الرئيسية / القرآن الكريم / قراءة القرآن وآداب تلاوته ومقاصده

قراءة القرآن وآداب تلاوته ومقاصده

الدرس الخامس عشر: تفسير سورة الضحى

 

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يعرف سبب نزول سورة الضحى.

2- يشرح معاني مفردات سورة تفسير.

3- يفهم فلسفة شكر الله على نعمائه.

 

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

 

﴿وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى * أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾

 

في رحاب السّورة

هذه السّورة نزلت في مكّة. وحسب بعض الرّوايات أنَّها نزلت حين كان الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم متألّماً بسبب تأخّر نزول الوحي، وتقوُّل الأعداء نتيجة هذا الانقطاع المؤقّت، نزلت السّورة كغيث على قلب النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وأمدّته بطاقة جديدة، وقطعت ألسن الأعداء.

 

هذه السّورة تبدأ بقَسَمَين، ثمّ تُبشِّر النّبيّ بأنّ الله لا يتركه أبداً.

 

ثمّ تُبشّره بعطاء ربّانيّ يجعله راضياً، ثمّ تعرض له صوراً من حياته السابقة تتجسّد فيها الرحمة الإلهيّة الّتي كانت تشمله دائماً وتحميه وتسنده في أشدّ اللحظات.

 

وفي نهاية السّورة تتكرّر الأوامر الإلهيّة برعاية اليتيم والسائل، وبإظهار النِّعم الإلهيّة (شكراً لهذه النِّعم).

 

سبب النّزول

رويَ عن ابن عبّاس قال: “احتبس الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خمسة عشر يوماً، فقال المشركون إنّ محمّداً قد ودّعه ربّه وقلاه، ولو كان أمره من الله تعالى لتتابع عليه، فنزلت السّورة”[1].

 

التّفسير

في بداية السّورة المباركة قسَمان: الأوّل بالنّور، والثّاني بالظلمة، ويقول سبحانه:

﴿وَالضُّحَى﴾ وهو أوّل النهار حين تغمر شمسه كلّ مكان.

 

﴿وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى﴾ أي إذا عمّت سكينته كلّ مكان.

 

وبين القَسَمين ومحتوى السّورة تشابه كبير وارتباط وثيق. النهار مثل نزول نور الوحي على قلب النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، والليل كانقطاع الوحي المؤقّت، وهو أيضاً ضروريّ في بعض المقاطع الزمنيّة.

 

وبعد القَسَمين، يأتي جواب القَسَم، فيقول سبحانه: ﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى﴾.

 

“قلى” من “قلا” ـ على وزن صدا، وهو شدّة البغض، ومن القَلو أيضاً بمعنى الرّمي. وكلا المعنيين يعودان إلى أصل واحد فكأنّ المقلوّ هو الّذي يقذفه القلب من بُغضه فلا يَقبَلُه.

 

على أيّ حال، في هذا التعبير سَكنٌ لقلب النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وتسلٍّ له، ليعلم أنّ التأخير في نزول الوحي إنّما يحدث لمصلحة يعلمها الله تعالى، وليست ـ كما يقول الأعداء ـ لترك اللهَ نبيّه أو لسخطه عليه. فهو مشمولٌ دائماً بلطف الله وعنايته الخاصّة، وهو دائماً في كنف حماية الله سبحانه.

 

﴿وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى﴾.

أنت في هذه الدنيا مشمول بألطاف الله تعالى، وفي الآخرة أكثر وأفضل. أنت آمن من غضب الله في الأمد القريب والبعيد. وباختصار أنت عزيز في الدنيا والآخرة… في الدنيا عزيز وفي الآخرة أعزّ…

 

وتأتي البشرى للنبيّ الكريم صلى الله عليه وآله وسلم لتقول له: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾، وهذا أعظم إكرام وأسمى احترام من ربّ العالمين لعبده المصطفى محمّد صلى الله عليه وآله وسلم. فالعطاء الرّبانيّ سيُغدق عليه حتّى يرضى… حتّى ينتصر على الأعداء ويعمّ نور الإِسلام الخافقين، كما أنّه سيكون في الآخرة أيضاً مشمولاً بأعظم الهبات الإِلهيّة.

 

فلسفة انقطاع الوحي

يتبيّن من الآيات الكريمة في هذه السّورة أنّ النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لا يملك لنفسه شيئاً إلاّ من عند الله… لم يكن له اختيار حتّى في نزول الوحي. متى ما شاء الله ينزل الوحي ومتى ما شاء ينقطع. ولعلّ انقطاع الوحي كان ردّاً على أُولئك الّذين كانوا يُطالبون النبيّ بمعاجز مقترحة وفق أذواقهم، أو كانوا يقترحون عليه تغيير بعض الأحكام والنصوص، وكان صلى الله عليه وآله وسلم يقول لهم: ﴿قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ…﴾[2].

