلمة الشهيد الحسين (عليه السّلام) : (( أللهُ أولى بالحقِّ )) . فهو لم يقُلْ : محمد أو عيسى أو موسى . . . ولا عنى الإسلام أو المسيحية أو اليهودية . . . بل قال : (( الله )) ؛ لأنه تعالى باعث الرسالات من لدُنه ، ومنُظِّم قولة الحقِّ وأفعاله ، ومُختار حمَلَتِه وشهدائه .

وما قال (عليه السّلام) عبارته هذه إلاّ بعد أن رأى بعينه ، وسمع بأذنه ، ولمس لمس اليد ، كيف أنّ الحقَّ لا يُعمل به ، والباطل لا يُتناهى عنه . وقد دعا (عليه السّلام) إلى الحقِّ الإلهي بالحسنى والقدوة المنزهة ، فقال : (( أدعوكم إلى إحياء معالم الحقِّ ، فإن تجيبوا تهتدوا سبل الرشاد )) .

والمسيح (عليه السّلام) حينما حدَّث تلاميذه واعداً إيّاهم بإرسال (المؤيِّد) روح الحق ، ويعدهم بالشهادة له ، وإرشادهم إلى الحقِّ . . . لم يكن ليعنيهم هم بذاتهم كتلامذة له ، بل كان القصد مجازياً من خلالهم على سُنَّة الأمثال التي ألقى بها عظاته وتعاليمه ، وحينما حدَّثُهم كان يحدِّث البشرية من خلفهم ، وكلّ المضطهدين من بعدهم . فعليه السلام جاء مبشِّراً وهادياً لمجموع الجنس البشري ، وليس فحسب لاثني عشر تلميذاً عمَّر أكبرهم حتّى الثمانين .

الصفحة (310)

وفي زيارته (عليه السّلام) لكربلاء حيث مصارع الحسين ، تنبّأ باستشهاد هذا الشهيد ، ولَعَن قاتليه ، وطالب من يُدرك أيامه بالقتال معه . وقبل موته وعد بإرسال مؤيِّد يشهد له بين البشر ؛ وذلك كي تبلغ رغبة العلي القدير مَرْقاتِها السرمدية ، وتَتِمُّ نبوءات الأنبياء ، وتأخذُ الرسالات السماويَّة الثلاث مُسقرَّها في الضمائر ، وتتمدَّد عقيدة الدين الكلِّي الواحد في ذرّات الصدور وحنايا الأضلع بشكل نهائي ، فلا تقوى كلُّ الضلالات على زحزحتها .

وهذا ما أثبتته الشواهد الزمنية والبشرية . وهذا ما رسَّخهُ تكرار الدهور ؛ فتسامت الرسالات فوق قوى الشرِّ ، وتعاظمت العقائد الدينية في النفوس ، فلم يعُد سهلاً اجتثاثها .

ونظرة واحدة إلى الملايين المؤمنة من البشر التي تؤُمُّ قبر الحسين (عليه السّلام) ومزارات آل البيت (عليهم السّلام) في كلّ مكان ، لكافية كي تدعم الرأي بتعاظم قوّة العقيدة وتمكُّنها من النفوس ، ورغبة المؤمنين في أن يظلَّ لقتل الحسين (عليه السّلام) حرارة متأججة لا تبرد في قلوبهم أبداً ، طالما هم مؤمنون وصراطهم مستقيم .

فكيف سيكون ما كان لولا الذي كان من استشهاد سيِّدِ شباب أهل الجنّة ؟ وإزهاق الباطل الذي عبَّر عنه القرآن الكريم بقوله : ( إنّ الباطلَ كان زهوقاً ) ؟

وكيف كان وسيكون من خلق هذا الشهيد لولا اختيار العناية الإلهية له ، ولولا تعهّد جده النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله) بتنشئته تنشئة نبويّة ؟ فارتقت إنسانيته إلى حيث نبوَّة الجدِّ : (( أنا من حسين )) . وهبطت نبوَّة الجدِّ إلى حيث إنسانيته : (( حسينٌ مني )) .

ولا عَجَب في ذلك ؛ فالخصائص الوراثية تنتقل من الجدِّ إلى الأب والاُمّ فالحفيد ، والحسين في هذا ورث خصائص جدِّه من حيث الغيرة على الدين ، والاستعداد لبذل كلّ ما هو غالٍ في سبيله .

الصفحة (311)

وقولة الرسول (صلّى الله عليه وآله) : (( حسينٌ منّي وأنا من حسين )) و (( اللَّهمَّ أحبه فإنّي أُحبُّه )) فيها شهادةٌ وتكليف ، شهادة بأن النبي (صلّى الله عليه وآله) قد عهد براية الإسلام الذي أُنزل عليه إلى سبطه الحسين (عليه السّلام) الذي هو بضعة منه ، وتكليف للابن الذي أحبه وطلب من ربه أن يُحبه بالاستشهاد ؛ صوناً للعقيدة ، ودفاعاً عن روح الدين من العبث والاستهتار اللذين كادا يؤدّيان إلى اضمحلاله ، فكانت هذه الشهادة وهذا التكليف هما العنوان الضخم والراموز الخالد لنهضة الابن في سبيل عقيدة الجدِّ ، حتّى استحق عن جدارة مغزى قول : ( الإسلام بدؤه محمَّدي ، وبقاؤه حسيني ) .

فالحسين (البضعة الرسولية) قام بمهمّةٍ لا تقل خطراً عن مهمَّة جدِّه ، فأبقى على الإسلام كما بشَّر به جدُّه الكريم ، وأودع في صدور المسلمين وديعة ثمينة تنبِّههم في نومهم وقعودهم بوجوب الحفاظ عليها ، كأندر وأغلى ما يملكون .

فالعقيدة ككلِّ علم عاملٌ يزدوج بالحياة ، فينفعل بها ليحيا ، ويمضي معها لترقى ، فإذا لم يتفاعلا ظلّت الحياة فاجرة حمقاء ، وظلّت العقيدة لهباً قُلبَ فوقه مكيال فانطفأ نوره وحُجبت حرارته ، بدل أن تكون منارة ساطعة يُهدي ضياء نورها عُميَ البصائرِ والمهجِ والحنايا .

وتظل اجتهادات البشر ضئيلة الحظ من الجدوى والفاعلية إذا لم تضيئها التماعاتٌ من الحلم السماوي ، وتظل الحقيقة في منأى عن تهمة مغالطة نفسها ، وتسمو بعلِّها فوق شُبُهات الوساطة والاقتراع ، وحَسْبُ مُعِلنها ومُتَبنِّيها حسبْهُ الله مُلهِماً ، وغمرُ سناها هادياً ، وصدقُ كَلِمها مجرى للسانه ، وهيوليةُ جوهوها

الصفحة (312)

وعظمته سُدىً ولُحمةً ، موْئِلاً لقلبه ، وملاذاً لضميره اللَّهوفِ إلى السماويات .

نعم ، إنها الحقيقة الكاملة مانحة السعادة الصادقة للواصل إلى أعتاب ملكوتها ، ملكوت الله تعالى . . الحقيقة غير المرئية ، والحقيقة المرئية في أغوار البصيرة والعمق الوجداني المؤمن .

فهل نبت الحسين غرسة في حديقة النبوَّة والشهادة بلا تربة ممهّدة ؟ وهل ثار وتحرَّك بلا سر علوي ؟ وهل نجح ذلك النجاح الساحق اعتماداً على تخطيط بشري ، أم أن ما كان كان واجباً فُرض عليه تأديته ، داعياً إلى سبيل الرب ، بينما الناس كلّهم على الباطل إلْبٌ ؟

لنقرأ : ( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ )(1) .

وهكذا كان الحسين الشهيد (عليه السّلام) أقرب الشهداء شبْهاً بالمسيح ، وكانت شهادتُه أقرب الشهادات إلى جوهر المسيحية ، وبها اختُتِمت الشهادات الكبيرة ذات الفاعلية المُحوِّلة في مسار الأديان وعقائد البشر .

فهل كان المسيح يتنبّأ بالحسين حينما تحدث عن مؤيِّد ؟ لِنَتأمَّل .

ــــــــــ

(1) سورة التوبة / 111 .

الصفحة (313)

كربلاء . . الأرض المُقدّسة

همس النبي (صلّى الله عليه وآله) في اُذن ريحانته الحسين (عليه السّلام) حينما كان غافياً فوق قبره في الليلة التي أعلن بها ثورته على يزيد ، وقال : (( حبيبي يا حسين ، كأني أراك عن قريب مُرمَّلاً بدمائك ، مذبوحاً بأرض كربلاء )) .

ولما وصل سيد الشهداء (عليه السّلام) بركبه إلى أرض كربلاء ، سأل عن اسم الأرض التي يقف عليها ، فقيل له : تُعرف بكربلاء . فقال : (( اللّهم أعوذ بك من الكرب والبلاء ))(1) .

وقيل عنها قديماً : ( كور بابل ) ، ثم اختصرت إلى اسم كربلاء ؛ تسهيلاً للفظها .

وبابل كما جاءت في نبوءة أشعيا هي ( صحراء البحر ) ، وكانت في سهل متَّسع يقطعه الفرات(2) ، وفيها غدران كثيرة حتّى ليظن الناظر إليها بأنها صحراء طافية فوق بحر ، فأُطلق عليها هذا الاسم .

ــــــــــــــــ

(1) راجع البحار 10 / 188 .

(2) سفر أيوب /870 فصل 21 , نبوءة أشعيا .

الصفحة (314)

وفي هذا التفسير شيء من المعقول ؛ إذ إن كربلاء منطقة صحراوية حارة ، وفيها الفرات وبعض الغدران ، وتسمية ( صحراء البحر ) فيها شبه كبير بتسمية ( كور بابل ) ؛ فالكور معناه في العربية هو ذلك الجهاز الذي ينفخ الهواء فوق جمر الحداد لإحماء الحديد ، وبابل هي (الصحراء الحارة) ، فصار اللفظ (كور بابل) يعني لهب صحراء بابل كلهب كور الحداد .

وكربلاء تقع على بعد عدة كيلو مترات من مشرعة الفرات شمال غرب الكوفة(1) ، وكانت في عهد البابليِّين معبداً ، والاسم محرَّف من كلمتي (كرب) بمعنى معبد أو مصلَّى أو حرم ، و (أبلا) بمعنى إله باللغة الآرامية ، فيكون معناها (حرم الإله) .

وفي تعوُّذ الحسين (عليه السّلام) من الكرب والبلاء مُرادفٌ لفظيٌّ آخر جاء متطابقاً إلى حد كبير مع لفظة (كربلاء) موصولة ؛ فالكرب : هو الشدة المصحوبة بالألم . والبلاء : هو النهاية وبلوة الموت .

ولو نسبنا اللَّفظة إلى مرادف آخر لوجدناها تصح بلفظة ( كرٍّ وبلاء) ، ومعنى الكِّر هنا هو أحد وجهي الهجوم والتراجع في المعارك ، وهو ما يعني الهجوم ( الكر ) ؛ لأن التراجع يعني الفر ، وهكذا يقال في وصف معركة : (قتال بين كرٍّ وفرٍّ) ، أي بين إقدام وهروب .

أَما لفظة (بلاء) فمعناها متمِّم لمعنى لفظة (كرِّ) ، وبلاء هنا بعد لفظة كرِّ ، غير تلك البلاء بعد لفظة كرب ، فاللفظتان إذا عُطفتا على ما قبلهما فسَّرتا معنى ما

ــــــــــــــــ

(1) تقع كربلاء على خط الطول 43 درجة و55 دقيقة شرقي غرينتش ، وعلى خط العرض 34 درجة و45دقيقة شمال خط الاستواء في المنطقة المعتدلة الشمالية .

