وكان عندما يذهب إلى الحرم يبدأ بالحديث مع أمير المؤمنين عليه السلام منذ دخوله الباب، ويناجيه بهدوء وخفية، وبصوت عال تارة أخرى ويستغرق حديثه معه وقتاً أطول لو دخل الحرم أو وصل إلى مقابل الضريح وكان عندما يصل إلى الحرم يدخل بأدب ويجلس في زاوية تحت قدمي أمير المؤمنين عليه السلام، ويستغرق مع نفسه ويتلو زيارة أمير المؤمنين عليه السلام، على ظهر الغيب:
السلام علي أبي الأئمة وخليل النبوة والمخصوص بالأخوة
السلام على يعسوب الدين والإيمان وحكمة الرحمن
السلام على ميزان الأعمال ومقلب الأحوال…
وعندما تقترب ذكرى شهادة أمير المؤمنين عليه السلام تتغير أحواله، ويبتعد عن الآخرين ولا يخرج من الدار، ويقول فقط: عندي شغل، ويخفي حاله عن الآخرين.
وعندما اضطر إلى الهجرة من النجف إلى قم كان دائم للنجف، وكان لسانه يردد دائماً يا أمير المؤمنين علي. تقول زوجته: عندما جئنا إلى إيران كان يذكر النجف دائماً، ويردد لسانه اسم علي عليه السلام في كل أحواله، وكان يكثر من قول (يا جداه) ويتباهى بذلك، فكنت أقول له أحياناً من باب المزاح: إنك تقول (يا جداه) بنحو وكأن علي عليه السلام جدك فقط وليس له أولادك سواك! وكان كثير التعلق بأمير المؤمنين عليه السلام وكان يعتقد في علي عليه السلام اعتقاداً فيه اُبهة وعظمة خاصة. وكان يحب كثيراً زيارة عاشوراء وزيارة أمين الله، وخاصة زيارة أمين الله والتي كان يرددها حتى في النوم، أي أنه كان نائماً ومع ذلك كان لسانه يتلوها، ولا أدري ما هي الحالة التي كان عليها، فلعله كان يذهب لحرم أمير المؤمنين عليه السلام ويقرأ الزيارة له وهو في عالم النوم.
ويقول نجله الأصغر المهندس السيد علي الكشميري: لقد كان عاشقاً للإمام الحسين ولأمير المؤمنين عليه والسلام، والجملة التي سمعتها منه هي: أتمنى أن أرجع إلى النجف وأكنس الحرم بلحيتي، لقد سمعت هذا منه، ولقد كان هذا العشق في باطنه.
ويقول المرحوم الشيخ جعفر المجتهدي عن السيد الكمشيري: إن قلب هذا السيد مملوء يحب أمير المؤمنين عليه السلام إلى درجة أنه في كل مرة يأتي فيها إلى دارنا تأتي معه أيضاً قبة أمير المؤمنين عليه السلام.
ويقول أحد تلامذة السيد الكشميري معبراً عن وثيق علامة السيد الكشميري وعظيم شوقه إلى جوار أمير المؤمنين عليه السلام وهو في مرضه الأخير: كان يأمل دائماً أن يرجع إلى جوار مرقد أمير المؤمنين عليه السلام. وعندما اشتد به المرض كان يعوده أصدقاؤه ويطلبون منه الإذن في إحضار الطبيب، فيقول طبيبي مرقد أمير المؤمنين عليه السلام، إذا رجعت إلى هناك ستزول كل هذه الأمراض. وبالفعل كان هكذا. لقد كانت له مع أمير المؤمنين علاقة قوية جداً وصميمية، وأن كل من رأى الطلعة البهية لعلي عليه السلام فأنه لا يستطيع أن يتحمل فراقه والابتعاد عنه، ولقد سمعته يقول: يضيق صدري جداً في بعض الأحيان لأمير المؤمنين عليه السلام فأقرأ سورة المؤمنين والتي هي سورة علي عليه السلام وأهدي ثوابها إلى روحه الطاهرة فاُشاهده في عالم الرؤيا أحياناً.
والمعلم الثاني في النجف الأشرف هو مقبرة وادي السلام حيث قبور عدد كبير من الأنبياء والأولياء والصالحين، بل هي مكان اجتماع أرواح المؤمنين بعد الموت، كما أن وادي برهوت في اليمن هو مكان اجتماع أرواح أهل النار، ولذا فأن وادي السلام روضة من رياض الجنة، فلا غرابة أن يتخذها الأولياء محللاً للعبادة.
