الحسين في الفكر المسيحي – انطوان بارا
1 سبتمبر,2023
بحوث اسلامية
173 زيارة
الصفحة (235)
الفصل الثاني
الصفحة (236)
الصفحة (237)
الخروج إلى مكّة
ألا يـا عـينُ فاحتفلي iiبجهدِ ومَن يبكي على الشهداءِ بعدي
عـلى قـومٍ تـسوقهمُ iiالمنايا بـمقدارٍ إلـى إنـجاز iiوعدِ
هذا الهاتف سمعته العقيلة زينب وركب الخروج على مشارف الخزيمية قرب الكوفة وأعلمت به أخاها الحسين ، ولكنّ الشهيد الذي كان في هذا الموضع امتثالاً لأمر جدّه ، لم يزد جوابه على كلام اُخته عن القول : (( يا اُختاه ، كلّ الذي قُضي فهو كائن ))(1) .
وبجواب الحسين يضع ما كتب له في الصحيفة الإلهيّة في موضع التنفيذ بامتثاله
ــــــــــــــ
(1) راجع ابن نما / 23 .
الصفحة (238)
للوعد الذي قدّر له إنجازه ، فكان كلّ ما قُضي بالنسبة إليه فهو كائن لا محالة ، وتأكيد جدّه الرسول الأعظم على ضرورة أن يرزق الشهادة فيه توكيد وأمر غير مباشر له كي لا يقف أو يتردّد ، بل يقدِم عن وعي وتبصّر بالنتائج .
وهذا ما كان منه بعد تلقّي التوكيد ـ الأمر ـ من جدّه (صلّى الله عليه وآله) ، إذ جمع عائلته وصحبه وأنبأهم برؤياه ، فتخوّف عليه الجميع ونصحه عمر الأطرف بالمبايعة ليزيد وإلاّ سيقتل ، وقال له محمّد بن الحنفيّة ناصحاً : تنحّ ببيعتك عن يزيد بن معاوية والأمصار ما استطعت ، ثمّ ابعث برسلك إلى النّاس فإن بايعوك حمدت الله على ذلك ، وإن اجتمعوا على غيرك لم ينقص الله بذلك دينك ولا عقلك(1) .
فاستصوب الحسين نصيحة ابن الحنفيّة وعزم على الخروج إلى مكّة ، ودخل المسجد وهو ينشد :
لا ذَعَرتُ السَوامَ في فَلَقِ الصُبـ =ـحِ مُغيراً وَلا دَعَوتُ يَزيدا
يَومَ أُعطي مَخافَةَ المَوتِ ضَيماً =وَالمَنايا يَرصُدنَني أَن أَحيدا(2)
وقبل أن يترك الحسين المدينة كتب وصيّة تعتبر دستور الخروج ، أجمل فيها مبدأه وهدف خروجه ، وقال فيها ضمن ما قال : (( وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ، ولا مفسداً ولا ظالماً ، وإنّما خرجت لطلب
ــــــــــــــــ
(1) اللهوف / 15 ، طبعة صيدا .
(2) أنساب الأشراف 4 / 66 .
الصفحة (239)
الإصلاح في اُمّة جدّي (صلّى الله عليه وآله) ؛ اُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر ، وأسير بسيرة جدّي وأبي علي بن أبي طالب ، فمَن قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ ، ومَن ردّ عليَّ هذا أصبر حتّى يقضي الله بيني وبين القوم وهو خير الحاكمين ))(1) .
وخرج الحسين من المدينة متوجّهاً إلى مكّة لليلتين من رجب سنة ستّين للهجرة وحوله أهل بيته وإخوته وبنو أخيه وهو يقرأ متخوّفاً طالباً من ربّه تخليصه من القوم الظالمين ، ولزم الطريق الأعظم فقيل له : لو تنكّبت الطريق كما فعل ابن الزبير كي لا يلحقك الطلب . فأجاب : (( لا والله ، لا اُفارقه حتّى يقضي الله ما هو قاض )) .