الصفحة (315)

سبقهما ، فالبلاء بعد (كرب) تعني الشدة والموت ، وبعد (الكرِّ) تعني المضاء والنجاح في القتال والهجوم . وهكذا يُقال في وصف أحد الشجعان : ( أبلى بلاءً حسناً ) أي قاتل بشكل جيد وماض . وعلى هذا المقياس تفسر لفظة ( كرٍّ , بلاء ) بمعنى : ( إقدام ، وبسالة )

وفي مجلد (سفر أيوب) نقرأ هذا الوصف لنبوءة(1) : ( عند نهر الفرات في بابل قال الرب : هيّئوا المِجَنَّ والمِجْنَبَ وازحفوا للقتال ، وشدّوا على الخيل واركبوا أيها الفرسان ، وانتصبوا بخوذكم . أصقلوا الرماح والبسوا الدروع . ما بالي رأيتهم قد فشلوا ونكصوا إلى الوراء ، قد كُسِر جبابرتهم وانهزموا انهزاماً ولم يلتفتوا ؟ هول من كلّ جهة يقول الرب : الخفيف لا يهرب ، والجبّار لا يفلت . في الشمال بجانب نهر الفرات عثروا وسقطوا ، في هذا اليوم يأكل السيف ويشبع ويُروَى من دمائهم ؛ لأن للسيد ربَّ الجنود مذبحة في أرض الشمال عند نهر الفرات ) .

هذه الرؤيا رآها إرميا ، ولا نجد لها تفسيراً معقولاً ، وقد أثبتناها هنا لورود كلمات فيها مثل : بابل ، مذبحة عند نهر الفرات . ولا ندَّعي إمكانية تحليل هذه الرؤيا ؛ لأنها ليست موقفاً أو حدثاً حتّى نجمع أجزاءها ونركِّبها ونخرج منها برأي ما ، ولكنها رؤيا تقع في خانة ما يحلم الإنسان به ، وما يتراءى له في نومه أو يقظته . وهي تدخل في باب الرؤى لأفراد غير عاديِّين مثل إرميا ، ولا بدّ أنَّا واجدون بها قبساً من واقع تحقَّق بشكل أو بآخر ، قريب الشبه بها ، غير بعيد عن إمكانية كينونته كما تراءى .

وفي الرؤى أحداث تاريخية وقعت بعدها بسنين ، بل وقرون ، وبها أسماء لم تزل إلى يومنا هذا موجودة ، مثل : النيل ، والفرات ، وبحر القلزم ، وشيلو ، وأريحا ،

ــــــــــــــــ

(1) نبوءة إرميا 46 / 3 ، 7 ، 10 ص487 ـ 488 .

الصفحة (316)

ودمشق ، وأرض الكلدانيِّين ، وآشور ، وسدوم ، وعموره . وقد لا تكون ـ على هذا القياس ـ رؤيا إرميا ببعيدة عمّا حدث لاحقاً فوق أرض بابل (كربلاء) بجانب نهر الفرات من مذابح وتنكيل . وتظلُّ بقعة كربلاء المقدّسة هي الرمز الأسمى لملحمة عقيدة الإسلام الكبرى ، وهي لم تكن كذلك قبل أن تُرَوّى بدماء آل البيت الزكية .

وقد تعدَّدت الأقوال في موطن رأس الحسين الشريف ، وهل هو في كربلاء مدفون مع الجسد الطاهر أم في مكان آخر ؟ ففي (رسائل المرتضى) ذكر : أن رأس الحسين اُعيد إلى بدنه في كربلاء . وفي (عجائب المخلوقات) للقزويني ورد : أن الرأس رُدّ إلى الجسد في العشرين من صفر . أمّا (الشبراوي) فيقول : إن إعادة الرأس تمَّت بعد أربعين يوماً .

وقد أسند عدد كبير من المؤرّخين عودة رأس الحسين إلى جسده ما بين العشرين والأربعين يوماً بعد المصرع ، ومن هؤلاء : (ابن نما الحلي) في كتابه مثير الأحزان ، (والطبرسي) في أعلام الورى ، (والفتَّال) في روضة الواعظين ، (وابن شهر آشوب) في المناقب ، (وابن حجر) في شرح همزيّة البوصيري ، وأكّد عودة الرأس (أبو الريحان البيروني) و (المناوي) .

وحدَّثت روايات اُخرى بأنه دُفن بدمشق عند باب الفراديس بعد أن وُجد بخزانة يزيد بعد موته(1) .

وفي إحدى الروايات : أن الرأس أُرسل إلى عمرو بن سعيد والي يزيد على المدينة ، فدفنه بالبقيع بجوار قبر اُمّه فاطمة الزهراء (عليها السّلام)(2) .

ــــــــــــــــ

(1) ابن أبي الدنيا .

(2) رواية محمد بن سعد .

الصفحة (317)

وقيل أيضاً : إنه طيف به حتّى وصل إلى عسقلان فدُفن بها ، ولما استولى عليها الإفرنج في الحروب الصليبية ، رُدَّ الرأس إلى القاهرة ودُفن بالمشهد الحالي المعروف بالمشهد الحسيني قرب خان الخليلي(1) .

وأكد (السائح الهروي) هذه الرواية وحدّد لها سنة خمسمئة وتسع وأربعين .

وفي رواية اُخرى(2) ، أن الرأس بمسجد الرقَّة على الفرات ، وأنه أُرسل إلى هناك بناء على أمر يزيد الذي قال : لأبعثنَّه إلى آل أبي معيط عن رأس عثمان . ولما وصلهم الرأس دفنوه في بعض دورهم .

ولكن أقرب الروايات إلى الإمكانية والواقع هي تلك القائلة بأنّ زين العابدين (عليه السّلام) طلب من يزيد الرؤوس , فلم يمانع ، ودفع له رأس الحسين ورؤوس آل بيته وصحبه ، فعاد بها إلى مصارعها حيث دفنها مع أجسادها(3) .

وأيّاً كان مدفن الرأس ، فإن لهذه التباينات حكمة ربانية هدفت إلى وضع الحسين وأهل بيته (عليهم السّلام) موضع الإجلال والتعظيم في أكثر من مكان ، وحتى تكون واجبات زيارة هذه الأماكن الشريفة فريضة على كلّ مؤمن ، ويكون هذا التباين وحياً يحضره الإنسان في وجدانه ؛ سواء قَرُب أم بَعُد من القبر أو مدفن الرأس ، وفي هذا تجلَّة وحكمة عليا نقف عن الخوض في ماهيتها ؛ إجلالاً وتكريماً لها .

ولعل أبلغ تصوير لهذا المغزى أبيات لأبي بكر الآلوسي يقول فيها :

ــــــــــــــــ

(1) قيل في بعض المصادر : إن المشهد المشهور في مصر بُني بعد سنة (500 هـ ) ، ويُدعى بـ (تاج الحسين) .

(2) لسبط بن الجوزي .

(3) كانت العرب على عادة ، إذا قتلوا مَن ليس منهم سلَّموا رأسه وبدنه إلى أهله . وقد فعل الحجّاج هكذا بابن الزبير ، سلَّمه لأهله بعد قتله .

الصفحة (318)

لا تطلبوا رأسَ الحسيـ=ـنِ بشرقِ أرضٍ أو بغربِ

ودعوا الجميعَ وعرِّجوا=نحوي فمشهدهُ بقلبي

ولدعبل في قصيدته العينية التي رثى بها الحسين (عليه السّلام) أبيات بنفس المعنى ، يقول فيها :

رأسُ ابنِ بنتِ محمّد ووصيهِ= يا للرجالِ على قناةٍ يُرفعُ

والمسلمون بمنظر وبمسمعٍ= لا جازع من ذا ولا متخشِّعُ

أيقظتَ أجفاناً وكنت لها كرىً= وأنمت عيناً لم تكن بك تهجعُ

كحلتْ بمنظرك العيونُ عمايةً=وأَصمَّ نعيُكَ كلَّ اُذنٍ تسمعُ

ما روضةٌ إلا تمنَّت أنها=لكَ مضجعٌ ولخطِّ قبرِكَ موضعُ

وكربلاء جارة نينوى ظلّت أرضاً بلقعاً خواء إلى أن قُدّر لها أن يُساق إليها ركب الحسين (عليه السّلام) ، فتقدَّست من دماء آل البيت (عليهم السّلام) .

وقيل : إنه (عليه السّلام) اشترى أربعة أميال من جهات قبره الشريف من أهالي نينوى والغاضرية بستّين ألف درهم ، وتصدَّق بها عليهم ، واشترط أن يرشدوا إلى

الصفحة (319)

قبره ويضيّفوا مَن زاره ثلاثة أيام(1) .

وكان حرم الحسين (عليه السّلام) الذي اشتراه أربعة أميال في أربعة أميال ، فصار حلالاً لولده ومواليه ، وحراماً على غيرهم .

وفي الحديث عن الصادق (عليه السّلام) ، أنّ أهل نينوى والغاضرية لم يفوا بشرط الحسين (عليه السّلام) بوجوب الإرشاد إلى قبره ، وإضافة زائريه ثلاثة أيام .

وفي البداية والنهاية ذكر أبو الفداء : أن الماء لما أُجري على قبر الحسين (عليه السّلام) ليمحى أثره ، جاء أعرابي من بني أسد فجعل يأخذ قبضة قبضة ويشمها حتّى وقع على قبر الحسين (عليه السّلام) ، فبكى وقال : بأبي أنت واُمّي ! ما كان أطيبك وأطيب تربتك ! وأنشد قائلاً :

أرادوا ليخفوا قبرَهُ عن عدوِّهِ=فطيبُ ترابِ القبرِ دلَّ على القبرِ

ورغم كلّ ذلك ظلّ قبر الحسين (عليه السّلام) ومدفن رأسه محجّة يتنسَّم في أفيائها متعبو الأرض ومضطهدو العروش .

وصارت كربلاء بعد مقتل الحسين وعترةِ آل البيت وصَحْبه الأطهار (عليهم السّلام) ، الأرض ذات الثرى الطاهر والذريات القدسية ، بعد أن كانت صحراء خواء ترتع في فلاتها العُسلان والذئاب .

صارت ملجأ للمعذّبين المظلومين بعد أن عُذِّب وظُلم فوق أرضها البررة الأخيار ، فسبحان الله ! كيف يجعل من أرض العذاب والظلم ملاذاً للمعذّبين والمظلومين !

ــــــــــــــــ

(1) راجع كشكول الشيخ البهائي ط القاهرة ، نقلاً عن كتاب الزيارات لمحمد بن داود القمّي . وحكا عنه ابن طاووس في مصباح الزائر .

الصفحة (320)

كأنّ ضريحَكَ زهرُ الربيعْ=مرَّ عليه نسيمُ الخريفِ

أنشركَ ما حمل الزائرونْ=أمْ المسكُ خالط تربَ الطفوفِ(1)

ولعل أبلغ وصف لكربلاء ذلك الذي قالته الحوراء زينب الكبرى ترثي به أخاها الشهيد وإخوته وصحبه ، بما يتناسب والمكانة الجليلة التي صارت إليها أرض الطفِّ ؛ بما احتوته من أجساد ورؤوس طاهرة رفعتها إلى مرتبة من القداسة لم تبلغها أعتاب اُخرى(2) ، فقالت(3) :

على الطَّفِّ السلامُ وساكنيهِ=وروحُ الله في تلك القبابِ

نفوسٌ قُدَّست في الأرض قِدماً=وقد خُلقتْ من النُّطفِ العِذابِ

ــــــــــــــــ

(1) لمهيار الديلمي .

(2) تشرَّفتُ بزيارة كربلاء المقدّسة ، ووقفت خاشعاً أقرأ قول الرسول الكريم المنقوش على قفص ضريح سيد الشهداء (عليه السّلام) ، وقد جاء فيه : (( بُورك لولدي الحسين في ثلاث : ولده وقبره ومشهده . ألا وأن بين قبري وقبر الحسين روضة من رياض الجنّة . ألا وأن كربلاء روض من رياض الجنّة . ألا وأن قبر الحسين على مَترعةٍ من تُرع الجنّة ؛ الشفاء في تربته ، والإجابة تحت قبَّتِه ، والأئمَّة من ذرّيَّته )) .