وقد جاء في الرواية أن أمير المؤمنين عليه السلام قد اشترى الأراضي بين الكوفة والنجف إلى الحيرة بأربعين ألف درهم، وأشهد على شراءها. فسأله بعض أصحابه: لماذا اشتريت هذه الأرض التي لا دماء فيها ولا كلاء بهذا الثمن الغالي؟ فقال عليه السلام: سمعت رسول الله (ص) يقول: يحشر من ظهر الكوفة سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب، وأنا أحب أن يحشروا من ملكي.
ويوجد في وادي السلام مقامان: أحدهما مقام الإمام الصادق عليه السلام والثاني مقام الإمام صاحب الزمان عليه السلام، وهما المحل الذي صلياً عليه السلام فيه. كما يضم وادي السلام قبرين مبنيين أحدهما لنبي الله هود عليه السلام والآخر لنبي الله صالح عليه السلام وهما جارا أمير المؤمنين عليه السلام كما جاء في الزيارة: (السلام عليك وعلى جاريك هود وصالح).
ومن أعظم ما تمتاز به مقبرة وادي السلام عن غيرها من مقابر العالم أنها برزخ أرواح المؤمنين إلى يوم القيامة، وهو ما قاله أمير المؤمنين عليه السلام لأصبغ بن نباته في صحراء النجف: (يا بن نباتة لو كشف لكم لرأيتم أرواح المؤمنين في هذا الظهر (ظهر الكوفة وهي النجف) حلقاً يتزاورون ويتحدثون إن هنا روح كل مؤمن).
ويقول السيد الكشميري: إن أول من عرفني على وادي السلام هو المرحوم الشيخ ذبيح الله القوجاني وأرشدني إلى قراءة الفاتحة وبعض السور وإهدائها إلى أرواح المؤمنين، وقال: إن فعلت ذلك فإن هذه الأرواح تدعو لك. وقد اصطحبني معه مرات عديدة عند الغروب إلى هذه المقبرة.
ويقول أيضاً: وكانت علاقتي بوادي السلام قوية إلى درجة أني كنت ألقي بعض دروسي فيها، وكنت أذهب في بعض الليالي إليها فأضع عمامتي تحت رأسي وأغطي جسدي بعبائتي وأنام، وهي مقبرة مخفية ولم أكن شجاعاً أيضاً، ولكن شوقاً في باطني يبعثني علي الذهاب إليها والمبيت فيها وأن اتحدى الخوف. وكنت أذهب إليها أحياناً في وسط النهار حيث الحر الشديد، وأذهب إليها في منتصف الليل في أحيان آخر, وهذا العمل دفع البعض إلى القول بأن سيد عبد الكريم يمتلك الاسم الأعظم. وقد ذهبت في صباح ليلة زواجي إلى وادي السلام، فأرسلوا خلفي أن ارجع إلى البيت فإن مجموعة من العلماء جاءوا لزيارتك وتهنئتك، فاضطررت إلى الرجوع.
وعندما سئل السيد الكشميري عن مشاهداته في وادي السلام قال: كنت في وادي السلام يوماً وأنا مستغرق بقراءة بعض الأدعية والأوراد إذ ارتفعت فجأة أصوات نزاع وتخاصم مجموعتين من الناس، ثم أخذوا برمي الأحجار على بعضهما، فرأيت أنهما لو استمر هكذا فأني لا استطيع إتمام هذه الأدعية والأوراد كما أن خطرهما سيصل إلي، فظهر فجأة كلب وهجم على هؤلاء الناس وفرقهم بعيداً عن وادي السلام.
وفي أحد الأيام ذهبت إلى وادي السلام والتقيت هناك بشخص يدعى شيخ مالك، ولم يكن من طلبة العلم، وقال لي: إنني سأقرأ من هنا زيارة الإمام الحسين عليه السلام فأقرأ معي هذه الزيارة أيضاً، فقرأ الزيارة وقرأت معه، فشاهدت كربلاء مع أن بين النجف وكربلاء مسافة شاسعة جداً.
وفي يوم كنت مشغولاً بأورادي في وادي السلام فظهر لي فجأة ثلاثة أشخاص نورانيون وهم يرتدون ملابس بيضاء وقالوا لي: يا سيدنا نلتمس منك الدعاء.
نلقي في هذا الفصل نظرة سريعة على الجانب العبادي في حياة السيد الكشميري، فلقد بذل جهوداً مضنية ورياضات شاقة في سبيل نيل درجة القرب من الله جل جلاله، شهد بذلك العارف الأوحد في عصرنا الحاضر الشيخ محمد تقي بهجت، يقول أحد تلامذته: ذهبت إليه في أحد الأيام فوجدته يعاني من ألوان الأمراض كآلام الظهر وضيق التنفس وغيرها، وقد تدهورت صحته جداً حتى لم يستطع الوقوف على رجليه، ويحترق قلبه من يراه لكنه لم يتفوه بشيء غير كلمة (الحمد لله) فخطر في ذهني سؤال: لماذا هو مبتلى بكل هذه الابتلاءات؟ وعندما ذهبت إلى آية الله بهجت قال لي قبل أن اتكلم: لقد تحمل السيد الكشميري رياضات شاقة وبذل جهوداً كثيرة، وهذه الأمراض من آثارها.
