الرئيسية / بحوث اسلامية / البعد الروحي للاحرام _ غسل الاحرام السيد عبد الستار الجابري 02

البعد الروحي للاحرام _ غسل الاحرام السيد عبد الستار الجابري 02

البعد الروحي للاحرام
الحلقة الثانية _ غسل الاحرام
عبد الستار الجابري

الغسل هو اول عمل يخص الاحرام يقوم به مريد النسك.

ومن احكام الاحرام بعد انعقاده المنع من لبس المخيط، ولذا فان اول عمل يقوم به مريد النسك كمقدمة طبيعية لغسل الاحرام هو خلع المخيط.
وخلع المخيط للغسل فيه بالإضافة الى الاقتضاء العرفي جنبة اخلاقية وتربوية، فان لخلع المخيط – وهو فعل مادي – ما يوازيه في الجانب السلوكي والاخلاقي والروحي.

فالإنسان يرتدي الثياب في وضعه الطبيعي استجابة لحاجات البدن المادية ولبعض المقتضيات الاجتماعية او الشخصية، فهو يرتدي الثياب لتقيه برد الشتاء وحر الصيف وهذا من حاجات البدن وربما يكون في البدن ما لا يرغب الشخص بإظهاره امام الآخرين فيستره بثيابه وهذا من المقتضيات الشخصية وثالثة يرتدي ثياباً معينة بحسب اقتضاء العرف الاجتماعي حيث ان لكل مجتمع اعرافه الخاصة في نوع الثياب وطريقة خياطتها والوانها.
فالثياب اذن دورها دور الساتر عما يضر البدن او يسبب الحرج للشخص، فالثياب كالترس الذي يتقي به الانسان ما لا يريد وصوله الى بدنه او ما يريد ستره عن غيره، فاذا اختلى الانسان بنفسه ووضع عنه ثيابه فيكون قد اظهر لنفسه ما اخفاه عن غيره من مواطن ضعفه وحقيقة مظهره التي لا يسع الاخرين ان يقفوا عليها ما دام قد تستر عنهم بما توشحه من لباس، هذا بالنسبة للجانب المادي للبس الثياب.

والحال مشابه في الناسك وهو يقف بين يدي الله علام الغيوب، الذي كسا العبد من لباس ستره فأخفى عيوبه عن بقية العباد، ولكن العبد منكشف لله تعالى الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة.

فالحضور في الميقات اعداد للقلب بالمكاشفة مع الرب، فالساحة ساحة الوقوف بين يدي الرب وقد احضر الانسان قلبه ولبه وعقله للوقوف بين يدي الرب بعد ان ازيحت كل الحجب فليس بين العبد وربه حجاب ولا ساتر.

ومما ورد في هذا المعنى عن مولانا الامام زين العابدين وسيد الساجدين (صلوات لله عليه) فيما عرف عنه برواية الشبلي التي جاء فيها ( لما رجع مولانا زين العابدين (عليه السلام) من الحج استقبله الشبلي فقال (عليه السلام):احججت يا شبلي؟ فقال: نعم يابن رسول الله. فقال (عليه السلام):

انزلت الميقات وتجردت من الخيط من الثياب واغتسلت؟ قال: نعم. قال (عليه السلام): فحين نزلت الميقات نويت انك خلعت ثوب المعصية ولبست ثوب الطاعة؟ قال: لا ..)

فهذا النص يدلنا على ما بازاء المظهر المادي لخلع الثياب، حيث ان الناسك يخلع ثيابه المادية لمقتضيات عرفية في الغسل، ولكن في السير الى الله يقترن خلع الثياب بنزع ثوب المعصية، اي الاقلاع عن المعاصي واجتثاثها، فان المعاصي التي يعتادها الانسان ترين على القلب فتحجبه عن تلقي الفيض المعنوي وتصده عن الرقي في درجات الكمال، وكلما كثرت المعاصي كانت اكثر التصاقاً بقلب الإنسان كالتصاق الثياب بالبدن، فاذا لم يتحقق من مريد النسك خلع ثياب المعصية وتخلية القلب من اثار الذنوب والاثام فسيكون كمن اراد الغسل وهو يرتدي ثياباً تمنع الماء من الوصول الى الجسد، فتكون تلك الثياب مانعاً من ترتب الاثر المادي للغسل فلا يزول عن البدن درنه ولا نتن الجسد، فكذا القلب ما لم يخليه العبد من اثار الذنوب والمعاصي والموبقات فإنه لن يكون محلاً لتلقي الفيوضات المعنوية لما احيط به من جدار مانع لنفوذ النور المعنوي.

وهذا يكشف عن ان الاستعداد لتلقي الفيض والنور الإلهي جزء منه يتعلق بإرادة الإنسان واختياره فمن لم يكن مريداً وساعياً لتلقي الفيض الالهي، يكون هو الذي ابعد نفسه عن ساحة القدس الرباني، لانه لم يهيئ الارض المناسبة لتلقي ذلك الفيض، فهو كصاحب الارض التي امتلأت بانواع الحشائش الضارة للزرع وسكنتها الآفات والحشرات، ولم يقم بازالة ما يعيق نمو النبت فيها، فإن وجود هكذا مؤثر ضار بنمو البذور وانباتها لن ينفع معه هطول الغيث وآثار البرق، فتخلية القلب من المعاصي هي المرحلة الاولى لتلقي الفيض وترتب آثاره .