وفي مكّة مكث أربعة أشهر يدرس أحوال ناصريه وشيعته ، وكانت تَرِده كتبهم تعلن له البيعة وتطلب منه الظهور ، وكان أهل الكوفة وأعمالها قد وعدوه بمئة ألف مقاتل إن هو طلب البيعة(2) .
ولكنّ الحسين تمهّل لتبيان جليّة الأمر ، وآثر قبل التوجّه إلى الكوفة أن يرسل ابن عمّه مسلم بن عقيل بن أبي طالب ، ليهيّئ له الأرضيّة المناسبة لإعلان البيعة ، ولهذه الغاية كتب إلى رؤساء الكوفة كتاباً يقول فيه : (( أمّا بعد ، فقد أتتني كتبكم وفهمت ما ذكرتم من محبّتكم لقدومي عليكم ، وقد بعثت إليكم أخي وابن عمّي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل ، وأمرته أن يكتب إليَّ بحالكم وأمركم ورأيكم ، فإن كتب إليّ أنّه قد أجمع رأي ملئكم وذوي
ـــــــــــــ
(1) للشيخ محمّد عبده رأي يقول فيه : خروج الإمام الحسين (عليه السّلام) على إمام الجور والبغي يزيد كان من باب خذل حكومة جائرة عطّلت الشرع الإسلامي .
وللشيخ عبد الله العلايلي في كتابه (الإمام الحسين) / 344 رأي مماثل يقول فيه : إنّ الحسين (عليه السّلام) لم يخرج على إمام ، وإنّما خرج على عادٍ فرض نفسه فرضاً ، أو فرضه أبوه بدون ارعواء . وهذا مأخذ نيابي وغلطة سياسيّة من معاوية ، أعدّ المجتمع للثورة إعداداً قويّاً حينما عهد إلى يزيد .
(2) وردت تفاصيل هذه الكتب وأعدادها وصيغها في كتاب ابن نما / 11 ، وفي الخوارزمي 1 / 193 تفصيل آخر لاجتماع أهل الكوفة وكتبهم إلى الحسين ، عن المقتل للمقرّم .
الصفحة (240)
الفضل والحجى منكم على مثل ما قَدِمت عليَّ به رسلكم وقرأتُ في كتبكم ، أقدمُ عليكم وشيكاً إن شاء الله . فلعمري ما الإمام إلاّ العامل بالكتاب ، والآخذ بالقسط(1) ، والدائن بالحقّ ، والحابس نفسه على ذات الله ، والسّلام )) .
وبينما الحسين في مكّة كان موسم الحج قائماً ، وقد غصّت مكّة بجمع كبير من المعتمرين المسلمين من كلّ الأنحاء ، وكانت أخبار خروج الحسين قد وصلت إلى الاُمويّين معلنة غضبته وعلنيّة حركته ، مع ما وافاهم به جواسيسهم المبثوثة من عقد الأندية للحسين وكثرة اجتماعاته مع المسلمين المتواجدين في مكّة ، إضافة إلى ما تناقلته الشائعات والتكهّنات من أقوال وآراء حول هياج أهل الكوفة وغليان نفوسهم بعد موت معاوية .
وكان أن قرّر الاُمويّون اغتيال الحسين في مكّة حتّى ولو كان متعلّقاً بأستار الكعبة ، فأرسلوا فرقة يطلق عليها ( شياطين بني اُميّة ) مؤلّفة من ثلاثين رجلاً لتنفّذ عمليّة اغتياله .
وقد هدف يزيد من وراء اغتيال الحسين ضرب عصفورين بحجرٍ واحد ، فمن جهة يتخلّص من خصمه ، ومن جهة اُخرى يكون مقتله ذريعة مناسبة لإعدام المئات تحت ستار البحث عن قاتل الحسين ، ممَّن يودّ اجتثاثهم وتصفيتهم .
وكان قد بلغ الحسين أنّ مسلماً قد بايعه في الكوفة ثمانية عشر ألفاً فقرّر التعجيل بالسفر إلى الكوفة لسببَين ؛ أولهما : من أجل التفويت على اغتياله والمحافظة على حرمة الحرم ، وثانيهما : من أجل المبادرة إلى المُبايعين قبل أن يتفرّق شملهم وتبرد هممهم من طول الانتظار .
