40 ـ الجهلُ وتبدّل القيم:
(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرُهٌ لَكُمْ وَعَسى اَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لكم وَعَسى اَنْ تُحبُّوا شَيْئاً وَهُو شَرٌّ لَكُمْ وَالله يَعْلَمْ وَاَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)
(البقرة / 216)
إنَّ نشاطات الإنسان متّجهة دائماً نحو القيم التي يعتقد بها. وتمييز القيم له دور أساسي في تبلور وحياد نشاطات الإنسان وفعالياته.
فالجهلُ وعدم المعرفة قد يؤدي به الى الوقوع في الخطأ عند تمييز (القيم) عن (أضدادها)، أي أنْ يعلم ما هو عامل التقدّم والخير والبركة، ويُميِّزهُ عن عامل التراجع والشرّ والشقاء.
إن الآية السابقة تقول: إن للجهاد في سبيل الله قيمة ـ أي عامل للعزة وصيانة ماء الوجه والفخر والموفقية ـ، لكنكم تكرهونه لجهلكم وعدم معرفتكم بآثاره، وتعتبرون السكوت وترك الجهاد قيمةً وعاملا للسلامة والسعادة، مع انه
عامل شقائكم.
وعلى هذا، فالجهل هو منبع الخطأ في تمييز القيم، وهو عامل اتخاذ المواقف غير الصحيحة والخطأ تجاه القضايا المختلفة والحوادث المتنوعة في الحياة وعامل للافراط والتفريط(1).
استخلاص واستنتاج:
إن المستخلص من البحوث القرآنية السابقة والمدرجة تحت أربعين عنواناً (لا ندعي تحديدها بهذه العناوين أبداً) والحاثّة على طلب العلم والمعرفة، هو اهتمام القرآن والاسلام البالغ تجاه مسألة المعرفة في جميع المجالات، سواء في مجال معرفة الذات الربانية وصفاته، أو في مجال معرفة العالم والسماوات والأرض وجميع الكائنات والإطّلاع على أسرار المخلوقات الأرضية والسماوية الطبيعيّة أو ما وراء الطبيعة، ومعرفة النفس والإِلمام بمختلفِ العلوم.
ومن تحقيق الآيات السابقة نستخلص بوضوح الأُمور التالية:
1 ـ إنَّ طريق العلم والمعرفة مفتوح للناس كافة، وكلٌّ حسب استعداده
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – يقول الامام علي (عليه السلام): «لا ترى الجاهل إلاّ مفْرِطاً أو مُفَرِّطاً». (نهج البلاغة الكلمات القصار، الجملة رقم 70).
[87]
وسعيه يستطيع أن يطوي ما أمكنه منه، وإلاّ فالدعوة للعلم مع التأكيد على أهميته لا معنى لها.
2 ـ إنَّ قيم البشر لها علاقة مباشرة بمقدار معرفتهم لله وأسرار عالم الوجود.
3 ـ إنَّ أكبر مفخرة وموهبة للانسان هو قابليته للمعرفة أكثر فأكثر بالرغم من ضعفه الجسماني.
4 ـ إنَّ طريق العلم هو طريق الانتصار والغلبة على مختلف المشاكل: وهو طريق تزكية النفس.
5 ـ مقارعة الشقاء ومختلف المفاسد يحتاج الى العلم والمعرفة قبل أي شيء آخر.
نؤكد أنَّ هذه الآيات نزلت في زمان خيمت عليه غيوم الجهل السوداء، وغطت أفق المنطقة بل العالم ظلاماً، في حين أن شمس العلم قد غابت والناس
في أمواج الجهل غارقون.
حقاً إنَّه لشيءٌ عجيب أن تسنَّ تعاليم بهذا المستوى العالي في بيئة كهذي، وإن هذا دليل حيٌّ على حقانية القرآن، حيث انَّ إنساناً أمياً كان رسولا لمدرسة
كهذه.
إنَّ الملفت للنظر هو عثور بعض المحققين على سبعمائة آية تتحدث عن العلم والمعرفة وأرضياتها ومصادرها، وبالقياس الى آيات الاحكام والتي تقدر بخمسمائة آية، نستطيع ان نستنتج أن القرآن أولى أهمية كبرى للعلم والمعرفة فاقت الأهمية التي أَوْلاها للأحكام الشرعية.
* * *
إيضاحات:
1 ـ إمكانية المعرفة من وجهة نظر فلسفية:
[88]
إنَّ وجود عالم خارج الذهن أمر مسلم به لا يستدعي بحثاً، ويعترف بهذا عملياً حتى السوفسطائيون أو المثاليون الذين ينكرون وجود الأعيان الخارجية.