(3) من أعذب وأرق المدائح التي قيلت في رثاء الشهيد (عليه السّلام) وصَحْبه ، إنها انسيابات نفس حنونة لاُخت مفجوعة بذبح أخيها ، هي التي شهدت أحزانه وعايشتها مُعانية معاينة ، وهي التي سفحت آلامها ودموعها فوق جسد أخيها المفصول الرأس ، وقدَّمته قرباناً لله الذي شاء له هذا الاستشهاد .

الصفحة (321)

مضاجعُ فتيةٍ عبدوا فناموا=هجوداً في الفدافدِ والروابي

عَلتَهم في مضاجعهمْ كعابٌ=بأردانٍ منعمّةٍ رطابِ

وصيَّرت القبورَ لهم قصوراً=مناخاً ذاتَ أفنيةٍ رحابِ

الصفحة (322)

الصفحة (323)

سمو الشهادة في علم الجمال

شاعرية النفس التي تتعلق بعالم المُثُل وكمال الأخلاق هي التي تبحث عمَّا في هذا العالم من جماليات تزحم بعضها البعض في منولوج منوع من المعاني والصور الخلابة ؛ لتُترجم ما يحتويه من رموز غيبية ، وخَلَب عقلي ، ورَوَاء نفسي .

وهذا العالم من المُثل والأخلاق تقلَّص متلبَّسا شخصية ، ووزَّع سناه كما توزِّع بلَّورةٌ صافية ضوء الشمس المنعكس عليها . هذه الشخصية التي جسَّدت هذا العالم هي شخصية الحسين (عليه السّلام) بما احتضنته من إعجاز الله في خلقه ، وأفكارهم وأفعالهم ؛ فكانت خِلقتهم وخُلُقهم ومواقفهم ، صورة أمينة لما استودعه الله فيهم من سرِّ إعجازه في الخلق .

هي شخصية غزت القلوب واقتحمت النفوس ، واستوطنت الحنايا بمقدار ما ظهر فيها من شعاع الخالق ، وما حوَّطتها به نعمته واختياره . وهي قدوة التقت فيها شُعلة النبوة المقدّسة بالمثالية البشرية التي ما تركت قلباً إلا ومسَّته ، ولا فكراً إلا وألهبته .

الصفحة (324)

ومن آيات القلب والفكر أن يعشقا الجمال ، ويتحدَّيا المنافع الأرضية ، ويؤثرا مواقف البطولة على إيثار السلامة .

وإذا تجانست مواقف القلوب والأفكار على صعيد واحد ، جعلت من أصحابها شعراء وأدباء يرسمون بالكلمات عالماً من الجماليات لا يُحدُّ ، ولا تلحق بجموحه أشد الأخيلة انطلاقاً .

وفي هتاف القلوب ورسم الأفكار صدى لما استعر فيها من أصوات رجَّافة ، انبعث لها من أعماق الدهور حيَّة تنثال إلى مواطن الجمال فيها ، فتمسُّها وتُكهربها ، وتخطُّ على صفحة أعماقها الصافية خطَّ حنان واستذكار .

فشهيد كالحسين (عليه السّلام) انتهت إليه كلّ سمات العظمة ، قمين بأن تستوحيه العقول والأفئدة إلهاماً دواماً ، امتدت أنوار قدسيته أجيالاً وأعقاباً ، وما زالت تمتد إلى ما وراء الأزل متمِّمة حكمة الإله في سر اختياره وإبداعه ( وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ ) . فالحب لا يتم كماله إلاّ إذا صاحبه الإخلاص والوحدانية ، حتّى يغدو المحبُّ متيَّماً بحبيبه ، يستعذبُ من أجله كلَّ عذاب وألم .

وقد ذهب الشاعر (ديك الجنِّ) مذهب العاشق المتيَّم بالحسين وأهله (عليهم السّلام) ، حتّى أسقمه التفكير بحبيبه ، فصار النسيم لديه سموماً ، والكرى هاجراً أبدياً ، فقال في هذا المعنى يرثي الحسين (عليه السّلام) :

أصبحتُ مُلْقىً في الفراشِ سَقيما= أَجِدُ النّسيمَ مِنَ السّقامِ سَموما

ماءٌ مِنَ العَبَراتِ حَرَّى أرْضُهُ= لَوْ كانَ مِنْ مَطَرٍ لكانَ هَزيما

الصفحة (325)

وبَلابِلٌ لَوْ أَنّهُنَّ مآكلٌ= لَمْ تُخطئ الغِسْلينَ والزَّقُّوما

وَكَرىً يُرَوِّعُني سَرَى لَوْ أنّهُ =ظِلٌّ لكانَ الحَرَّ واليَحْمُوما

مَرَّتْ بقلبي ذِكْرَياتُ بني الهُدى= فنسيتُ منها الرَّوْحَ والتَّهويما

ونَظَرْتُ سِبْطَ مُحَمّدٍ في كَرْبلا= فَرْداً يُعاني حُزْنَهُ المَكْظُوما

تَنْحوُ أَضَالِعَهُ سُيوفُ أُمَيّةٍ= فتراهُمُ الصَّمْصُومَ فالصَّمْصُوما

فالجِسْمُ أَضْحَى في الصَّعيدِ مُوَزَّعاً =والرَّأْسُ أَمْسَى في الصِّعادِ كَريما

وديك الجن من أبرز الشعراء الذين رثوا أهل البيت (عليهم السّلام) ومدحوهم ، ولم يجاره في هذا المضمار الاّ شاعر واحد هو السيد الحميري .

وللشاعر ديك الجن أبيات في أهل البيت (عليهم السّلام) ضمّنها إحدى مرثياته عن الحسين (عليه السّلام) ، يقول فيها :

يا عينُ في كَرْبُلاَ مَقَابِرُ قَدْ= تَرَكْنَ قَلبي مَقَابرَ الكُرَبِ

الصفحة (326)

مَقابرٌ تحتَها مَنابِرُ مِنْ= عِلْمٍ وحِلْمٍ ومَنْظَرٍ عَجَبِ

مِنَ البَهَاليلِ آلِ فاطمةٍ= أَهْلِ المعالي والسّادةِ النُّجُبِ

وفي رثاء الحسين (عليه السّلام) قيل الكثير من الأشعار والأقوال تضيق بها الأسفار لو جُمعت . وكانت هذه الأشعار إذا ما تطرَّقت إلى وصف مَلحمة الطَّفِّ تنحو باللائمة على أنفس أصحابها ، وتصوِّرُ شعورهم حيال ذكراها ، وتستمطرُ اللَّعنات على مرتكبيها .

ففي سماء حب أهل البيت (عليهم السّلام) انطلق كالشهاب الوامض نجمُ شاعر فحل تسامعت به العربية ، هجَّاء في الملوك ، طاعن في أعداء أهل البيت (عليهم السّلام) ، وكان يقول : مكثت نحو ستّين سنة ليس من يوم ذرَّ شارقه إلاّ وأنا أقول فيه شعراً .

وكان يرتجل أشعاراً مقذعة ، فُيسأل عن مستحقيها فيقول : لم يستحقها أحدٌ بعينه بعدُ ، ولسوف يستحقّها كثيرون . هذا الشاعر هو (دعبل بن علي الخزاعي) ، وقد وقف موهبته الشعرية على الإخلاص والولاء لأهل البيت (عليهم السّلام) ، فقال في إحدى مراثيه للحسين (عليه السّلام) :

إن كنتَ محزوناً فما لك ترقدُ=هلاّ بكيتَ لمَن بكاهُ محمدُ

هلاّ بكيتَ على الحسينِ وأهلهِ=إنّ البكاءَ لمثلهمْ قد يُحمدُ

الصفحة (327)

لتضعضعِ الإسلام يومَ مصابهِ= فالجودُ يبكي فقدَهُ والسؤددُ

فَلَقَد بَكَتهُ في السَماءِ مَلائِكٌ= زُهرٌ كِرامٌ راكِعونَ وَسُجَّدُ

إلى أن يقول :

هَذا حُسَينٌ بِالسُيوفِ مُبَضَّعٌ= وَمُلَطَّخٌ بِدِمائِهِ مُستَشهَدُ

عارٍ بلا ثوبٍ صريعٌ في الثرى=بين الحوافرِ والسنابكِ يُقصدُ

يا جدُّ من ثكلي وطولِ مصيبتي=ولما اُعافيه أقومُ وأقعدُ

ولدعبل قصيدة عظيمة في رثاء الحسين (عليه السّلام) ومدح آل البيت (عليهم السّلام) ، مكوّنة من مئة واثني وعشرين بيتاً ، قال عنها أبو الفرج في الأغاني : قصيدة دعبل ( مدارس آيات خلت . . . إلخ ) من أحسن الشعر وفاخر المدائح المقولة في أهل البيت (عليهم السّلام) ، قصد بها علي بن موسى الرضا (عليه السّلام) بخراسان .

قال : دخلت على علي بن موسى الرضا (عليه السّلام) فقال : (( أنشدني )) . فأنشدته ( مدارس آيات . . . ) حتّى انتهيت إلى قولي :

الصفحة (328)

إِذا وُتِروا مَدّوا إِلى واتِريهِمُ= أَكُفّاً عَنِ الأَوتارِ مُنقَبِضاتِ

فبكى حتّى أُغمي عليه ، وأومأ إليَّ خادمٌ كان على رأسه : أن اسكتْ ، فسكتُّ . فمكث ساعة ثمَّ قال لي : (( أعد )) . فأعدتُ حتّى انتهيت إلى هذا البيت أيضاً ، فأصابه مثل الذي أصابه في المرة الاُولى ، وأومأ الخادم إليَّ : أن اسكت ، فسكتُّ . وهكذا ثلاث مرات . فقال لي : (( أحسنت )) ثلاث مرات ، ثم أمر لي بعشرة آلاف درهم ممّا ضُرب باسمه ، ولم تكن دُفعت إلى أحد قبلُ ، وأمر لي من منزله بحلي كثيرة أخرجها إليَّ الخادم . فقدمت إلى العراق ، فبعت كلَّ درهم منها بعشرة ، اشتراها مني الشيعة ، فحصل لي مئة ألف درهم ، فكان أول مال اعتقدته .

