الرئيسية / كتب اسلامية pdf / بناء المجتمع في دولة امير المؤمنين عليه السلام

بناء المجتمع في دولة امير المؤمنين عليه السلام

الحلقة الاولى
السيد عبد الستار الجابري

المجتمع قبل الدولة النبوية
قبل ظهور الدولة النبوية المطهرة كان المجتمع الانساني منقسما على اساس الدين الى عدة مجتمعات.

المجتمع الاول هو مجتمع الديانات التوحيدية وهم النصارى واليهود ويلحق بهم المجوس وكانت المجوسية والنصرانية هي المجتمعات الحاكمة لاكثر المنطقة المعمورة في الكرة الارضية حيث كانت النصرانية هي دين الغالبية في اليمن وبعض مناطق الجزيرة العربية وبلاد الشام وشمال افريقيا واوربا وبلاد الروم وروسيا، كما كانت المجوسية هي الديانة الغالبة على بلاد فارس الممتدة من حدود الشام الى الصين وشمال القارة الهندية.

وحيث ان البوذية يحتمل فيها انها كانت ذات جذور واصول توحيدية فانها كذلك كانت تمتد في شرق الارض وهي ما يمثل اليوم الصين واليابان والكوريتين والهند.

المجتمع الثاني مجتمع الديانات الارضية وكان ينتشر في الهند وجزيرة العرب وقلب افريقيا حيث انتشرت في الهند العديد من الديانات مضافا الى البوذية والنصرانية وانتشر الشرك في القبائل العربية وقبائل افريقيا.

تواترت على جزيرة العرب العديد من المراحل التي اسهمت في ظهور تقاليد واعراف اجتماعية متغيرة على مر الفترات الزمنية التي عاشها المجتمع.

ولو نظرنا الى واقع مجتمع الجزيرة منذ الفترة التي عاشها النبي ابراهيم (عليه السلام) والتي تمثل فترة ظهور الحضارات في ارض وادي الرافدين ووادي النيل، حيث في هذا العصر كانت مملكة النمرود تحكم بلاد مابين النهرين وشرق الارض ويمتد نفوذها الى جزيرة العرب، فيم كانت تحكم بلاد مصر مملكة اخرى تعيش صراعا دائما مع ملوك بابل.

  

الحلقة الثانية

السيدعبد الستار الجابري

بناء المجتمع في دولة امير المؤمنين عليه السلام 

المباني الاجتماعية في الاسلام

في العقد الثامن من القرن السادس الميلادي اشرقت انوار النبي محمد (صلى الله عليه واله) في مكة المكرمة في عام الفيل، وبعد اربعين سنة بعثه الله تعالى نبياً للعالمين فابتدأ دعوته في مكة، وبعد 13 سنة، هاجر الى المدينة واقام نواة دولته فيها، وفي سنة 12 للبعثة النبوية – 8 للهجرة – فتح مكة قلعة الشرك الحصينة لتنتهي خلال سنتين بعدها كل مظاهر الشرك في جزيرة العرب وتمتد الدولة النبوية لتبلغ حدود العراق وبلاد الشام شمالا والبحر الاحمر غربا وبحر العرب جنوبا والخليج شرقا.

كانت الدعوة النبوية دعوة الى عبادة الله الواحد الاحد الفرد الصمد والايمان بالانبياء السابقين والايمان باليوم الاخر، وجاءت الرسالة النبوية لبناء الفرد والمجتمع على ضوء التشريعات التي ربطت ببين العلاقة بين العبد وربه من جهة والعبد والمجتمع المؤمن من جهة اخرى والعبد والمجتمعات الانسانية من جهة ثالثة، كما تضمنت التشريعات الاسلامية قوانين العلاقات مع الدول والكيانات السياسية الاخرى والتي طبقت عمليا في حياة النبي (صلى الله عليه واله).

المطلب الاول: بناء الانسان في المجتمع النبوي

1- العقيدة وبناء الفرد والمجتمع
عند مراجعة المحاور الثلاث التي عادت ما يقسم اليها الدين وهي العقيدة والتشريع والاخلاق، فاننا نجد على مستوى العقيدة الدعوة الى الايمان بوحدانية الله تعالى والايمان بالنبوات والايمان باليوم الاخر، ويمكن ان ينظر الى القيم العقائدية في الاسلام من زاويتين الاولى الزاوية الواقعية لما هو متحقق خارجا في ظرف وجود الانسان الزماني والثاني الزاوية التربوية المترتبة على الواقع.

فمن الزاوية الاولى نجد العقيدة الاسلامية تدعو الى تحرير العقل الانساني من الخرافات والعقائد التي صنعها الانسان بتسويل الشيطان وخداع نفسه، وتنمية ذهن الانسان لادراك الحقائق والمنع من التلاعب بادراكاته الذهنية بالنحو الذي يجعله مستغرقا في الجهل، ولذا شنت العقيدة الاسلامية حرباً عظمية على الشرك والادعاءات الكاذبة لتعدد الارباب وفي الوقت ذاته شنت حربا ضروساً على منكري الالوهية وقد تضمن القران الكريم الكثير من الاستدلالات التي تخاطب عقل الانسان وادراكه لاثبات ان لهذا الكون موجداً وان هذا الموجد واحد فقط، وان حق العبودية مختص به محضاً، وان العبودية لغيره جرم عظيم لا يمكن التسامح فيه.

كما تضمنت ايات الذكر الحكيم الاشارة الى ان العبودية لله الواحد الاحد في واقعها تحقيق للكمال الانساني، ومن يلقي نظرة في التمييز بين عبادة الله وعبادة غير الله يجد ان من يعبد غير الله يفقد حريته امام ذلك الغير فلو كان الانسان عبداً مملوكاً لانسان اخر سواء كان ذلك المالك فرد والمملوك فرد كما هو حال العبودية التي كانت معروفة قبل ان تلغى او كان المالك دولة والمستعبد شعب او شعوب او دول وان لم يطلق اسم الاستعباد عليها بل اطلقت عليها اسماء اخر كالاستعمار ونشر قيم الحضارة الغربية في المجتمعات الاخرى او غير ذلك، فان المستعبِد يعمل على الغاء المستعبَد بمراتب مختلفة فتارة يصادر حريته واخرى يصادر ثقافته وثالثة يصادر جهوده وامواله، بحيث يكون المستعبَد مضطراً لاتباع المستعبِد دون ان يكون له اي خيار، اما في العبودية لله تعالى فالامر مختلف تماماً اذ يكون الانسان حراً في ظل الدستور الالهي، اي تكون حريته حرية منضبطة وليست حرية فوضوية، وان كل ما يقوم به العبد تجاه ربه من خلال الاطاعة والاتباع والانضباط يعود بالنفع اليه والى المجتمع الانساني، دون ان يكون هناك نفع يعود لله تعالى، اذ ان طاعة العبد لا تزيد في ملك الله شيء ومعصية كل الخليقة لله تعالى لا تنقص من ملكه شيء، بل هو الغني الحميد.

كما ان الايمان بالحياة الاخرى والجزاء الاخروي بالاضافة الى كونه حقيقة مستقبلية اخبر عنها الله تعالى في ضمن المسيرة التكاملية للانسان الذي عاش ويعيش ادوارا مختلفة ابتدأت في عالم الذر ثم في عالم الاجنة وبعدها في الحياة الدنيا ثم الى الحياة البرزخية وبعدها يوم القيامة ثم الخلود في النعيم او الجحيم، فان العقيدة باليوم الاخر والايمان به من شانها ان تبني الانسان اخلاقيا وتهذب طباعه وتأخذ بيده نحو الالتزام بقيم الشريعة واخلاقياتها حيث ان الذي ينتظر حياة اخرى لا يستشعر الخذلان والخسران فيما اذا فقد شيئا من دنياه المادية اذ كان ينتظر مغانم كبيرة يفيضها الرب تبارك وتعالى جزاء لطاعته واحسانه، فكما ان اصحاب المشاريع المادية الضخمة يبذلون الاموال الطائلة في سبيل تحقيق مكاسب اكبر واضخم فكذا المؤمن في الحياة الدنيا يقدم في حياته الدنيا ما من شانه ان يبني الحياة الاخروية لينال بذلك سعادة الدنيا والاخرة، خاصة وان من يؤمن بالدين لا يرى حالة انقطاع في مسيرته الحياتية بل يراها في حالة امتداد دائم سواء في الوجود الدنيوي المتواصل من خلال الذرية التي سيكون لايمان الاباء واحسانهم اثر كبير في رسم سعادة الاجيال اللاحقة كما وضحت ذلك صراحة قصة موسى والخضر (عليهما السلام) في جدار اليتيمين، او الحياة الدائمة التي تستمر بعد مغادرة الدنيا الى عوالم اخرى لها خصوصياتها التي اشارت اليها جملة من النصوص واحسها بالوجدان العديد من ابناء البشر وان كان العلم الحديث الى الان عاجزاً عن كشف غورها.

كما ان اختصاص العبودية بالله تعالى امر في غاية الاهمية اذ ان بعض الطبقات الاجتماعية من اتباع الديانات الحقة تجعل من نفسها حراساً للدين وكان الدين اصبح مختصاً بها وتستغل بذلك الشعوب لاشباع غرائزها وتحقيق مآربها فتستغل الجهل بالدين لتمرير غاياتها وتحريف الدين عن سبيل الحق واستغلال الدين استغلالاً مادياً يحول المجتمع من مجتمع عابد لله مؤمن بدينه الى مجتمع عابد لحراس الهياكل وكهنة المعابد تائهاً في بحر الضلالة التي يغلفها وعاظ السلاطين بغلاف من القدسية مستغلين بذلك جهل الناس وضعف ادراكهم وسذاجة تفكيرهم، ولذا دعى الله تعالى الناس الى اتباع تعاليم الانبياء (عليهم السلام) والحذر من تجار الدين، وقد اشار القران الكريم في العديد من الايات الكريمة الى تحريف الاحبار والرهبان الكلم عن مواضعه وخديعة البسطاء عن دينهم لتحقيق اغراض شخصية وبناء طبقات اجتماعية تستغل ايمان الناس وضعف ادراكها، وبين القران الكريم ان هذه الامة ليست بدعاً من الامم الاخرى، وانه سيجري فيها من الناحية العملية ما جرى في الامم الاخرى، فان الطبيعة البشرية واحدة في الجميع والاختلاف انما يكون في الطرق والاساليب.

ولضمان نجاة المجتمع من كيد الكائدين بين الله تعالى ان هناك اشخاصاً مصطفين هم القدوة التي على الانسان المؤمن اتباعها والحذر من الدعوات التي لا تنسجم مع ما جاء به اولئك المصطفون.
فمن هنا نجد ان العقيدة الاسلامية تبني الفرد والمجتمع على صعيد الاستقامة الفكرية من جهة والتطبيق العملي من جهة اخرى.

 

الحلقة الثالثة

بناء المجتمع في دولة امير المؤمنين عليه السلام 

السيد عبد الستار الجابري

 المباني الاجتماعية في الاسلام

في العقد الثامن من القرن السادس الميلادي اشرقت انوار النبي محمد (صلى الله عليه واله) في مكة المكرمة في عام الفيل، وبعد اربعين سنة بعثه الله تعالى نبياً للعالمين فابتدأ دعوته في مكة، وبعد 13 سنة، هاجر الى المدينة واقام نواة دولته فيها، وفي سنة 12 للبعثة النبوية – 8 للهجرة – فتح مكة قلعة الشرك الحصينة لتنتهي خلال سنتين بعدها كل مظاهر الشرك في جزيرة العرب وتمتد الدولة النبوية لتبلغ حدود العراق وبلاد الشام شمالا والبحر الاحمر غربا وبحر العرب جنوبا والخليج شرقا.

كانت الدعوة النبوية دعوة الى عبادة الله الواحد الاحد الفرد الصمد والايمان بالانبياء السابقين والايمان باليوم الاخر، وجاءت الرسالة النبوية لبناء الفرد والمجتمع على ضوء التشريعات التي ربطت ببين العلاقة بين العبد وربه من جهة والعبد والمجتمع المؤمن من جهة اخرى والعبد والمجتمعات الانسانية من جهة ثالثة، كما تضمنت التشريعات الاسلامية قوانين العلاقات مع الدول والكيانات السياسية الاخرى والتي طبقت عمليا في حياة النبي (صلى الله عليه واله).

 

الحلقة الرابعة

بناء المجتمع في دولة امير المؤمنين عليه السلام 

السيد عبد الستار الجابري

 المطلب الاول: بناء الانسان في المجتمع النبوي
1- العقيدة وبناء الفرد والمجتمع – القسم الاول
عند مراجعة المحاور الثلاث التي عادت ما يقسم اليها الدين وهي العقيدة والتشريع والاخلاق، فاننا نجد على مستوى العقيدة الدعوة الى الايمان بوحدانية الله تعالى والايمان بالنبوات والايمان باليوم الاخر، ويمكن ان ينظر الى القيم العقائدية في الاسلام من زاويتين الاولى الزاوية الواقعية لما هو متحقق خارجا في ظرف وجود الانسان الزماني والثاني الزاوية التربوية المترتبة على الواقع.

فمن الزاوية الاولى نجد العقيدة الاسلامية تدعو الى تحرير العقل الانساني من الخرافات والعقائد التي صنعها الانسان بتسويل الشيطان وخداع نفسه، وتنمية ذهن الانسان لادراك الحقائق والمنع من التلاعب بادراكاته الذهنية بالنحو الذي يجعله مستغرقا في الجهل، ولذا شنت العقيدة الاسلامية حرباً عظمية على الشرك والادعاءات الكاذبة لتعدد الارباب وفي الوقت ذاته شنت حربا ضروساً على منكري الالوهية وقد تضمن القران الكريم الكثير من الاستدلالات التي تخاطب عقل الانسان وادراكه لاثبات ان لهذا الكون موجداً وان هذا الموجد واحد فقط، وان حق العبودية مختص به محضاً، وان العبودية لغيره جرم عظيم لا يمكن التسامح فيه.

كما تضمنت ايات الذكر الحكيم الاشارة الى ان العبودية لله الواحد الاحد في واقعها تحقيق للكمال الانساني، ومن يلقي نظرة في التمييز بين عبادة الله وعبادة غير الله يجد ان من يعبد غير الله يفقد حريته امام ذلك الغير فلو كان الانسان عبداً مملوكاً لانسان اخر سواء كان ذلك المالك فرد والمملوك فرد كما هو حال العبودية التي كانت معروفة قبل ان تلغى او كان المالك دولة والمستعبد شعب او شعوب او دول وان لم يطلق اسم الاستعباد عليها بل اطلقت عليها اسماء اخر كالاستعمار ونشر قيم الحضارة الغربية في المجتمعات الاخرى او غير ذلك، فان المستعبِد يعمل على الغاء المستعبَد بمراتب مختلفة فتارة يصادر حريته واخرى يصادر ثقافته وثالثة يصادر جهوده وامواله، بحيث يكون المستعبَد مضطراً لاتباع المستعبِد دون ان يكون له اي خيار، اما في العبودية لله تعالى فالامر مختلف تماماً اذ يكون الانسان حراً في ظل الدستور الالهي، اي تكون حريته حرية منضبطة وليست حرية فوضوية، وان كل ما يقوم به العبد تجاه ربه من خلال الاطاعة والاتباع والانضباط يعود بالنفع اليه والى المجتمع الانساني، دون ان يكون هناك نفع يعود لله تعالى، اذ ان طاعة العبد لا تزيد في ملك الله شيء ومعصية كل الخليقة لله تعالى لا تنقص من ملكه شيء، بل هو الغني الحميد.

 

 

 الحلقة الخامسة

السيد عبد الستار الجابري

 العقيدة وبناء الفرد والمجتمع – القسم الثاني

 كما ان الايمان بالحياة الاخرى والجزاء الاخروي بالاضافة الى كونه حقيقة مستقبلية اخبر عنها الله تعالى في ضمن المسيرة التكاملية للانسان الذي عاش ويعيش ادوارا مختلفة ابتدأت في عالم الذر ثم في عالم الاجنة وبعدها في الحياة الدنيا ثم الى الحياة البرزخية وبعدها يوم القيامة ثم الخلود في النعيم او الجحيم، فان العقيدة باليوم الاخر والايمان به من شانها ان تبني الانسان اخلاقيا وتهذب طباعه وتأخذ بيده نحو الالتزام بقيم الشريعة واخلاقياتها حيث ان الذي ينتظر حياة اخرى لا يستشعر الخذلان والخسران فيما اذا فقد شيئا من دنياه المادية اذ كان ينتظر مغانم كبيرة يفيضها الرب تبارك وتعالى جزاء لطاعته واحسانه، فكما ان اصحاب المشاريع المادية الضخمة يبذلون الاموال الطائلة في سبيل تحقيق مكاسب اكبر واضخم فكذا المؤمن في الحياة الدنيا يقدم في حياته الدنيا ما من شانه ان يبني الحياة الاخروية لينال بذلك سعادة الدنيا والاخرة، خاصة وان من يؤمن بالدين لا يرى حالة انقطاع في مسيرته الحياتية بل يراها في حالة امتداد دائم سواء في الوجود الدنيوي المتواصل من خلال الذرية التي سيكون لايمان الاباء واحسانهم اثر كبير في رسم سعادة الاجيال اللاحقة كما وضحت ذلك صراحة قصة موسى والخضر (عليهما السلام) في جدار اليتيمين، او الحياة الدائمة التي تستمر بعد مغادرة الدنيا الى عوالم اخرى لها خصوصياتها التي اشارت اليها جملة من النصوص واحسها بالوجدان العديد من ابناء البشر وان كان العلم الحديث الى الان عاجزاً عن كشف غورها.

