الإمام جعفر الصادق عليه السلام
* وقد انتشر العلم في أيّام الصادق عليه السلام بما لا مزيد عليه، وهرع إليه شيعة آبائه عليهم السلام من كلّ فجٍّ عميق، فأقبل عليهم بانبساطه، واسترسل إليهم بأنسه، ولم يألُ جهداً في تثقيفهم، ولم يدّخر وسعاً في إيقافهم على أسرار العلوم، ودقائق الحكمة، وحقائق الأمور1.
* قول (الإمام) الصادق عليه السلام حقّ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه, لوجوب عصمته عقلاً ونقلاً، وهو إمام العترة الطاهرة في عصره، لا يضلّ من تمسّك به، ولا يهتدي إلى الله من ضلّ عنه، أنزله النصُّ منزلة الكتاب، وجعله قدوة لأولي الألباب، وهذا أمر مفروغ عنه عندنا، والحمد لله ربّ العالمين2.
1- الموسوعة، ج1، المراجعات، تسلسل ص 474.
2- الموسوعة، ج4، فلسفة الميثاق والولاية، تسلسل ص 1575.
* قد أجمع العرب والعجم على أنّه إمام الكلّ في الكلّ، فتخليد ذكره قليل بالنسبة إلى واجبات شكره3.
* وقد عكف على جعفر الصادق عليه السلام من علماء عصره أُلوف مؤلّفة يأخذون عنه العلوم، لكنّ الّذين دوّنَت أسماؤهم في الفهارس وكتب معاجم الرجال الّتي هي بين أيدينا إلى الآن أربعة آلاف بطل من أبطال العلم والفضيلة4.
* وحسبك منهم أصحاب الأصول الأربعمائة، وهي أربعمائة كتاب لأربعمائة رجل من تلامذة الصادق عليه السلام لا تزال في أيدينا نتمتّع بعلومها إلى يومنا هذا, فهل في وسع العرب أن لا يفتخروا بهذا العربيّ المبين؟5
3- الموسوعة، ج9، الخطب والرسائل، تسلسل ص 4646.
4- الموسوعة، ج9، الخطب والرسائل، تسلسل ص 4747.
5- الموسوعة، ج9، الخطب والرسائل، تسلسل ص 4747.
الصحابة
* لا نرتاب في أنّ سبّ رجل من عرض المؤمنين – فضلاً عن سلفنا الصالح من الصحابة والتابعين – موبقة وفسق، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “سباب المسلم فسق، وقتاله كفر”1. 2
* إنّ من وقف على رأينا في الصحابة علم أنّه أوسط الآراء، إذ لم نفرّط فيه تفريط الغلاة الّذين كفّروهم جميعاً، ولا أفرطنا إفراط الجمهور الّذين وثّقوهم أجمعين3.
1- صحيح مسلم 1: 81، كتاب الإيمان، ح 116؛ صحيح البخاريّ 1: 27، ح 48؛ الكافي 2: 359 – 360، باب السباب، ح 2؛ من لا يحضره الفقيه 3: 569، ح 4946.
2- الموسوعة، ج2، الفصول المهمّة، تسلسل ص 1007 – 1008.
3- الموسوعة، ج4، أجوبة مسائل موسى جار الله، ص 1607.
الخلافة
* يستحيل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يوكل دين الله – وهو في مهد نشأته – إلى الأهواء أو يتّكل في حفظ شرائعه على الآراء، من غير وصيّ يعهد بشؤون الدّين والدنيا إليه، ونائب عنه يعتمد في النيابة العامّة عليه، وحاشاه أن يترك يتاماه -وهم أهل الأرض في الطول والعرض- كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية ليس لها من يرعاها حقّ رعايتها1.
* معاذ الله أن يترك النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الوصيّة بعد أن أوحي بها إليه، فأمر أمّته بها، وضيّق عليهم فيها. فالعقل لا يصغي إلى إنكار الوصيّة مهما كان منكرها جليلاً2.
* وأيضاً فإنّ قريشاً وسائر العرب كانوا قد تشوّقوا إلى تداول الخلافة في قبائلهم، واشرأبّت إلى ذلك
1- الموسوعة، ج1، المراجعات، تسلسل ص 362.
2- الموسوعة، ج1، المراجعات، تسلسل ص 362.
أطماعهم، فأمضوا نيّاتهم على نكث العهد، ووجّهوا عزائمهم إلى نقض العقد، فتصافقوا على تناسي النصّ، وتبايعوا على أن لا يذكر بالمرّة، وأجمعوا على صرف الخلافة من أوّل أيّامها عن وليّها المنصوص عليه من نبيّها، فجعلوها بالانتخاب والاختيار, ليكون لكلّ حيّ من أحيائهم أمل في الوصول إليها ولو بعد حين3.
* ولو تعبّدوا بالنصّ فقدّموا عليّاً بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لما خرجت الخلافة من عترته الطاهرة، حيث قرنها يوم الغدير وغيره بمحكم الكتاب، وجعلها قدوة لأولي الألباب إلى يوم الحساب4.
* فدعاه النظر للدّين إلى الكفّ عن طلب الخلافة، والتجافي عن الأمور، علماً منه أنّ طلبها – والحال هذه – يستوجب الخطر بالأمّة، والتغرير في الدّين، فاختار الكفّ, إيثاراً للإسلام، وتقديماً للصالح العامّ، وتفضيلاً للآجلة على العاجلة5.
* ما رأيت كنصوص الخلافة صريحةً متواترةً صودرت
3- الموسوعة، ج1، المراجعات، تسلسل ص 393.
4- الموسوعة، ج1، المراجعات، تسلسل ص 393.
5- الموسوعة، ج1، المراجعات، تسلسل ص 394.