وفي حديث الشلبي ورد ايضاً( قال (عليه السلام): فحين تجردت عن مخيط ثيابك نويت انك تجردت من الرياء والنفاق والدخول في الشبهات؟ قال: لا… )

وفي هذا المعنى يقول االشيخ جوادي املي (دام ظله) ( فيرى المكلف بعين بصيرته ان ما يرتديه من ملابس يخرج عن السبب الاصلي الذي من اجله يرتديها وهو ستر عورته عن الناظر المحترم فتصبح وسلية للتفاضل والتفاخر وغيرها من العيوب المرذولة فيقف هنا عند اعتب الحرم الالهي ليؤكد انه كما تجرد من آفات المظهر كذلك سوف يتجرد من آفات الباطن التي تشوه الروح او تجعله متلوناً يتعاطى خلاف ما يبطن وهو سوف يزيل القناع المصطنع ويتعامل مع الواقع حقيقة…)

فللغسل اثار تكوينية مادية واخرى تشريعية وثالثة اخلاقية معنوية، فمن الآثار المادية التكوينية للغسل ازالة ما على الجسد من ادران واماطة الاذى الناشئ من تعرقات البدن او التعرض لما يتسبب بروائح كريهة على الجسد كالدخان وغيره، اضافة الى كون الغسل منشط للدورة الدموية وفاتح لمسامات الجلد التي لها اثر كبير في السماح لإفرازات الغدد العرقية من النفوذ الى خارج البدن لمنع الاضرار به.

ومن الآثار التشريعية للغسل ان الإتيان به امتثالاً لأمر الشارع المقدس يظهر مدى التزام العبد بما يأمر به الرب، وعلامة على رغبته في التقرب الى ساحة قدسه واداء حق طاعته وتعرضه لنيل رضاه، وشاهد على اعداد القلب لإشراق نور الفيض الإلهي وطلبه لما يترتب على امتثال امر الرب من الرقي في درجات الكمال لما يترتب على ذلك من منزلة تبعاً للحصول على الاجر الجزيل من الرب الكريم، فضلاً عن ان الغسل يرفع اثر الحدث ويحقق شرط العبادة الطهورية.

واما آثاره المعنوية الاخلاقية فمنها ان الغسل كما يكون له اثر تكويني واخر تشريعي فان للغسل آثار بازاء الآثار المادية والتشريعية وهي الآثار المعنوية فكما ان الماء يزيل عن البدن ما طرأ عليه اوساخ ويرفع موانع الافعال المشروطة بالطهارة، فانه – مع خلوص النية وطلب اداء الفعل المتقرب به الى لله حقيقة – يزيل ما ران على القلب من آثار الآثام المانعة من الرقي في درجات الكمال، فعن الامام الرضا (عليه السلام): (انما امر بالوضوء وبدئ به لأن يكون العبد طاهراً اذا قام بين يدي الجبار عند مناجاته اياه مطيعاً له فيما امره نقياً من الأدناس والنجاسة مع ما فيه من ذهاب الكسل وطرد النعاس وتزكية الفؤاد للقيام بين يدي الجبار…)

ومن اثر الطهارة المعنوية ماروي عن الامام الباقر (عليه السلام) في حديث عن النبي (صلى الله عليه واله): قال للثقفي قبل ان يسأله اما نك جئت تسالني عن وضوءك وصلاتك ومالك فيهما، فإعلم انك اذا ضربت يدك في الماء وقلت بسم الله الرحمن الرحيم تناثرت الذنوب التي اكتسبتها يداك، فاذا غسلت وجهك تناثرت الذنوب التي اكتسبتها عيناك بنظرهما وفمك بلفظه فاذا غسلت ذراعيك تناثرت الذنوب عن يمينك وشمالك فاذا مسحت راسك وقدميك تناثرت الذنوب التي مشيت اليها على قدميك …)

وفي رواية اخرى عن النبي (صلى الله عليه واله) (… اول ما يمس الماء يتباعد عنه الشيطان، فاذا تمضمض نور الله قلبه ولسانه بالحكمة، واذا استنشق آمنه الله من النار، ورزقه رائحة الجنة، واذا غسل وجهه بيض الله وجهه يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، فاذا غسل ساعديه حرم الله عليه اغلال النار، واذا مسح راسه مسح الله عنه سيئاته، واذا مسح قدميه اجازه على الصراط يوم تزل فيه الاقدام)