كما ان اختصاص العبودية بالله تعالى امر في غاية الاهمية اذ ان بعض الطبقات الاجتماعية من اتباع الديانات الحقة تجعل من نفسها حراساً للدين وكان الدين اصبح مختصاً بها وتستغل بذلك الشعوب لاشباع غرائزها وتحقيق مآربها فتستغل الجهل بالدين لتمرير غاياتها وتحريف الدين عن سبيل الحق واستغلال الدين استغلالاً مادياً يحول المجتمع من مجتمع عابد لله مؤمن بدينه الى مجتمع عابد لحراس الهياكل وكهنة المعابد تائهاً في بحر الضلالة التي يغلفها وعاظ السلاطين بغلاف من القدسية مستغلين بذلك جهل الناس وضعف ادراكهم وسذاجة تفكيرهم، ولذا دعى الله تعالى الناس الى اتباع تعاليم الانبياء (عليهم السلام) والحذر من تجار الدين، وقد اشار القران الكريم في العديد من الايات الكريمة الى تحريف الاحبار والرهبان الكلم عن مواضعه وخديعة البسطاء عن دينهم لتحقيق اغراض شخصية وبناء طبقات اجتماعية تستغل ايمان الناس وضعف ادراكها، وبين القران الكريم ان هذه الامة ليست بدعاً من الامم الاخرى، وانه سيجري فيها من الناحية العملية ما جرى في الامم الاخرى، فان الطبيعة البشرية واحدة في الجميع والاختلاف انما يكون في الطرق والاساليب.

ولضمان نجاة المجتمع من كيد الكائدين بين الله تعالى ان هناك اشخاصاً مصطفين هم القدوة التي على الانسان المؤمن اتباعها والحذر من الدعوات التي لا تنسجم مع ما جاء به اولئك المصطفون.
فمن هنا نجد ان العقيدة الاسلامية تبني الفرد والمجتمع على صعيد الاستقامة الفكرية من جهة والتطبيق العملي من جهة اخرى.

 

– الحلقة السادسة

 السيد عبد الستار الجابري

2- الشريعة وبناء الفرد والمجتمع – القسم الاول

وعند النظر الى التشريعات الدينية سواء ما كان منها يتعلق بجانب العلاقة بين العبد وربه او كان يتعلق بالمعاملات بين الناس، فان التدقيق فيها يوجب الايقان بان الغاية منها بناء الانسان والمجتمع وتربية الانسان على التنزه عن الخضوع للغرائز وضبطها ضبطا صحيحا بحيث لا يتحول الانسان مما ينبغي ان يكون عليه الى الحالة البهيمية التي لا تتناسب مع مقتضيات كمال الانسان ورقيه التكويني.
فلو اخذنا مصداقا عبادياً واخر معاملاتياً للوقوف على الجوانب التربوية في التشريعات الالهية، ولتكن الزكاة مصداقا للعبادة والمساواة في العطاء مصداقا للمعاملة.
أ‌- البعد التربوي في الزكاة
لا شك من اهمية الزكاة من الناحية العبادية والتربوية وبناء الانسان على الصعيد الشخصي مع مالها من اثر من الناحية الاجتماعية.
فالزكاة عبادة لانها مشروطة بنية القربة الى تعالى، اي ان الانسان يقدم ذلك القدر من المال الواجب عليه شرعاً ضمن ضوابط معينة لغرض التقرب به الى الله تعالى، فالزكاة اذن عبادة مالية، تترتب على دفعها اثار عبادية اذ ان المؤمن يعتقد ان هذا القدر من المال كلف بدفعه الى موارد خاصة على اساس الارادة الالهية فيكون العبد منبعثاً في تقديم المال الى مستحقه وصرفه في مورده بداعي الطاعة وتحقيق الارادة التشريعية للرب تبارك وتعالى، فالرب له حق الطاعة على العبد والعبد يحركه حق المولى وواقع العبودية له لاخراج ذلك القدر من المال وتقديمه الى موارد يريد الله تبارك وتعالى من ذلك العبد ان يصرفه فيها. فالجانب الاول في الزكاة اداء حق مولوية المولى والاندفاع نحو امتثال ارادته التشريعية.
الجانب الثاني ان العبد عندما يدفع ذلك القدر من المال هو على يقين بان من رزقه ذلك المال هو الله تعالى وان ما يقوم به هو نحو من انحاء شكر المنعم تبارك اسمه، فالمؤمن عند تقديمه للزكاة يكون قد ادى واجب الشكر فان من الفطرة الانسانية والجنبة الاخلاقية ان يشكر الانسان من احسن اليه وتلطف وتفضل، وهذا الجانب ينمي في الانسان شكر كل محسن بما يتناسب مع اداء فرض الشكر على اساس ما ربته عليه الشريعة وحكم به العقل وايدته الفطرة الانسانية السلمية من شكر المنعم المتفضل مهما كانت درجته ونوع احسانه، وهذه التربية المجتمعية والشخصية مهمة جدا في التاسيس لقيمة اجتماعية عليا مبنية على رد الجميل على العكس من المجتمع الذي تغيب عنه هذه القيمة بحيث يتحول الى مجتمع منكر للجميل والاحسان.
الجانب الثالث التنزه عن التعلق بالمال الثالث لتشريع الزكاة هو جانب تربوي اخلاقي حيث ان تشريع الزكاة ينمي في الانسان روح التنزه عن التعلق بالمال، ذلك ان بذل قدر من المال يتقرب به العبد الى الرب مع اعتقاد العبد ان ما يقدمه ليس من ماله وانما هو مؤتمن عليه لتقديمه الى مستحقه، لان التشريع ورد في ان للسائل والمحروم حق معلوم فيما بين يدي دافع الزكاة وانه في حال عدم تسليم ذلك المقدار يكون غاصبا لحق اوجبه الشارع لذلك الفقير فنسبه ملكية المال الى من بيده بذلك القدر المعين نسبة مجازية وليست نسبة حقيقية من الناحية التشريعية اذ لو كان المال له لما وجب عليه دفعه الى المستحق فهذا القدر اذن هو خارج عن المالك من بيده المال وهو مؤتمن عليه لايصاله الى مستحقه الذي حدده الشارع ولا تبرأ ذمة المؤتمن حتى يؤدي الامانة الى مستحقها.

فاذا اقدم الناس على البذل بنفس طيبة لما كان مؤتمنا فيه مما جناه من كد يده وبذل جهده اصبح مما يهون عليه البذل خاصة اذا اتسعت دائرة بذله الى النفقات المستحبة بعد ان يؤدي ما عليه من النفقات الواجبة، وبذا يتحرر الانسان من عبودية المال وحب الاكتناز ويسمو الى الانعتاق عن كل ما من شانه ان يستعبد حريته من الامور المادية ويصبح رضا الله غايته القصوى وامنيته العظمى فيكون اسمى واكبر بنحو لا يتعارض عن فطرته التي فطره الله عليها فالمال والبنون زينة الحياة الدنيا والرغبة من الامتلاك من غرائز الانسان الطبيعية الا ان التشريعات تحافظ على فطرة الانسان في كونه مالكا للمال وليس مملوكا له في كونه مستثمرا للمال في سبيل الخير والتطور والرقي والنهوض بالواقع الفردي والاجتماعي وعلاقة بالمال علاقة المستثمر للطاقات في سبيل الخير والقرب من الله فيكون هو المالك لما وهبه الله ولا يتحول الى مجرد عامل لجمع المال للاستئثار به وكنزه في خزائنه مع ما يراه من حاجة المجتمع الى بذل المال في سبيل تحقيق النمو الاقتصادي والرقي الثقافي والاجتماعي والعلمي.

 

بناء المجتمع في دولة امير المؤمنين عليه السلام –

الحلقة السابعة

السيد عبد الستار الجابري

التشريع ودوره في بناء المجتمع – القسم الثاني ب –

البعد التربوي في المساواة في العطاء
ساد في المجتمعات الانسانية قبل الاسلام تقسم المجتمع الى طبقات منها طبقة العبيد وطبقة العامة والطبقة الوسطى وطبقة الاشراف. وكان التعاطي بين هذه الطبقات يكون بنحو الفوقية من الطبقات العليا تجاه الطبقات الادنى منها مرتبة. فلما جاء الاسلام هذب الفوارق الاجتماعية واظهر قيم تتناسب مع الاطروحة الحضارية التي يتبناها فامر بالمساواة بين المسلمين في الشؤون الحياتية فكان ما تقدمه الدولة النبوية لرعاياها من اعانات مادية متساوية اذ كان النبي (صلى الله عليه واله) يساوي بين المسلمين في العطاء،

كما جعل الدين عنوان التكافؤ بين افراد المجتمع المسلم اذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، وابتدأ النبي (صلى الله عليه واله) باهل بيته حيث زوج ابنة عمته زينب بنت حجش من مولاه زيد بن حارثة مع ان زينب بنت جحش رضوان الله عليها سليلة الطبقات الكريمة من قريش وزيد كان عبدا للسيدة خديجة وهبته للنبي (صلى الله عليه واله) فاعتقه، وكان المسلمون سواسية امام الشرع الالهي لا يفضل احد منهم على الاخر باي نحو من انحاء التفضيل، وجعل الاسلام المائز بين الناس التقوى، ان اكرمكم عند الله اتقاكم، واما التعدد في القبائل والشعوب فلاجل التعارف لا اجل التفاضل والتفاخر.

فبالاضافة الى الجانب التشريعي فان للمساواة بين ابناء المجتمع اثار تربورية مهمة حيث ان التفاضل بالتقوى يوجد في الانسان الداعي نحو تحصيل هذا الكمال وينعكس تاثيره بوضوح على واقع المجتمع فان المجتمع الذي تسوده التقوى يكون مجتمعا منتجا بعيدا عن السلبيات ايجابيا ينتشر فيه الاحسان والعدل والصدق وكريم الخصال ومكارم الاخلاق, كما ان المساواة بين ابناء المجتمع تحول المجتمع الى مجتمع منتج وساع للتكامل والرقي ولا يعيش حالة الانكفاء والانطواء والانهزامية، وتزول عنه العصبيات والدعاوى الفارغة ويضعف فيه الجانب السلبي وتزول فيه الصراعات الطبقية والتنابز بالالقاب والهمز واللمز لان كل هذه الصفات الذميمة تتعارض مع التقوى.

فمن هذين المصداقين الذين تم ذكرهما في التشريعات الفقهية يتضح ان التشريعات تحمل في طياتها مسألة بناء الفرد والمجتمع بالنحو الذي ينهض بالواقع الاجتماعي بعد ان كان المحور في الحركة الفردية والاجتماعية العبودية تعالى التي تستبطن في واقعها الحرية المنضطبة التي تشكل ركنا اساسيا في الرقي الفردي والمجتمعي.

 

 

بناء المجتمع في دولة اميرالمؤمنين عليه السلام –

الحلقة الثامنة

السيد عبد الستار الجابري

عوامل نجاح الاطروحة المبنى والاشراف والتطبيق

كل اطروحة اذا اريد لها النجاح لابد من توافر عناصر ثلاث، الاطروحة الموضوعية التي تتلائم مع طبيعة الموضوع الذي يراد في مورده، الاشراف من قبل اشخاص لديهم احاطة حقيقة تامة بكل تفاصيل الاطروحة على تطبيق تلك الاطروحة وبيانها، تطبيق تلك المباني من قبل الجهة المخاطبة بتلك الاطروحة.

وفي موردنا الاطروحة هي بناء الفرد والمجتمع من خلال العقيدة الحقة والتشريعات التي من شانها ان تنهض بالفرد وترتقي بالمجتمع والقيم الاخلاقية الحميدة التي توسع في دائرة التطبيق وتكون معززة للجانب التشريعي ومساهمة معه في تحقيق الغايات التي ترمي اليها الاطروحة.

والاطروحة الاسلامية تم بيانها في حياة النبي (صلى الله عليه واله) من خلال الايات الكريمة والنصوص الشريفة والسيرة المطهرة للنبي (صلى الله عليه واله)، وجهة الاشراف التي لها الاحاطة التامة بمباني الاطروحة الاسلامية متمثلة بالنبي (صلى الله عليه واله) والمخاطب هو المجتمع المسلم الذي يفترض فيه ان يقوم بتطبيق تلك المباني العظيمة تحت اشراف النبي (صلى الله عليه واله).

ولما كانت حياة الانسان محدودة والنبي (صلى الله عليه واله) ليس بدعا من بني الانسان، فلذا كان من الضروري ان تكون هناك جهة مشرفة تقوم بدور النبي (صلى الله عليه واله) بعد رحيله عن الدنيا وان تكون لها احاطة بالاطروحة الاسلامية في ابعادها العقائدية والتشريعية والاخلاقية بمستوى الاحاطة التي لرسول الله (صلى الله عليه واله) ليضمن بذلك استمرار المسيرة التكاملية للمسلمين افرادا ومجتمعا.

وحيث ان الاحاطة التامة بالمباني الاسلامية امر خفي اذ لا يسع اكتشاف من تحققت عنده هذه الحالة الكمالية بعد النبي (صلى الله عليه واله) فلذا كان من الضروري ان يبين النبي (صلى الله عليه واله) للامة الاسلامية من تحققت لديه الكمالات الروحية والاحاطة العلمية وبلغ من الكمال اقصى مراتبه ليكون هو الامين على الاشراف في تطبيق المباني الاسلامية الصحيحة، وتحديد ذلك الشخص او تلك المجموعة ليس امراً ترفياً ثانوياً بل هو امر في غاية الاهمية فالنبي (صلى الله عليه واله) بلغ الاطروحة الالهية واشرف على تطبيقها ولابد من ديمومة الاشراف لان الامة لم تصل الى مستوى النضج الكافي الذي يؤهلها للنهوض بمسؤولية تطبيق الاطروحة الالهية،

ولذا صدح القران الكريم في بعض اياته الشريفة في تحديد من له اهلية الاشراف على التبطيق فقال (انما وليكم الله ورسوله والذين امنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) وقال عز اسمه (انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس اهل البيت ويطهركم تطهيرا) وانزل فيهم سورة الانسان وجعل الله تعالى اجر الرسالة مودتهم (قل لا اسئلكم عليه اجرا الا المودة في القربى)، وصدح النبي (صلى الله عليه واله) في مواطن متعددة حتى تواترت عنه النصوص (اني مخلف فيكم ما ان تمسكتم به لن تضلوا بعدي ابدا كتاب الله وعترتي اهل بيتي وانهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض) و(من كنت مولاه فهذا علي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه) وغير ذلك من النصوص الكثيرة التي تشير اشاره بينه انها في مقام تحديد الامناء على تطبيق الاطروحة الالهية بعد النبي (صلى الله عليه واله).

 

 

 

بناء الدولة في عهد امير المؤمنين عليه السلام

– الحلقة التاسعة

السيد عبد الستار الجابري

المبحث الثاني: الواقع الاجتماعي بعد فتح مكة

1- مجتمع الدولة النبوية في اخريات ايام النبي (صلى الله عليه واله)
فتح النبي (صلى الله عليه واله) مكة سنة 8 للهجرة النبوية المباركة وتوالت بعدها الفتوحات، ولكون العاصمة في المدينة المنورة انتقلت العديد من الزعامات المكية التي حملت لواء الحرب ضد الاسلام والنبي (صلى الله عليه واله)

طيلة السنوات الاحدى والعشرين للبعثة النبوية واسلم القرشيون تحت سنان السيوف واسنة الرماح، وكذلك لم يكن الايمان قد استقر في قلوب العديد من الاعراب المحيطون بالمدينة، بل تشير بعض المصادر التاريخية الى ان ادعاء مسيلمة النبوة كان في اخريات ايام النبي (صلى الله عليه واله)، واما المجتمع القرشي فانه كان يعمل على السيطرة على مقاليد الحكم بعد رحيل النبي (صلى الله عليه واله)

ولذا عملوا بجد على تحييد الانصار والاتفاق على ان تكون قيادة السلطة متداولة بين بطون قريش كما عملوا على جذب قبيلة اسلم – وهم قبيلة من الاعراب كانوا يسكنون قرب المدينة – لمعادلة الكفة العسكرية داخل المدينة في حال حصول اي طارئ.