لقد أذاق بدنه مشقة الطاعات والسهر والتهجد في جوف الليالي خلال سنوات طويلة حتى أقعده المرض لينال وسام الاستقامة الذي أمرنا الله تعالى به، وهي الدرجة التي عانى رسول الله (ص) ما عانى من أجلها حتى قال: شيبتني سورة هود إلى قوله تعالى في هذه السورة: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ}.
يقول أحد تلامذة السيد الكشميري: لقد كان لكل وجوده استقامة، ومع كل الأمراض التي كان يعاني منها من الآم الظهر والقلب وإصابته بالجلطة القلبية مرتين لم أسمعه يشتكي آلامه قط، وعندما نسأله عن حاله يقول: الحمد لله فإذا ما سألناه مرة أخرى قال: أشعر بالألم. يقول هذا من غير شكوى وكأنه قد تقبل هذه الآلام بروحه وقلبه، لقد كان وجوده دال على الاستقامة، وكنت عندما أراه أفهم ماذا تعني الاستقامة.
نعم لقد تحمل كل هذه المعاناة ليكون دائم الحضور عند الله تعالى ودائم الذكر له، يقول نجله السيد محمود الكشميري: لا ندري ماذا كان يقول، وكل ما نعلمه أنه كان في حال الذكر خلال أربع وعشرين ساعة، وحتى عندما يمشي في الطريق، وكان لسانه ذاكراً لله في كل أوقاته. لقد كانت المسافة بين دارنا وصحن أمير المؤمنين عليه السلام طويلة جداً تتراوح بين الثلاث والأربع كيلومترات، وكان يقطع هذه المسافة لفي كل يوم أربع مرات مشياً على الأقدام وكان لسانه يلهج بذكر الله في كل خطوة يخطوها.
ويحكي أحد تلامذته حالة حضور الدائم في محضر الخالق جل جلاله التي يتمتع بها استاذه الكشميري قائلاً: لقد كان دائماً في حال الحضور، وكان دائماً متوجهاً لحضرة الحق سبحانه، كان يردد هذا الدعاء في أغلب أوقاته (وحالي في خدمتك سرمداً) وهذا أمر عظيم جداً، إذ هو طعام لذيذ جداً لا يشبع منه الإنسان بسرعة. وقد كانت حاله هكذا إلى آخر حياته، وكانت كل آلامه تسكن بهذا، أي أن توجهه إلى الله تعالى يسكن كل آلامه.
والخصلة الأخرى في الجانب العبادي من شخصية السيد الكشميري هي كتمانه لما يأتي به من عبادات، يقول أحد تلامذته: لقد كانت أحواله العبادية خافية علينا، إذ نحن لا نراه خلال الأربع والعشرين ساعة إلا وقتاً يسيراً، وكان خلالها مستغرقاً في سكوته. وقد سألته مرة: لقد كنت سابقاً مشغولاً بالأذكار والعبادات فلماذا أنت ساكت الآن؟ فأجاب: اشتغالي الآن أكثر من السابق، وأنا مشغول بالأذكار القلبية منذ استيقاظي صباحاً من النوم وحتى الليل.
ويحكي أحد تلامذته أيضاَ عمق ارتباط استاذه السيد الكشميري بالله تعالى قائلاً: كان قلبي يرغب جداً في معرفة كيفية ارتباطه مع الله سبحانه، وفي أحد المرات عندما كنت في زيارته أشار إلى قلبه وقال لي: ضع رأسك هنا فوضعت أذني على قلبه فسمعته يكرر كلمة دائماً، فقلت له: يا سيدنا هل ذكركم هي الكلمة الفلانية؟ فقال: نعم. وكان قلبه يردد تلك الكلمة كالساعة التي تعمل ليل نهار وتكرر دقاتها بانتظام. لقد كان ارتباطها بالله هكذا.
ويواصل القائمي حديثه قائلاً: لقد كان السيد الكشميري يتمتع بخاصية عجيبة في الذكر، فهو دائم الذكر على كل حال، وكانت له حالة عجيبة، ولم يكن يسمح لأي أحد بزيارته، وإذا ما أذن لشخص بالدخول فقد كان مشغولاً بذكر الله إلى درجة لا يدع له فرصة للحديث، وكان في أواخر حياته في حالة الذكر القلبي، وكثيراً ما يشعر الإنسان أنه يردد ذكر هو (هو الحي) ويقول عند جر أنفاسه (حي).