ـــــــــــــــ
(1) يقول الكتاب العزيز : ( وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ )( سورة الحجرات / 9 ) .
الصفحة (241)
وحاول البعض نصحه بالتريّث أو العدول عن السفر إلى الكوفة ، ومنهم عبد الله بن عبّاس إذ سأله : إنّ الناس أرجفوا أنّك سائر إلى العراق ، فما أنت صانع ؟ أجاب : (( قد أجمعت السير في أحد يوميّ هذين )) . فأعاذه ابن عبّاس بالله من هذا العزم ، وقال له مشفقاً : إنّي أتخوّف عليك من هذا الوجه الهلاك ، إنّ أهل العراق قوم غدر ، أقم بهذا البلد فإنّك سيّد أهل الحجاز ، فإن كان أهل العراق يريدونك كما زعموا فلينفوا عدوّهم ثمّ أقدم عليهم ، فإن أبيتَ إلاّ أن تخرج فسِر إلى اليمن فإنّ بها حصوناً وشعاباً ولأبيك بها شيعة(1) .
فقال له الحسين : (( يابن عمّ ، إنّي أعلم أنّك ناصح مشفق ، ولكنّي قد أزمعت على السفر ، وأجمعت على السير )) . قال ابن عبّاس : إن كنت لا بدّ فاعلاً فلا تخرج أحداً من ولدك ولا حرمك ولا نسائك ، فخليق أن تقتل وهم ينظرون إليك كما قُتل ابن عفّان . ولكن صَحْب الحسين وخلصائه لم يعوا تماماً كما وعى هو أمرَ أن يتوجّه إلى العراق حيث مصرع شهادته ، وكانوا حتّى وصوله إلى كربلاء ما زالوا ينظرون إلى
ــــــــــــــــ
(1) أبو مخنف في المقتل / 41 .
الصفحة (242)
الخروج على أنّه مناجزة عسكريّة ، وكان هذا الفهم المغلق سرّاً من الأسرار العُلويّة لم يتفتّح إلاّ لبصيرة الحسين وحده .
إلى الكوفة
في الثامن من ذي الحجّة خرج الحسين قاصداً الكوفة مَوطن المعارضة لاُميّة ، وكانت أخبار تَنَادي الشيعة وكُتبها للحسين ، والتفافهم حول مسلم بن عقيل بانتظار قدومه قد بلغت يزيد ، فاستشار كاتبه وأنيسه سرجون الرومي بما يجدر عليه فعله ، فأشار عليه بعزل والي الكوفة النعمان بن بشير ، وتولية عبيد الله بن زياد والي البصرة(1) .
وما أن جاء الأمر لابن زياد حتّى تعجّل المسير إلى الكوفة ودخلها متخفّياً بثياب يمنيّة وعمامة سوداء ، فكان الناس يظنّونه الحسين ويحيّونه بقولهم : مرحباً بابن رسول الله . وكان الغيظ يحرقه إلى أن وصل إلى قصر الإمارة ، فأطلّ عليه النعمان وقال له : ما أنا بمؤدّ إليك أمانتي يابن رسول الله . فقال له ابن زياد : افتح فقد طال ليلك . فعرفه ابن النعمان(2) .
وكان أوّل عمل قام به في الصباح أن جمع مشايخ المدينة في الجامع الأعظم وخطبهم وحذّرهم ومنّاهم بالأعطيات قائلاً : أيّما عريف وجِد عنده أحد من بغية أمير المؤمنين ولم يرفعه إلينا صُلب على باب داره(3) .
ــــــــــــــ
(1) كانت اُمّ عبيد الله بن مرجانة مجوسية . وعند ابن كثير في البداية ، وعند العيني في عمدة القارئ شرح البخاري أنها سبية من أصفهان ، ويقال : إنّ عبيد الله كان أكولاً . وفي المعارف لابن قتيبة / 256 ، كان طويلاً جداً ، لا يُرى ماشياً إلاّ ظنّوه راكباً .
(2) تاريخ الطبري 6 / 201 .
(3) الإرشاد .
الصفحة (243)
وكان يقصد بـ( بغية أمير المؤمنين ) الحرورية وأهل الريب .