ومضافا الى التعبئة العسكرية والسياسية التي عمد اليها القرشيون، عمدوا ايضا الى ضرب المباني الاجتماعية، فمجرد ان حصل خلاف بين احد القرشيين وشخص من الانصار نادى القرشي يا لقريش ونادي الانصاري يا للانصار في تصرف يدل بوضوح على ان القيم الجاهلية لا تزال مترسخة في قلوب امثال هؤلاء، وبدلاً من التعامل بمودة تجاه اهل البيت النبي (صلى الله عليه واله)

وقرباه عمد القرشيون الى ايذاء اقارب النبي (صلى الله عليه واله) حتى شكى العباس بن عبد المطلب وسبيعة بنت ابي لهب الى رسول الله (صلى الله عليه واله) ما كانوا يتعرضون له من ايذاء، كما اوغلوا في ايذاء النبي (صلى الله عليه واله) في حديث الافك المعروف الذي وجهت فيه التهم الى السيدة مارية القبطية (رضوان الله عليها) وحصلت تجاوزات كثيرة على شخص النبي (صلى الله عليه واله) كقول احدهم اعدل يامحمد وجر الاخر النبي (صلى الله عليه واله)

من قميصه عندما اراد الصلاة على ابن ابي راس المنافقين او انكارهم على عبد الله بن عمر كتابته لحديث النبي (صلى الله عليه واله) او تركه قائماً مع نفر قليل في صلاة الجمعة عندما وصلهم صوت الطبل المنبأ بوصول القوافل واثارة بعض نسائه للمشاكل في بيته فتارة تعرض احداهن بخديجة (رضوان الله عليها) ايذاء لفاطمة (عليها السلام) او ضرب احداهن لاناء جاءت به السيد صفية بنت حيي بن اخطب (رضوان الله عليها) بطعام للنبي (صلى الله عليه واله)

فكسرت الانية فاغضبت بذلك رسول الله (صلى الله عليه واله) وقصة افشاء الحديث الذي اسره النبي (صلى الله عليه واله) لبعض ازواجه وغير ذلك كثير، مضافا الى دلالات اية النجوى من الناحية الفردية والاجتماعية ودلالات احداث معركة خيبر وقصة حاطب بن بلتعة واسباب استخلاف امير المؤمنين (عليه السلام) على المدينة في غزوة تبوك حيث اخبره النبي (صلى الله عليه واله)

بعد ان قال له انه منه بمنزلة هرون من موسى ان المدينة لا تصلح الا برسول الله (صلى الله عليه واله) او امير المؤمنين (عليه السلام)، اي ان هناك خطر كان يهدد امن العاصمة النبوية اذا لم يكن فيها النبي (صلى الله عليه واله) او امير المؤمنين وهذا الخطر داخلي وليس خارجي وهذه المفردات تعكس لنا انكفاءة اجتماعية كان يقودها مسلمة الفتح ومنافقي المدينة ظهر اثرها السلبي واضحاً عند وفاة النبي (صلى الله عليه واله) ولا تزال الامة الاسلامية الى اليوم تدفع الثمن على صعيد بناء الفرد والمجتمع فضلاً عن اللوازم الاخرى لهذا الانحراف الخطير.

 

 

بناء المجتمع في دولة امير المؤمنين عليه السلام

– الحلقة العاشرة

السيد عبد الستار الجابري

2- المجتمع بعد وفاة النبي (صلى الله عليه واله)
رحل رسول الله (صلى الله عليه واله) بعد ان كانت اخريات ايامه من اشدها على قلبه الشريف، لانه كان يستشرف المستقبل القريب وينظر بنور الله وعصمة النبوة وكمالاته الذاتية الى ما سيؤول اليه واقع هذه الامة وموقفها من المنظومة الالهية ومن حفظة الدين وحملة رسالة الاسلام من بعده.

المطلب الاول: تأثير القوى في القيم الاجتماعية
ان السير العام لاي مجتمع بطبيعته يتبع القوى المؤثرة فيه، وفي الاغلب تكون السلطة هو القوة الاكثر تأثيراً في المجتمع وهي حقيقة اكدها علماء المجتمع في مختلف الاعصار والامصار حتى شاعت عنهم مقولة ( الناس على دين ملوكهم)، وهذه الحقيقة تفسر لنا انتشار مذاهب واديان خاصة في مناطق معينة من الكرة الارضية فانتشار المسيحية في اوربا كان بسبب اعتناق امبراطور اوربي لها، واعتناق البريطانيين للبروتستانتية كان بسبب اعتناق ملك بريطانيا لها، وتربع فرنسا على عرش الدفاع عن الكاثوليكية كان بسبب الدفاع المستميت من ملوك فرنسا عن الكاثوليكية، واعتناق روسيا وشرق اوربا للمذهب الارثوذكسي يعود لهذا السبب ايضا.

كما ان انتشار المجوسية في بلاد فارس كان بسبب اعتناق ملوك الفرس لها، وانتشار البوذية في الصين والكوريتين واليابان يعود للسبب نفسه.

وانتشر الاسلام في جزيرة العرب ومنه الى البلاد التي احتلها العرب بعد ذلك لان الدولة النبوية قامت على اساس الاسلام وانتشر في البلدان التي فتحها العرب لانه دين الدولة التي انطلقت من المدينة المنورة في القرن الثامن الميلادي.

والكلام بعينه ياتي في الاطروحات الحديثة التي تتبنى مسألة الهيمنة على العالم على ضوء الاراء الفلسفية الحديثة مثل العقيدة الشيوعية والعقيدة الاشتراكية والعقيدة الراسمالية والعقيدة الديموقراطية، وهذه وان لم تكن عقائد بالمعنى الاصطلاحي في علم الكلام الى انها نظريات في ادارة الدولة وادارة كفة الصراع في العالم دمج فيها الفكر الديني مع الفكر الاجتماعي مع الفكر الاقتصادي والجانب الامني والصراع الحضاري ليشكل بمجموعه منطلقات للسيطرة على الكرة الارضية واستعباد شعوبها بصيغ متنوعة وان كانت تغلف غاياتها بشعارات براقة كالمساواة والحرية والديموقراطية وحقوق الانسان التي لا تعدوا في الواقع كونها يافطات اعلامية للتمهيد للغزو الفكري والهيمنة على الشعوب والغاء شخصيتها ومصادرة حرياتها والعبث بمقدراتها.

المطلب الثاني: الاتجاهات السياسية في المجتمع
ما تقدم جرى بعينه في الدولة الاسلامية بعد رحيل النبي (صلى الله عليه واله) اذ ان قرار قريش باستلاب السلطة كان يقتضي تغيير كل النظم الفكرية والاخلاقية والاجتماعية التي تتعارض مع مشروعية ادراة قريش للسلطة بعد رحيل النبي (صلى الله عليه واله)، ومر الاجراء القرشي بعدة مراحل المرحلة الاولى مرحلة ما بعد النبي (صلى الله عليه واله) الى قيام الدولة الاموية، المرحلة الثانية مرحلة الدولة الاموية، المرحلة الثالثة مرحلة الدولة العباسية، وما جاء بعد ذلك من تطورات على برنامج اقصاء اهل البيت (عليهم السلام) انما هو فرع تلك المراحل الثلاث من مراحل تغيير البنية الاجتماعية للمجتمع المسلم، والذي يعنينا في هذه المرحلة هي المرحلة الممتدة من وفاة النبي (صلى الله عليه واله) في صفر سنة 11ه وحتى بيعة امير المؤمنين (عليه السلام) في ذي الحجة سنة 34ه.

يمكن للباحث ان يقسم المجتمع بلحاظ نوازع السيطرة على الحكم بعد النبي (صلى الله عليه واله) الى عدة اقسام:

1- المجتمع الملتزم بمقتضيات بيعة الغدير وتوصيات النبي (صلى الله عليه واله) في ان يكون الخليفة من بعده امير المؤمنين (عليه السلام) وان تكون المرجعية الدينية للامة بعده (صلى الله عليه واله) للائمة المعصومين من اهل البيت (عليهم السلام).

2- المجتمع القرشي الذي يشكل بني امية فيه محور العمل السياسي، واليهم تنمى كل الاستعدادات في الانقضاض على الحكم بعد النبي (صلى الله عليه واله) وان كانت الظروف الموضوعية لا تسمح بان يتصدى بنو امية للحكم بعد النبي (صلى الله عليه واله) مباشرة لعدم مقبوليتهم من قبل الانصار وخشية الانصار منهم ان هم استلموا السلطة اذ يخشى الانصار ان يسعى القرشيون للثار لقتلاهم في بدر واحد وفي كلا الحربين كان الانصار هم عماد مقاتلة الجيش النبوي.

3- المجتمع الانصاري الذين لما علموا بسعي قريش لزوي الخلافة عن امير المؤمنين (عليه السلام) دفعهم الخوف على مستقبلهم وامنهم من الاجتماع للتشاور في سقيفة بني ساعدة لتحديد موقفهم مما يجري.

4- المجتمعات التي تستشعر التبعية للعاصمة حيث يستقر في العاصمة اصحاب الراي وزعماء السياسة التي تدير تلك البلاد الواسعة، وهم يرون انهم امتداد طبيعي لما يقرر في مركز القرار السياسي.

5- المجتمعات التي ترمي الى الاستقلال عن الدولة المركزية واقامة حكوماتها المستقلة والتي من ابرزها حركة مسيلمة الكذاب.

ان هذا الانقسام الواضح في بدن المجتمع المسلم شاهد على حصول تخلل في المباني الاجتماعية، اذ ان البنية الاجتماعية للمجتمع المسلم حسب الاطروحة النبوية ان المجتمع الاسلامي مجتمع واحد موحد يؤمن بالله والنبي واليوم الاخر ويقيم احكام الاسلام ويؤمن بقيمه الاخلاقية، بينما نرى ان هناك تشرذم وتمزق في هذا البدن فمن منكر للاسلام ولخاتمية الرسالة النبوية كما حصل مع مسيلمة الكذاب وسجاح واتباعهما في اليمن، ومنهم انقض على الخلافة بعد ان مهد الامر عسكريا وسياسيا وهم قريش، ومنهم من تلاعبت به قريش حتى اضحى تابعا لقيادها وهم الانصار، فكانت هذه او هزة للقيم الاجتماعية الاسلامية التي كانت تركتز على مفاهيم الاسلام النبوية.

ومن هنا نكتشف ان المجتمع الاسلامي ليس بدعاً عن بقية المجتمعات فهو مجتمع بشري تحركه مصالحه ومنافع زعاماته بغض النظر عن مدى انسجام تلك المصالح مع مبادئ الدين الذي يعتنقوه.
وان انقسام الامة من حيثية النوازع السياسية الى عدة مجتمعات دليل على ان القيم الاجتماعية التي شرع الاسلام فيها ببناء الفرد والمجتمع قد تعرضت لتشويه كبير، اذ ان القيم الدينية للمجتمع تمنع من التنازع لاجل الدنيا وتنص على ان السعي لاجل تحقيق مكاسب يجب ان يكون ضمن الاطر التي يقرها الدين الاسلامي وان لا تكون الدوافع الذاتية هي المحرك الاساس نحو تحقيق المنافع مهما كانت عظيمة او ضئيلة.

اما الذي حصل فان الرغبة في الملك والسيطرة دفع مسيلمة وسجاح الى ادعاء النبوة والتحق بهم عدد غير قليل من الاتباع، لتحقيق منافعهم الخاصة وهكذا حصل اول شرخ في المنظومة الاجتماعية، اذ التحول من دين الى دين اخر يفتقر للمقومات الموضوعية للدين تدل بما لا يقبل الشك على ان المجموعة القائدة لذلك التحرك تهدف الى تحقيق غايات شخصية وانها تحركت لكسب الاتباع لتكوين نواة اجتماعية لحركة سياسية تهدف الى تمزيق كيان الدولة القائم، واقامة دولة اخرى لها وضعها الخاص وقيادتها الخاصة وتعاليمها التي تخصها،

وقد نقل التاريخ سعي مسيلمة لكسب الاتباع من خلال الغاء احكام الاسلام تدريجياً للعودة الى مجتمع ما قبل الاسلام وانحرافاته الاخلاقية والفكرية، فما قام به مسيلمة من افعال وما اصدره من احكام كانت الغاية منه اخراج المجتمع من دائرة تاثير احكام الاسلام وقيمه الاخلاقية ومنظومته العقائدية وايجاد مجتمع بديل ينسجم مع طبيعة التحرك الجديد والدولة المزمع قيامها وتشريع احكام وقوانين تتناسب مع مقتضيات المرحلة السياسية التي يرسم اليها مسيلمة، اذ ليس من المنطقي ان يدعو مسيلمة الى دولة مستقلة مع التزامه بجميع قيم الاسلام، لان هذه الدعوة تكون فاقدة لمبررات وجودها فبالتالي ان تغيير القيم الاجتماعية ضرورة وجودية لقيام مثل دولة مسيلمة او قيام اي كيان اخر لا يمكن ان ينسجم انسجاما تاما مع اطروحة الاسلام الفكرية والحضارية.

وفي قبال دعوة مسيلمة الانفصالية كانت هناك دعوة اخرى تهدف الى احكام السيطرة على الدولة مع اقصاء اهل البيت (عليهم السلام) عن سدة الحكم وكانت تلك دعوة قريش التي بدأت اولى بذراتها بعد صلح الحديبية وانتقال عمرو بن العاص وخالد بن الوليد الى المدينة المنورة، ثم تسارعت في نسج الخيوط بعد فتح مكة حتى بلغت ذروتها عند وفاة النبي (صلى الله عليه واله) حيث انقض القرشيون على الحكم في المدينة المنورة، معلنين بذلك انتهاء حقبة ادارة بني هاشم للدولة وتدوير السلطة بين بطون قريش.

 

 

بناء المجتمع في دولة امير المؤمنين عليه السلام

– الحلقة الحادية عشر

السيد عبد الستار الجابري

المطلب الثالث: نماذج من برنامج قريش للتغيير الاجتماعي
ان اشد ما كان يشكل خطراً على المشروع القرشي هو تركيز القران الكريم والنبي (صلى الله عليه واله) على امامة اهل البيت (عليهم السلام) وانهم فقط من لهم اهلية الاشراف على تطبيق الرسالة الاسلامية، ولذا كان لابد لقريش من العمل على تغيير الفهم الاجتماعي لهذه الحقيقة لضمان استمرار منهجيتهم في ادارة البلاد بعيداً عن اهل البيت (صلوات الله عليهم).

وفيما يلي جملة من المخالفات التي ارتكبت في سبيل تدعيم سلطة قريش في قبال سلطة اهل البيت (عليهم السلام)

1. احتلال قريش للمسجد النبوي لضمان تطويق حركة امير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) ومنع من له رغبة به من الوصول اليه، فكانت بطون قريش مجتمعة في المسجد النبوي استعداداً لكل طارئ، وهذا الاحتلال يشكل تهديداً لاقرباء النبي (صلى الله عليه واله) ومصادرة لحرية المسلمين ، وهذان امران لا يمكن قبولهما باي شكل من الاشكال فان لاهل البيت (عليهم السلام) مكانة خاصة ومقاماً لا يصح معه تطويق بيوتهم وارهابهم، كما ان المناط في كل شيء الرجوع الى كتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه واله) وما قامت به قريش من قطع التواصل بين امير المؤمنين (عليه السلام) ومريديه لا يمكن ادراجه تحت اي عنوان من العناوين الجائزة شرعاً، فما جرى من قريش تطبيق لمبدأ مصادرة الحياة والتجاوز على الحقوق وهما مبدئان بعيدان عن روح الاسلام وقيمه الاجتماعية.

2. احتلال قبيلة اسلم لمدينة النبي (صلى الله عليه واله)، حيث كانت هذه القبيلة قد دخلت كحليف مهم لقريش ويظهر ان عمر بن الخطاب كان هو الطرف المهم في التفاهم بين قريش واسلم اذ كان يقود الاسلميين ويقتحم بيوت الممتنعين عن بيعة ابي بكر ويخرجهم بالاكراه من بيوتهم للبيعة ومن يلاقيه في الطريق يكرهه على البيعة .

3. الهجوم على دار فاطمة (صلوات الله عليها) وهو امر اجمع عليه جميع من ارخ لاحداث بيعة ابي بكر بعد رحيل النبي (صلى الله عليه واله) وان عمر امر بجمع الحطب على باب دارها وان الباب احرقت وقد ارخ لذلك شاعر النيل حافظ ابراهيم بقوله

وَقَولَةٍ لِعَلِيٍّ قالَها عُمَرٌ اكرِم بِسامِعِها أَعظِم بِمُلقيها
حَرَقتُ دارَكَ لا أُبقي عَلَيكَ بِها إِن لَم تُبايِع وَبِنتُ المُصطَفى فيها
ما كانَ غَيرُ أَبي حَفصٍ يَفوهُ بِها أَمامَ فارِسِ عَدنانٍ وَحاميها
كِلاهُما في سَبيلِ الحَقِّ عَزمَتُهُ لا تَنثَني أَو يَكونَ الحَقُّ ثانيها
فَاِذكُرهُما وَتَرَحَّم كُلَّما ذَكَروا أَعاظِماً أُلِّهوا في الكَونِ تَأليها

ولعمري ان البيتين الاخيرين من القصيدة لهما دليل على مستوى تبديل الفهم الاجتماعي والابتعاد به عن حقيقة مباني الاسلام حيث يتساوى في نظر الشاعر امير المؤمنين (عليه السلام) وعمر مع ما في قول عمر – الذي يتبنى الشاعر صدوره عنه – من مخالفة صريحة للقران الكريم الذي اوجب مودة اهل البيت (عليه السلام) في قوله تعالى (قل لا اسئلكم عليه اجرا الا المودة في القربي) وما شهدت به الروايات المتواترة عن النبي (صلى الله عليه واله)

انه لم يكن يدخل دار فاطمة (عليها السلام) الا مستئذناً فيم يهدد عمر بحرق الدار عليهم، انها خطوة مهمة جداً للسلطة القرشية، ذلك لان احتفاظ اهل البيت (عليهم السلام) بمقامهم في النفوس سيعجل بانهيار الحكم القرشي وعودة الحق الى نصابه، فكانت هذه الخطوة خطوة مدروسة جداً اشتركت في اثمها جميع قبائل قريش وتحمل وزرها خذلان الانصار وكان محققها احتلال اوباش اسلم للمدينة، انها مرحلة خطرة جدا بالنسبة لقريش وان عليهم ان يرتكبوا كل الموبقات للوصول الى سدة الحكم وازواء الحكم عن علي (صلوات الله عليه) .

