آراء وتحليلات
03/01/2023
أمريكا.. العنصرية بأقبح صورها
د. علي دربج – باحث ومحاضر جامعي
من المتعارف عليه أنه خلال الأزمات أو النكبات والكوارث الطبيعية التي تصيب بلدًا ما في العالم، تزيد اللحمة بين مواطنيه الذين يوجّهون كافة جهودهم ويتنساون حتى خلافاتهم ومشاكلهم الآنية، لمساعدة بعضهم البعض، فيما تتصدر السلطات الرسيمة الدور الطليعي وتقدم نموذجًا لرعاياها في مد يد العون والتخفيف عن المواطنين دونما تمييز بسبب اللون أو الجنس أو الدين أو المذهب أو الطائفة.
لكن في الولايات المتحدة، فإن العكس هو الصحيح. العاصفة الثلجية الأخيرة التي ضربت عددًا من الولايات والمدن الأمريكية في عيد الميلاد، خصوصًا في مدينة بوفالو الأميركية – ووُصفت بأنها الأسوأ والأقوى منذ 45 عامًا حيث بلغت سماكة طبقة الثلج أكثر من 50 بوصة أي 127 سنتيمترًا – أظهرت مجددًا الوجه العنصري القبيح للسلطات الأمريكية بالرغم من الظروف المأساوية الحرجة التي مرّ بها سكان بوفالو، بعدما تقدم العديد منهم بشكاوى مشروعة حول مدى تأثير الطقس والثلوج على السكان السود والبيض، والتمييز والإهمال والاجحاف الذي لحق باصحاب البشرة السمراء في تلك الأوقات العصبية.
كيف تجلّت مظاهر العنصرية في مدينة بوفالو أثناء العاصفة الثلجية؟
تشتهر مدن البحيرات العظمى بالفصل العنصري، كما هي مألوفة للثلج الذي يتساقط فيها كل شتاء. فالمنطقة تتصدر قوائم المدن الأكثر عزلًا في البلاد خصوصًا عندما يتعلق الأمر بالفصل بين السكان السود والبيض. أما أي مدينة هي الأكثر تفرقة؟ فلا يهم. أحيانًا تكون ديترويت، أو ميلووكي، أو شيكاغو، أو كليفلاند. فيما الآخرون في المنطقة الأوسع، ليسوا معفيين من العنصرية مثل مدن: سانت لويس، وإنديانابوليس وسينسيناتي ومينيابوليس، والأهم بوفالو. فجميعهم لديهم موروثات مقلقة مقيتة، من الفصل العنصري. والمفارقة أنهم كلهم يعانون اقتصاديًا نتيجة لذلك.
تقع مدينة بوفالو على مشارف بحيرة إيري قرب الحدود الكندية، وهي من بين أكثر المناطق تضررًا من العاصفة. يشير قادة المجتمع في بوفالو بحسب “واشنطن بوست” إلى أن الأحياء والضواحي في هذه المدينة التي تضم نسبة كبيرة من المواطنين البيض كانت أفضل استعدادًا للعاصفة الثلجية. فغداة حدوث العاصفة، تمت إزالة الجليد من شوارعهم بسرعة أكبر من تلك الموجودة في أحياء السكان السود الذين تُركوا يعانون من تراكم الثلوج في مناطقهم.
المخزي في الأمر أن هذه ليست ظاهرة جديدة في الولايات المتحدة. الحقيقة أنها الطريقة التي تعمل بها العنصرية الهيكلية، يسميها البعض “عنصرية بدون عنصريين”، إذ إنه في العديد من المدن لا تزال أنماط العنصرية الخبيثة – التي تم إنشاؤها خلال القرون الماضية – وتجذرت في نفوس نسبة كبيرة من الأمريكيين، جزءًا لا يتجزأ من البنية التحتية لسلوك السلطة، وما يزيد الطين بلة، أن هذه التصرفات العنصرية تصبح أكثر وضوحًا أثناء الأزمات. وما بوفالو إلا أحدث دليل واضح على هذا التعاطي العنصري الفاضح.
كيف ترسخت العنصرية في مدن البحيرات؟
ترتبط جذور العنصرية في هذه المنطقة بتاريخ وصول الجنوبيين السود إلى المدن الشمالية في أوائل القرن العشرين للبحث عن وظائف صناعية، وهربًا من “قوانين جيم كرو” ـ التي فرضت “فصلًا عنصريًا” بين السود والبيض وكان ابتكرها الديمقراطيون البيض الجنوبيون لحرمان الأميركيين الأفارقة من المكاسب الاقتصادية والسياسية ـ ونتيجة للاجراءات والجهود التي كان يبذلها قادة المدن البيضاء لفرض مسافة بينهم وبين المهاجرين السود.
على مدى عقود، شكلت مجموعة من السياسات كمواثيق الإجراءات التقييدية، والتقسيم الإقصائي للمناطق، والخطوط الحمراء، و”الحظر الشامل”، والإسكان العام، وتطوير الطرق السريعة بين الولايات، مناطق فصل عنصري بين السود والبيض بامتياز في هذه البقعة الجغرافية.