لكن البحث ينصب في هل من سبيل الى معرفة هذه الواقعيات؟
واذا كان الجواب بالايجاب فما هي سُبُل المعرفة ووسائلها؟
* * *
ما هي شروط الوصول الى المعرفة؟
وبتعبير آخر، هل يمكن تبديل الواقعيات الخارجية الى حقائق ذهنية، أي انعكاس ما في الخارج عيناً في الذهن صورة ام لا؟ إنَّ جميع تعاريف المعرفة والنزاع فيها ترجع الى هذه النقطة(1).
ومن جهة اخرى فانّ جذور جميع العلوم والفنون البشرية ترجع الى الاجابة عن هذا السؤال.
وبالرغم من أن أغلب الفلاسفة (سواء الماديين منهم أو الالهيين) يؤيدون امكانية معرفة الواقعيات الخارجية، إلاّ ان البعض منهم لا يعتقد بامكانيتها، وقد ذكرت أربعة أدلة لاثبات مرادهم:
1 ـ إن الحواس هي أهم وسائل المعرفة، والبصر يقع في الدرجة الاولى من حيث الأهمية، لكننا نجد الكثير من الأخطاء تصدر عن هذه الحاسة!
إنَّ الشهاب المشتعل نراه في المساء كخط النور الممتد، بينما هو نقطة ضوئية متحركة لا أكثر!
وإذا كنّا نمشي في شارع مُشجّر الطرفين، وابتعدنا عن الأشجار رأيناها تقترب من بعضا البعض، وتتصل وتشكل زاوية في نقطة بعيدة عنّا بينما الاشجار لم تلتقِ على طول الطريق ولم تُشكل أية زاوية، والفاصلة بينها متساوية في جميع
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – وعلى هذا يكون تعريف المعرفة عبارة عن: تبديل الواقعيات الخارجية الى حقائق ذهنية، وانعكاسها في مرآة الذهن كما هي.
[89]
نقاط الشارع.
وإذا كانت احدى يديك باردة والاخرى حارة ووضعتهما في ماء دافيء، فانك نحس بالحرارة باليد الباردة، وبالبرودة باليد الحارة، فيرتسم في الذن إحساسان متضادان اتجاه الماء في آن واحد.
ولدينا الكثير من الأمثلة عن حاسة البصر وبقيّة الحواس (اللامسة وغيرها).
ومع وجود هذا النقص فكيف نعتمد على حواسنا؟! بل إنَّ عالم الخارج يمكن أن يكون وهماً او ما يرى عند النوم لا أكثر، وهل أن ما نراه في المنام ونعتبره حقيقة في ذلك الحين، له حقيقة؟
2 ـ نحن لا نكاد نجد اثنين من العلماء أو المفكرين في هذا العالم يتفقان في جميع المسائل، وما هذا التضاد والاختلاف إلاّ دليلا على فقداننا الطريق الذي يهدينا إلى معرفة الحقائق.
لأن ما رأه واقعاً عينياً قد يكون برأي الآخر وهماً وخيالا لا أكثر وكذا العكس.
وحتى الانسان الواحد قد تتغير رؤيته وأفكاره تحت ظروف مختلفة، وهذا يزلزل أسس قضية المعرفة.
3 ـ إن الموجودات في العالم كلها في حركة مستمرة، وينتج عنها تحول الموجودات حتى افكارنا ومعارفنا وعلومنا في هذه الحركة.
ومع هذا، فكيف يمكن أن تحصل لنا معرفة صحيحة اتجاه الاشياء والعلاقات بينها، مع أن المعرفة تستدعي ملاحظة أمرِ ثابت.
4 ـ نعلم أن العالم له نظام موحد ومترابط، ومعرفة الجزء لا يمكن أن تنفصل عن معرفة الكل، وعليه، فان فقدان حلقة من السلسلة المترابطة للعالم يُخلّ بمعرفتنا ويحول دون معرفة أي جزء منه.
[90]
ومن جهة اخرى فان الواقعيات المحال إدراكها للبشر كثيرة ولا يقد عددها بانلظر إلى حجم المعلومات الضئيلة.
وعلى هذا، فكيف يمكن لنا أن نعد معرفة العالم أمراً ممكناً؟ إذن يجب الاعتراف بأن ما في أذهاننا هو تصورات لها قيمة علمية فقط، وليست لها أية قيمة واقعية.