وقد ارخ العلامة الكمباني واقعة الدار بارجوزته العصماء:
قال سليمٌ قلتُ يا سلمانُ هل دخلوا ولم يكو استئذانُ

فَقَالَ إِي وعِزَةِ الجبـــــــــــارِ وما على الزهراءِ من خمــارِ
لـكنها لاذتْ وراءَ البــــــــابِ رعايةً للسترِ والحجـــــــــابِ
فمُذ رَأَوها عصروها عصره كادت بنفسي أن تموتَ حسره
نادت أيا فضةُُ أسندينـــــــــي فقد وربي أسقَطُــــــــوا جَنِينِي
فَأسقَطَت بنتُ الهدى وا حزنَا جَنِيـــــنَها ذاكَ المسمَى مُحْسِنا
أتُضْرَمُ النارُ بِبَاب دَارِهـــــا وآيةُ النُــــــــــورِ على منارِها
وبابُها بابُ نبيِ الرحمــــــــةْ وبابُ أبوابِ نجاةِ الأمـــــــــــة
بل بابُها بــــابُ العليِ الأعلى فثَمَ وجهُ اللـــــــــــــهِ قد تجَلَى
فاكْتَسَبُوا بالنارِ غَيرَ العـــــارِ ومن ورائِهِ عذابُ النــــــــــارِ

ما أجْهَلَ القومَ فإن النـــــــارَ لا تُطْفِأُ نورَ اللـــــــــــــهِ جَلَ وعلى
فاحْمرَتِ العينُ وعيـــنُ المعرفةْ تُذْرَفُ بالدمعِ عَلى تلك الصِفَـــــةْ
ولا يُزيلُ حُمْرَةَ العَيــــــنِ سِوى بِيضُ السُيوفِ يومَ يُنْشَرُ الـــــلِوا
وللسياطِ رَنَـــــــــــــــةٌ صَدَاهَــا فِي مَسْمَعِ الدَهْـــــــرِ فَمَا أَشْجَاهَا
والأَثَرُ البَاقِي كَمِثْـــــــــلِ الدُمْلُجِ في عَضُدِ الزَهْرَاءِ أَقْوَى الـحُجَجِ
ومن سَوَادِ مَتنِهَا اسْودَ الفضـــــا يا ساعدَ اللـــــهُ الإمامَ المرتضى
ووَكزُ نَعلِ السَيفِ فِي جَنْبَيْهَـــــا أتَى بِكُلِ مَا أَتَــــــــــــــــى عَليها
ولَسْتُ أَدْرِي خَبَرَ المِسْمَـــــــــارِ سَلْ صَدْرَهَا خِزَانَةَ الأسْـــــــرارَ
وفِي جَبِينِ المَجْدِ ما يُدْمِي الحَشَا وهَلْ لَهُمَ إخْفاءُ أمـــــــــرٍ قد فشا
والبابُ والجِدَارُ والدِمـَـــــــــــاءُ شُهُودُ صِدْقٍ مَا بِهَا خَفَـــــــــــاءُ

لَقَدْ جَنَىْ الجَانِي عَلَى جَنِينِها فَانْدَكَتِ الجِبَالُ مِنْ حَنِينِـــــــــها
أَهَكَذَا يُصْنَعُ بِابْنَـــــــةِ النَبِي حِرْصًا على المُلكِ فَيَــــا لِلْعَجَبِ
أَتُمْنَعُ المَكْرُوبَةُ المَقْرُوحَــــه عَنِ البُكَاءْ خَوْفًا مِنَ الفَضِيحَـــــــةْ
واللهِ يَنْبَغِي لَهَا تَبْكِي دَمَــــــا مَا دَامَتِ الأَرْضُ ودَارَتِ السَمَاءْ
لِفَقْدِ عِزِهَا أبِيــــــــهَا السَامِي ولِاهْتِضَامِهَا وذِلِ الحَــــــــــامِي
لَـكِنَ كَسْرَ الضِلْعِ لَيْسَ يَنْجَبِرْ إلا بِصِمْصَـــــــــامِ عَزِيزٍ مُقْْتَدِرْ
إِذْ رَضُ تِلْكَ الأَضْلُعِ الزَكِيَةْ رَزِيَةٌ مَا مِثْلُهَا رَزِيَــــــــــــــــــةْ

4. تأميم ممتلكات اهل البيت (عليهم السلام)
من الامور الاخرى التي قامت بها الادارة القرشية في سبيل اضعاف اهل البيت (عليه السلام) من الناحية الاقتصادية والسياسية والتي لها اثر اجتماعي مهم قضية تاميم املاك اهل البيت (عليه السلام) ففدك والعوالي من الاموال التي نحلها رسول الله (صلى الله عليه واله) للسيدة فاطمة (صلوات الله عليها) وفي حياة رسول الله (صلى الله عليه واله) كان عمال فاطمة يعملون فيها وكانت واردتها توضع بين يدي رسول الله (صلى الله عليه واله)

ليبذلها فيما يراه مناسباً لرفع شأن دولة الاسلام، فهي في ذلك كأمها السيدة خديجة (رضوان الله عليها) التي بذلت كل امكانياتها المادية في سبيل خدمة الدعوة الى الله حتى قيل ان الاسلام حفظ بسيف علي واموال خديجة، فكانت سيرة السيدة الزهراء (عليها السلام) في القضايا المالية كسيرة ابيها (صلى الله عليه واله) وامها (رضوان الله عليها)

وبعلها امير المؤمنين (عليه السلام) الذين كانوا يبذلون كل ما عندهم في سبيل ثم يبيتون طاوين لا يجدون ما يأكلون حتى اعظم الله تعالى لهم ذلك فانزل سورة الانسان لتحكي عظيم التضحية بدنياهم في سبيل الله، في الوقت الذي كانوا غير ملامين لو تمتعوا باليسير من الامكانيات المادية الا انهم جعلوا طلب القرب منه تعالى مقدم على دنياهم.

وبعد وصول العصابة القرشية الى السلطة بعد وفاة النبي (صلى الله عليه واله) وهم يعلمون الاهمية المالية لفدك والعوالي وانهما اذا بقيتا فستكونان رافداً لعلي (صلوات الله عليه) في اعادة سلطانه المنتهب فكان قرارهم مصادرتهما والتصرف بوارداتها بما يعزز سلطانهم، فكانت هذه الخطوة تهدف الى اضعاف الواقع الاجتماعي لاهل البيت (عليهم السلام) من خلال التضييق عليهم مادياً، فمما لا شك فيه ان للمال دور في تنمية العلاقات الاجتماعية اذ ان اغاثة الملهوف وقضاء دين المدين وسد حاجة المحتاج واقراء الضيف ودعم الانصار للمال فيه دور كبير، فلذا عمد لتجفيف منابع الحضور الاجتماعي الفاعل لاهل البيت (عليهم السلام) من خلال مصادرة اموالهم، وهذه السياسية تتنافى تماماً مع القيم الروحية للاسلام وما جاء به النبي (صلى الله عليه واله) نعم هي امتداد لأخلاق الجاهلية واعراف البداوة في القضاء على الخصوم وامتداد للمرض الاجتماعي لقبائل قريش تجاه بني هاشم الذي شهد به ابو جهل المخزومي حيث قال كنا وبنو هاشم كفرسي رهان فلما اطعموا فاطعمنا وسقوا فسقينا فلما تساوت الركب قالوا منا نبي فمن يقدر على ذلك.

ان المنهج الاسلامي يحترم المال الخاص ولا يتعرض له بسوء حتى لو كان ذلك المال لاهل الكتاب فضلاً عن المنافقين الذين يظهرون الاسلام، الا اذا اعلنوا حربا صريحة ووقع السيف بينهم وبين المسلمين، وفي ذلك حفظ للقوى الاجتماعية وبيان للعالم كله ان الاسلام كدين مبني على الايمان بقيمه ومبادئه وكدولة يكفي فيها المواطنة وعدم الاضرار بأمنها ومؤسساتها واحترام دستورها والتقيد به، وان المجتمع يحفظ بكبرائه وبقيمه الاخلاقية والاجتماعية، نعم الكل متساوون في الحقوق والواجبات والقانون هو الحاكم فوق الجميع، الا ان التفاوت بين الافراد امر تكويني فلكل موقعه وحقه ويجب ان تحفظ كرامته، هذه هي مباني الاسلام العظيمة التي طبقها رسول الله (صلى الله عليه واله) بكل وضوح ومن يراجع غزوة طي وحديث سفانة بنت حاتم مع النبي (صلى الله عليه واله)

يستكشف طبيعة الاحترام الذي تعامل به النبي (صلى الله عليه واله) مع تلك الاسيرة لان اباها كان يحب مكارم الاخلاق وكيف بذل لها ما كان له من غنيمة وتشفع لها فيما بين ايدي المسلمين، فان رعاية ذوي المكانة الاجتماعية من قيم الاسلام الاصيلة، كما ان يلحظ سيرة المسلمين مع قوم السيدة جويرية بنت الحارث التي كانت بين سبي قومها فاعتقها رسول الله (صلى الله عليه واله) وتزوجها بعد ان اختارته على اهلها، فاعتق المسلمون ما بين ايديهم من سبايا واسارى ممن كانوا غنائم حرب وتنادوا بينهم ان اصهار رسول الله (صلى الله عليه واله) لا يسترقون، فكان فعل المسلمين انعكاس لخلق اجتماعي يحفظ كرامة من له قيمة اجتماعية مرموقة فالمسلمون رأوا ان ليس من المناسب ان يكون صهراً لرسول الله (صلى الله عليه واله)

وقريباً لزوجه السيدة جويرية بنت الحارث عبدا مسترقاً، فهذه قيم زرعها الاسلام في نفوس المسلمين، ولو نظرنا لوجدنا ان المسلمين في القضيتين المذكورتين بذلوا اموالهم اكراما لرسول الله (صلى الله عليه واله) لان غنائم الحرب ملك للمقاتلين بعد اخراج خمسها، ولكن الذي حصل بعد رحيل النبي (صلى الله عليه واله) كان انقلاباً على القيم الاجتماعية التي اصلت في نفوس المسلمين في ايام رسول الله (صلى الله عليه واله)

وبدلا من حفظ كرامة اصحاب المقام الاجتماعي السامي الذين لا يبلغ مقامهم احد عمدت السلطة الى مصادرة اموالهم ظلماً وعدواناً لإضعاف موقعهم في نفوس الامة والحط من قدرهم، وكان هذا ديدن السلطة مع كل الشخصيات الاجتماعية التي لم تكن على وئام مع منهجيتهم، حيث حطوا من قدر سعد بن عبادة الخزرجي الذي كانت الاوس والخزرج في سقيفة بني ساعدة تكاد ان تبايعه قبيل وصول ابي بكر وعمر الا ان مسارعة بشير بن سعد الخزرجي الى بيعة ابي بكر فتت في موقف الانصار وتسارعوا لبيعة ابي بكر منهين بذلك دور الانصار السياسي في الدولة, والحال نفسه جرى مع مالك بن نويرة (رضوان الله عليه)، فلم تبق لذي مقام اجتماعي كرامة مادام لا يسير ضمن المخطط الذي رمت اليه قريش في سبيل سيطرتها على مقاليد حكم الدولة.

5. رفض دعوى السيدة فاطمة فدكاً ورد شهادة امير المؤمنين (عليه السلام) والحسنين (صلوات الله عليهما)
من القضايا الاجتماعية التي عمدت اليها السلطة القرشية لتدعيم سلطانها هو ردهم لدعوى الزهراء (عليها السلام) انها تملك فدكاً وانها نحلتها من رسول الله (صلى الله عليه واله)، ولما طلبوا منها الشهود جاءتهم بامير المؤمنين (عليه السلام)

وام ايمن الحبشية (رضوان الله عليها) والحسنين (صلوات الله عليهما) الا ان السلطة الحاكمة رفضت قبول شهادتهم بان رسول الله (صلى الله عليه واله) انحلها فدكاً والعوالي، وهي مسألة في غاية الخطورة اذ لم اظهرت السلطة الحاكمة ان اهل البيت (عليه السلام)

ليست لهم اية خصوصية، بل اظهرت السلطة بردها شهادة امير المؤمنين (عليه السلام) وقولهم انهم يدني النار من قرصه انه لا يقرون بعدالته (صلوات الله عليه) وهو الذي امر الله تعالى بطاعته مجردا عن كل شرط، وهو من اخبر رسول الله (صلى الله عليه واله) انه عدل القران في الدلالة على الهدى، ان هذه المسألة من الناحية العقائدية والفقهية والاخلاقية غاية في الخطورة، فرسول الله (صلى الله عليه واله) اكرم سفانة بنت حاتم الطائي لان اباها كان يحب مكارم الاخلاق وتأتي فاطمة (صلوات الله عليها) التي اخبر عنها رسول الله (صلى الله عليه واله)

انها سيدة نساء اهل الجنة، وانها روحه التي بين جنبيه، فترد دعواها لحق لها تأتي بعدل الله ليكون شاهداً لها فترد شهادته وبولديها الذين اخبر رسول الله (صلى الله عليه واله) انهما سيدا شباب اهل الجنة وانهما عدل القران الكريم في الدلالة على الهدى فترد شهادتهم، وقريش والانصار جلوس وقد سمعوا كلام الله ووعوه، انهم كانوا واقعين تحت تأثير مقتضيات هيمنة قريش على العرش، فرموا وراء ظهورهم كل ما تقتضيه العقيدة والشرعية والاخلاق والقيم الاجتماعية من وجوب اكرام ال بيت النبي (صلى الله عليه واله) واعلاء قدرهم والرجوع اليهم في كل شيء يتعلق بدين الناس ودنياهم، الا ان قريشا المتسلطة سعت الى هدم هذه القيمة الاجتماعية والمرجعية الروحية لاهل البيت (عليهم السلام) لان مقتضيات استمرار تسلطهم على رقاب المسلمين بلا وجه حق.

6. المنع من تدوين حديث رسول الله (صلى الله عليه واله) كان من مقتضيات استمرار السلطة القرشية المنع من تدوين حديث رسول الله (صلى الله عليه واله) وقد عمدوا الى ذلك في حياته (صلى الله عليه واله) حيث روي ان عبد الله بن عمر اراد ان يكتب حديث رسوله الله (صلى الله عليه واله)

فنهاه القرشيون عن ذلك وقالوا انه رجل يصيب ويخطئ، ثم عمدوا الى ما دون في ايام النبي (صلى الله عليه واله) فاحرقوه ، ومنعوا تدوين السنة النبوية لان التدوين يعني ضبط احاديث النبي (صلى الله عليه واله)

ومنع التلاعب المستقبلي فيها، واستمر المنع الى زمان عمر بن عبد العزيز الاموي الذي شعر ان عدم تدوين السنة من شانه ان يتسبب في ارباك الامور الادارية للدولة فامر بالتدوين فدون المدونون كل ما وقوفوا عليه دون تمييز بين الموضوع والمكذوب والمصحف فلما تطور تاريخ التدوين ووضعت قواعد الجرح والتعديل اسقطت الالاف من الروايات عن الاعتبار، ان مسألة التجهيل بالسنة النبوية ولدت اجيالا لم تفهم الدين فهماً صحيحاً الامر الذي ترك اثره السلبي على واقع المسلمين الفقهي والاداري والاجتماعي، اذ كل بلدة كانت تاخذ عن الصحابة الذي كانوا فيها وغالبهم كان قليل الحضور عند النبي (صلى الله عليه واله) والاستماع اليه على تعبير بعضهم شغلنا عن رسول الله (صلى الله عليه واله)

الصفق في الاسواق، ونتج عن هذه السياسية تضييع السنة النبوية وخلطها بما ليس منها، وتحكيم اهواء السلطة في ما يكتب المدونون ويخفون ما لا يرتضيه المتربع على عرش الدولة، فكانت هذه الامة في واقعها الاجتماعي كما كان بنو اسرائيل الذين حرفوا الكتاب عن مواضعه، غاية الامر ان الله تعالى عصم القران الكريم من ان تناله يد التلاعب والتزوير ولكن تلك اليد الاثمة نالت السنة النبوية المطهرة التي هي ترجمان القران الموضح لمجمله ومتشابهه والمبين لاحكامه وسننه، فنشأ جيل على الخلل الفكري الذي نقله له من لم يكن اهلا في حفظ السنة النبوية ولا في فهم الايات الكريمة.

7. الغاء مرجعية اهل البيت (عليهم السلام)
مرجعية اهل البيت (عليهم السلام) من الامور التي قام عليها الدين الحنيف ودلت عليها النصوص القرانية والسنة النبوية المطهرة وتكفي اية التصدق بالخاتم وحديث الثقلين وبيعة الغدير ادلة ثابتة عليها لمن لم يجعل هواه دليله، ولكن الذي حصل بعد رحيل النبي (صلى الله عليه واله) الغاء تام لمرجعية اهل البيت (عليهم السلام) ووضعهم دون موضعهم الذي وضعهم الله فيه، وابدال مرجعية اهل البيت (عليهم السلام)

بمرجعية الحكام، فاصبح الحاكم هو المرجع للامة وعليها طاعته وقهروا الامة على قبول ولاية الحاكم واكرهوهم على العمل بها، وهكذا اصبح المجتمع مسيراً بارادة الحاكم، ومرجعه في تشخيص الاحكام والامور هو السلطة الحاكمة، وتنامى الامر مع السنين واصبح المجتمع يرى قدسية الحكام ثم بعد ذلك تحول الى المجتمع الى تقديس كل من عاصر رسول الله (صلى الله عليه واله)

وقد ادت سياسة منع تدوين الحديث الى ضم سير الصحابة والتابعين الى ادلة التشريع بحيث لم يصبح عن مجتمع عامة المسلمين انحصار ادلة التشريع بالقران والسنة المطهرة، بل تعداه الى سيرة الصحابة واقوالهم الفقهية وفتاواهم واقيستهم لتصبح ادلة لهم في التشريع واستنباط الاحكام، وهكذا لم يعد التشريع منحصراً بالقران الكريم والسنة النبوية بل تعداه الى دائرة اوسع وهذا يكشف عن خلل اجتماعي عظيم اسست له السلطة القرشية بعد النبي (صلى الله عليه واله) وظهرت نتائجه بينة في اواخر العصر الاموي وبداية العصر العباسي، وقد عمد الامويون والعباسيون الى تاصيل الانحراف عن مرجعية اهل البيت (عليهم السلام) في المجتمع باساليب وطرق متعددة تعرض لها المتقدمون في ثنايا كتبهم.