وأحدث قدوم ابن زياد اضطراباً بين الناس وانتشر الرعب في المدينة ، وسرت شائعات بأنّ جيش الشام على الأبواب ، وأمسكت القبائل بزعمائها حفظاً لهم من فتك ابن زياد ، وبقي البعض يتردّد على مسلم بن عقيل بحذر وتكتّم تحت مراقبة اُمويّة شديدة .
وعلى الرغم من تضارب الوقائع فيما تلا من أيّام بعد وصول ابن زياد إلى الكوفة ، فإنّ من المسلّم به أنّ عبيد الله بن زياد لاقى مقاومة وسجالاً في مغالبة مسلم وشيعته ، وقد قيل : إنّه هرب مرّة من المسجد واعتصم بقصره هرباً من ناصري مسلم الذين تصايحوا ضدّه .
ويقال : إنّه اجتمع لمسلم أربعة آلاف نصير فأمر بمَن ينادي في الناس بشعار المسلمين يوم بدر : ( يا منصور ، أمت ) . ثمّ تقدّم إلى قصر الإمارة مع أنصاره ، ولم يكن في القصر إلاّ ثلاثون رجلاً من الشرطة وعشرون من أهل الكوفة ، فلمّا شعر ابن زياد بأنّه في خطر تحايل على الموقف وأنفذ عيونه وأنصاره يبثّون الشائعات في المدينة عن قرب وصول المدد من الشام ، ويهدّدون بأخذ البريء بالمذنب والغائب بالشاهد .
وأثمرت حيلته ، فصارت الزوجات يتعلّقن بأزواجهن كي يمنعنهم من الخروج ، وفعل ذلك الإخوة والاُمهات(1) .
وكان أن انفضّ جُند مسلم إلاّ خمسمئة ، وما أن صلّى المغرب حتّى كان وراءه ثلاثون أخذوا يتسلّلون رويداً رويداً حتّى بقي وحيداً في المسجد .
ــــــــــــــ
(1) راجع تاريخ الطبري 6 / 207 .
الصفحة (244)
ولمّا سمع عبيد الله سكون الجلبة أرسل حملة القناديل ليفتّشوا في المسجد مخافة أن يكون هذا السكون مكيدة ، فلمّا اطمأنّ إلى تفرّق أتباع مسلم دعا إلى الصلاة ، ولمّا اجتمع الناس رقى المنبر وقال : إنّ ابن عقيل قد أتى ما قد علمتم من الخلاف والشقاق فبرأت الذمّة من رجل وجدناه في داره ومَن جاء به فله ديّته .
ثمّ أمر رئيس شرطته الحصين بن نمير أن يفتّش السكك ودور الكوفة ، وتوعّده بالقتل إن أفلت مسلم وخرج من الكوفة(1) .
وعند الصباح وشى ابن امرأة تُدعى ( طوعة ) كانت قد آوت مسلماً بمكان اختبائه ، فأرسل ابنُ زياد ابنَ الأشعث في سبعين من الشرطة فقبضوا عليه بعد معركة دامية دافع خلالها ابن عقيل دفاع الأبطال ، وقتل العديد من مهاجميه(2) .
ولمّا جيء به إلى ابن زياد رأى مسلم على باب القصر قلّة ماء مبردة ، فطلب شربة منها ، فقال له مسلم بن عمرو الباهلي : والله لا تذوق منها قطرة حتّى تذوق الحميم في نار جهنّم .
ولمّا مثل بين يدي عبيد الله لم يحيّه ، فقال له ابن زياد : لقد خرجت على إمامك وشققت عصا المسلمين ، وألقحت الفتنة . فقال مسلم : كذبت ، إنّما شقّ العصا معاوية وابنه يزيد ، والفتنة ألقحها أبوك(3) .
ـــــــــــــــــ
(1) تاريخ الطبري 6 / 209 ـ 210 .
(2) يقال : إنّه قتل واحداً وأربعين رجلاً على ما ذكر ابن شهر آشوب في المناقب 2 / 212 .
(3) ابن نما / 17 ، ومقتل الخوارزمي / 211 .
2023-09-01