مدارسُ آياتٍ خلت من تلاوةٍ=ومنزلُ وحي مقفرِ العرصاتِ

لآلِ رسولِ الله بالخيفِ من منى=وبالبيتِ والتعريفِ والجمراتِ

ديارُ عليٍّ والحسينِ وجعفرٍ=وحمزةَ والسجادِ ذي الثفناتِ

ديارٌ لعبد اللهِ والفضل صنوِهِ=نجيِّ رسولِ الله في الخلواتِ

وسبِطَيْ رسولِ الله وابني وصيِّهِ=ووارثِ علم الله والحسناتِ

الصفحة (329)

إلى أن يقول :

قبورٌ بجنبِ النهر من أرضِ كربلا=معرَّسُهم فيها بشطِّ فراتِ

تُوُفّوا عطاشى بالفراتِ فليتني= تُوُفِّيتُ فيهم قبلَ حين وفاتي

إلى اللهِ أشكو لوعةً عندَ ذكرِهمْ =سقتني بكأسِ الثُّكلِ والفظعاتِ

حتى يصل إلى الأبيات التي أبكت عليَّ بن موسى الرضا (عليه السّلام) ، فيقول :

مَلامَكَ في آلِ النَبِيِّ فَإِنَّهُم= أَحِبّايَ ما عاشوا وَأَهلُ ثِقاتي

بِنَفسِيَ أَنتُم مِن كُهولٍ وَفِتيَةٍ= لِفَكِّ عُناةٍ أَو لِحَملِ دِياتِ

فيا عينُ بكِّيهم وجودي بعبرةٍ=فقد آن للتسكابِ والهملاتِ

أَلَم تَرَ أَنّي مِن ثَلاثينَ حِجَّةً= أَروحُ وَأَغدو دائِمَ الحَسَراتِ

دِيارُ رَسولِ اللَهِ أَصبَحنَ بَلقَعاً =وَآلُ زِيادٍ تَسكُنُ الحُجُراتِ

الصفحة (330)

وَآلُ رَسولِ اللَهِ تُدمى نحورُهُمْ =وَآلُ زِيادٍ آمِنوا السَّرَباتِ

وآلُ رسولِ الله تُسبى حريمُهُمْ=وآلُ زيادٍ ربَّةُ الحجلاتِ

إِذا وُتِروا مَدّوا إِلى واتِريهِمُ= أَكُفّاً عَنِ الأَوتارِ مُنقَبِضاتِ

* * *

وإذا كان عاشقو الجمال وكارهو القبح قد جعلوا همهم رثاء الحسين (عليه السّلام) ، والتفجُّع على صفوة آل البيت (عليهم السّلام) ، فيما أقبل من أيام وسنين بعد الفاجعة التي شهدتها كربلاء ، فإن شاعراً جريئاً هو يحيى بن الحكم الذي قال البلاذري عنه في أنساب الأشراف بأنه كان والياً لعبد الملك على المدينة ، كان قد وقف موقفاً جريئاً متفاعلاً مع مصاب آل البيت (عليهم السّلام) ؛ وذلك حينما أُدخل ركب السبي والرؤوس على يزيد ، وكان حاضراً وقتها ، حيث هاله ما رأى ، فأنشد ملتاعاً :

لهامٌ بجنب الطفِّ أدنى قرابةً= من ابن زيادِ العبدِ ذي الحسب الوغلِ

سُميَّةُ أمسى نسلُها عددَ الحصى=وبنتُ رسولِ الله ليستْ بذي نسلِ

فما كان من يزيد إلاّ أن ضربه في صدره ، وقال : اسكت . وفي رواية أنه أسرّ إليه وقال : سبحان الله ! في هذا الموضع ما يسعك السكوت ؟

الصفحة (331)

ومن دلالات جرأته أنّه لما وُلِّيَ أخوه مروان الخلافة ـ وكان يُلقَّب خيط باطل ـ أن أنشده هذا البيت :

لحا اللهُ قوماً أمَّروا خيطَ باطلٍ=على الناسِ يُعطي ما يشاء ويمنعُ

* * *

والنفوس النزَّاعة إلى مثوى الحسين (عليه السّلام) تطلب السكينة والسلوى ، إنما تتمثل في نزوعها آيات الحب والجمال ورضى القلب . وقد قال الإمام الصادق (عليه السّلام) لأبي عبد الله جعفر بن عفان الطائي : (( ما من أحدٍ قال في الحسين شعراً فبكى وأبكى به ، إلاّ أوجب الله له الجنّة وغفر له )) .

وكان الشاعر ابن عفان ، النزَّاع إلى قدسية كربلاء ، ينشد شعراً في مجلس الإمام الصادق (عليه السّلام) عن الحسين (عليه السّلام) أبكى منه الجميع ، حينما قال له الإمام : (( يا جعفر ، والله لقد شهدت ملائكةُ الله المقرَّبين ها هنا يسمعون قولك في الحسين (عليه السّلام) ، ولقد بكوا كما بكينا وأكثر )) .

ومن شعر ابن عفان في رثاء الحسين (عليه السّلام) :

أَلا يا عينُ فابكي ألفَ عامٍ=وزيدي إنْ قدرتِ على المزيدِ

إذا ذُكر الحسينُ فلا تملّي= وجودِي الدهرّ بالعَبراتِ جودي

الصفحة (332)

فقد بكتِ الحمائمُ من شجاها=بكتْ لأليفِها الفردِ الوحيدِ

بكينَ وما درينَ وأنتَ تدري=فكيفَ تهمُّ عينُكَ بالجمودِ

أتنسى سِبطَ أحمدَ حين يُمسي=ويُصبحُ بين أطباقِ الصَّعيدِ

* * *

ولشاعر العربية أحمد شوقي بيتان في قصيدته (الحرية الحمراء) ، يقول فيهما :

في مهرجانِ الحقِّ أو يوم الدّمِ=مُهجٌ من الشّهداءِ لم تتكلّمِ

يَبدو عَلى هاتورَ نورُ دِمائِها = كَدَمِ الحُسَينِ عَلى هِلالِ مُحَرَّمِ

* * *

وللعلاَّمة الشيخ عبد الله العلايلي قصيدة مطوّلة في ذكرى الحسين (عليه السّلام) ، تقول أبياتها :

عَرَى الدين من أحلاسِ شرٍّ وفتنةٍ=دواهي طغتْ وازورَّ من وقعِها الهُدى

الصفحة (333)

فهاج إمامُ الحقِّ من كلّ وجهة=وهاج إمامُ الدينِ من كلّ منتحى

فما قرَّ في وجه الظلومِ وما التوى=على مِرّة الظُلاَّم أو شدَّة الهوى

أرادوا به ذُلاً فكان جوابُه=زئيراً كليثِ الغاب حُفِّز للشَّرى

سرى جاهداً يستندب الرَّوع بغيةً=كأنّ الردى في الذلِّ والعيشَ في الردى

إلى أن يقول :

فيا كربلا كهفَ الإباء مجسَّماً=ويا كربلا كهفَ البطولة والعُلا

ويا كربلا قد حُزتِ نفساً نبيلةً=وصُيِّرْتِ بعد اليوم رمزاً إلى السّما

ويا كربلا قد صرتِ قِبلةَ كلِّ ذي=نفسٍ تصاغَر دون مبدئها الدُّنا

ويا كربلا قد حزتِ مجداً مؤثّلاً=وحزتِ فخاراً ينقضي دونهُ المدى

فخارَ لَعمري سطَّرتْه ضحيةٌ=فكان لمعنى المجدِ أعظمَ مجتلى

الصفحة (334)

فللمسلمِ الأسمى شِعارٌ مقدَّسٌ=هما قبلتانِ للصّلاة وللإبا

* * *

وللشاعر محمد مهدي الجواهري قصيدة من ثمانية عشر بيتاً ، يقول في مطلعها :

شممتُ ثراكَ فهبَّ النسيم=نسيمُ الكرامةِ من بلقعِ

وعفّرتُ خدّي بحيثُ استراحْ=خدّاً تفرّى ولم يضرعِ

وحيثُ سنابكُ خيلِ الطغاة=جالت عليهِ ولم يضرع!!

وطفتُ بقبرِكَ طوفَ الخيال=بصومعةِ المُلهمِ المُبدعِ

إلى أن يقول :

ويا غصنَ هاشم لم ينفتحْ=بأزهرَ منك ولم يفرعِ

ويا واصلاً من نشيدِ الخلود=ختامَ القصيدةِ بالمطلعِ

الصفحة (335)

يسير الورى بركابِ الزمان=من مستقيمٍ ومن أضلعِ

وأنتَ تُسيّرُ ركبَ الخلود=ما تستجدّ له يتبعِ

* * *

وللصوفي الباكستاني الشاعر محمد إقبال قصيدة يقول فيها :

في الكعبةِ العليا وقصّتِها=نبأٌ يفيضُ دماً على الحجرِ

بدأت بإسماعيلَ عبرتُها=ودمُ الحسينِ نهايةُ العِبَرِ

* * *

ولعلَّ من أجود ما قيل من فاخر المراثي الحسينيّة في العصر الحديث ، تلك التي دوَّنها (بولس سلامة) الشاعر المسيحي الفذّ في ملحمته الشعرية العظيمة المعروفة بـ (عيد الغدير) ، والمؤلّفة من ثلاثة آلاف بيت ، والتي كان الشاعر ينظمها في غرفة مظلمة ، حيث كانت دموعه تتسابق مع كلماتها . وحيث كان يجيب إذا سُئِل عن سر بكائه : إن ملحمة كربلاء هي ملحمتي الذاتية كفرد إنساني .

يقول في إحدى قصائد الملحمة :

كسر النسرُ طرفَه إعياء=بعدما قرَّح الجفون بكاء

الصفحة (336)

لو أصاب الفراتَ رزءُ حسينٍ=لانطوى النهرُ كالرداءِ انطواء

ولغاضت شطآنهُ واستطار الـ=ـرملُ في خاطر الأثيرِ هباء

إلى أن يقول :

يا ضياءَ الغروبِ في كربلاء = دونك الشمسُ في الغروبِ ضياء

كيف باتتْ والكوكب الضخمُ يهوي = مثلما تسقطُ الجبالُ انكفاء

يا سليلَ المطيَّبينَ جدوداً=يفضحُ الشمسَ عزةً وانتماء

مجدُكُمْ صيِّرَ النبيلَ نبيلاً=وحباه من العُلا ما شاء

دمُك السمحُ يا حسينُ ضياءٌ=في الدياجيرِ يلهمُ الشعراء

أيُّ فضلٍ لشاعر منك يعتامُ الـ =ـلآلئ يصوغ منها رثاء

شاعرٌ مقعدٌ جريحٌ مهيضٌ= كلُّ أيامهِ غدتْ كربلاء

* * *

والشاعر الفرزدق بن غالب الذي التقى الحسين (عليه السّلام) في (الصفاح) ، في إحدى محطات

الصفحة (337)

خروجه(1) ، وأخبره بأن قلوب الناس معه وسيوفهم مع بني اُميّة ، له في الحسين (عليه السّلام) قصيدة تعدُّ من أجمل ما قيل في تصوير فضائل سيد الشهداء (عليه السّلام) ؛ إذ يقول فيها :

هذا الذي تعرفُ البطحاءُ وطأتَهُ=والبيتُ يعرفهُ والحلُّ والحرمُ

هذا ابنُ خيرِ عباد الله كلِّهمُ=هذا التقيُّ النقيُّ الطاهرُ العَلَمُ

يكاد يُمسكهُ عرفانُ راحتهِ=ركنَ الحطيمِ إذا ما جاء يستلمُ

إذا رأته قريشٌ قال قائلُها= إلى مكارمِ هذا ينتهي الكرمُ

يُغضي حياءً ويُغضى من مهابتِهِ=فما يُكلَّمُ إلاّ حين يبتسمُ

في كفِّهِ خيزرانٌ ريحُها عبقٌ=بكفِّ أروعَ في عرنينِه شممُ

مشتقّةٌ من رسولِ الله نبعتُهُ=طابت عناصرُهُ والخيمُ والشيمُ

ــــــــــــــــ

(1) يُروى أنّ الفرزدق خرج من البصرة يريد العمرة ، فرأى عسكراً في البرِّية فاستعلم عنه ، ولمّا علم بأنه عسكر الحسين (عليه السّلام) قال : لأقضينَّ حقَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) .

وأتى وسلَّم عليه ، فقال الحسين (عليه السّلام) : (( مَن الرجل ؟ )) . قال : الفرزدق بن غالب . فردّ الحسين (عليه السّلام) : (( هذا نسب قصير )) . قال الفرزدق : أنت أقصر منّي نسباً ؛ أنت ابن بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) .