* * *
الجواب:
يمكن الاجابة على هذه الاستدلالات بثلاث طرق:
1 ـ إن جميع منكري إمكانية المعرفة عند استدلالهم وكتابتهم لأدلة النفي بأقلامهم، يذعنون لِمئاتِ من الامور الواقعية لكنهم يتزعمون الحرب ضد مسألة المعرفة بالاستعانة بمعرفته بهذه الامور. فالقلم، والورقة، والخطوط والكلمات، وصيغ الجمل، وجهاز الطبع، والتوزيع، والكتاب، والمكتبة، وكلٌّ من المخالفين لنظريتهم، والامواج الصوتية، ومخارج الحروف، والنور والضياء، والتأثير بأفكار الآخرين، فهم يذعنون لجميع هذه الواقعيات.
نعم، إنهم نصبوا العداء للمعرفة بالمعرفة، إنهم استعانوا بالمعارف السابقة لنفي المعرفة، يا له من خطأ!! (دققوا).
2 ـ إنَّ خطأهم الكبير هو عدم تمييزهم بين مسألة كون معرفة الانسان محدودة وبين أصل مسألة المعرفة. فأن استدلالاتهم لا تنفي اماكنية المعرفة مطلقاً، غاية الامر أنها تثبت أنّ معرفة الانسان محدودة أو مقرونة بالاخطاء أحياناً.
أَجَل، لا يمكنهم انكار وجود «الشهاب» بل إن ما يقولونه في هذا المجال هو أن الخط النوراني الذي نراه ليس خطاً نورانياً بل نقطةٌ نورانيةٌ، والتصور الخاطىء هذا نشأ عن خطأ في حاسة البصر، إذ ليس الخطأ في وجود نفس الشهاب بل في تصور خط ممتد ملتهب.
[91]
كما أن الخطأ ليس في نفس وجود الشارع والاشجار على طرفيه بل الخطأ في أن الاشجار كلما ابتعدنا عنها اقتربت من بعضها البعض في أبصارنا، وكذا الأمر بالنسبة للماء الدافيء، فليس الخطأ في نفس وجود الماء ودرجة حرارته المعنية، بل في تمييز درجة الحرارة.
ولكنا ـ كما سبقت الاشارة ـ لا ندعي إدراكنا لجميع حقائق الوجود، كما
لا ندعى أن معرفتنا منزهة عن أي خطأ بل ما نريد اثباته هو امكانية المعرفة على سبيل القضية الجزئية، وقد نشأ خطأهم من هنا.
واللطيف هو أن ما ذكره مخالفو إمكانية المعرفة من أدلة يمكن أن يستخدم كدليل ضدهم، لأنهم عندما يبحثون مسألة خطأ الحواس، فان ما مفهومه ادعاؤهم أن هذه الحقيقة اكتشفناها بخواسنا الاخرى او بطرق عقلية، فندرك خطأ الحاسة المعيَّنة في ذلك المورد، وهذا عين اعترافهم بصحة بعض المعارف.
فعندما نقول مثلا: إن الخط الملتهب الممتد الذي نراه عند ظهور الشهاب في السماء خطأٌ، فذلك بسبب إنا لاحظنا بحواسنا الاخرى إنَّ الشهاب قطعة حجر تحترق عند وصولها الى الأرض وذلك لسرعتها واحتكاكها بطبقة الهواء، وعندما تلوح لنا كالنقطة النيرة، وبما أنها تتحرك بسرعة هائلة فتخطأ العين في التمييز ونراه خطاً ممتداً وملتهباً، مستقيماً او منحنياً.
كذلك الأمر بالنسبة للخطين المتوازيين عندما نراهما متقاطعين من بعيد، بينما رأيناهما من قريب متوازيين فعند مقارنة المعلومات التي حصلنا عليها من بعيد ومن قريب نعترف بخطأ ابصارنا من بعيد.
إذن يجب القول بأن أي حكم بخطأ بعض المعلومات، دليل على معرفة كثير من الحقائق (دقّق).
3 ـ إنهم في الحقيقة لم يميزوا جيداً بين «البديهيات» و«النظريات» ولا بين ا«المعرفة الاجمالية» و«المعرفة التفصيلية» ولا بين «الامور المطلقة» و«الامور النسبية»، ولأجل عدم معرفتهم الدقيقة وتميزهم لهذه المواضيع الثلاثة وقعوا فيما
[92]
وقعوا فيه من خطأ.