وفي حدديث اخر (… وان من قال في اخر وضوئه اوغسله من الجنابة، سبحانك اللهم وبحمدك اشهد ان لا اله الا انت استغفرك واتوب اليك، واشهد ان محمداً عبدك ورسولك، واشهد ان علياً وليك وخليفتك بعد نبيك، وان اولياؤه خلفاؤك واوصياؤه، تحاتت عنه ذنوبه كما تتحات اوراق الشجر، وخلق الله بعدد كل قطرة من قطرات وضوئه او غسله ملكاً يسبح الله ويقدسه ويهلله ويكبره ويصلي على محمد واله الطيبين، وثواب ذلك لهذا المتوضي، ثم يامر الله بوضوئه وغسله فيختم عليه بخاتم من خواتيم رب العزة …)

تنبيه
ان ما ورد في الروايات من تساقط الذنوب عن العبد يختص بمن اتى الوضوء مع اقترانه بتقوى الله عز وجل لقوله تعالى (انما يتقبل الله من المتقين) اما الاتيان بهذه الاعمال دون اقترانها بالتقوى فلا تكون هذه الاعمال حينئذ مورداً للقبول ولا تترتب عليها هذه الآثار، كما ان حقوق البشر لا تسقط فهي ليست ضمن الموارد التي تناولتها دلالات الروايات وانما ما يتساقط من الذنوب على ضوء ما دل عيه القران الكريم من ان الحسنات يذهبن السيئات مختص بما كان من حقوق الله تعالى محضاً.

كما ان الوضوء لا يكفي فيه مجرد الإتيان بالأفعال بل لابد من اقترانه بحضور القلب، واستشعار كونه في محضر الرب تبارك وتعالى، ومن هنا وردت العديد من النصوص التي يستشف منها هذا المعنى حيث ورد عن الامام الباقر (عليه السلام) وصفه لحال امير المؤمنين (عليه السلام) عند الوضوء انه كان يقول (بسم الله وبالله وخير الأسماء لله واكبر الاسماء لله قاهر لمن في السماء وقاهر لمن في الأرض، الحمد لله الذي جعل من الماء كل شيئ حي واحيى قلبي بالإيمان، اللهم تب علي وطهرني واقض لي بالحسنى وارني كل الذي احب وافتح لي بالخيرات من عندك يا سميع الدعاء)

وفي بيان ما بازاء الجانب الحسي ورد عن الامام الصادق (عليه السلام) انه قال: ( … فتقدم الى الماء تقدمك الى رحمة الله، فان الله تعالى جعل الماء مفتاح قربه ومناجاته، ودليلا على بساط خدمته وكما ان رحمته تطهر ذنوب العباد كذلك النجاسات الظاهرية يطهرها الماء …)

والى ما اشرنا اليه من عدم ترتب الآثار الا مع تقوى الله عزو وجل ورد عنه (صلوات الله عليه):( ولتكن صفتك مع الله تعالى في جميع طاعاتك كصفة الماء حين انزله من السماء وسماه طهوراً، وطهر قلبك بالتقوى واليقين عند طهارة جوارحك بالماء)

والى اشتراط التقوى وخلوص النية والتطهر من الآثام والتوبة عن المعصية توبة خالصة لا رجوع معها الى عصيان الرب تشير رواية الشبلي حيث قال له الإمام السجاد (عليه السلام): (فحين اغتسلت نويت انك اغتسلت من الخطايا والذنوب؟ قال: لا. قال (عليه السلام): فما نزلت الميقات ولا تجردت عن مخيط الثياب ولا اغتسلت …)

هذا البيان من الامام لاسجاد علي واضح في انه يتناول كمال العبادة وترتب الآثار المعنوية عليها، وان حديثه ابعد عن دائرة الإجزاء الفقهي، فحديثه (عليه السلام) عن دائرة القرب من الله تعالى ونيل الحضوة لديه، فالعبد الذي اتي بالاعمال التي من غير ان تقترن بالتقوى والطاعة المطلقة لله تعالى قد يحقق ما هو المطلوب منه على الاسس الفقهية في اجزاء العمل وفراغ الذمة والخروج عن العهدة، ولكنه لن يرق الى درجة من تحققت لديه الكمالات الموجبة للقرب من الله تعالى وتحققت له المنزلة الأخروية التي يستحق بها مقامات القرب من الذات القدسية.

والى هذا المعنى اشار النص الوارد عن الامام الصادق (عليه السلام): (ثم اغسل بماء التوبة الخالصة ذنوبك، والبس كسوة الصدق والصفاء والخضوع والخشوع، واحرم عن كل شيء يمنعك عن ذكر الله تعالى ويحجبك عن طاعته)

فنرى في هذا النص الشريف ان الإمام الصادق (عليه السلام) يقرن بين الماء الحسي والطهارة الرافعة للحدث الفقهي والاذى المادي وبين التوبة التي تطهر القلب من ادران الآثام والذنوب، كما يشير النص ان التوبة اذا كانت خالصة فأثرها في تنقية القلب من آثار الذنوب كأثر الماء النقي الخالص الوفير الذي يطهر البدن من اثار الاذى المادي والحدث الفقهي.
.
.
.
.
.

شاهد أيضاً

الزهراء الصديقة الكبرى المثل الأعلى للمرأة المعاصرة / سالم الصباغ‎

أتشرف بأن أقدم لكم نص المحاضرة التي تشرفت بإلقائها يوم 13 / 3 في ندوة ...