الصفحة (338)

لا يستطيع جوادٌ بُعْدَ غايتِهِ=ولا يُدانيه قومٌ إن هُمُ كرموا

مَن يعرفِ الله يعرفْ أوَّلَيّةِ ذا=فالدينُ من بيت هذا ناله الاُممُ

* * *

والشاعر السيد الحميري الذي قيل فيه : إنه من أشعر الناس ، ما جاراه شاعر قط في رثاء أهل البيت (عليهم السّلام) إلاّ ديك الجنِّ . وله في رثاء الحسين (عليه السّلام) قصيدة يقول فيها :

اُمرُر على جَدَث الحسينِ= وقُل لأعظُمهِ الزكيّهْ

يا أعظماً لا زِلت من=وطفاءَ ساكبةً رويَّهْ

ما لذَّ عيشٌ بعد رضْـ=ـضِكِ بالجيادِ الأعوجيّهْ

يا عينُ فابكي ما حييـ=ـت على ذوي الذممِ الوفيّهْ

لا عذرَ في تركِ البكا=ءِ دماً وأنت به حريَّهْ

وله قولة في الحسين (عليه السّلام) حينما خاطب أصحابه ، يقول فيها :

الصفحة (339)

لستُ أنساه حين أيقنَ بالموْ=تِ دعاهُمْ وقام فيهم خطيبا

ثم قال ارجعوا إلى أهلِكُمْ ليـ=ـسَ سوائي أرى لهمْ مطلوبا

* * *

فإذا صنع عشق الشهداء شاعراً ، فإن الندم على نصرتهم صنع شاعراً فحلاً ما قال بيتاً بعد مصرع الحسين (عليه السّلام) إلاّ وضمَّنه ندمه ؛ لعدم نُصرته لمَّا جاء يستصرخه بنفسه للخروج معه ، وما كان من رفضه هذا وعرضه فرسه على الحسين (عليه السّلام) للنجاة عليه ، وما كان من إعراض الشهيد (عليه السّلام) وقولته له : (( لا حاجةَ لنا فيك ولا في فرسك ، وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً )) .

هذا الشاعر هو عبيد الله بن الحرِّ الجعفي ، وكان قائداً من شجعان العرب ، عمل مع عثمان ومعاوية ، وتغيَّب عن معركة كربلاء عمداً ، وبعدها صار يُرى على الدوام فائض النفس ، ضارباً يداً فوق اُخرى ، ومردداً : ماذا فعلت بنفسي ؟! ومنُشداً بأسى وحسرة ندمه ، وقائلاً :

فيا لكِ حسرةً ما دمتُ حياً=تَردَّدُ بين حلقي والتراقي

حسينٌ حين يطلب بذلَ نصري=على أهل الضلالةِ والنفاقِ

الصفحة (340)

غداةَ يقول لي بالقصر قولاً= أتتركُنا وتزمع بالفراقِ

ولو أنّي اُواسيه بنفسي=لنلتُ كرامةً يومَ التلاقِ

مع ابنِ المصطفى نفسي فداهُ=تولَّى ثمّ ودّع بانطلاقِ

فلو فلق التلهّفُ قلبَ حيٍّ= لهمَّ اليومَ قلبي بانفلاقِ

فقد فاز الاُلى نصروا حسيناً=وخاب الآخرون اُولو النفاقِ

ولمّا طلبه ابن زياد وسأله تبرير تغيّبه عن موقعة كربلاء ، غافله وركب فرسه وانطلق بها ، ولمّا حضرت شرطة ابن زياد خلفه ، طلبوا منه إجابة الأمير ، فرفض مُغلظاً كلامه لهم ، ثم أجرى فرسه حتّى وصل كربلاء ، فنظر إلى مصارع الحسين (عليه السّلام) ومَن قُتل معه ، فاستغفر لهم ، ثم مضى إلى المدائن وقال في ذلك(1) :

يقولُ أميرٌ غادرٌ وابنُ غادرِ=ألا كنتَ قاتلتَ الحسينَ ابنَ فاطمهْ

ــــــــــــــــ

(1) راجع الكامل في التاريخ .

الصفحة (341)

ونفسي على خذلانهِ واعتزالهِ=وبيعةِ هذا الناكثِ العهدِ لائمهْ

فيا ندمي ألاّ أكونَ نَصرتُهُ=ألا كلُّ نفسٍ لا تُسدِّد نادمهْ

وإنّي لأنّي لم أكن من حُماتهِ=لذو حسرةٍ ما أن تفارق لازمهْ

سقى الله أرواحَ الذين تبادروا=إلى نصرهِ سُقياً من الغيثِ دائمهْ

وقفتُ على أجداثِهم ومحالِهم=فكاد الحشا ينقضُّ والعين ساجمهْ

تآسوا على نصرِ ابن بنت نبيِّهم=بأسيافهمْ آسادَ غِيلٍ ضَراغمهْ

إلى أن يصل ندمه حدّاً يجعله يتمنَّى قتال الذين ظلموا الحسين (عليه السّلام) ، فيقول :

أهمُّ مراراً أنْ أسير بجحفلٍ=إلى فئةٍ زاغتْ عن الحقِّ ظالمهْ

فكفُّوا وإلا ذُدتُكم في كتائبٍ=أشدَّ عليكم من زُحُوفِ الديالمهْ

ولكن الموت عاجل هذا الشاعر النادم على خذلانه الحسين (عليه السّلام) ، وقد تعدَّدت الروايات عن موته ، فمنها ما ذَكر أنه أغرق نفسه في الفرات خوفاً من الوقوع في أسر

الصفحة (342)

مصعب بن الزبير ، وفي رواية اُخرى أنه قُتل في الأنبار ، وأن مصعب نصب رأسه في الكوفة ، وفي رواية ثالثة أنه بقي في منزله على شاطئ الفرات إلى أن مات يزيد .

وكيفما كانت حياة هذا المقاتل الشاعر أو ميتته ، فإنه بندمه الذي أفاض على نفسه كان ممن عناهم الله بقوله : ( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا )(1) .

وهذا وذاك شاعر تُبهْلِلُ نفسه مخارف الدنيا وبُلَهنِية العيش ، تراه في موضع يُذكر فيه الحسين (عليه السّلام) وقد تحوَّل إلى ناسك متبتِّل يقنع بالبلغة تستقر في حلقه ، لا تغادره لجفافها إلى فوق أو تحت .

وهذا وذاك شاعر لا تتحرّك كوامنه إلاّ للفجِّ من المشاعر المكثَّفة الصارخة ، تجده ينفعل بأخفت شعور يصله من عَلياء أهل البيت (عليهم السّلام) ، فيُعطي أبلغ ما عنده من فصاحة ، ويُرسل أفصح ما لديه من بلاغة شعراً ونثراً .

وشاعر يبخل بمدحه للملوك يملأ بعده جرابه ذهباً ، ويسخو أيما سخاء في مدح الحسين وآله على غير أمل في درهم واحد ، وعلى توقُّع نوال الأذى والمشقة والإحن .

وشاعر آخر لم تكن أهوال الدنيا ومقاتلها لترف له جفناً ، لكنه كان يبكي كطفل كلما نزعت أفكاره إلى ذكرى كربلاء ، فُيرسل الدمع الهتون أسى وحرقة .

هكذا شاعر الحسين (عليه السّلام) عندما تحوطه هيوليّة الاستشهاد ، فيُحلِّق في فضائها كنسر جائع إلى الحقيقة وصفاء النفس ، فيتخلَّص من مُتعارفات العيش وفرضيات الأهواء والنوازع الأرضية .

ــــــــــــــــ

(1) سورة الكهف / 103 ـ 104 .

الصفحة (343)

وفي فضاء الشهداء تكمن المُثُل الحقة والأرْيحيَّة ، فلا مناص من التقرُّب منها إلاّ بجناحين قويِّين تسوقهما ريح خفية مجهولة إلى حيث يكون ما يجب ، وإلى حيث تتردَّد اُنشودة العظمة مذ ارتفعت في العاشر من محرَّم .

اُنشودة وضعها الحسين (عليه السّلام) على الشفاه فما ملَّتها قط ، بل زادها كرور الأيام اشتياقاً لها ، وهي أهزوجة للعزِّ استوطنت حناجر الأجيال ، تطرب لها العقول وتحنو عليها الأضلع والصدور ، كدرَّة ثمينة لا منجى لها بدونها .

فالدماء الزكية التي أُهدرت فوق ثرى كربلاء منذ ثلاثة عشر قرناً سجّلت للبشرية مجدها كما قال جبران خليل جبران ، والشهادة التي أقدم عليها الحسين (عليه السّلام) علّمت الإنسان كيف يكون مظلوماً حتّى ينتصر كما قال المهاتما غاندي .

وعلَّمت المشاعر كيف تلتهب وتتفاعل مع المواقف النبيلة والمبادئ السامية ، فتهتزُّ لتفاعُلها القرائح اهتزاز الصبِّ المستهام بصورة حبيبه ، وتخلِّدها كَلِماً وشعراً وجمالاً ، إلى جانب ما خلّده التاريخ منها سرداً وتسجيلاً ؛ لتكون أخلد سيرة لأعظم شهادة ، وأجمل قول لأكمل صورة .

تجاوبتِ الدُّنيا عليك مآتماً=نواعيكَ فيها للقيامةِ تهتفُ

فسلامٌ عليه سيّداً للشهداء ، سلام عليه يوم ولد ويوم مات ويوم يُبعث حياً .

الصفحة (344)

الصفحة (345)

ضميرُ الأديان أفضال وألقاب

الشخصيَّةُ هي مُحصِّلة التربية والمَرْبت(1) في عهد الطفولة الغضَّة ، حيث الفتى بمكوِّناته النفسية يُشبه الاسفنجة الماصَّة التي تختزن في مسامِّها ما تمتصه ؛ لتفرغه مجدَّداً متى عُصرت .

ففي اُمسيّة من أماسي شعبان ولدت فاطمة حسيناً (عليه السّلام) ، فأخذه النبي (صلّى الله عليه وآله) وأذَّن في اُذنه كما يؤذِّن للصلاة . أذان من فم نبيٍّ سرى كهمس قُدْسي في اُذنٍ غضة لم تعِ بعدُ ماهيَّة الأصوات ، ونداء من شفاه منزهة سمعها مخلوق كأول ما سمع ( الله أكبر . . . لا إله إلاّ الله ) ، فانطبعت في سويدائه واختلطت في دمائه ، وبذرت في ضميره تلك البذرة القدسية التي أعطت للإسلام الكثير .

بعدها بأشهر اعتلَّت فاطمة وجفَّ لبنها ، فكان النبي (صلّى الله عليه وآله) يأتي الطفل

ــــــــــــــــ

(1) كلمة من وضع الشيخ عبد الله العلايلي ، وهي من مادة رَبَتَ ، أي ضرب على كتف الطفل لينام .

الصفحة (346)

ويُلقمه إبهامه فيمصه ، فيجعل الله في إبهام رسوله غذاء الطفل الوليد ، إلى أن أنبت تعالى لحمه من لحم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) .

هام النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله) بحفيده هياماً كان يرى فيه ظلَّ نبوّته ، وكان من هيامه أن كان يردِّد أنَّى جلس ما كان يحبه من ترداد ، بقوله : (( حسين منّي وأنا من حسين )) .

السبط الوليد ، كان يُعدُّه الجد النبي (صلّى الله عليه وآله) لتحمُّلِ عبء ثقيل بعد رحيله عن الدنيا ، حينما تهتزّ الأرض من تحت أقدام المسلمين ، وتميد الدنيا بالإسلام ، ويتزعزع هيكل العقيدة المحمَّدية بفعل الضلالات والظلم والتحريف .

(( اللَّهمَّ أحِبهْ فأني أُحِبُّه )) . كلمة رجاء من نبي لربِّه في أن تلتفت عزّته إلى ما سيزرع فيه من فضائل نبوية فذة ، فيباركه من عليائه ويهديه بإلهاماته ؛ ليُتِمَّ رسالته بما يُرضي العناية الإلهية .

جاء عنه في أخباره (عليه السّلام) أنه كان صورة تشكّلت من صورة جدّه النبي (صلّى الله عليه وآله) ، له شبه في الخُلق والخلقة ، تطلّع إليه الجدُّ فرأى في مخايله سيماء مستقبل الاُمة وسؤدُدها ، وحامل لوائها من بعده .

السبطُ النبوي ، تطلّع إلى جدّه فرأى فيه معنى الدين ومعنى العقيدة ، استشف من الآذان الذي كبَّره في سريرته وهو لمَّا يزل رضيعاً ، رؤى المستقبل الآت .

سيِّدُ الشهداء (عليه السّلام) ، سما في شهادته فوق سموِّ كلِّ الشهادات التي آتاها أرباب الديانات وشهدائها ، منذ زكريا ويحيى حتّى المسيح ، فكان إمام حقٍّ وسيِّدَ شهداء الحقِّ .