* * *
إيضاح:
إن هناك حقائق لا يشك بها أحد إلاّ السوفسطائيين (وكما قلنا سابقاً نهم ينكرون الحقائق بالسنتهم ويعتقدون بها في قلوبهم وهي الحقائق التي لا حاجة لها الى التفكير. فالكل يعرف مثلا أن اثنين زائداً اثنين يساوي أربعة، وأنه لا يمكن أن يحصل الليل والنهار أو الصيف والشتاء في آن ومكان واحد. أو أو شخصاً واحداً يكون في مكة والمدينة في آن واحد وحتى اولئك الذين يعدّون اجتماع النقيضين او الضدين ممكناً، فانهم يتلاعبون بالالفاظ فقط، ويذعنون لهذه الحقائق قلبياً، فمثلا بالنسبة لـ «اجتماع الضدين» يقولون بامكان أن يكون الجو ممطراً في ساعة ومشمساً في ساعة اخرى، إذن اجتماع الضدين أمر ممكن. أما إذا سألناهم هل يمكن أن يكون الجو ممطراً ومشمساً في ساعة ومكان واحد؟ فسيجيبون: لا.
وفي مقابل هذه المعلومات البديهية هناك قسم آخر من المعلومات وهي «المعلومات النظرية» التي تحتمل الخطأ والترديد، وما ذكره المنكرون من عدم امكانية المعرفة فانه يتعلق بهذا النمط من المعلومات.
كما ان هناك مجموعة من الحقائق مطلقة ولا نسبية فيها كالامثلة السابقة (العلاقات الرياضية بين الاعداد وامتناع اجتماع النقيضين والضدين).
ولكن لا يمكن انكار أن هناك مجموعة من المفاهيم النسبية التي تتغير بتغير لظروف، فمثلا الحرارة والبرودة أمران نسبيان، فكل شيء حرارته أكثر من حرارة جسم الانسان فهو حار، وكل شيء حرارته أقل من حرارة جسم الانسان فهو بارد، فاذا ما تغيرت درجة حرارة أجسامنا تتغير مفاهيم الحرارة والبرودة عندنا، ولهذا قد يجلس شخصان في غرفة يشعر أحدهما بالبرودة فيطلب بتشغيل المدفئة والآخر يشعر بالحرارة فيطلب بفتح الأبواب.
[93]
بالطبع، في هذا المجال يوجد حقيقتان وهما درجة الحرارة الجسم ودرجة
حرارة الغرفة وتصورنا عن الحرارة والبرودة ينشأ عن المقارنة بين هاتين الحقيقتين فيختلف الحكم اتجاه المسألة.
كما ان في العالم حقائق ثابتةٌ وحقائق متغيره، والأمثلة التي ذكرناها سابقاً وما شابهها تدخل تحت عنوان الحقائق الثابتةِ، وحتى الماركسيون القائلون بتغير وتبدل الحقائق في العالم يستثنون حقيقة التحول والتغير كقانون ثابت، ويعتقدون أن كل ما في العالم في تحول وتغيّر مستمر إلاّ نفس قانون التحول ولاتغير فانه ثابت دائماً (بالطبع هناك مجموعةً اخرى من القوانين يفرضون ثباتها اضافةً الى هذا القانون).
وإذا تجاوزنا الأمر السابق فان هناك «معرفةً اجماليةً» ومعرفةً تفصيليةً» هناك حقائق لا نعرف عنها إلا شيئاً اجمالياً، فلا معرفة لنا بخصائصها وعلاقاتها بالأشياء الاخرى في العالم تفصيلا، لكن عدم معرفتنا التفصيلية عنها لا يعني عدم معرفتنا شيئاً عنها ولو اجمالا.
فمثلا العين جزء من الجسم، وما لم نعرف الجسم بجميع اعضائه جيداً لا نتمكن من معرفة علاقة العين باعضاء السم الاخرى.
لكن عدم معرفتنا للعين تفصيلا لا يمنع من معرفتنا لها اجمالياً وآنهاتقع في الرأس وتحت الجبين، ولها سبع طبقات، وكل طبقة مهمة خاصة بها، وفائدتها رؤية المناظر واللقطات المتنوعة.
وبالنظر لما تقدم يتضح أن أدلة المخالفين لنظرية المعرفة نشأ من عدم دقتهم في التقسيمات السابقة، فعندما يقولون: إن العالم كتلة واحدة، وعدم معرفتنا لمفردة من مفرداته يفقدنا المعرفة بأي جزء منه، إن قولهم هذا خلطٌ في الحقيقة بين المعرفة التفصيلية والاجمالية. لأنا إذا أردنا معرفة جزء ما في العالم بجميع علاقاته بباقي اجزاء العالم يجب علينا معرفة جميع أجزاء العالم بدقة، فهذه معرفة
[94]
تفصيلية، بينما المعرفة الاجمالية لا تستدعي ذلك كله، ومعرفتنا للارض والسماء وافراد البشر والكائنات التي من حولنا هي كلها من هذا القبيل(1).