8. التمييز الطبقي
عمد التشريع الاسلامي الى المساواة بين المسلمين في الحقوق والواجبات، وان المسلمين سواسية كاسنان المشط، وان المناط في التمايز بين المسلمين هو التقوى، والتقوى امر خفي لا يقف عليه الا الله تعالى ومن اختصهم بالاطلاع على الخفايا، اما مظاهر التقوى فيمكن ان يشخصها الفرد بعد معرفته لمناطات التقى التي نطقت بها الشريعة الالهية، وكان هذا المناط مطبق في عهد رسول الله (صلى الله عليه واله) المعين من قبل الله تعالى للاشراف على تطبيق الشريعة واحكام الدين وقيمه، وكان (صلى الله عليه واله)

اول يطبق تلك الاحكام على نفسه وخاصته حتى انه زوج بنت عمه السيد زينب بنت جحش لمولاه زيد بن حارثة مع الفارق الاجتماعي الكبير بينهما فالسيدة زينب سليلة النسب والحسب القرشيين فامها بنت عبد المطلب (رضوان الله عليه) سيد البطحاء فهي بنت عمة النبي (صلى الله عليه واله)، وزيد لم يكن سوى مولى اسود اللون عاش في خادماً للسيدة خديجة (رضوان الله عليها) فوهبته للنبي (صلى الله عليه واله)، الا ان اثبات المساواة بين المسلمين على اسس التقوى كانت هي المناط ، كما ساوى النبي (صلى الله عليه واله)

بين المسلمين في العطاء، والعطاء في تعبير اليوم هو ما تقدمه الدولة من دعم مالي للمواطنين لغرض تحسين حياتهم الاقتصادية وفي تلك الازمنة لم تكن الدولة تتبنى توفير الخدمات العامة بل العمل ينجزه القطاع الخاص فلذا كانت الدولة تقدم الاعانات المالية بصورة مباشرة للمواطن، فكان العربي والاعجمي والحر والعبد والكبير والصغير يستلمون قدراً متساوياً من المال، ولكن الامر لم يستمر كذلك فما ان وصل عمر الى سدة الحكم حتى قانون التمييز الطبقي فميز في العطاء بين على اسس عرقية وعشائرية ففضل قريش على الانصار وفضل الانصار على سائر العرب وفضل العرب على سائر العجم وفضل الاحرار على العبيد، فاسهم ذلك التمييز الطبقي في ظهور طبقية واضحة في المجتمع المسلم وعلى نهج عمر سارت المناهج التي جاءت بعده ليمثلها عثمان باقصى طرق التمايز حيث فضل بني امية على الجميع واختصهم باموال المسلمين واصبحت بيت مال المسلمين ملكاً صرفاً للامويين يعبثون به كيف يشاؤون،

فظهر الثراء الفاحش في بيوت الزعامات القرشية حتى قيل ان في مربط عبد الرحمن بن عوف الف فرس اصيل، ومات احدهم وترك من الذهب والفضة ما يكسر بالفؤوس، بل اصبحت الاقطاعات الزراعية والممتلكات والقصور امر مشهود للزعامات القرشية فعبيد الله بن عمر كانت له اقطاعية ضخمة سميت بكويفة ابن عمر، وحمى عثمان الكلأ فلم يسمح للمسلمين برعي مواشيهم في الحمى الخاص به، وكتب السير والتاريخ زاخرة بالكثير من هذه الوقائع التي انحرف فيها المجتمع عن سيرة النبي (صلى الله عليه واله)

الذي كان يبذل كل ما يصله في سبيل اعلاء كلمة الله ليتحول الى اكتناز للذهب والفضة وتفاخر بينهم في ذاك وتحولت الحياة الى حياة قصور وبذخ خاصة بعد القضاء على الامبراطوريات المجاورة والاستيلاء على ما حوته القصور والخزائن من الذهب والفضة والمجوهرات والاحجار الكريمة والجواري الجميلة والسبايا والعبيد الذين كانوا يتاجرون ببيعهم حتى ازدهرت اسواق النخاسة وبيع العبيد والجواري.

لقد حول التمييز الطبقي الواقع الاجتماعي للمسلمين من واقع التكافل والتراحم واعتماد التقوى ميزاناً في التعامل بين الناس الى حياة مادية الى درجة كبيرة ادت الى ضياع الحقوق وانتهاك الكرامات وتحول المجتمع رويداً وريداً الى عبيد للحكام بعد ان كان ينتظر منهم حسب قيم الدين الاسلامي ان يكونوا عبيداً لله احراراً في دنياهم.

9. اشغال الامة بالغزو وتجهيلها بامور الدين
تم للسلطة القرشية القضاء على الحركة السياسية المخالفة في المدينة والمتمثلة بموقف امير المؤمنين (عليه السلام) والثلة المؤمنة التي بقيت وفية لعهد رسول الله (صلى الله عليه واله) فيه بعد الهجوم على دار فاطمة (صلوات الله عليها) بطريقة يندى لها وجه الانسانية، والقضاء على حركة الانصار في سقيفة بني ساعدة، وخارج المدينة بارسال القوات العسكرية بقيادة خالد بن الوليد المخزومي بطل فرسان المشركين يوم احد واحد اعمدة التأسيس لحكم قريش منذ بداية انهيار المعسكر القرشي في صلح الحديبية، وقد نهض بالمهمة على اكمل وجه فقضى على كل المخالفين للسلطة القرشية سواء منهم من كان مؤمناً متديناً بالاسلام كمالك بن نويرة وقومه الذين قتلهم خالد غيلة وغدراً ام كان ممن ارتد عن الاسلام كمسيلمة الكذاب.

وبقيت السلطة القرشية تواجه خطراً اخرى، وهو خطر وعي الامة، فأن الامة اذا انتهبت الى انها خالفت رسول الله (صلى الله عليه واله) الذين تدعي انها ترجع اليه في كل شؤونها وتأخذ منه احكام دينها، وان شرع سيد المرسلين واحكام دينه تقتضي ان يكون مرجع الامة من بعده هم اهل بيته (عليهم السلام) فإن ذلك سيولد خطراً كبيراً على مستقبل سلطة قريش التي عمدت الى تسخير الدين لصالحها، ولذا كان لابد من اختيار برنامج يلهي المجتمع المسلم عن التعلم والتفكير وان تبنى الاجيال بالشكل الذي يضمن بقاء واستمرار الزعامة القرشية على العالم الاسلامي وان يكون المجد الذي بناه محمد (صلى الله عليه واله) مجداً قرشياً وليس حكماً الهياً ودستوراً سماوياً.

فكان الخيار الامثل اشغال المجتمع بالغزو، فالعرب امة فروسية وغزو وحرب وهذا امر يشهد به تاريخهم، حيث كانوا يتفاخرون بالفروسية والشجاعة وقتل الاقران، بل ويفتخر ذوي المقتول ان كان القاتل من الابطال ومن علية القوم، حتى ان ابنة عمرو بن معد كرب بطل قريش يوم الخندق كانت تفخر ان قاتله امير المؤمنين (عليه السلام)، فقررت السلطة القرشية الاستفادة من هذه الخصلة الاجتماعية في المجتمع العربي مع اضفاء قالب الجهاد في سبيل الله ونشر الاسلام عليه لدفع المجتمع المسلم نحو خوض الحروب على جبهتي بلاد فارس وبلاد الروم، مع ما سيوفره الغزو والفتوحات من ثراء مادي كبير لان تلك الامم حضارات عريقة يمتد عمرها الى مئات السنين وتحوي خزائنها من الذهب والفضة والاحجار الكريمة مالم يعهده عرب الصحراء، كما تحوي قصورها ومدنها وقراها من الفتيات الجميلات مالم يدر في خلدهم فسيخطف بريق المال ابصارهم ويسلب جمال النساء البابهم فيغرقون في ملذات الحياة الجديدة وثرائها الواسع ولا يعبأون بما يرسم لهم في اروقة السياسة وادارة البلاد واعادة تشكيل العقلية الاجتماعية.

وهكذا انهارت الامبراطورية الفارسية والامبراطورية الرومانية تحت سنابك خيل المسلمين التي قادها القرشيون لمنع الخروج عن الدائرة التي رسمتها السلطة المركزية في المدينة، وفاز المقاتلون بالغنائم فيم ارسلت اخماس الغانم الى خزانة الدولة المركزية، فكان على جبهة العراق خالد بن الوليد ثم خلفه سعد بن ابي وقاص، وكان على جبهة الشام اسامة بن زيد ثم خلفه خالد بن الوليد وعكرمة بن ابي جهل ثم ابو عبيدة بن الجراح وعمرو بن العاص.

وفي فترة الحرب في جنوب المدينة كان الانصار بين مقاتلي الجيش، اما في الحروب على الجبهات الخارجية في شمال المدينة في بلاد فارس والروم لم يؤذن للانصار بالمشاركة الا بقدر يسير وكان عماد الجيش القبائل العربية التي حملت السلاح من اليمن وبلاد نجد وقبائل العربية في العراق والشام، ذلك لان القيادة السياسية في المدينة علمت ان فسح المجال للانصار الذين بدأوا شيئاً فشيئاً يندومون على ما بدر منهم في السقيفة يعني عودة دعم حركة المعارضة السياسية التي تجنح نحو امير المؤمنين (عليه السلام)، واستمر ذلك طيلة عهد ابي بكر وعمر، ولما جاء عثمان الى السلطة كانت قدرة السلطة المركزية قد استحكمت ولم يعد الانصار يشكلون خطرا يواجه السلطة خاصة بعد ان اصبح المسؤول عن بناء الثقافة المجتمعية مسلمة اهل الكتاب ككعب الاحبار ووهب ابن منبه وتخرج على ايديهم الكثير واصبحت الحقائق مشوهة وغيرت الاحكام واصبح المجتمع يجهل حق وحقيقة امير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام)،

واصبح مداراة السلطة والخشية من بطشها امر واقع في المجتمع الاسلامي ترجمه بوضوح نفي ابي ذر (رضوان الله عليه) الى الشام ومنها الى الربذة حتى مات غريباً وحيداً، وضرب عمار (رضوان الله عليه) بعد ان اجتمع مع جماعة من الصحابة على كتابة كتاب الى عثمان ينكرون عليه مخالفاته للشريعة واتفقوا على يذهبوا جميعاً الى عثمان ولكنهم عندما وصولوا باب القصر اخذوا بالتسرب خوفاً من بطش عثمان وسار عمار (رضوان الله عليه)

وحيداً وسلم الكتاب الى عثمان الذي استشاط غضباً فضرب عمار وداس في بطنه حتى حمل من القصر مغمى عليه. والبطش بعبد الله بن مسعود الذي كان مسؤول بيت المال في الكوفة ورفضه لاوامر عثمان في التصرف بالمال على خلاف احكام الشريعة فضربه عثمان حتى تكسرت اضلاعه وقطع عطاؤه من بيت المال حتى فارق الدنيا متأثراً بما ارتكبه فيه عثمان واوصى ان مات ان لا يحضر جنازته عثمان ولا يخبر عن وفاته.

وعلى عكس ما كان رسول الله (صلى الله عليه واله) في تعاطيه مع الامة حيث كان يتعامل معهم كاحد ابناء الامة من حيث الحقوق والواجبات اصبح الجهاز الحاكم يتعامل باستعلاء كبير يتجاوز حدود الشرعية والاحكام الالهية، حتى ان عامل الكوفة هو اخ عثمان لامه شرب الخمر وصلى بالناس الصبح ثمان ركعات وقاء الخمر في محراب الصلاة وسلب منه خاتمه وهو لا يشعر فلما جاء الشهود الى الكوفة اراد عثمان التنكيل بهم لولا ان امير المؤمنين (عليه السلام) تصدى له وجلد الوليد اخ عثمان حد شرب الخمر بيده الشريفة.

وبدلا من ان يكون المجتمع مجتمعاً حراً يحمل هموم امة وينشر فكراً ناصعاً بعد ان يعيه ويفهمه اصبح المجتمع يداري السلطة الحاكمة حفاظاً على منافعه ومصالحه ومركزه في السلطة.

فكان ما سمي بالجهاد والفتوحات في واقع الحال يهدف الى تحقيق امرين مركزيين الاول همينة قريش على الواقع السياسي للامة وان يكون لقريش قيادة الامة، الثاني تجهيل الامة بحقيقة الدين وتقديم دين يتلائم مع مقتضيات الحفاظ على السلطة القرشية كي يسهل بعد ذلك قيادة المجتمع الذي سيأخذ فقهه ودينه من البرامج التي ترسمها السلطة بما لها من قدرة مالية وقهر وجبروت يسهم بدرجة كبيرة في بروز شخصيات وازواء شخصيات اخرى، وهذا حقيقة واقعية تعيشها جميع المجتمعات البشرية سواء ما كان منها قبل الاسلام في عصور سيطرته او عصرنا الحاضر، فان للسلطة دور مهم في ارساء ثقافات معينة وقيم خاصة فمن دعاوى الدين الى الدعوة القومية ثم الى الدعوة الوطنية ضمن الحدود التي رسمتها اتفاقية سايكس بيكو وواقع الاستعمار الصليبي لبلاد المسلمين الذي كان لبريطانيا وفرنسا فيه الدور الكبير في القرنين التاسع عشر والعشرين ثم الدور الامريكي – الاسرائيلي – الاوربي في نهايات القرن العشرين واوائل القرن الحادي والعشرين.

10. تغيير البنية الثقافية للمجتمع المسلم
بعد اشغال القبائل العربية بالغزو والحروب وجني الاموال واقتناء الجواري، كان الخطوة اللاحقة زج الموالي في الجانب الثقافي بحيث لم يمض القرن الاول الهجري حتى اصبح قادة الخط الثقافي في بلاد المسملين من الموالي الذين احتلت جيوش المسلمين بلدانهم وكانوا عبيداً ثم اعتقوا وهؤلاء كانوا ياخذون المعلومات ممن وجدوهم من الاساتذة الذي كانوا يدرسون في المساجد التي كانت تعتبر معاهداً علمية في ذلك الوقت فبرز الموالي كحفاظ للقران ومحدثين وفقهاء واصوليين ومؤرخين ولغويين وانزوى دور العرب انزواء كبيراً لانهم لم يكونوا اهل علم وثقافة بل كانوا اهل حرب وغنائم، وحيث ان كل متتلمذ انما يأخذ عن اساتذته والموالي يجهلون واقع اهل البيت (عليهم السلام) لان الموالي انما وجودوا من يتحدث بإسم الاسلام مخالفاً لاهل البيت (عليهم السلام)

بل كان العطاء في عهد بني امية لا يسلم الى المواطن المسلم الا بعد ان يسب علياً (صلوات الله عليه) ويبرأ منه، بل زاد الامويون على ذلك ان سب علي (صلوات الله عليه) جزء من الاذان والصلاة وكان كالذكر الواجب وكالتسبيح والتهليل والتحميد بل كان اهم، ولذا نشأت اجيال على بغض اهل البيت (عليهم السلام) والعداء لهم ولشيعتهم، نعم يستثنى من العرب الاشاعرة اليمانيون الذين حملوا التشيع فكراً ومنهجاً واسسوا سنة 82 للهجرة في مدينة قم مركزاً ثقافياً شيعياً خالصاً بعيداً عن هيمنة السلطة فحفظوا الدين من التحريف والتزوير وكان ارتباطهم مباشراً باهل البيت (صلوات الله عليهم).

وبالطريقة التي اشرنا اليها تمكنت السلطة من ايجاد منهج خاص بها عممته على جميع بلدان المسلمين لتتمكن من خلاله بالتحكم بالمجتمع المسلم على الصعيد الفقهي والعقائدي والاخلاقي وتؤسس لمنهاج جديد يسخر الدين في مصلحة السلطة الحاكمة.

ولعل من ابرز الشواهد على ذلك ان اياً من علماء العامة لم يكتب شيئاً في فضائل اهل البيت (عليهم السلام) حتى ظهرت الدولة الفاطمية في المغرب وامتد سلطانها الى مصر فكتب علماء العامة في فضائل اهل البيت (عليهم السلام) لاول مرة في تاريخهم، وممن كتب في ذلك الوقت محب الدين الطبري والنسائي وابن المغازلي وامثالهم الذي اطلقوا العنان في ظل الحرية الفكرية التي سمحت بها الدولة الفاطمية التي حكمت زهاء قرنين من الزمن حتى سقطت على يد الارهابي صلاح الدين الايوبي الكردي التكريتي الطائفي.