 

الشكر على كلّ هذه النِّعم الإلهيّة

﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾.

 

ذكرنا أنّ هدف هذه السّورة المباركة تسلية قلب النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وبيان ألطاف الله الّتي شملته. وهذه الآيات المذكورة أعلاه تُجسّد للنّبي ثلاث هبات من الهبات الخاصّة الّتي أنعم الله بها على النّبيّ، ثمّ تأمره بثلاثة أوامر.

 

النعمة الأولى: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى﴾

فقد كنت يا محمّد في رحم أُمّك حين توفّي والدك فآويتك إلى كنف جدّك عبد المطّلب “سيّد مكّة”.

 

وكنت في السادسة حين توفّيت والدتك، فزاد يتمك، لكنّني زدت حبّك في قلب “عبد المطّلب”.

 

وكنت في الثامنة حين رحل جدّك “عبد المطّلب”، فسخّرت لك عمّك “أبا طالب”.

 

النعمة الثّانية: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى﴾

نعم، لم تكن أيّها النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على علم بالنبوّة والرسالة[3]، ونحن أنزلنا هذا النور على قلبك لتهدي به الإنسانيّة. وهذا المعنى ورد في قوله تعالى أيضاً: ﴿مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ

 

وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾[4].

 

من الواضح أنّ النّبي صلى الله عليه وآله وسلم كان فاقداً لهذا الفيض الإلهيّ قبل وصوله إلى مقام النبوّة، فالله سبحانه أخذ بيده وهداه وبلغ به هذا المقام. وإلى هذا تُشير الآية (3) من سورة يوسف: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾[5].

 

من المؤكّد أنّه لولا الهداية الإلهيّة والإمداد الغيبيّ ما استطاع الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم أن يهتدي المسير نحو الهدف المقصود.

 

من هنا فإنّ المقصود من الضلالة في كلمة “ضالّاً” في الآية ليس نفي الإيمان والتوحيد والطهر والتقوى عن النّبيّ، بل بقرينة الآيات الّتي أشرنا إليها تعني نفي العلم بأسرار النبوّة وبأحكام الإسلام، وتعني عدم معرفة هذه الحقائق، كما أكّد على ذلك كثير من المفسّرين. لكنّه صلى الله عليه وآله وسلم بعد البعثة اهتدى إلى هذه الأُمور بعون الله تعالى[6].

 

النعمة الثالثة: ﴿وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى﴾

لقد جعلناك تستأثر باهتمام “خديجة” هذه المرأة المخلصة الوفيّة لتضع كلّ ثروتها تحت تصرّفك من أجل تحقيق أهدافك، وبعد ظهور الإسلام رزقك مغانم كثيرة في الحروب ساعدتك في تحقيق أهدافك الرساليّة الكبرى.

 

ثمّ في الآيات التالية ثلاثة أوامر تصدر إلى الرسول باعتبارها نتيجة الآيات السابقة. والخطاب وإن كان موجّهاً إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، لكنّه يشمل أيضاً كلّ المسلمين.

 

﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ﴾

“تقهر” من القهر أي الغلبة مع التحقير، وأيضاً تُستعمل في كلّ واحد من المعنيين، ومعنى التحقير هنا هو المناسب.

 

وهذا يدلّ على أنّ هناك مسألة أهمّ من الإطعام والإنفاق بشأن الأيتام، وهي اللطف بهم والعطف عليهم وإزالة إحساسهم بالنقص العاطفيّ، ولذا جاء في الحديث المعروف عن

 

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “من مسح يده على رأس يتيم ترحّماً له، كتب الله له بكلّ شعرة مرّت عليه يده حسنة”[7].

 

كأنّ الله يُخاطب نبيّه قائلاً: لقد كُنت يتيماً أيضاً وعانيت من آلام اليتم، والآن عليك أن تهتمّ بالأيتام كلّ اهتمام وأن تروي روحهم الظمأى بحبّك وعطفك.

 

﴿وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ﴾

“نَهَرَ” بمعنى ردّ بخشونة

وفي معنى “السائل” عدّة تفاسير.

 

الأوّل: أنّه المتّجه بالسؤال حول القضايا العلميّة والعقائديّة والدينيّة، والدليل على ذلك هو أنّ هذا الأمر تفريع على ما جاء في الآية السابقة: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى﴾، فشكر هذه الهداية الإلهيّة يقتضي أن تسعى أيّها النّبيّ في هداية السائلين، وأن لا تطرد أيّ طالب للهداية عنك.