سيِّدُ شباب أهل الجنّة ، أتمَّ حُجَّة الله في خلقه وفي دينه الحنيف ، وأبرز مظلوميَّة آل محمد (صلّى الله عليه وآله) ، وأعاد دين النبي الذي بشَّر به إلى صراطه المستقيم ، فأفنى ذاته وأهله في هذا السبيل ، رخّص نفسه الغالية فأغلى له تعالى نفسه على أنفس ساكني جنّة

الصفحة (347)

خلده ، فصار سيِّدهم بما عمل وضحَّى ، وصار أحبُّ أهل الأرض إلى أهل السماء .

أبو الضَّيم ، كان يوم ضيمه في عاشوراء أعظم المصائب ، وصفه الإمام الصادق (عليه السّلام) بيوم أعظم مصيبة من جميع سائر الأيام ؛ وذلك أن أصحاب الكِساء الذين كانوا أكرم الخلق على الله تعالى كانوا خمسة ، فلمَّا مضى عنهم النبي (صلّى الله عليه وآله) بقي أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السّلام) ، فكان فيهم للناس عزاء وسلوة ، فلمَّا مضت فاطمة (عليها السّلام) كان في أمير المؤمنين والحسن والحسين (عليهم السّلام) عزاء وسلوة ، فلمَّا مضى أمير المؤمنين (عليه السّلام) كان للناس في الحسن والحسين (عليهما السّلام) عزاء وسلوة ، فلمَّا مضى الحسن (عليه السّلام) كان للناس في الحسين (عليه السّلام) عزاء وسلوة ، فلمَّا قُتل الحسين (عليه السّلام) لم يكن بقيَ من أهل الكِساء أحدٌ للناس فيه بعده عزاء وسلوة . فكان ذهابه كذهاب جميعهم ، كما كان بقاؤه كبقاء جميعهم ؛ فلذلك صار يوم أعظم مصيبة ، وكان يوم ضيمه أعظم أيام الضيم .

ريحانة الرسول التي بذرها صلوات الله عليه بِذرة ، وتعهَّدها فَسيلاً في حديقة النبوَّة ، فأزهرت وأفاحت ضوعها ، ونشرت عبق الحقِّ الإلهي في أجواء العقيدة الإسلاميّة ، فكان ريحانة طيبة لرسول الله طاب من بعد طيب الأصل فارعُهُ .

صعد النبي (صلّى الله عليه وآله) المنبر يوماً ما وكان مغموماً كئيباً ، وأصعد معه الحسن والحسين (عليهما السّلام) ، ووضع يده اليمني على رأس الحسن (عليه السّلام) ، واليسرى على رأس الحسين (عليه السّلام) ، وقال : (( اللَّهمَّ ، إنّ محمداً عبدك ورسولك ، وهذان أطائب عترتي وخيَار أرومتي ، وأفضل ذرّيَّتي ومَن أخلفهما في اُمّتي ، وقد أخبرني جبريل أن ولدي هذا مخذولٌ مقتول بالسُّمِّ ، والآخر شهيد مضرَّج بالدمِ . اللَّهمَّ ، فبارك له في قتله ، واجعله من سادات الشهداء )) .

إرثُ النبوَّة حمله حبيب النبي الحسين (عليه السّلام) في رحلة سرمديَّة إلى دنيا الخلود ، بعد أن زرعه خليَّة خليَّة في قلوب المؤمنين .

الصفحة (348)

والذي نعلمه عن المربَتْ أنه يُنمِّى ما يكون في الخِلال الأصلية ، ويزرع ما يجد مناسباً زرعه لاكتمال غايته . والحسين (عليه السّلام) حينما أخَذه جدّه (صلّى الله عليه وآله) بالتربية أخذ معه الجسم والعقل والنفس ، وجعل من ذاته قُدوةً له في حركاته وسكناته .

ذكر أبو رافع مولى النبي (صلّى الله عليه وآله) أنه كان يلاعب الحسن والحسين (عليهما السّلام) بالمداحي(1) . وعن أبي هريرة : أن الحسن والحسين كانا يصطرعان بين يدي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) .

وعن يَعلى العامري : أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) خرج إلى طعامٍ فإذا حسين في السِّكَّة مع غِلمان يلعب ، فتقدّم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أمام القوم وبسط يديه ، فجعل الغلام يفرُّ ها هنا وها هنا ، وجعل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يُضاحكه حتّى أخذه ، فوضع إحدى يديه تحت قفاه والاُخرى تحت ذقنه وقبَّله .

وعن شدَّاد قال : خرج علينا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في إحدى صلاتي العشاء وهو حامل حسين ، فتقدّم النبي (صلّى الله عليه وآله) فوضعه ثم كبَّر للصلاة ، فأطال سجدة الصلاة ، فرفعتُ رأسي فإذا الصبي على ظهره وهو ساجد ، فرجعت إلى سجودي ، فلمَّا قضى الصلاة ، قيل : يا رسول الله ، إنك سجدت بين ظهرَي صلاتك سجدة أطلتها حتّى ظننَّا أنه قد حدث أمر ، وأنه يُوحى إليك . قال : (( كلّ ذلك لم يكن ، ولكن ابني ارتحلني فكرهت أن أُعجّله حتّى يقضي حاجته )) .

ويقصّ أبو هريرة في حديث له : أبصرت عيناي هاتان ، وسمعت اُذناي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وهو آخذ بكفَّي حسين ، وقدماه على قدم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وهو يقول : (( تَرَقْ

ــــــــــــــــ

(1) ذكره ابن الأثير في (النهاية) . والمداحي : أحجار يحفرون لها حفرة ، ويَدْحي الملاعب ، فإن استقر الحجر فيها غَلَب وإلاَّ غُلِب . عن العلايلي / 282 .

الصفحة (349)

تَرَقْ عين بقة )) . فرقي الغلام حتّى وضع قدميه على صدر رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، ثم قال الرسول : (( افتح فاك )) . ثم قبَّله ، ثم قال : (( اللَّهمَّ أَحِبهْ فإنّي أُحِبُّه )) .

إذا تمعنَّا في تربية الحسين (عليه السّلام) منذ مطلع نشأته ، فهمنا سرَّ كلِّ خطواته التي أتاها في مُقبلِ رجولته ، وإذا فهمنا ما يتضح لنا من بعد إمعان لمسنا سرَّ عمل الفعاليَّة الصامتة التي مسّت مشاعره مسّاً ترك أثره الغامض في قرارة نفسه ؛ بفعل الأحداث التي تناولت نفسه في فترة غضارتها ولَدانتها ، حينما أُصيب بجدِّه العظيم ، وفُجع باُمه الرَّؤوم ، وانطوت نفسه على حفيظة وهو يرى بيت أبيه تحت المراقبة الشديدة تُنتهكُ حُرمته بدون لباقة . هذه الأحداث التي لم تمر على نفسيته وفكره مراً عابراً دون أن تترك آثارها الخطرة .

شمعةُ الإسلام أضاءت لملايين المسلمين درب خلاصهم ، وعرَّفت لهم موطئ أقدامهم ، وجنَّبتهم الزَّلَل في حُفر الضلالة ، والسقوط في فخاخ الخطيئة والتهاون ، وأبانت لبصائرهم بسطوعها المتجلِّي أبداً مسالك الحقِّ ، وطردت عنها معالم الوحشة لقلَّة سالكيها ، فعبرها المؤمنون آمنين مُستنيرين بأنوار الشمعة التي أضاءت باحتراقها فوق ثرى كربلاء ، ولم تزل تضيء حتّى يقضي الله أمراً كان مفعولاً .

درعُ الإسلام ذبَّ عنه الأذى المتمثِّل بوَهَن العقيدة وانحلال روحانية الدين ، بعد أن غدت العقيدة ضَعفاً لا يتّصل بقوة ، بعد أن كانت قوة لا تتصل بضعف . فأغار على مواطن الوهن والإثم بالقول والفعل ، وتلقّى بصبر نادر عجيب كلَّ ما شهره في وجهه حَفَدةُ الشيطان ، مُستحلُّو حرم الله ، وناكثو عهوده ، ومُخالفو سُنَّة رسوله ، والعاملون في عباد الله بالإثم والعُدوان ، فكان بتصدّيه للأذى اللاحق بالعقيدة درع الإسلام بحقٍّ .

فلولاه لما كان الإسلام إلى ما صار إليه عقيدة ثابتة تترع في وُجدان المسلمين وضمائرهم ، بعد أن كاد يتحول إلى مذهب باهت يركن في ظاهر الرؤوس التي أدارتها نحو المذهبيّة الساذجة الحمقاء ممارساتُ القائمين على اُمور

الصفحة (350)

المسلمين من حكّام وأذناب سلطة ومدَّاحي دواوين .

ضمير الأديان إلى أبد الدهور ، كان احتراقه المادي فوق أرض الطَّفِّ مرحلة اُولى لاشتعال ضميري أبدي ، كمثل التوهُّج من الاحتراق ، والحياة من الموت . وباستشهاده (عليه السّلام) الذي لم يسجِّل التاريخ مثيلاً له تكرَّست ثورته كضمير للأديان السماوية ، يستصرخ أبداً في شبه إلحاح مناطق الشعور في الأنفس ، وينِّبه بتواتر لا يهدأ مثاوي العقيدة في الحنايا . فكأنه من الدين ـ المعنى الديني ـ غناه في المُهج على مقدار ما فيه من معناه ، فالدين ذاتيَّةٌ مطلقةٌ ثابتة ، والهرطقة نسبيةٌ مضمحلّة ليست شيئاً إذا لم تكن الخطايا والدنايا كلّ شيء خلفها وحولها ، لا تجد قيمتها إلاّ في مدى إسفافها ومهاوي دركها .

حسيننا ضمير الأديان ، والضمير محبَّةٌ وتحابٌ وغيرة ، في تلافيفه حنوُّ المستقبل ونُصعانه ، ومن آياته المعبِّرة في صيغة تعبيريّة عن حقيقتها : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ )(1) .

قوم الله يحبونه ، وهو لذلك يحبهم ، ولا يقبل منهم الارتداد إلى الضلالة بعد إيمان ؛ فإن ارتدوا يرعاهم بالتجارب ليخلّصهم من الشوائب . وسبيل التخلُّصِ : الإخلاص ؛ لذلك يصطفي من رُسُله مَن يشاء ليعلّموا الناس سلوك طريق الإخلاص المتَّصل بالخفي المغيّب من حكمة الله . وقد اصطفى من العرب رسولاً ، وأنبأه أن يصبر إن كذَّبوه ؛ فلقد كذَّبت الأقوام أنبياءهم من قبلُ

ــــــــــــــــ

(1) سورة المائدة / 54 .

الصفحة (351)

بعدما اجتهد اُولئك الأنبياء بتبليغ ما كُلِّفوا من البينات والزُبُرِ والكتابِ المنُير(1) . ولكن ، ( كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ )(2) . فقدرة الله وحكمته قد تفصل بين المرء وقلبه ؛ ليفلت السلطان على النفس من يد صاحبه : ( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ )(3) .

أما الفئة السلبية فهي الفئة التي تنكر الحقَّ وتضطهد حملة لوائه ، تفرح بحيلتها في إخفاء معالمه وبشائره ، هذه الفئة ليست بمفازة من العذاب . إن الله يرفع درجات مَن يشاء لحكمة وعلم ، وخير الاُمم اُمَّةٌ هُديت إلى الحقِّ فهَدَت به ، فالحقّ يجعل من الاُمّة خير الاُمم ، ومن المؤمنين خير الخليقة ، ( وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ )(4) .

مقياس خير الأُمم قبول الحقِّ والعمل به ، ومقياس المقاييس لخير المؤمنين فئة هَدَت إلى الحقِّ وعَدَلتْ به ونهَتْ عن نقيضه .

