د. علي دربج – باحث ومحاضر جامعي
عادة غداة كل أزمة أو معركة أو حرب يضع أطرافها أهدافًا وأولويات، يعمدون إلى إعادة ترتيبها، أو تعديلها وفقًا لما تفرضه مجريات المعارك والتطورات المستجدة أو الطارئة على الأرض، كما هو حاصل الآن مع روسيا التي أدخلت تحديثات على مخططاتها في أوكرانيا، ورتبت أهدافها على قواعد جديدة لتحقيق مكاسب وانجازات عسكرية مهمة لصالح الأهداف الأخرى.
فمن أجل تأمين أقليم الدونباس سيطرت القوات الروسية على مساحة واسعة من جنوب أوكرانيا وأعادت انتشار الجنود والمركبات والأسلحة الثقيلة من أجل تحقيق هذا الهدف.
حاليًا، يخوض الجيشان الأوكراني والروسي معارك استنزاف شرسة، وغالبًا ما يدور بينهم قتال ضارٍ للفوز بمناطق صغيرة. من هنا، في حال تمكنت روسيا من الاحتفاظ بالأراضي التي سيطرت عليها على الأرض وفي البحر، فإن ذلك يمنحها القدرة على خنق الاقتصاد الأوكراني، ومراكمة أوراق ضغط ونفوذ قوية في أي تسوية تفاوضية مستقبلية.
فما هي المكاسب والانجازات التي حققتها روسيا على الارض في مختلف مناطق اوكرانيا؟
في الأسابيع الأولى من المعارك الحربية، حققت روسيا أسرع وأكبر مكاسبها في الجنوب، بعدما استعادت شمال شبه جزيرة القرم ـ التي استعادتها روسيا باستفتاء شعبي في العام 2014 ـ وسيطرت على مدينة خيرسون وجزء كبير من المنطقة المحيطة بها، إذ تمتد هذه المنطقة على مساحة 11000 ميل مربع.
تقع منطقة خيرسون على الضفة الغربية لنهر دنيبر، وفيها ميناء رئيسي متصل بالبحر الأسود. بعد سيطرتها على هذه المدينة اتخذت موسكو عدة خطوات لاعادة الهوية الروسية اليها، من خلال إدخال العملة الروسية وتعيين قادة حلفاء لها، وفشلت الهجمات المضادة المتفرقة التي قامت بها القوات الاوكرانية، في استعادة المدينة من القوات الروسية.
كيف استقرت الأمور جنوب شرق أوكرانيا؟
بعد السيطرة على خيرسون، تحركت القوات الروسية للاستيلاء على الأراضي الواقعة إلى الشرق في مقاطعة زاباروجيا الجنوبية الشرقية، موطن أكبر محطة للطاقة النووية في أوروبا. وتقدر الاستخبارات الغربية أن الروس الآن يسيطرون على حوالي 70 بالمائة من المقاطعة.
وبينما لا تزال الحكومة الأوكرانية تحتفظ بمدينة زاباروجيا، تسيطر القوات الروسية على بيرديانسك، وهو ميناء حيوي على طول بحر آزوف، إضافة الى استيلائها على ميليتوبول ــ ثاني أكبر مدينة في المنطقة ــ ومدينة إنيرهودار ومحطتها النووية.
وعلى حافة منطقة دانيتسك الشرقية الأوكرانية، تقع مدينة ماريوبول الساحلية التي تخضع حاليا إلى حد كبير للسيطرة الروسية، باستثناء مصنع آزوفستال (للفولاذ) المترامي الأطراف بالقرب من الميناء، حيث لا يزال يتحصن فيه عدد من النازيين الاوكران.
الأكثر أهمية بالنسبة لموسكو أن هذه السيطرة على مدينة ماريوبول سمحت لها بإكمال ربط بري من شبه جزيرة القرم إلى المنطقة الشرقية من دانيتسك في إقليم الدونباس وإلى روسيا نفسها.
ماذا عن الوجود الروسي في البحر الأسود؟
وفي الوقت الذي لم تنجح روسيا في تقدمها نحو مدينة أوديسا الساحلية المطلة على البحر الأسود، تفرض البحرية الروسية سيطرتها الكاملة على البحر الأسود نفسه، الأمر الذي يمكنها من محاصرة أوكرانيا فعليًا، ودفع الأمم المتحدة الى التحذير والتهويل من هذه الخطوة، بزعمها أن ذلك يؤجج أزمة غذائية عالمية.
علاوة على ذلك، خاضت القوات الاوكرانية والروسية معركة شرسة على قطعة أرض في البحر الأسود تسمى جزيرة الأفعى، على بعد حوالي 80 ميلًا من ساحل أوديسا. وقبل الحرب، كانت السيطرة الأوكرانية على الجزيرة مفتاحًا لتوسيع حضور أوكرانيا على البحر.
ما يجدر الالتفات اليه، ان روسيا لم تفرض سيطرتها على كامل سماء أوكرانيا، إلا أنها تتمتع بسيطرة واسعة عليها وبتفوق كامل في البحر.
كيف هو الوضع في الشرق؟
في شمال شرق البلاد، يعتزم الكرملين الاستيلاء على اقليم الدونباس بأكمله والذي يضم: لوغانسك ودانيتسك، المقاطعتين اللتين تقعان على حدود روسيا، وتمتدان من خارج ماريوبول في الجنوب إلى الحدود الشمالية بالقرب من خاركوف. وبينما قالت وزارة الدفاع الروسية الاسبوع الماضي إن قواتها وصلت إلى الحدود بين المقاطعتين، عمد الاوكرانيون بالمقابل الى تركيز عدد كبير، ولكن غير محدد من قواتهم في المنطقة لوقف التقدم الروسي.
وغني عن التعريف، انه بعد إعادة القوات الروسية وحلفائها السيطرة على أكثر من ثلث المنطقة في عام 2014، كان للقوات الروسية اليد العليا في منطقة الشرق، ومنذ ذلك الحين وسعت سيطرتها لتغطية ما يقدر بنحو 80 إلى 90 بالمائة منها.
ماذا عن منطقة الشمال الشرقي لاوكرانيا؟
إن إعادة ترتيب الاولويات الروسية في منطقة شمال شرق اوكرانيا، وابتعادها عن استهداف المراكز السكانية الرئيسية في الشمال الشرقي، أدى إلى انسحاب القوات الروسية من تشيرنيغيف وسومي، وصرف النظر عن السيطرة على خاركوف، ثاني أكبر مدينة في أوكرانيا، لا سيما بعد أن بدأت عمليات تصفية المدنيين الذين يشتبه بميولهم الروسية.
ورغم ذلك لا تزال روسيا تحتفظ بأراضٍ بالقرب من الحدود التي لم تكن تسيطر عليها قبل الحرب حول منطقة خاركوف. كما سيطرت على مدينة إيزيوم، على الرغم من استمرار القتال حولها.
في النهاية، فإن خارطة السيطرة الروسية اعلاه، قد تبقى على حالها، وربما قد تتوسع او تتقلص مستقبلا حسب الضرورات، أما نسختها النهائية، فيرسم خطوطها الميدان وحده، وبعدها سيقرأها العالم كواقع لا يمكن القفز فوقه أو تجاهله.