 

والتّفسير الآخر: هو الفقير في المال والمتاع، والأمر يكون عندئذ ببذل الجهد في هذا المجال، وبعدم ردّ هذا الفقير السائل يائساً.

 

والثّالث: أنّ المعنى يشمل الفقير علميّاً والفقير ماديّاً، والأمر بتلبية احتياجات السائل في المجالين. وهذا المعنى يتناسب مع الهداية الإلهيّة لنبيّه صلى الله عليه وآله وسلم، ومع إغنائه بعد عيلولته.

 

﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾.

والحديث عن النعمة قد يكون باللسان، وبتعابير تنمّ عن غاية الشكر والامتنان، لا عن التفاخر والغرور. وقد تكون بالعمل عن طريق الإنفاق من هذه النعمة في سبيل الله، إنفاقاً يُبيّن مدى هذه النعمة هذه هي خصلة الإنسان السخيّ الكريم… يشكر الله على النعمة، ويقرن الشكر بالعمل، خلافاً للسخفاء البخلاء الّذين لا يكفّون عن الشكوى والتأوّه، ولا يكشفون عن نعمه ولو حصلوا على الدنيا وما فيها، وجوههم يعلوها سيماء الفقر، وكلامهم مفعم بالتذمّر والحسرة، وعملهم يكشف عن فقر!

 

بينما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم “إنّ الله جميل يحب الجمال ويحب أن يرى أثر نعمته على عبده”[8].

 

من هنا يكون معنى الآية: بيّن ما أغدق الله عليك من نِعَم بالقول والعمل، شكراً على ما أغناك الله إذ كنت عائلاً.

 

بعض المفسّرين ذهب إلى أنّ النعمة في الآية هي النعمة المعنويّة ومنها النبوّة والقرآن، والأمر للنبيّ بالإبلاغ والتبيين، وهذا هو المقصود من الحديث بالنعمة.

 

ويحتمل أيضاً أن يكون المعنى شاملاً للنعم الماديّة والمعنويّة، لذلك ورد عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام في تفسير هذه الآية قوله: “حدّث بما أعطاك الله، وفضّلك، ورزقك، وأحسن إليك وهداك”[9].

 

وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “من أُعطي خيراً فلم يُر عليه، سُمّي بغيض الله، معادياً لنعم الله”[10].

 

وعن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: “إنّ الله جميل يُحبّ الجمال، ويُحبّ أن يرى أثر النعمة على عبده”[11].

 

المفاهيم الرئيسة

– يتبيّن من الآيات الكريمة في هذه السّورة أنّ النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لا يملك لنفسه شيئاً إلّا من عند الله، وكما تُجسِّد للنّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ثلاث هبات من الهبات الخاصّة الّتي أنعم الله بها عليه: الرعاية عند اليتم، والهدى بالوحي، والغنى بعد الفقر.

 

– تتضمّن هذه السورة المباركة إشارة مضمونيّة إلى مسألة أهمّ من الإطعام والإنفاق بشأن الأيتام، وهي اللطف بهم والعطف عليهم وإزالة إحساسهم بالنقص العاطفيّ.

 

– الإنسان السخيّ الكريم… يشكر الله على النعمة، ويقرن الشكر بالعمل، ويحدّث بها حديث الشكر لا حديث الغرور.

 

 

[1] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 16، ص 136.

[2] سورة يونس، الآية 15.

[3] طبعاً مع الإشارة إلى أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم معصوم منذ الصغر، ولا يغيب عنه شيء، والنبوة والوحي لهما علاقة بعالم الظاهر والإثبات، أمّا في عالم الثبوت فكل شيء موجود لديه.

[4] سورة الشورى، الآية 52.

[5] سورة يوسف، الآية 3.

[6] الشيرازي، ناصر مكارم، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج 20، ص 281.

[7] علي بن بابويه، فقه الرضا، ص 172، تحقيق مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، نشر المؤتمر العالمي للإمام الرضا عليه السلام، ط 1، 1406هـ.

[8] الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج 5، ص 35.

[9] الطبرسي، مجمع البيان، ج 10، ص 507.

[10] تفسير القرطبي، ج 10، ص 7192، وقريب من هذا المعنى في الكافي، ج 6، كتاب الزي والتجميل، ح 2.

[11] الشيخ الكليني، الكافي، ج 6، ص 438.

شاهد أيضاً

كتاب نهج الحق وكشف الصدق للعلامة الحلي

نهج الحق وكشف الصدق / الصفحات: ٣٤١ – ٣٦٠ برأيهما، فمن لا يسمع قولهما في ...