 

 

بناء المجتمع في دولة امير المؤمنين عليه السلام

– الحلقة الثانية عشر

 السيد عبد الستار الجابري

المبحث الثالث: اعادة بناء البنية الاجتماعية في دولة امير المؤمنين (عليه السلام)

المطلب الاول: تأثير المنهج القرشي في المجتمع الاسلامي

تقدم ان الاسس الاسلامية التي بني عليها المجتمع كانت تتقوم بالعقيدة والشريعة والاخلاق الاسلامية، وهي تمثل البنية الفكرية للمجتمع المسلم، والقيادة المعصومة هي التي تشرف على التطبيق الصحيح للقيم الاسلامية للمجتمع الاسلامي، وان هاتان الركيزتان الاساسيتان تم التجاوز عليهما بعد رحيل النبي (صلى الله عليه واله)

بحيث ادخلت تغييرات جوهرية على القيم والمبادئ الاسلامية التي تضمن الرقي بالفرد والمجتمتع لايصاله الى مستوى اعلى درجة من الممكن ان يصل اليها المجتمع المسلم والذي تدرج في ايام النبي (صلى الله عليه واله) ووصل الى درجات تتناسب مع وضع مجتمع المدينة المنورة في ذلك الوقت ابتداءً من المؤاخاة بين المهاجرين والانصار والتحول من عقلية القبيلة الى العقيدة الدينية ومن الزعامات القبلية الى الانضواء تحت راية رسول الله (صلى الله عليه واله)

الذي كان هو المبلغ عن الله تعالى وهو القائد وهو الحاكم وهو الاولى من المؤمنين بانفسهم واموالهم، وتحول المجتمع من مجتمع اعراف وتقاليد قبلية الى مجتمع دستوري له دستور واحد وقائد واحد ونظام اداري واحد، واطرحت العداوات والاحن الجاهلية جانباً وحمل المهاجرون مع الانصار السيف للدفاع عن دين الله في بدر واحد والخندق ومؤتة وخيبر وذات الرقاع وحنين وغيرها من الغزوات التي قادها النبي (صلى الله عليه واله) او من يعينه اميراً على السرية التي يبعثها لحماية حدود الدولة النبوية وبسط العدل ونفي الظلم.

اما بعد رحيل النبي (صلى الله عليه واله) فإن قريشاً قادت انقلاباً حضارياً على القيم الروحية التي جاء بها النبي (صلى الله عليه واله) واسست لمرحلة جديدة تم فيها تبديل الفقرات الدستورية في المنهج الالهي بما يتلائم مع مقتضيات هيمنتها على السلطة فغيرت في جملة من الاحكام والغت احكاماً اخر فلم يعد القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة المصدر الوحيد للتشريع وازيحت القيادة المعصومة عن الاشراف على التطبيق.

الا ان ذلك المجتمع النابض بالحياة والذي بث فيه رسول الله (صلى الله عليه واله) روح حياة جديدة قدم لاجلها الانصار ابناءهم واموالهم، وضحى فيها المستضعفون من المهاجرين بكل ما لديهم لأجل اعلاء كلمة الله، لم يهنوا ولم يحزنوا ولم ينكفئوا، فاصطف من البداية ابو ذر وسلمان والمقداد وعمار بن ياسر (رضوان الله عليهم) مع نهج الرسالة النبوية فلم يعدلوا عن امير المؤمنين (عليه السلام)

ولم يفارقوه، ولم يستبدلوا نهجه ابداً، ورويداً رويداً ثاب الانصار الى رشدهم بعد ان رأوا عظيم الخطأ الذي اوقعوا انفسهم فيه فعادوا شيئاً فشيئاً الى احضان القيم الالهية والدعوة النبوية والهدي العلوي.
واما المجتمع القرشي الحاكم فان السنن الاجتماعية جارية في ان مصالح الزعامات لا تبقى على الثبات بل تتغير مع الزمن خاصة مع وجود محور مدبر يتلاعب بمسير الاحداث، فان مجتمع السلطة القرشية كان محوره الحقيقي بنو امية الذين كانت الظروف لا تسمح بتصديهم للقيادة بعد النبي (صلى الله عليه واله) مباشرة لريبة الانصار منهم ولارضاء شركائهم من بطون قريش في العمل على ازاحة القيادة الالهية عن زعامة الامة.

ولذا لم يكن المتصدي لكسب اسلم ولا لاقناع الانصار الزعامات الاموية، بل كانت بطون قريش الاخرى هي من قامت بذلك لتكون نتائج سقيفة بني ساعدة خلافة ابي بكر بن ابي قحافة، الا ان القاء نظرة على سير الامور يكشف ان بني امية كانوا يخططون للبعيد حيث كان نصيبهم امارة الشام ذات الامكانيات المادية العالية والمتأثرة بالحضارة الرومية وان يلي الشام يزيد بن ابي سفيان ثم يخلفه عليها معاوية ليحكم الشام عشرين سنة اميراً ثم عشرين سنة امبراطوراً، وان المدبر الاساسي في التخطيط هم ال ابي سفيان ومعاوية منهم بالدرجة الاساس.

ومن الطبيعي ان لا ينتظر معاوية طويلاً فما ان استقرت الاوضاع في جزيرة العرب واليمن وانتقلت الحرب الى بلاد فارس والروم حتى توفي ابو بكر في ظرف غامض بل روي ان نديمه الخاص الحارث بن كلدة اليشكري خبير السموم اخبره انهما سقيا سماً ذا مفعول بطيئ يقتل في سنتين، ودفن الخليفة سراً وكتب وصيته في الخلافة سراً ولتغطية الجريمة رووا ان عقرباً لدغته في غار جبل ثور وكان رسول الله (صلى الله عليه واله) يضع عليها من ريقه فتهدأ ثم يعود تأثير السم بعد سنتين ونصف، فهاج السم بعد سنتين من وفاة النبي (صلى الله عليه واله) فمات ابو بكر متأثرا بسم العقرب الذي لدغه في غار جبل ثور، وهذه القصة شبيهة بقصة قتل الجن لسعد بن عبادة ايام عمر بن الخطاب، فكان ابو بكر هو البديل القرشي في الاشراف على تطبيق مفاهيم الشرعية في الوقت الذي اقصي امير المؤمنين (عليه السلام) تماماً عن ادارة شؤون الامة.

وبعد وفاة ابي بكر خرج عمر خليفة على المسلمين وهو يرفع كتاب ابي بكر بالوصية ويدعو الناس الى قبول ما فيه مدعياً انه لا يعرف ما في الكتاب فهتفوا له، وهو الذي رفض ان يكتب الرسول (صلى الله عليه واله) للامة كتاباً لا تضل من بعده ابداً واتهم النبي (صلى الله عليه واله) بالهجران وقال حسبنا كتاب الله، وكان القرار قرار قريش وما ذلك الا مسرحية للضحك على المجتمع ذي العقل الضحل، فاصبح عمر بعد ابي بكر المشرف على تطبيق شؤون الشريعة بدلاً من اهل بيت العصمة والطهارة وهو الذي يقول شغلنا عن رسول الله (صلى الله عليه واله)

الصفق في الاسواق، فجاء عمر بكعب الاحبار ليكون المسؤول الاول عن بناء ثقافة الاجيال ومن ذلك العهد انتشرت ثقافة القصاصين في المساجد حتى قضى عليها الصليبيون بعد الحرب العالمية الاولى بنشرهم المدارس الحديثة، في ربوع العالم الاسلامي الذي كانت السمة الغالبة عليه هيمنة النهج القرشي في التثقيف والذي تسبب في انهيار العالم الاسلامي تحت سنابك خيل الصليبيين.

ادرك عمر بن الخطاب في اخريات ايامه ان الامويين يخططون للقضاء عليه، الامر الذي دعاه الى الايصاء الى ولده بالابتعاد عن طلب الخلافة وهي قضية لم يدركها ابو بكر لذلك خاضت عائشة وعبد الرحمن طلب السلطة والرغبة في الوصول الى سدة الحكم فلقيا حتفيهما على يد معاوية، بينما لم يتعرض الى الخطاب الى سوء من حكام بني امية ولا من ال الزبير.

وبعد سنين طوال تمكن عمر فيها من حماية نفسه من دسائس بني امية لم ينتبه الى دخول المغيرة بن شعبة على خط المؤامرة فتم القضاء عليه في المسجد النبي حيث لم يكن يتوقع ان يقتل هناك في وقت الصلاة على يد فيروز ابو لؤلؤة غلام المغيرة ولم ينس الامويين للمغيرة صنيعة فكان من الشخصيات المقربة لهم في سلطانهم.

ولم يكن لعمر خيار الا ابتداع قضية الشورى في محاولة منه للتأكيد على مبدأ تدوير السلطة في بيوتات قريش مع التزامه بايصال عثمان الى سدة الحكم.

وانتهى الامر الى عثمان الذي كان مشروعه مغايراً لمشروع عمر بعد التطور الذي تحقق في المشروع القرشي طيلة السنوات الخمسة عشر التي كانت بعد وفاة النبي (صلى الله عليه واله) فقرر ان يسمح للمعاصرين لرسول الله من اهل المدينة بالخروج عنها، فانتشروا في الامصار ليحقق بذلك تحولاً في سياسة التصرف باموال بيت مال المسلمين لان وجود مجموع كبيرهم منهم سيشدد عليه النكير اما مع توزعهم في الامصار واغداق الاموال على المتبقين منهم في المدينة لاسكاتهم فان الامر سيتغير حتماً، وهكذا تغير الوضع الاجتماعي العام الذي كان الزهد مظهراً واضحاً فيهم ليتحول الى منهج امبراطوري كسروي قيصري تبنى فيه القصوره الفخمة ويعيش المجتمع حالة بذخ مالي عجيب فتمتلأ القصور بالجواري والعبيد وتزدهر سوق النخاسة، بعد ان كان المجتمع المسلم المجتمع الافضل في تحرير العبيد.

لقد اسهم انتشار الانصار ومحبي امير المؤمنين (عليه السلام) في مختلف بلدان المسلمين وامصارهم المهمة في الاسهام في اعادة بناء الشخصية الاجتماعية على اساس هدي القرآن والسنة المطهرة، فكان لعثمان بن حنيف الانصاري وحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر والمقداد بن الاسود الكندي ومحمد بن ابي بكر والحارث الهمداني واشباههم دوراً مهما في اعادة بناء الوعي،

والدعوة الى الانصاف ونبذ الظلم مما ولد حالة من وعي المرحلة الذي عاشه المسلمون وداعب مقتضيات حاجتهم الى العودة الى النظم الاسلامي القويم وايقاف استهتار الولاة بقيم الدين ومبانيه، وارسلوا الى العاصمة مطالبين مركز القرار بالعمل على التغيير فلم تفلح الوفود قرروا السير بمظاهرة جماهيرية سلمية الى المدينة لاجبار الامبراطور على الاستجابة الى نداء المجتمع المقهور فلم يفلح السعي لأن بطانة السوء التي كانت تحيط به كانت تهدف الى تركيع الامة واذلالها فكان الدور السلبي لمروان بن الحكم صهر الخليفة والتآمر الخفي لمعاوية على عثمان لانه كان يرى ان بقاء عثمان في السلطة سينتهي بامر الخلافة الى مروان ويخرج منها صفر اليدين فكان القضاء على عثمان مطلباً سرياً لمعاوية، فكان عثمان ضحية هوس مروان ومعاوية في كرسي الخلافة.

كان مقتل عثمان في واقعه اعلان عن تحول في الواقع الاجتماعي للمسلمين، فلم يعد المجتمع المسلم بعد الخلل الكبير والواضح في ادارة بني امية للامصار يعتقد باهلية الحكام للاشراف على تطبيق الشريعة وهذا الامر ادى في النهاية الى ايجاد مؤسسة دينية الى جنب مؤسسة السلطة بعد ان سعت السلطة الى احتواء الواقع الاجتماعي الجديد فلم يعد الخليفة هو المشرف على تطبيق مفاهيم الدين وان كان هو المتحكم بمن يكون مفتياً للامة وقاضياً لقضاتها، وهذه بذاتها ضربة عصماء للمشروع القرشي على يد المجتمع المسلم الا ان السلطة القرشية سعت الى استيعاب تلك الضربة والنزول عندها واحتوئها وتمكنت من ذلك.

كما ان المجتمع المسلم لم يعد خاضعاً خضوعاً تاماً للمشروع القرشي، وانما ظهرت فيه بوادر الانعتاق عن ذلك المشروع الا ان هيمنة قريش على السلطة واستمرارها في مشروع البطش مكن المشروع القرشي من المضي قدماً واستمرت اثاره الى اليوم فزالت قريش وبقي المشروع، وان كان مع تقدم الزمن ومضي الايام يخسر مواقعه بالتدريخ امام منهج اهل البيت المنهج الالهي وتلك ارادة الله تعالى التي بينها في كتابه العزيز حيث قال (كتب الله لاغلبن انا ورسلي).

 

 

بناء المجتمع في دولة امير المؤمنين عليه السلام

– الحلقة الثالثة عشرة

السيد عبد الستار الجابري

المطلب الثاني: مشروع الاصلاح المجتمعي عند امير المؤمنين (عليه السلام)

عند مراجعة ما تقدم في ثنايا البحث نجد ان المجتمع المسلم قبل تولي امير المؤمنين (عليه السلام) منصب الخلافة في 18 ذي الحجة عام 34 للهجرة النبوية المشرفة يجد الباحث ان المجتمع الاسلامي مر بمرحلتين، المرحلة الاولى هي مرحلة بناء المجتمع المسلم على ضوء هدي القرآن الكريم، والمرحلة الثانية هي مرحلة تشويه البناء الاجتماعي التي انطلقت بعد رحلة النبي (صلى الله عليه واله) في الثامن والعشرين من صفر سنة 11هجرية.

تولى امير المؤمنين (عليه السلام) ادارة الدولة سنة 34هجرية في ظرف اجتماعي حرج، حيث ان المجتمع الذي تربع على عرش ادارته (عليه السلام) تغيرت فيه العديد من القيم والمباني الاجتماعية التي اسس لها الدين الحنيف واصبح ابناء المجتمع يعتقدون ان ما وصل اليهم هو الدين الحق،

فالمشكلة التي كانت تواجه امير المؤمنين (عليه السلام) في اعادة بناء المجتمع المسلم اعقد من اصل بناء المجتمع، حيث ان المجتمع في عهد النبي (صلى الله عليه واله) كان يرى انه لابد ان يبنى على اساس القيم الاسلامية التي يبينها له رسول الله (صلى الله عليه واله)

فما اقره رسول الله (صلى الله عليه واله) فهو مقبول وما رفضه مرفوض، ولا توجد قيم موازية لما يأتي به النبي (صلى الله عليه واله)، اما في عهد امير المؤمنين (عليه السلام) فان الامر منعكس تماماً حيث اصبح المجتمع بعد ثلاثة عقود يعتقد ان ما بين يديه قيم اسلامية، وعلى العكس من مجتمع الدولة النبوية المطهرة الذي كان ابناؤه يرون ان المرجعية المطلقة لرسول الله (صلى الله عليه واله)

لم يكن المجتمع الجديد يرى امير المؤمنين (عليه السلام) بنفس تلك العين بل ينظر اليه كحاكم له حق طاعة الحكام، فامير المؤمنين (عليه السلام) امام مجتمع سيرة من تقدم من ضمن مرجعياته الفكرية وعاد للقيادات القبلية دورها في التأثير على صعيد المواقف السياسية والاجتماعية.

ومما تقدم يمكن اجمال العناصر الرئيسية في حرف البنية الاجتماعية في:

1. الغاء مرجعية اهل البيت (عليهم السلام) بعد النبي (صلى الله عليه واله).

2. اضافة مرجعيات في عرض مرجعية الكتاب العزيز والسنة النبوية المطهرة.

3. تعديل جملة من الاحكام بما تناغم مع رغبة السلطان او طريقته في ادارة الدولة وان كان ذلك مخالفاً للكتاب والسنة النبوية.

4. دعم المرجعيات الثقافية التي تمتد جذورها الى الفكر التوراتي لسد الفراغ الذي خلفه منع تدوين الحديث ومنع رواية السنة النبوية والاقتصار في الثقافة القرانية على التلاوة فقط.

5. اعتماد التمييز الطبقي على اسس قبلية وقومية بديلاً عن مبدأ المساواة القرآني.

وهذه الامور الخمس الاساسية التي يتفرع عليها العديد من الامور التي نمت وترعرت في وسط اجتماعي بلغ من العمر ما يقارب 25 سنة أي ان المولود في سنة 11 هجرية بلغ عمره 25 سنة وهو يتلقى من خلال القنوات المؤثرة في البنية المجتمعية معلوماته وثقافته، وكذلك الحال فيمن دخل الاسلام بعد وفاة النبي (صلى الله عليه واله)، وهذه الاجيال ترى ان مفاهيم الاسلام وقيمه هي التي تلقتها عن الاجيال التي عاصرتها، أي انها تعتبر ان ثقافتها ثقافة اسلامية حقة، لا ان ما بين ايديها عبارة عن خليط من الاسلام ومن اراء تستند الى اذواق شخصية واختيارات سياسة ومنهجية اقصائية لمن جعلهم الله تعالى امناء على ايصال احكام دينه الى الامة ولذا فان التعاطي مع هذا الواقع الاجتماعي يمر بظروف ومنعطفات غاية في الصعوبة.

ان من يراجع نهج البلاغة يكتشف مدى التحديات التي كان يواجهها امير المؤمنين (عليه السلام) في اصلاح الواقع الاجتماعي بعد التشوية الذي تعرض له في الفترة الممتدة بين وفاة النبي (صلى الله عليه واله) حتى تصديه للخلافة، ويمكن القول ان الاصلاح الاجتماعي مر بمرحلتين، المرحلة الاولى مرحلة بناء القاعدة المؤمنة والمرحلة الثانية مرحلة تصحيح الخلل في البنية الاجتماعية بعد توليه الخلافة.

