البعد الروحي للاحرام – التتمة
عبد الستار الجابري
– الحلقة 17
“لبيك عبدك وابن عبديك لبيك”
روى الشيخ الصدوق (قدس سره) باسناده عن ابي بصير قال:” سمعت ابا جعفر (عليه السلام) يقول مر موسى بن عمران في سبعين نبيا على فجاج الروحاء عليهم العباء القطوانية يقول :”لبيك عبدك وابن عبديك لبيك”
معلوم ان الالفاظ في اللغات وضعت للدلالة على معان معينة، وهذه المعاني بعضها جواهر قائمة بوجود منحاز مشخص خارجا كالانسان والشجر والحجر والماء والنار، وبعض المعاني صفات محسوسة تعرض على الجواهر كالحرارة والبرودة والبياض والسواد، وبعض المعاني صفات لافعال كالنصح والظلم والعدل والعطف، وبعضها صفات اضافية تعكس طبيعة العلاقة بين طرفين كالزوجية والابوة والبنوة والرقية والمالكية والعبودية.
والبحث يقع في النوع الاخير من المعاني فالزوجية صفة اضافية بين ذكر وانثى تربطهما علقة خاصة ضمن ضوابط معينة، وكذا الحال بالنسبة للابوة والبنوة فانها علقة بين طرفين مبنية على ارتباط خاص ضمن اطر خاصة، وكذا الحال في الملكية التي من تفرعاتها الرقية، فصفة الرق هي صفة اضافة لعلاقة ملكية بين شخص واخر ضمن قواعد وقوانين معينة يكون على اساسها احد الشخصين مالكا والاخر مملوكا له ويطلق على الاول السيد وعلى الثاني العبد والعلاقة بينهما الرق، وللرق قوانينه وضوابطه في العرف والشرع.
والعلاقة مورد البحث هي العبودية، وقد يطلق على الرق انه عبد، الا ان الفرق بينهما شاسع فالرقية تحول الانسان الى مال، بينما العبودية لله لا تخرج الانسان عن حقيقته التي اوجده فيها.
وبعض المعاني لا يتضح معناها الا من خلال معرفة ضدها فمثلاً ان الظلمة لا تعرف الا من خلال النور فان الظلمة هي عدم النور، وكذا العبودية لا تعرف الا من خلال ضدها وهو الربوبية، لان الربوبية معنى وجودي والعبودية معنى عدمي اذ العبد هو ما انتفى عنه صفة الربوبية.
فلذا نبحث عنا عن معنى الرب لنصل منه الى معنى العبد، فمن الرب؟ الرب هو الله، فمن هو الله؟
الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز يعرفنا عن صفاته فيقول في كتابه العزيز:
﴿هو الله لا اله الا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم* هو الله لا اله الا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهينمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون* هو الله الخالق البارئ المصور له الاسماء الحسنى يسبح له ما في السموات والارض وهو العزيز الحكيم﴾
فهذا هو الرب وهذه صفاته فمن كانت له هذه الصفات فهو رب، ومن لم تكن فيه هذه الصفات كلا او بعضا فهو عبد مربوب لرب العزة والجلال.
ومن يقف عند هذه الايات يجد ان كل صفة فيها غير متناهية ولا محدودة، فلا اله الا هو غير محدود بحد وغير متناه فحيثما فرض اله فانه سيكون مألوه له وعبد من عبيده وخلق من خلقه فهو الاله الواحد الاحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا احد، لم يسبق بعدم الاول الاخر، عالم الغيب والشهادة بعلمه المطلق الذي لا يحده آن ولا مكان، وكذا رحمانيته ورحيميته لا حدود لها ولا تتوقف عند حد، وليس لمالكيته حد محدود فهي ملكيته حقيقية لا يخرج عن سلطانها شيء، فكل صفة من الصفات الالهية التي وردت في الايات الكريمة هي صفة مطلقة لا نهائية تتناسب في اطلاقها ولا نهائيتها مع عظمة وسعة سلطانه وقدرته تبارك وتعالى.
فالعبد هو كل من فقد هذه الحالة من الاطلاقية واللانهائية مهما بلغت عظمته، سواء جحد او امن فان عبوديته فرع محدوديته وليست فرع ايمانه واقراره ويشهد لذلك تبارك وتعالى ﴿يا حسرة على العباد ما ياتيهم من رسول الا كانوا به يستهزئون﴾
فعبودية العبد ليست متفرعة على ايمانه واعتقاده بل صفة ملازمة لاصل وجوده وخلقه.
ومن هنا يتبين ان الذي يردد في نسكه مع ايمانه وعقيدته قائلا لبيك عبد وابن عبديك لبيك، ينفي عن ذاته كل معاني الاطلاق والانهائية ويقر بمحدوديته وانتفاء سلطنته الحقيقية على الاشياء ويقر بالحاجة لرب الارباب ومسبب الاسباب مالك الملك العزيز الجبار المتكبر.
ان هذا المقطع من التلبية ورد على لسان موسى (عليه السلام) كما تقدم، وللانبياء الاخرين تلبيات وردت تضمنتها هذه التلبية، وقد نصت الروايات على تلبيتين لموسى (عليه السلام) عند حضوره عند البيت الحرام احداهما “لبيك عبدك وابن عبديك لبيك” والاخرى “لبيك ياكريم لبيك”
وان يونس (عليه السلام) كانت تلبيته “لبيك كاشف الكرب العظام لبيك” وعيسى (عليه السلام) كانت تلبيته ” لبيك عبدك وابن امتك لبيك” ومحمد (صلى الله عليه واله) ” لبيك ذا المعارج لبيك”
روى الشيخ الصدوق (قدس سره) باسناده عن الامام الصادق (عليه السلام) انه قال:” مر موسى النبي صلوات الله عليه بصفايح الروحاء على جمل احمر خطامه من ليف عليه عباءتان قطوانيتان وهو يقول:”لبيك ياكريم لبيك”، ومر يونس بن متى (عليه السلام) بصفايح الروحاء وهو يقول:”لبيك كاشف الكرب العظام لبيك”, ومر عيسى (عليه السلام) بن مريم (عليها السلام) بصفايح الروحاء وهو يقول:”لبيك عبدك وابن امتك لبيك”، ومر محمد (صلى الله عليه واله) بصفايح الروحاء وهو يقول:” لبيك ذا المعارج لبيك”