من أكثر الأمّة، والجرح لمّا يندمل، والنبيّ لمّا يُقبر6.
* قضي الأمر في السقيفة ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقى بين عترته الطاهرة وأوليائهم ثلاثة أيّام، وهم حوله يتقطّعون حسرات، ويتصعّدون زفرات، قد أخذهم من الحزن ما تنفطر به المرائر، ومن الهمّ والغمّ ما يذيب لفائف القلوب، ومن الرعب والوجل ما تميد به الجبال، ومن الهول والفَرَق ما أطار عيونهم، وضيَّق الأرض برحبها عليهم7.
* وكان عليه السلام على علم من تصميم القوم على صرف الأمر عنه، وأنّه لو نازعهم فيه لنازعوه، ولو قاتلهم عليه لقاتلوه، وأنّ ذلك يوجب التغرير في الدّين والخطر بالأمّة، فاختار الكفّ, احتياطاً على الإسلام، وإيثاراً للصالح العامّ، وتقديماً للأهمّ على المهمّ، عهد معهود من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، صبرَ أمير المؤمنين على تنفيذه وفي العين قذى، وفي الحلق شجى8. 9
* قد كانت بيعتهم فلتةً، وقى الله المسلمين شرّها كما زعموا، لكن تلك الوقاية إنّما كانت على يد أمير
6- الموسوعة، ج2، النصّ والاجتهاد، تسلسل ص 504.
7- الموسوعة، ج2، النصّ والاجتهاد، تسلسل ص 507.
8- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6: 14.
9- الموسوعة، ج2، النصّ والاجتهاد، تسلسل ص 511.
المؤمنين بصبره على الأذى، وغمضه على القذى، وتضحيته حقّه في سبيل حياة الإسلام، فجزاه الله عن الإسلام وأهله خير جزاء المحسنين10.
* وكان من مبادئ القائمين بالأمر إذ ذاك شدّة الوطأة في تنفيذ الأحكام من غير فرق بين القريب والبعيد، والشريف والدنيء، وإيثار بيت المال بالوفر والثراء والمساواة بين أهل السوابق وغيرهم في الأحكام11.
10- الموسوعة، ج2، النصّ والاجتهاد، تسلسل ص 513.
11- الموسوعة، ج2، النصّ والاجتهاد، تسلسل ص 571.
بنو أميّة
* رأى الناس من هؤلاء الأمويّين قردة تنزو على منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، تكشِّر للأُمّة عن أنياب غول، وتصافحها بأيدٍ تمتدّ بمخالب ذئب، في نفوس تدبّ بروح عقرب1.
* رأوا فيهم هذه الصورة منسجمة شائعة متوارثة، لم تخفّف من شرّها التربية الإسلاميّة، ولم تطامن من لؤمها المكارم المحمّديّة، فمضغ الأكباد يوم هند وحمزة يرتقي به الحقد الأمويّ الأثيم حتّى يكون تنكيلاً بربريّاً يوم الطفّ، لا يكتفي بقتل الحسين حتّى يوطئ الخيل صدره وظهره2.
* أدرك الرأي العامّ – بفضل الحسن والحسين وحكمة تدبيرهما – كلّ خافية من أمر الأمويّة وأُمور مسدّدي سهمها على نحو واضح3.
1- الموسوعة، ج6، مقالات، تسلسل ص 2538
2- الموسوعة، ج6، مقالات، تسلسل ص 2538
3- الموسوعة، ج6، مقالات، تسلسل ص 2539.
* أدرك – فيما يتّصل بالأمويّين – أنّ العلاقة بينهم وبين الإسلام إنّما هي علاقة عداء مستحكم، ضرورة أنّه إذا كان الملك هو ما تهدف إليه الأمويّة، فقد بلغه معاوية، وأتاح له الحسن عليه السلام، فما بالها تلاحقه بالسمّ وأنواع الظلم والهضم، وتتقصّى الأحرار الأبرار من أوليائه لتستأصل شأفتهم وتقتلع بذرتهم؟!4
* إنّ سيف بني أميّة ليقطر من دماء العروبة والإسلام يوم بدر وأحد والأحزاب, إذ كانوا سدّاً مانعاً بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والإصلاح الّذي يريده لأهل الأرض في الطول والعرض5.
* وقد عرقلوا له ولأصحابه البررة من المساعي المشكورة كلّما قدروا عليه، فبذلوا جهدهم، واستفرغوا وسعهم في قتله وقتل أصحابه. وسحق الإسلام ومحقه، لكنّ الله تعالى في آخر عهد النبوّة أظفره صلى الله عليه وآله وسلم بهم، فعفى عنهم، ووسعهم بحلمه6.
* بيد أنّهم أضمروا العداوة له، فكان منهم ما كان في صفّين، مع وليّه ووصيّه، وفي ساباط مع سبطه الحسن المجتبى، وفي طفّ كربلاء مع سيّد الشهداء ويوم
4- الموسوعة, ج6, مقالات, تسلسل ص 2539.
5- الموسوعة، ج9، الخطب والرسائل، تسلسل ص 4648.
6- الموسوعة، ج9، الخطب والرسائل، تسلسل ص 4648.
الحرّة في المدينة مع الصحابة البررة، ويوم العرّادات والمجانيق المنصوبة على مكّة فهدمت الكعبة، إلى كثير من ويلاتهم على الإسلام والعروبة الّتي ألحقت بالعرب والمسلمين من الوهن والتقهقر ما لا يدرك أبداً, إذ شتَّتَت شملهم، فجعلتهم طرائق قدداً، وأطمعت بهم الأجانب7.
7- الموسوعة، ج9، الخطب والرسائل، تسلسل ص ت4648 .