 

 

بناء المجتمع في دولة امير المؤمنين عليه السلام

– الحلقة الرابع

عشرة عبد الستار الجابري

المرحلة الاولى: بناء القاعدة المؤمنة

جرى امير المؤمنين (عليه السلام) في بناء القاعدة المؤمنة على النهج النبوي في بناء لبنات الدعوة الى الاسلام، فكانت جهوده (عليه السلام) موجهة في تلك الفترة الى من يتوقع فيهم الخير والصلاح من ابناء المجتمع المسلم وكان يسانده في ذلك خلص اصحابه وهم الاركان الاربعة سلمان وابو ذر والمقداد وعمار (رضوان الله عليهم)، وكانت ساحة نشاطهم الاولى الانصار، لانهم عاصروا الفترة النبوية وادركوا الخطأ الفادح الذي وقوعوا فيه نتيجة لموقفهم في سقيفة بني ساعدة وخذلانهم امير المؤمنين (عليه السلام)، وبعد الحصار الاقتصادي الخانق الذي فرضته السلطة القرشية على امير المؤمنين (عليه السلام) توجه (صلوات الله عليه) الى عملية احياء الاراضي واستعمار البساتين لتوفر مردوداً مالياً يمكنه من توفير النفقات المالية التي يحتاجها في حركته الاصلاحية، وعمد (عليه السلام) الى العمل على بناء مجتمع جديد لا تمتد اليه يد السلطات بسهولة من خلال بنائه فكرياً وعقائدياً وتعليمه اسس الدين وقيمه بعيداً عن تشويهات السلطة فكان (صلوات الله عليه) يشتري العبيد ويعلمهم ويعتقهم بعد ان يوفر لهم من الامكانيات المالية ما يمكنهم من الحياة بكرامة وتشير الروايات الى انه (عليه السلام) اعتق الف عبد، أي انه (عليه السلام) بنى في تلك الفترة الف اسرة مؤمنة بقيم الرسالة النبوية التي تلقيت من معين نبعها الصافي، كما كان لصوت ابي ذر (رضوان الله عليه) الداعي بكل قوة الى ضرورة الاصلاح الاجتماعي والعود الى سنة النبي (صلى الله عليه واله) تأثير كبير في واقع المجتمع الذي عانى الامرين من سياسات ما بعد النبي (صلى الله عليه واله) والتي بدا تأثيرها واضحاً في مركز العاصمة فاضطرت السلطة الى نفي ابي ذر (رضوان الله عليه) الى الشام وحاول معاوية كسبه بكل طريق فلم يفلح فكتب الى عثمان يطلب منه ابعاد ابي ذر (رضوان الله عليه) عن الشام لان دعوته بدأت تؤثر في نفوس الشاميين فأعيد الى المدينة، كما كان لسلمان الفارسي (رضوان الله عليه) دور مهم في التصحيح الاجتماعي في المدائن وتبعه على ذلك حذيفة بن اليمان الانصاري صاحب سر رسول الله (صلى الله عليه واله)، وكان لعثمان بن حيف الانصاري (رضوان الله عليه) ومن معه دور مهم في التصحيح الاجتماعي في البصرة، وكان لعمار(رضوان الله عليه) وجماعة من الانصار والقبائل الشيعية اليمانية في الكوفة كمذحج والنخع دوراً مهماً في الكوفة، ثم الدور الكبير لعمار ومحمد بن ابي بكر ومحمد بن ابي حذيفة (رضوان الله عليهم) في مصر، ففي سنوات الانفراج النسبي عن حركة المهاجرين والانصار تمكن المؤمنون بنهج امير المؤمنين (عليه السلام) من العمل على اعادة ثقافة الامة الى المنهاج الصحيح الذي يؤمن بمرجعية اهل البيت (عليه السلام) وضرورة العودة الى احكام الشريعة الحقة في جميع الشؤون الاجتماعية والسياسية والفكرية، وقد اسهم ذلك كثيراً في رفض المجتمع المسلم الانقياد الى الانحراف الاموي، ومنهجية التأسيس للامبراطورية الاموية، والتي كانت اول بوادرها العصيان المدني ضد الممارسات الظالمة لولاة عثمان من الامويين، والتي توجت ببيعة امير المؤمنين (عليه السلام) خليفة على المسلمين ليعود مسار الامور الى الاتجاه الصحيح.
فالمرحلة الاولى من مراحل الاصلاح كانت تعتمد بناء القاعدة المؤمنة، والتي تبنت التصحيح في حدود دائرة محدودة توسعت شيئاً فيشئاً حتى اصبحت واقعاً اجتماعياً يتنبى الدعوة الى مرجعية اهل البيت (عليهم السلام) والعودة الى القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ونفي مرجعية ما عدا الكتاب وعدله والسنة النبوية المطهرة، ورفض سياسية قريش في الهيمنة على مقاليد الامور، وحيث ان السلطة القاهرة كانت بيد القرشيين فإن الحركة الاصلاحية لم تتبن المواجهة المسلحة، بل تبنت الاصلاح على الصعيد الفكري والاجتماعي والسياسي، وقد اتت تلك الحركة الاصلاحية التي اتخذت من المنهج النبوي في بناء المجتمع والفرد منهجاً وحيداً لها ثمارها بوصول من نصبه الله تعالى اميناً على تطبيقات احكام الدين وبيان شريعة سيد المرسلين.

 

بناء المجتمع في دولة امير المؤمنين عليه السلام

– الحلقة الخامس عشرة

عبد الستار الجابري

المرحلة الثانية: مرحلة الاصلاح الاجتماعي من موقع ادارة الدولة
تتكون الدولة بطبيعتها من الارض والشعب والسلطة، وادارة البلاد عبارة عن عقد اجتماعي بين الشعب والسلطة، مبني على اسس معينة، فاذا اصبحت الاسس لا تلبي حاجة الشعوب واصرت عليها السلطات ادى ذلك الى ثورة الشعوب ضد السلطات،

وكذلك الحال فيما اذا لم تلتزم السلطات بالاسس التي تحدد طبيعة تعاملها مع الشعوب، ومثال الاول الثورة الفرنسية ومثال الثاني انتفاضة الامصار الرئيسية الثلاث الكوفة والبصرة ومصر ضد ولاة عثمان وتوجه ابنائها الى المدينة المنورة لمطالبة السلطة المركزية باتخاذ اجراءات رادعة للولاة، وحيث لم تستجب السلطة لطلب ابناء الامة بل تآمرت مع والي مصر ووالي الشام للقضاء على التحرك السلمي لابناء الامصار،

انقض بعض المصريين على الخليفة وقتلوه، في الوقت الذي تخلى اهل المدينة مهاجريهم وانصارييهم وقرشييهم عن عثمان ورهطه، لأن عثمان انقلب على مبادئ تدوير السلطة بين القريشيين وهو المبدأ الذي كان الاتفاق عليه بين بطون قريش وعلى اساسه تولى ابو بكر ومن بعده عمر الخلافة واشركا بطون قريش في شؤون ادارة الدولة ولكن لما وصل الامر الى عثمان وتمكن مهندسوا خلافة قريش – بنو امية – من الوصول الى سدة الحكم قلبوا للقرشيين ظهر المجن فما ان حلت السنة السابعة لحكم عثمان بن عفان حتى انقلب على القرشيين ولم يعد لهم حضور في ادارة الدولة الامر الذي جعل من القرشيين صفا معادياً لعثمان وعلى راسهم عائشة بنت ابي بكر والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله فيم اتخذ سعد بن ابي وقاص جانب الحياد السلبي, في ذلك الوقت حاول امير المؤمنين (عليه السلام) منع وقوع صدام دام بين الجماهير المعترضة وقصر السلطة لان العواقب لن تكون سليمة وتفتح على الامة باباً جديداً من الدماء والحروب، الا ان عثمان لم يلتزم بوعوده مما اضطر امير المؤمنين (عليه السلام) الى مغادرة المدينة الى ينبع.

انتهت الاحداث بمقتل عثمان وخروج الامر عن يد قريش والانصار واصبح القرار قرار الامة التي مثلها البصريون والكوفيون والمصريون، فبايعوا امير المؤمنين (عليه السلام) وبايعه الانصار ثم بايعته قريش وبايعت الناس، فكانت اول بيعة بعد يوم الغدير تتم باختيار الامة دون قهر او اجبار او مؤامرة سياسية.

وبهذا تحولت مرحلة الاصلاح من مرحلة ما قبل الدولة الى مرحلة الدولة، ومن مرحلة بناء فئة اجتماعية تحمل هموم الامة الصالحة الى مرحلة تصحيح مسار الامة التي ابتعدت بسبب السياسات الخاطئة عن مسار الحق.

وفي هذا المختصر سنتناول المجالات الخمس التي تحركت فيها السلطة القرشية لحرف مسار الامة عن الاتجاه الصحيح لبناء مجتمع يتماشى مع الاطروحة القرشية وهذه المجالات كما مر عرضها سابقاً:

1. الغاء مرجعية اهل البيت (عليهم السلام) بعد النبي (صلى الله عليه واله).

2. اضافة مرجعيات في عرض مرجعية الكتاب العزيز والسنة النبوية المطهرة.

3. تعديل جملة من الاحكام بما تناغم مع رغبة السلطان او طريقته في ادارة الدولة وان كان ذلك مخالفاً للكتاب والسنة النبوية.

4. دعم المرجعيات الثقافية التي تمتد جذورها الى الفكر التوراتي لسد الفراغ الذي خلفه منع تدوين الحديث ومنع رواية السنة النبوية والاقتصار في الثقافة القرانية على التلاوة فقط.

5. اعتماد التمييز الطبقي على اسس قبلية وقومية بديلاً عن مبدأ المساواة القرآني.

ومن هنا كانت الدعوة الاصلاحية لامير المؤمنين (عليه السلام) والنواة المجتمعية التي عمل على ايجادها في فترة ابعاده عن السلطة تبنت تصحيح المسار في ضمن دائرة الاصلاح المجتمعي في تلك المجالات وسوف يتم التعرض لها على نحو الاجمال:

1. الدعوة الى مرجعية اهل البيت (عليهم السلام)
ان الدعوة القرشية لالغاء مرجعية اهل البيت (عليهم السلام) كانت تعتمد على ركيزتين الاولى تجهيل الامة باهل البيت (عليهم السلام) والثانية اظهار اهل البيت (عليهم السلام) بانهم مجرد ارحام النبي (صلى الله عليه واله) وليس لهم أي قيمة ابعد من ذلك، ولذا كان لابد من العمل على رفع هاتين الحالتين من اذهان المجتمع المسلم، واظهار قيمة اهل البيت (عليهم السلام) على واقعها.
وقد زخرت المرويات عن امير المؤمنين (عليه السلام) بعد توليه الحكم في الاشادة باهل البيت (عليهم السلام) وبيان حقائقهم وشفع ذلك بالسيرة العطرة التي ترجمت الاسلام عملياً والتي حولت النظرة عن اهل البيت (عليهم السلام) خاصة في المجتمع الكوفي الذي عاصر اربع سنوات من حكم امير المؤمنين (عليه السلام).

ومما ورد في هذا المجال جملة من الخطب التي حوت من العلوم والم…

 

 

بناء المجتمع في دولة امير المؤمنين عليه السلام

– الحلقة السادس عشرة

عبد الستار الجابري

2. الغاء ماعدا مرجعية مرجعية الكتاب العزيز والسنة النبوية المطهرة واهل البيت (عليهم السلام)
تقدم ان قريشاً اوجدت مرجعيات في عرض مرجعية الكتاب العزيز والسنة المطهرة والتي برزت بوضوح في الكتب الفقهية والاصولية في القرن الاول للهجرة والتي اعتبرت مصادر للتشريع في عرض الكتاب والسنة منها القول بالرأي والقياس وقول الصحابي وفعل الصحابي وقول التابعين وافعالهم واجماع اهل الامصار والمصالح المرسلة والاستحسان وغير ذلك من المرجعيات الفقهية التي يستند اليها اتباع المدرسة القرشية بخطيها الاموي والعباسي في استنباط الاحكام، وهذه المدرسة امتداد للمدرسة القرشية.

تجلى الدور الاصلاحي لامير المؤمنين (عليه السلام) وخلص اصحابه في رفض مرجعية غير القران والسنة والتاكيد على ان اهل البيت (عليهم السلام) هم الملاذ الامن للامة وهم المنصوبون من الله تعالى لحفظ شريعة سيد المرسلين وبيان احكام الدين كونهم عدل الكتاب الذي لا يفارقه حتى يردا الحوض على النبي (صلى الله عليه واله) ولذا انكر امير المؤمنين (عليه السلام) بشدة مسالة الاختلاف في الفتيا وعرض بالمفتين وبالمصحح لهم على اختلافهم فقال (عليه السلام): (ترد على أحدهم القضية في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره فيحكم فيها بخلافه ثم يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم فيصوب آراءهم جميعا وإلههم واحد ونبيهم واحد وكتابهم واحد .

أفأمرهم الله تعالى بالاختلاف فأطاعوه . أم نهاهم عنه فعصوه . أم أنزل الله دينا ناقصا فاستعان بهم على إتمامه . أم كانوا شركاء له . فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى أم أنزل الله سبحانه دينا تاما فقصر الرسول صلى الله عليه وآله عن تبليغه وأدائه والله سبحانه يقول ﴿ ما فرطنا في الكتاب من شئ﴾ فيه تبيان كل شئ وذكر أن الكتاب يصدق بعضه بعضا وأنه لا اختلاف فيه فقال سبحانه ﴿ ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا﴾ . وإن القرآن ظاهره أنيق. وباطنه عميق . لا تفنى عجائبه ولا تنقضي غرائبه ولا تكشف الظلمات إلا به)
بل يؤكد امير المؤمنين (عليه السلام) ان سبب الاختلاف في الامة طريق ضلال ولا يجوز ان يتبع لانه يؤدي الى الهلكة وان الاختلاف الحاصل مرجعه اما الى الجهل او الى تعمد الكذب على الله ورسوله قال (عليه السلام): (علي بن إبراهيم بن هاشم ، عن أبيه ، عن حماد بن عيسى ، عن إبراهيم ابن عمر اليماني ، عن أبان بن أبي عياش ، عن سليم بن قيس الهلالي ، قال : قلت . لأمير المؤمنين عليه السلام : إني سمعت من سلمان والمقداد وأبي ذر شيئا من تفسير القرآن وأحاديث عن نبي الله صلى الله عليه وآله غير ما في أيدي الناس ، ثم سمعت منك تصديق ما سمعت منهم ورأيت في أيدي الناس أشياء كثيرة من تفسير القرآن ومن الأحاديث عن نبي الله صلى الله عليه وآله أنتم تخالفونهم فيها ، وتزعمون أن ذلك كله باطل ، أفترى الناس يكذبون على رسول الله صلى الله عليه وآله متعمدين ، ويفسرون القرآن بآرائهم ؟ قال : فأقبل علي فقال : قد سألت فافهم الجواب . إن في أيدي الناس حقا وباطلا ، وصدقا وكذبا ، وناسخا ومنسوخا ، وعاما وخاصا ، ومحكما ومتشابها ، وحفظا ووهما ، وقد كذب على رسول الله صلى الله عليه وآله على عهده حتى قام خطيبا فقال : أيها الناس قد كثرت علي الكذابة فمن كذب علي متعمدا فليتبوء مقعده من النار ، ثم كذب عليه من بعده ، وإنما أتاكم الحديث من أربعة ليس لهم خامس : رجل منافق يظهر الإيمان ، متصنع بالإسلام لا يتأثم ولا يتحرج أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله متعمدا ، فلو علم الناس أنه منافق كذاب ، لم يقبلوا منه ولم يصدقوه ، ولكنهم قالوا هذا قد صحب رسول الله صلى الله عليه وآله ورآه وسمع منه ، وأخذوا عنه ، وهم لا يعرفون حاله ، وقد أخبره الله عن المنافقين بما أخبره ووصفهم بما وصفهم فقال عز وجل : ” وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم ” ثم بقوا بعده فتقربوا إلى أئمة الضلالة والدعاة إلى النار بالزور والكذب والبهتان فولوهم الأعمال، وحملوهم على رقاب الناس ، وأكلوا بهم الدنيا ، وإنما الناس مع الملوك والدنيا إلا من عصم الله ، فهذا أحد الأربعة . ورجل سمع من رسول الله شيئا لم يحمله على وجهه ووهم فيه ، ولم يتعمد كذبا فهو في يده ، يقول به ويعمل به ويرويه فيقول : أنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله فلو علم المسلمون أنه وهم لم يقبلوه ولو علم هو أنه وهم لرفضه . ورجل ثالث سمع من رسول الله صلى الله عليه وآله شيئا أمر به ثم نهى عنه وهو لا يعلم ، أو سمعه ينهى عن شئ ثم أمر به وهو لا يعلم ، فحفظ منسوخه ولم يحفظ الناسخ ، ولو علم أنه منسوخ لرفضه ، ولم علم المسلمون إذ سمعوه منه أنه منسوخ لرفضوه . وآخر رابع لم يكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله ، مبغض للكذب خوفا من الله و تعظيما لرسول الله صلى الله عليه وآله ، لم ينسه، بل حفظ ما سمع على وجهه فجاء به كما سمع لم يزد فيه ولم ينقص منه ، وعلم الناسخ من المنسوخ ، فعمل بالناسخ ورفض المنسوخ فإن أمر النبي صلى الله عليه وآله مثل القرآن ناسخ ومنسوخ [ وخاص وعام ] ومحكم ومتشابه قد كان يكون من رسول الله صلى الله عليه وآله الكلام له وجهان : كلام عام وكلام خاص مثل القرآن وقال الله عز وجل في كتابه : ﴿ما آتاكم الرسول فخذوه ، وما نهاكم عنه فانتهوا﴾ فيشتبه على من لم يعرف ولم يدر ما عنى الله به ورسوله صلى الله عليه وآله وليس كل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله كان يسأله عن الشئ فيفهم وكان منهم من يسأله ولا يستفهمه حتى أن كانوا ليحبون أن يجيئ الأعرابي والطاري فيسأل رسول الله صلى الله عليه وآله حتى يسمعوا. وقد كنت أدخل على رسول الله صلى الله عليه وآله كل يوم دخلة وكل ليلة دخلة فيخليني فيها أدور معه حيث دار ، وقد علم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله أنه لم يصنع ذلك بأحد من الناس غيري فربما كان في بيتي يأتيني رسول الله صلى الله عليه وآله أكثر ذلك في بيتي وكنت إذا دخلت عليه بعض منازله أخلاني وأقام عني نسائه . فلا يبقى عنده غيري وإذا أتاني للخلوة معي في منزلي لم تقم عني فاطمة ولا أحد من بني ، وكنت إذا سألته أجابني وإذا سكت عنه وفنيت مسائلي ابتدأني ، فما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله آية من القرآن إلا أقرأنيها وأملاها علي فكتبتها بخطي وعلمني تأويلها وتفسيرها وناسخها ومنسوخها ، ومحكمها ومتشابهها ، وخاصها وعامها ، ودعا الله أن يعطيني فهمها ، وحفظها ، فما نسيت آية من كتاب الله ولا علما أملاه علي وكتبته ، منذ دعا الله لي بما دعا ، وما ترك شيئا علمه الله من حلال ولا حرام ، ولا أمر ولا نهي كان أو يكون ولا كتاب منزل على أحد قبله من طاعة أو معصية إلا علمنيه وحفظته ، فلم أنس حرفا واحدا ، ثم وضع يده على صدري ودعا الله لي أن يملا قلبي علما وفهما وحكما ونورا ، فقلت : يا نبي الله بأبي أنت وأمي منذ دعوت الله لي بما دعوت لم أنس شيئا ولم يفتني شئ لم أكتبه أفتتخوف علي النسيان فيما بعد ؟ فقال : لا لست أتخوف عليك النسيان والجهل )
وفي هذا النص يظهر بوضوح انه (عليه السلام) يؤكد على مرجعية اهل البيت (عليهم السلام) والتي تبتدأ بشخصه (صلوات الله عليه) ثم تمتد في ابنائه.