فمَن من المؤمنين فعل هذا ؟ مَن الذي أعلن على رؤوس الملأ بقوله هذا : (( إنّما خرجتُ لطلب الإصلاح في اُمّة جدِّي ، اُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر ، فمَن قبلني بقبول الحقِّ فالله أولى بالحقِّ ، ومَن ردَّ عليَّ هذا أصبر حتّى يقضي الله بيني وبين القوم بالحقِّ ، وهو خيرُ الحاكمين )) ؟

ــــــــــــــــ

(1) تفسير القرآن للدكتور أسعد علي / 434 ـ 435 .

(2) سورة آل عمران / 86 .

(3) سورة الأنعام / 90 .

(4) سورة الأعراف / 181 .

الصفحة (352)

إنّه الحسين سيد الشهداء في ميادين الحقِّ ، والذي كانت ثورته تمثيلاً عملياً لضمير الأديان على مرِّ الدهور ؛ فقد خرج طالباً الإصلاح في اُمّة جدِّه خير اُمّة اُخرجت للناس ، بثلاثة مواقفها : الإيمان والأمر والنهي ؛ الإيمان بالله الأحد ، والأمرُ بالمعروف ، والنهيُ عن المنكر . الأقانيمُ الخُلُقية الثلاثة المكتوبة في التوراة والإنجيل والقرآن .

قضية الحقِّ الاُولى واحدة في كلِّ دين ، تظهر ببهاء رغم كلِّ الأستار الصَّفيقة من صُنع الهراطقة ، وضمير الأديان ما هو إلاّ إيقاظ مستمر وتذكير دائم بهذه القضية . وقد جسّده الحسين (عليه السّلام) حينما انطلق إلى كربلاء ليكون عاشوراء العقائد ، وليبقى فداؤه على مرِّ الدهور ضمير الأديان المطور المبُدع في محبة الله ، وفي العمل بتعاليمه .

أليست الحرية والإيثار إعلان سُنَّة مرضية للرب كما عرفناها من مبادئ ثورة الحسين (عليه السّلام) ، هي ذاتُها جوهر وصايا الإنجيل العظمى ؟

فحسين الصلاح ضمير ، ضمير كلِّ الأديان إلى أبد الدهور ، يعلو همسه المنبعث من أعماق الدهور فوق ضجيج الحياة وصخبها ، ومن فوق الإنسانية المختنقة بلفحات الضراوة والمظلوميّة ؛ ليُردها إلى نعيمها الطاهر الذي تحاول أباطيل الضلالة إزاحته من تحت أقدامها .

ولئن اعتُدي على الحقِّ الإلهي في غفلة من الزمن وفي حَلكة الظلام ، فلهذا الحقِّ في ضمير الكون شاهد . وكان الحسين (عليه السّلام) ضمير الأديان في عمر الدهور هو الشاهدُ الأوحد على محاولة إزهاق الحقِّ في ضمير الكون .

الصفحة (353)

ولكن يأبى الله إلى أن يُتمَّ نوره ، وتأبى حكمته إلاّ أن تبلغ مداها في فضاء العزّة والجلالة ؛ لتغمر آفاق البشرية بالقدسية والعدل والنُّبل .

لهذا المقصد الإلهي كان الحسين (عليه السّلام) قَبَس هداية ومَشكاة طهر ، ونموذج أخلاق فاضلة ، فكان حقّاً ضمير الأديان إلى يوم القيامة .

الصفحة (354)

الصفحة (355)

مقتطفاتٌ وآراء الحسينُ حيٌّ في الضمائر

( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ . . . )(1)

وهكذا فالحسين (عليه السّلام) حيٌّ ، حيٌّ عند الله ، حيٌّ عند الناس ، حيٌّ في الضمائر ، حيٌّ في القلوب ، حيٌّ في الأفكار ، حيٌّ في المشاعر ، حيٌّ على المنابر ، حيٌّ في المجالس ، حيٌّ في الكتب ، حيٌّ . . حيٌّ .

وكلُّ واعي الضمير منوَّر القلب يغترف من معين هذه الحياة السرمديَّة . وكان من جملة المغترفين من المعين الإلهي الاُستاذ الكاتب ( أنطون بارا ) في سِفرِه القيِّم (الحسين في الفكر المسيحي) ،

ـــــــــــــــ

(1) سورة آل عمران / 169 .

الصفحة (356)

وقد طالعته فشدَّني باُسلوبه الجديد كلّ الجِدَّة في عالم التأليف والتحليل ؛ إنه كتاب يكفيه سموّاً أن لا يغمز إلاّ من قناة الفكر ومنُطلق الرؤية(1) .

ــــــــــــــــ

(1) من مقدَّمة الطبعة الاُولى لسماحة السيِّد محمد الحسيني الشيرازي .

الصفحة (357)

الحسينُ شهيدٌ للمسيحيّة كما هو شهيد للإسلام

الحوار بين أتباع الديانات السماويّة هو غاية ما تصبو إليه الشعوب المؤمنة في هذا الطور من الزمن ، وفي هذه الظروف العصيبة التي شمَّرت فيها قِوى الإلحاد عن سواعدها تبغي التخريب وإعمال معاولِ الهدم في صروح الأديان ، آملةً في وقوعها أخيراً تحت ضرباتها .

كلُّ كلمة تُقال أو تُكتب ، وكلُّ حرف يسطع بنور الحقيقة سيُضيف بُعداً ذا أثر على قضايا الحقِّ الأولى ، الحق الإلهي الذي ما أُنزلت الديانات السماوية الثلاث إلاّ لتوكيده وترسيخه في أعماق النفوس ؛ للأخذ بيد بني البشر إلى حيث الصراط المستقيم ، والحقُّ المبين الذي ينظِّم علاقة الفرد بربِّه ، وبأخيه في الإنسانية .

لأجل هذا الحقِّ كانت رسالة عيسى (عليه السّلام) ، ولأجله أيضاً كانت رسالة محمد (صلّى الله عليه وآله) ، وفيما بينهما من قواسم مشتركة ما كانت لتتجانس لو كان في طبيعة الحقِّ الإلهي اختلاف أو تغيير .

وكتاب السيِّد أنطون بارا ( الحسين في الفكر المسيحي ) ما هو إلاّ صدى لترجيعات أصوات آمنت بهذا الحقِّ ، فكان في مهرجان الإيمان راية صفاء تُرفع ، وعلم نوايا طيبة يُرفرف .

فمَن أجدر من الحسين (عليه السّلام) لأن يكون تجسيداً للفداء في الإسلام ؟ ومَن أجدر من الفكر المسيحي لأن يفهم رموز ومعاني هذا الفداء ، الركن الأول في المسيحية ؟ وبالتالي يُحِبُّ من يتقدم إليه راضياً مرضياً ، لوجه الله والحقِّ الإلهي .

الصفحة (358)

فالحسين من وجهة نظر مسيحية هو شهيد للمسيحية ، كما للإسلام وكما لغيرهما أيضاً ؛ لأن فداءه ذو أهداف إنسانية شمولية لا تختصّ بفرد دون آخر .

ويظل كتاب ابننا الأديب (أنطون بارا) من أفضل الكتب التي قرأتها في هذا الصدد من حيث اللغة ، أو من حيث الاُسلوب والمضمون . وأعتبرهُ خطوة جبّارة في طريق الحوار بين أتباع الديانات السماوية .

حوار نحن في أمس الحاجة إليه ؛ لِنُواجه به ما يُحيط بعقائدنا الروحية من أعاصير الإلحاد والكفر ، فليُبارك الله قلم الكاتب ونُبل مقصده وعظيم هدفه ، وله في اجتهاده هذا أجران : أجرُ العمل ، وأجرُ المقْصد(1) .

ــــــــــــــــ

(1) من كلمة لسيادة المطران الدكتور برتلماوس عجمي .

الصفحة (359)

ثورةٌ للإنسانية كلها

ما أجدر بثورة كثورة الحسين (عليه السّلام) من أن تُوصف بالشمولية ، فهي ثورة لكلّ إنسان فوق هذا الكوكب ، مسلماً كان أو غير مسلم . وهذا بعض ما يجب أن يُقال بحقِّ هذه الثورة التي كانت وستبقى الثورة المثالية والرائدة بلا منازع .

ولعلَّ أحدث ما كُتب حول هذا المعنى كتاب خطّه يراع الكاتب المسيحي (أنطون بارا) بعنوان ( الحسين في الفكر المسيحي ) ، حلَّل فيه بشيء كبير من الصدق والإخلاص ملحمة كربلاء ، وأبرز جوانبها ، وأهم أسبابها ونتائجها , بروح موضوعية بعد أن استنار بالشيء الكثير مما كُتب عن المِلحمة الخالدة ، مُستخلصاً من كلّ ذلك شمولية الثورة واتساعها .

وفصلاً بعد فصل يسير بنا الكاتب في رحلة كلها دروس وعِبَر ، حتّى يختمها ـ كما بدأها ـ بكلمات صدق فيها مع نفسه ومع التاريخ ، وأعطى بها لثورة الحسين بعض ما تستحقه(1) .

ــــــــــــــــ

(1) من مقال للاُستاذ علي الشرقي في مجلة المواقف البحرينية ـ العدد 262 / 5 فبراير 1979 .

الصفحة (360)

يا شهيدَ الطَّفِّ ، سيوفنا لك لا عليك

( ما أجدر بالبشرية اليوم لأن تتوجه نحو منارة الحسين كيلا تضل ) .

بهذا القول يؤكد الكاتب المسيحي (أنطون بارا) على ضرورة التمسّك بتعاليم الحسين والتوجُّهِ نحو منارة مُثُله ؛ طمعاً في النجاة من الضلالة والضياع ، سيما في عصر الضنك هذا ، عصر المظلومية وعبادة المال .

وقد صدق الكاتب حين قال : الحسين ضمير الأديان إلى الأبد .

قبل كلّ شيء لنرى كيف كان الحسين (عليه السّلام) ضميراً يقف على قدمين ؛ يفرح ، يحزن ، يتحسس ، يتألَّم ، يُدافع ، يُناصر . وبكلمة واحدة : كان مع الحقِّ ، والحقُّ معه أينما كان .

ألم تسمعوه يقول ليلة عاشوراء وروح المسؤولية تسير حتّى على شفتيه : (( ألا ترون إلى الحقِّ لا يُعمل به ، وإلى الباطل لا يُتناهى عنه ؟ )) . كأنه يريد أن يهزَّ أعماقنا بهذا الاستفهام الاستنكاري : ألا ترون . . . ألا ترون ؟ وبعد كلّ هذا ، الحسين مدرسة أخلاق ، وجامعة إيمان هو عميدها ، ولنا الشرف كلّ الشرف أن نقتبس ونأخذ منه .

إذاً فعيب علينا أن نغالط أنفسنا بإحياء ذكرى الحسين (عليه السّلام) كلَّ عام بينما نقتل أهدافه في كلّ ثانية من حياتنا بسلوكنا وأعمالنا ! فلنكن حسينيِّين قلباً وقالباً(1) .

ــــــــــــــــ

(1) من منشور وُزّع في البحرين بمناسبة ذكرى عاشوراء المجيدة لعام 78 , أصدرته اللجنة الثقافية في الصندوق الحسيني الاجتماعي .

الصفحة (361)

ثورةُ الحسين إلهام لا ينضب

الحسين بن علي (عليه السّلام) وثورته كانا على الدوام محطّ إلهام الكثيرين من أصحاب الضمائر الحرة والأفكار السامية ، يجدون في سيرة سيد الشهداء ذُخراً أخلاقياً لا ينضب .

والكتاب الذي صدر للزميل (أنطون بارا) بعنوان (الحسين في الفكر المسيحي) ، فيه التماعات شتى ، بذل المؤلِّف لها الكثير من الجهد الملموس لإيفاء الموضوع حقّه من البحث والتحليل والمعالجة الفكرية الهادفة ، فجاءت فصول الكتاب تجسيداً لرؤية فلسفية وفكرية جديدة .