ما يجدر معرفته، أن حزام الصدأ (المنطقة المتداخلة العليا شمال شرق الولايات المتحدة، البحيرات الكبرى، وولايات الغرب الاوسط) ليست الجزء الوحيد من الولايات المتحدة الذي يحتوي على أحياء منفصلة للسود والبيض. إذ كشفت الأزمات المتتالية التي ضربت امريكا، عن تفاوتات مماثلة في الجنوب والغرب، ومنها على سبيل المثال: التعافي غير المتكافئ في هيوستن من إعصار هارفي (بين مناطق السود والبيض)، وأزمة المياه المستمرة منذ عقود في مدينة جاكسون بولاية ميسيسيبي الأمريكية.
ماذا عن الشواهد التاريخية العنصرية الأخرى أثناء العواصف الثلجية في امريكا؟
العنصرية المتضمنة في خرائط المدن والمعاملة غير المتكافئة بين السود والبيض لا سيما خلال الكوارث الطبيعية، لم تظهر بين عشية وضحاها، بالرغم من المكابرة الرسمية وعدم الاعتراف بآثارها وعواقبها وتداعياتها السياسية المدمرة.
لنأخذ مثلًا، ما حدث في شيكاغو قبل 44 عامًا تقريبًا. ففي كانون الثاني/ يناير 1979 ضربت سلسلة من العواصف الثلجية المدينة، وبحلول نهاية الشهر تساقطت ثلوج قياسية بلغت سماكتها حوالي 47 بوصة على الأرض (119 سنتيمترا)، وتحولت بسرعة إلى جليد مضغوط، وشلت نظام النقل بالمدينة.
أكثر من ذلك، تسبب تراكم الثلوج على المسارات في تعطل حركة القطارات مما جعل الخدمة غير متوفرة في أحسن الأحوال. حينها كان هناك خط سكة حديد يعرف باسم خط “دان رايان” وعُدّ الأكثر تضررًا بشكل خاص، وهو أيضًا شريان عبور رئيسي للجانب الجنوبي من المدينة. وفي ذات الوقت، كان متصلاً كذلك بخط ليك ستريت الذي يخدم الجانب الغربي من المدينة.
الأكثر أهمية أن هذين الخطين كانا يربطان أكبر مجتمعات السود في شيكاغو بوسط المدينة.
على اثر ذلك قامت هيئة النقل في شيكاغو التي كانت تكافح لإزالة الثلوج من المسارات بإنشاء خدمة سريعة مؤقتة على مجموعة خط دان رايان لمدة ثلاثة أيام.
اعتبر المسؤولون في شيكاغو هذه الخطوة منطقية، وبرروها بأن إيقاف تشغيل النظام بأكمله حتى ليوم واحد يعني خسارة كبيرة في الإيرادات. لكن الطامة الكبرى أن رئيس البلدية في تلك الفترة، مايكل بيلديتش لم يفكر في الكيفية التي سيرى بها سكان مدينة شيكاغو المشهد، بل تصرف انطلاقًا من خلفيته العنصرية.
ولمدة ثلاثة أيام، شاهد السكان السود في شيكاغو القطارات المليئة بأبناء مدينتهم من أصحاب البشرة البيضاء، فيما السود كانوا محرومين من استخدام وسائل النقل، نتيجة عنصرية رئيس البلدية الفاضحة.
المثير في الأمر أن السكان السود لم يتركوا هذه الحادثة تمر مرور الكرام. ففي أواخر شباط/ فبراير 1979، اقتصّوا من مايكل بيلانديك بعدما صبّوا جام غضبهم في صناديق الاقتراع، ووقفوا خلف المرشحة جين بيرن في الانتخابات التمهيدية لرئاسة البلدية، وطردوا بيلانديك من منصبه. وبهذا يمكن القول أن الحركة التي انتخبت في النهاية هارولد واشنطن، كأول عمدة أسود لشيكاغو في عام 1983، بدأت مع العواصف الثلجية عام 1979.
في المحصّلة، من الواضح أن الدعم غير المتكافئ للأحياء السوداء والبيضاء ليس مشكلة بوفالو وحدها. ولا يمكن حلها ببساطة عن طريق انتخاب القادة السود. إذ يشغل بوفالو منصب رئيس بلدية أسود، بايرون براون منذ عام 2006.
ليس هذا فحسب، فقد تعلم الناخبون السود منذ فترة طويلة أن حل مشكلة نظامية يتطلب أكثر بكثير من تغيير من هو في المنصب. فبرأيهم سيتطلب القضاء على العنصرية الهيكلية اعترافًا فرديًا بآثارها، وتحولًا عميقًا على مستوى المجتمع في التفكير والتخطيط الحضري، وقادة يمكنهم توجيه مدنهم نحو الإنصاف والشمول، وهو ما يفتقدونه حتى هذه اللحظة.