 

بناء المجتمع في دولة امير المؤمنين عليه السلام

– الحلقة السابعة عشرة

عبد الستار الجابري

3. الغاء الاحكام المخالفة لكتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه واله)
الخطوة الاخرى في الاصلاح الاجتماعي التي عمد اليها امير المؤمنين (عليه السلام) اعادة الناس العودة بالناس الى الشريعة الحقة والغاء الاحكام التعسفية التي جاء بها الحكام ورتبوا عليها الآثار ومنها على سبيل المثال الغاء امير المؤمنين (عليه السلام) جميع التصرفات المالية التي قام بها عثمان بن عفان (والله لو وجدته قد تزوج به النساء وملك به الإماء لرددته فإن في العدل سعة ، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق)
وقال (عليه السلام) مندداً بجهال الامة الذين تصدوا لبيان الاحكام ظلماً وعدواناً: (فإن نزلت به إحدى المبهمات هيأ لها حشوا رثا من رأيه ثم قطع به. فهو من لبس الشبهات في مثل نسج العنكبوت. لا يدري أصاب أم أخطأ فإن أصاب خاف أن يكون أخطأ . وإن أخطأ رجا أن يكون قد أصاب)
وهو (عليه السلام) في هذا المقطع من الخطبة يعرض بمن تصدى لاصدار الاحكام في هذه الامة وعمل برايه اذا اعوزه الدليل مع جهله المطبق بالنصوص والروايات حيث يصف (عليه السلام) من هكذا شأنه بانه يذروا الروايات اذراء الرياح للهشيم اي انه بعيد عن فهم الروايات والاخذ بما فيها، بل لا يستند فيما يحكم فيه الى مصادر التشريع بل جعل من نفسه ورأيه حكماً مع انه يعلم انه جاهل فيما بينه وبين نفسه: (جاهل خباط جهالات . عاش ركاب عشوات لم يعض على العلم بضرس قاطع يذري الروايات إذراء الريح الهشيم . لا ملئ والله بإصدار ما ورد عليه . ولا هو أهل لما فوض إليه. لا يحسب العلم في شئ مما أنكره * ولا يرى أن من وراء ما بلغ مذهبا لغيره . وإن أظلم أمر اكتتم به لما يعلم من جهل نفسه . تصرخ من جور قضائه الدماء . وتعج منه المواريث إلى الله أشكو من معشر يعيشون جهالا ويموتون ضلالا ليس فيهم سلعة أبور من الكتاب إذا تلي حق تلاوته. ولا سلعة أنفق بيعا ولا أغلى ثمنا من الكتاب إذا حرف عن مواضعه . ولا عندهم أنكر من المعروف ولا أعرف من المنكر)
ومما حفظ التاريخ من الاحكام التي ردها امير المؤمنين (عليه السلام) ما جمعه السيد محسن الامين العاملي (قدس سره) في كتاب عجائب قضايا امير المؤمنين (عليه السلام) التي حفظت جزءاً من التاريخ الفقهي لامير المؤمنين (عليه السلام) خاصة في الفترة التي تليت عصر النبي (صلى الله عليه واله) وكيف انه (صلوات الله عليه) كان يبين الاحكام الصحيحة ويرد الاحكام الباطلة التي كان يصدرها من تصدى لقيادة الامة وزعامتها، فما تقدم عن نهج البلاغة في ذم الجهلة بالاحكام والمتصدين بغير حق لم يكن موجهاً لحالة افتراضية تقع مستقبلاً بل كان النقد فيه موجهاً لحالة موجودة سبقت ايام حكمه (صلوات الله عليه) وعاصرت حكمه ودامت بعد حكمه.

 

بناء المجتمع في دولة امير المؤمنين عليه السلام

– الحلقة الثامنة عشرة

عبد الستار الجابري

4. اعتماد الثقافة الاسلامية الخالصة
تقدم ان الثقافة الاسلامية الخالصة تقتضي ان تكون المرجعية في الامة بعد النبي (صلى الله عليه واله) لخصوص المعصومين من اهل بيته (عليهم السلام) اللذين ذكرتهم اية التطهير ونص عليهم النبي (صلى الله عليه واله) في حديث الثقلين وغيره من النصوص الواردة عنه (صلى الله عليه واله) ،

ولذا عمد القرشيين اللذين استشعروا خطورة الثقافة الاسلامية الخالصة على مستقبل زعامتهم للامة على ازواء المباني الحضارية الاسلامية، وحيث ان المجتمع بطبعه متعطش للمعلومة خاصة الاجيال الجديدة لذا قررت العصابة القرشية الاستعانة ببعض مسلمي اهل الكتاب لنقل قصص العهدين لاجيال المسلمين، ولم تسمح السلطة القرشية لأحد ان يتبنى مسألة التثقيف الا بتعيين منها فاستعانوا كعب الاحبار ووهب بن منبه وامثالهم، وقد تطورت هذه الحالة فيما بعد لما عرف بالحكواتي في بعض المجتمعات كتطور لقصاصي اهل الكتاب لتحل قصص زيد الهلالي وعنتر العبسي وامثالها من القصص لتسرد على ابناء المجتمع بعد ان انتهى دور قصاصي مسلمة اهل الكتاب في المساجد ومعاهد التعليم.

لقد عمل القصاصين ايام عمر وعثمان في المسجد النبوي وغيره من المساجد المهمة حتى جاء عهد امير المؤمنين (عليه السلام) فطردهم شر طردة فلحقوا بالشام، واستقروا عند معاوية الوريث الطبيعي للمنهج القرشي بل احد اهم مؤسسي ذلك المنهج.

تصدى امير المؤمنين (عليه السلام) وخلص اصحابه لتطهير المجتمع من الثقافة المنحرفة التي روجت لها السلطة وبثها مسلمة اهل الكتاب وتمثل عملهم بمهمتين متوازيتين الاولى تنقية افكار المسلمين من الافكار الدخيلة على الاسلام والثاني بيان المفاهيم الحقة للدين الاسلامي الحنيف، ولعل جملة من الخطب الواردة في نهج البلاغة تثبت ذلك فاول خطبة منه في التوحيد وخلق الملائكة وبعث الانبياء والرسل ومن يلاحظ تلك الخطبة الرائعة في كل جوانبها يجدها تجيب على الاسئلة التي تتعلق باصل خلق الكون بما فيه من سماوات وارضين وكواكب ونجوم وخلق الملائكة وخلق ادم وبعث الانبياء (عليهم السلام) والختم ببعثة النبي (صلى الله عليه واله) فهي تجيب عن كل الاسئلة التي تتعلق بالجانب العقائدي بعبارة جمعت بين الرقي الادبي والدقة العلمية والثراء الفكري الذي من يقف على كنهه يزول عنه ما ولده الفكر المنحرف لقصاصي التوراة في المجتمع المسلم، فما ورد في هذه الخطبة العصماء هو جمع لكل المعاني التي وردت في القرآن الكريم وما جرى على لسان النبي (صلى الله عليه واله) من بيان حقائق ما وراء الطبيعة بعبارة جامعة تطهر العقول مما علق بها من روايات التجسيم ونزول الرب وجلوسه على العرش التي دسها قصاصوا العهدين في فكر المجتمع المسلم والتي تسببت في خلل فكري ومنهجي لا يزال اتباع مدرسة قريش الى اليوم يعانون منه لاعتقادهم بقدسية تلك النصوص مع انها لا تنسجم مع دلالات الايات المحكمة من الكتاب العزيز، وتنفيها النصوص الصحيحة الواردة عن النبي (صلى الله عليه واله) واهل بيته (عليهم السلام).

 

بناء المجتمع في دولة امير المؤمنين عليه السلام – الحلقة الاخيرة عبد الستار الجابري 5. اعتماد مبدأ المساواة بين المسلمين
كانت سيرة النبي (صلى الله عليه واله) التسوية بين المسلمين في كل ما لا تمايز فيه بينهم، وكان (صلى الله عليه واله) كأحدهم في كل شيء، لا يتميز عنهم الا بما اختصه الله تعالى به، فكان من يأتي مجلسه (صلى الله عليه واله) في مسجده لا يعرفه من بين الجالسين، اذ لم يكن شيئ يميزه عن جلسائه ليدل عليه.
كما انه في العطاء من بيت المال كان يأخذ كأحد المسلمين لا يتميز عنهم بزيادة، وفي مقام القضاء والمنازعات كان لا يميز نفسه عن المسلمين مع انه النبي المعصوم وقصه سواده وخزيمة ذو الشهادتين من اوضح الواضحات في انه في تطبيق القوانين لا يميز ذاته المقدسة عن غيره من العباد.
فعلى صعيد العطاء والمظهر وتطبيق القانون كان (صلى الله عليه واله) يتعامل كواحد من ابناء الامة لا يتميز عنهم بشيء.
وعندما تصدت قريش لقيادة الامة كان اول ما عملته تعطيل القضاء في الكثير من الموارد ومنحت السلطة لنفسها حق القضاء والتشريع فلم تطبق احكام الشرع على خالد بن الوليد بما فعله في بني يربوع من انتهاك اعراضهم وقتل رجالهم وسبي نسائهم واتلاف اموالهم، وحكمت بحرق قطري بن فجاءة مع انه لم يرد في حكم الاسلام الحرق، وصادرت اموال فاطمة (صلوات الله عليها) ظلماً وعدواناً، وكان الحاكم يدور بدرته في الاسواق يضرب من يشاء ويعاقب من يشاء وكتم الانفاس وقهر الناس وميز بين الناس في العطاء حتى وصف امير المؤمنين (عليه السلام) تلك الحقبة:(فيا عجبا بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته لشد ما تشطرا ضرعيها فصيرها في حوزة خشناء يغلظ كلامها ويخشن مسها . ويكثر العثار فيها . والاعتذار منها ، فصاحبها كراكب الصعبة إن أشنق لها خرم . وإن أسلس لها تقحم فمني الناس لعمر الله بخبط وشماس وتلون واعتراض . فصبرت على طول المدة وشدة المحنة . حتى إذا مضى لسبيله . جعلها في جماعة زعم أني أحدهم فيا لله وللشورى متى اعترض الريب في مع الأول منهم حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر لكني أسففت إذ أسفوا وطرت إذ طاروا)
ثم يضيف (صلوات الله عليه) الى تقييمه للاوضاع التي سادت بلاد المسلمين ايام هيمنة بني امية على شؤون الدولة بقوله (الى أن قام ثالث القوم نافجا حضنيه بين نثيله ومعتلفه . وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع إلى أن انتكث فتله . وأجهز عليه عمله وكبت به بطنته)
فكانت الفترة التي تلت ايام النبي (صلى الله عليه واله) فترة البعد عن السيرة النبوية العطرة، فجاء امير المؤمنين (عليه السلام) ليعيد لتلك السيرة رونقها الخاص وعبق عطرها الفواح الذي يداعب المشاعر الانسانية التواقة الى العدل والانصاف والاحسان ومكارم الاخلاق والقيم المثلى والاخلاق العليا، ليطلق (صلوات الله عليه) لمبدأ المساواة بين الجميع امام الشريعة فلا يميز احد على احد الا في ضوء الاسس التي اقرتها الشريعة الالهية.
فمن مصاديق ذلك مارواه الحلبي ، عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) ، قال : ” قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لعمر بن الخطاب : ثلاث إن حفظتهن وعملت بهن كفتك ما سواهن ، وإن تركتهن لم ينفعك شيء سواهن . قال: وما هن يا أبا الحسن ؟ قال : ” إقامة الحدود على القريب والبعيد ، والحكم بكتاب الله في الرضا والسخط ، والقسم بالعدل بين الأحمر والأسود. ” قال عمر : لعمري لقد أوجزت وأبلغت)
ففي هذا النص الموجز يؤكد امير المؤمنين (عليه السلام) على مبدأ التساوي في الحقوق والواجبات بين ابناء المجتمع المسلم، وان المرجع في كل شيء هو القرآن الكريم، وبتعبير اخر ان السلطان ليس له من ميزة على غيره سوى كونه الامين على تطبيق الاحكام واقامة الشريعة، فخلاصة هذه الامور الثلاث عدم التمايز بين ابناء المجتمع امام القانون الاسلامي، وان المرجع التشريعي هو القران الكريم وان الحاكم هو المطبق لاحكامه وليس مرجعاً تشريعياً في عرضه، والمساواة في الحقوق بين ابناء المجتمع المسلم، ولم يكن ذلك من امير المؤمنين (عليه السلام) مجرد دعوة عندما كانت السلطة في يد غيره بل طبقها تطبيقاً عملياً حياً عندما تولى الحكم وقصة اقامة الحد على النجاشي الشاعر – وهو ممن شهد صفين مع امير المؤمنين (عليه السلام) – خير شاهد على ذلك ، ومثله حضور امير المؤمنين (عليه السلام) مجلس القضاء مع خصمه في قضية الدرع .
وكان (عليه السلام) لا يجامل في حفظ حقوق الامة والانكار على من تسول له نفسه ان يتصرف باموال المسلمين بغير حق وقد روي في نهج البلاغة انه انب وهدد احد عماله لغارته على بيت المال واسختلاص المال لنفسه وقيام احد العمال ببذل المال لاعراب قومه ولما عوتب (عليه السلام) على التسوية في العطاء الامر الذي جعل زعماء القبائل يبتعدون عنه وهم قد اعتادوا على التمييز بينهم وبين غيرهم ايام عمر وعثمان فقال (عليه السلام): (أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه ؟ والله ما أطور به ما سمر سمير ، وما أم نجم في السماء نجما . لو كان المال لي لسويت بينهم ، فكيف وإنما المال مال الله ! ألا وإن إعطاء المال في غير حقه تبذير وإسراف ، وهو يرفع صاحبه في الدنيا ويضعه في الآخرة ويكرمه في الناس ويهينه عند الله . ولم يضع امرؤ ماله في غير حقه ولا عند غير أهله إلا حرمه الله شكرهم وكان لغيره ودهم ، فإن زلت به النعل يوما فاحتاج إلى معونتهم فشر خدين وألأم خليل)
بل زاد (عليه السلام) على ذلك انه عاتب عثمان بن حنيف الانصاري (رضوان الله عليه) لانه اجاب دعوة شاب من اهل البصرة لمأدبة دعي اليها الاثرياء ولم يدع اليها الفقراء، فانه (عليه السلام) كان يرى ان اجابة مثل هذه الدعوة لا تصح من شخص له فضل عثمان بن حنيف (رضوان الله عليه) المنتسب في ولائه ومحبته واتباعه له (صلوات الله عليه) .
ولم يقف الامر عند المساواة بين المسلمين بل كان (عليه السلام) يأمر بالتعامل بالحسنى مع الجميع وان كان من اهل الذمة او المعاهدين وقد مر الاشارة الى قضية حضوره مجلس القضاء في قضية الدرع مع يهودي، وقد اوصى (عليه السلام) مالك الاشتر عندما ولاه مصر: ( واشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم اكلهم، فانهم صنفان اما اخ لك في الدين او نظير لك في الخلق)

 

 

 

 

https://t.me/socialandpolitocaljabirysearch

 

شاهد أيضاً

الجاهل القاصر والجاهل المقصر

الجاهل القاصر والجاهل المقصر الجاهل القاصر: هو الذي يعتقد جازما أن هذا الفعل الذي يفعله ...