إنه كتاب جديد في مُنطلقه ، وعميق في أبعاده ، وهادف في مضامينه الفكرية من أجل تجسيد معنى الاستشهاد والتضحية والفداء ، هذه الملاحم التاريخيّة الباقية على مر السنين والأجيال ، والتي قدَّمها للبشرية أبو الشهداء وسيدهم الحسين بن علي (عليه السّلام) فكانت لها موِئلاً وملاذاً .

إنّ كتاب الحسين جدير بالدراسة المتأنِّية الواعية لمَن يريد التعمُّق في خصائص الثورة الحسينية(1) .

ــــــــــــــــ

(1) من مقالين للاُستاذ عبد الله الشيتي ، في جريدة الرأي العام الكويتية ـ العدد 5329 سبتمبر 78 ، ومجلة النهضة العدد 568 سبتمبر 78 .

الصفحة (362)

ملحمةُ كربلاء بين المستشرقين والمستغربين

المستشرقون الذين تناولوا ثورة أبي الشهداء الحسين (عليه السّلام) تناولوها بكثير من التجنّي والإجحاف ، ونظروا لها نظرتهم إلى حادثة تاريخية مجردة من القُدْسية ، بينما تناولها المستغربون ـ الكتّاب المسلمون ذوو الثقافة الغربية ـ بكثير من الإهمال وضعف التبحُّر الموضوعي ؛ إذ غلبت عليهم العاطفة ، فانعكست على تحليلاتهم واستنتاجاتهم مما جعل منا كمّاً غير ذي أثر على الفكر .

وكان الخطأ الذي ارتكبه المفكرون المسلمون هو أنهم هدفوا بكتاباتهم الفكر المسلم ، ولم يَدُر بخلدهم يوماً أن يتّجهوا إلى الفكر المسيحي أو اليهودي أو غيرهما لإيصال أخلاقيات ثورة كربلاء ، أو لعرضها كما يجب أن تُعرض بحيث يفهمها الفكر الغربي المسيحي .

من هنا كان كتاب الاُستاذ (أنطون بارا) وهو المسيحي العربي ، فريداً في بابه ، وقد أثار جدلاً في الأوساط الثقافية والفكرية ؛ نظراً لما احتواه من موضوعية وطرح جديدين ، ولكون مؤلفه مسيحيّاً تصدَّى لتحليل سيرة وشخصية علم من أعلام الإسلام ، في وقت يُحجم فيه الكثير من الكتّاب المسلمين عن الخوض في هذا النوع من الكتابة ؛ نظراً لصعوبته أوّلاً ، وتشعبه وحساسيته الفائقة ثانياً .

وقد قرأت كثيراً من الكتب التحليلية عن الحسين (عليه السّلام) ، لكني لم أقرأ بوضوح رؤية ، ومتانة لغة ، ورشاقة اُسلوب ، وروعة تحليل كتاب (الحسين في الفكر المسيحي) إلاّ كتاب عبد الله العلايلي . وإذا جاز لي تصنيف أفضل ثلاثة كتب قرأتها في حياتي عن الحسين ، فأقول : لعبد الله العلايلي أولاً ، ولأنطون بارا ثانياً ، وللعقاد ثالثاً(1) .

ــــــــــــــــ

(1) من مقدّمة حوار مع المؤلّف في مجلة صوت الخليج الكويتية ـ العدد 820 تشرين أول 78 .

الصفحة (363)

الفداءُ بين عيسى والحسين (عليهما السّلام)

أنَّى للبشرية أن تجد طريق خلاصها بعيداً عن تعاليم الحسين ؟ كيف لها أن تسمو إذا لم تَمسُّها قُدْسية الطَّفِّ ؟ إن كربلاء ليست وقعة تاريخية انتهت في العاشر من محرَّم ، بل كانت منعطفاً حياتياً خطيراً استهدفت عقيدة الإسلام العظيم الذي حقَّق في صدر انطلاقته فتوحاتٍ ما كانت لتتم وتنجح لولا تمكّن العقيدة في النفوس ، وتمدُّدها في ذرَّات الضمائر .

فهل للحسين (عليه السّلام) الشهيد وأبي الشهداء وسيدهم شبيه في التضحية بين الأنبياء والشهداء ؟ وهل لتضحيات أرباب الديانات قديمهم وحديثهم شبه بما ضحَّاه سبط النبي الذي قال عنه الرسول (صلّى الله عليه وآله) : (( حسينٌ منّي وأنا من حسين )) ؟

هذا ما أجاب عنه كتاب (أنطون بارا) الذي صدر مؤخراً بعنوان ( الحسين في الفكر المسيحي ) ، حيث عقد المؤلِّف مقارنة ناجحة بين شهادتي عيسى والحسين (عليهما السّلام) ، معتمداً على كثير من المراجع والخلفيات ، مُبرِزاً بموضوعية صافية ، حَسَنة النوايا والمقاصد قضية الحقِّ الإلهي الذي تقاسمته الأديان التوحيدية الثلاثة ، والذي لأجل نشره بين الخليقة جاءت الرُّسُلُ هادية مبشِّرة .

فلنقرأ هذا الكتاب لنطَّلع على وُجهة نظر المسيحية في شهادة الحسين(1) .

ــــــــــــــــ

(1) من مقال للاُستاذ أحمد مطر في جريدة القبس الكويتية 12 أكتوبر 78 .

الصفحة (364)

حوارُ الفكر بين الأديان

لم نقرأ قبلاً وجهة نظر مسيحيّة حول قصة كربلاء المتجلّية في استشهاد الحسين وعترة آل البيت (عليهم السّلام) ، ولا ندري لمَ هذا التقصير من جانب الفكر المسيحي لإبداء وجهة نظره في هذا الصدد ، مع أن الفداء والشهادة هما ركنا الدين المسيحي الذي يقوم عليهم ؟!

لكن كتاب الاُستاذ أنطون بارا (الحسين في الفكر المسيحي) ليُعتبر محاولة وتجربة جريئة من المؤلّف للخوض في هذا الموضوع باُسلوب جديد كلّ الجِدة ، لم يعهده قارئ العربية فيما نُشر من مئات الكتب حول ذات الموضوع ، وهو في حدِّ ذاته خطوة عملية ومنُطلقٌ لدراسات فكرية تعمِّق من الحوار بين أتباع الديانات السماوية ، بلا تعصُّب أو ضيق اُفق ، ولكن بسعة صدر وشمول رؤية .

وكما قلنا : إن خطوة المؤلِّف هي جرأة إيمانية يُشكر عليها ؛ لأننا انتظرناها طويلاً ، فمن أجدر بأتباع الديانات السماوية الثلاث بتأمُّل آيات القول والفعل التي جاءت بها رسالاتهم ، وحمَلَها لهم نبيُّوهم كَلِماً وآيات عجاباً ؛ لإهدائهم إلى سواء السبيل والصراط المستقيم ؟

لقد أفاض المؤلِّف وفصَّلَ بتحليل سيرة سيد الشهداء (عليه السّلام) ، والتي يلمس القارئ لسطور كتابه إعجابه الشديد بهذه السيرة ؛ تيمُّناً بقول رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : (( إنّ لقتل الحسين حرارةً في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً ))(1) .

ــــــــــــــــ

(1) من مقال للاُستاذ إبراهيم عبد الموجود في جريدة الأنباء الكويتية ـ العدد 983 سبتمبر 78 .

الصفحة (365)

كتابٌ فريد ولغة مبتكرة

عدا كتب التاريخ الصرفة ، ما ضمَّت أرفف المكتبات العربية كتاباً واحداً يعرض لملحمة كربلاء بالتحليل الجيد والعرض المتقن .

كلّ الكتب التي تناولت سيرة الحسين (عليه السّلام) العطرة ما خرجت عن ترداد ما رُدِّد مئات المرات ، وكأن عظمة هذه السيرة تكاد تقف عند حدود هذه التعابير المُعادة والمُكرَّرة على وتيرة واحدة .

سيرة الحسين (عليه السّلام) مبادئ ومُثُل ، وثورة لأعظم من حصرها ضمن الاُطر التي حُصرت بها . وعلى الفكر الإنساني عامة لا الفكر المسلم والمسيحي فحسب ، أن يُعيد تمثُّلها واستنباط رموزها من جديد ؛ لأنها سرّ سعادة البشرية وسرّ سؤددها ، وسر حريتها أعظم ما عليها امتلاكه .

كتاب واحد فحسب قرأته فوجدت فيه ضالتي في فهم شخصيّة الحسين (عليه السّلام) وثورته ، ألا وهو كتاب (الإمام الحسين) للشيخ العلامة عبد الله العلايلي . بعده لم يعد ثمة كتاب واحد يشدّني ، إلى أن اطّلعت على كتاب الأديب والصحافي (أنطون بارا) الذي نحى بتحليلاته فيه منحى مبتكراً جديداً على اُسلوب البحث ؛ سواء على صعيد السيرة أو التاريخ .

ولأوّل مرة اكتشفت إمكانية إيجاد لغة ملائمة لبحث يغوص في موضوع ديني تاريخي ، لغة لا يملُّها الفكر ، ويحتار في وصفها الذوق الرفيع ؛ لما ملكته من

الصفحة (366)

رشاقة وغِنَّة وإيقاع سهل ممتنع ، يجمع بين إيقاع لغات الصحافة والأدب والبحث الجاد ، كان منها أن جعلت من سطور الكتاب سمفونية رائعة ، فيها من كلِّ لون قَبَس ، ومن كلِّ عطرٍ أريج ، ومن كلِّ صوتٍ نغمة(1) .

ــــــــــــــــ

(1) من مقال للاُستاذ كرم قنصل في مجلة الكلمة السورية ـ عدد 14 لعام 79 .

الصفحة (367)

عاشوراء حسرة في ضمير المسلمين

على امتداد التاريخ الإسلامي ظلَّت كربلاء مصدراً لإيحاءات فاجعة تذوب معها وُجدانيات المسلمين في كلّ عصر حزناً وحسرة .

وعلى امتداد التاريخ الإسلامي ظلَّت الدهشة هي القاسم المشترك أمام حَلكة الظلام التي سادت النفوس ، وأعمت العيون عن الوقوف إلى جانب حقٍّ مبين ، وقادت إلى الالتفاف حول باطل لا يحتمل الشك في بطلانه .

وبين الحزن والدهشة صدرت آلاف الشروحات والتفسيرات لحادثة استشهاد الإمام الحسين عليه وعلى جدِّه أفضل الصلاة والسّلام ، تلك الحادثة التي تستعيدها الضمائر جيلاً بعد جيل في محاولة لفهم أسرارها وكشف رموزها ، كصورة فريدة للتناقض الصارخ بين الحقِّ المقهور وبين الباطل المنتصر .

وكتاب (الحسين في الفكر المسيحي) بحث فريد في موضوعه ؛ فلم يسبق الربط بين ثورة الحسين (عليه السّلام) وبين فكر أهل الكتاب ، بالإضافة إلى أن كاتبه عربي مسيحي . إلاّ إنه كتاب نادر في بابه واُسلوبه ، وجهد ضخم لا يُماثل من نوعه ، ما كان ليكتمل لولا شفافية في نفس الكاتب ، وقدرة طيّبة على البحث والاستقصاء والاستيعاب الجيّد ، والتمثُّل للحادثة عقائدياً وتاريخياً ، وقلم يعرف كيف يصوغ الرؤية بلغة فريدة ، ويستنبط التحاليل باُسلوب غير معهود ، خاصة إذا كان الموضوع على هذا العمق الفاجع في وُجدان القارئ(1) .

والحمدُ لله ربِّ العالمين , والصلاة والسّلام على محمّد وآله الطاهرين .

ــــــــــــــــ

(1) من مقال للاُستاذ علي عبّاس في مجلة صورة الخليج ـ العدد 817 سبتمبر 78 .         

شاهد أيضاً

الزهراء الصديقة الكبرى المثل الأعلى للمرأة المعاصرة / سالم الصباغ‎

أتشرف بأن أقدم لكم نص المحاضرة التي تشرفت بإلقائها يوم 13 / 3 في ندوة ...