وهناك ايضاحات اكثر في هذا المجال سنقرؤها في الفصل اللاحق ان شاء الله تعالى.
* * *
2 ـ العلم البشري المحدود:
1 ـ (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ اَمْرِ رَبِّي وَما اُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ اِلاّ قَليلا)
(الاسراء / 85)
2 ـ (وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذَا تَكْسِبُ غداً وَما تَدْري نَفْسٌ بِاَيِّ اَرْض تَمُوتُ)
لقمان / 34)
3 ـ (وَاِنْ مِنْ شَىْء اِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبيحَهُمْ)
(الاسراء / 44)
4 ـ (وَعَسى اَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى اَنْ تُحبّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَالله يَعْلَمُ وَاَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)
(البقرة / 216)
5 ـ (لَخَلْقُ السَّمواتِ وَالاَْرْضِ اَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النّاسِ وَلكِنَّ اَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ)
(غافر / 57)
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – قد يقال ان منكري المعرفة لا ينكرونها كلياً، وعلى هذا فانلزاع بينهم وبين المؤيدين لنظرية المعرفة يكون نزاعاً لفظياً.
[95]
6 ـ لا تَدْري لَعَلّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ اَمْراً)
(الطلاق / 1)
7 ـ (قُلْ لا اَمْلِكُ لِنَفْسي نَفْعاً وَلا ضَرّاً اِلاّ ما شآءَ الله ولو كنت اعلم الغيب لاَسْتَكْثَرتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ)
(الاعراف / 188)
8 ـ (آبائُكُمْ وَاَبْنائُكُمْ لا تَدْرُونَ اَيُّهُمْ اَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً)
(النساء / 11)
9 ـ (وَلَوْ اَنَّ ما في الاَرْضِ مِنْ شَجَرَة اَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةَ اَبْحُر ما نَفِدَتْ كَلِماتُ الله اِنَّ الله عَزيزٌ حَكيمٌ)
(لقمان / 27)
* * *
شرح المفردات:
إنّ كلمة «روح» ـ وكما جاء في مقاييس اللغة ـ في الأصل اشتقت من مادة «ريح» ويطلق على التنفس كذلك، وبما أن هناك علاقة وثيقة بين التنفس وبقاء الحياة ونفس الانسان استعملت الروح بمعنى النفس، ومن ثم بمعنى تلك الحقيقة المجردة التي يتوقف بقاء الانسان عليها.
إنّ «روْح» على وزن (لَوْحَ) تعني النسيم البارد، وكذلك اللطف والرحمة،
ومنه اشتُقّت كلمة «الرائحة» و«المروحة».
وَإنّ كلمة «تفقهون» مشتقة من مادة «فقه» وقد جاء ـ كما في لسان العربـ بمعنى الاطلاع على شيء وفهمه، لكنها تطلق اطلاقاً خاصاً على علم الدين (او علم الاحكام)، وذلك لرفعة واهمية هذا العلم. إن الراغب في مفرداته يقول: «الفقه يعني الاطلاع على شيء خفي بواسطة الاطلاع على أمر ظاهر ومكشوف» وعلى هذا مفهومه أخص من مفهوم العلم.
[96]
وَمعنى كلمة «غَيْب» ـ وكما جاء عن ابن منظور في لسان العرب ـ هو «الشك» ويطلق على كل شيء خفي عمله عن الانسان. (ولعل ذلك بسبب أن الاشياء الخفية غالباً ما تقع مجلا الشك). يقول الراغب عند تفسيره لجملة «يؤمنون بالغيب»: إن الغيب شيء خارج عن دائرة الحس والعقل الابتدائي
ويعرف بواسطة إخبار الانبياء.
وكلمة «نفدت» أُخذت من مادة «نَفَدَ» على وزن (حَسَدَ)، «والنفاد» كما يستخلص من المفردات ولسان العرب ـ يعني الفناء والدمار، و«مُنَافِد» تُطلق على الشخص القوي للغاية في استدلالاته بحيث يدحض جميع حجج خصمه. و«نفاد» جاءت بمعنى نضوب ماء البئر.
* * *
جمع الآيات وتفسيرها:
كان عدد من المشركين أو أهل الكتاب يسألون النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) عن «الروح»، فكُلفَ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وكما جاء ذلك في الآية الاولى ـ أن يجيبهم بأن «الروح» من أمر ربي ويضيف لهم بأنهم ما أُوتوا من العلم إلاّ قليلا، ولهذا فلا قابلية لهم لاستيعاب حقيقة «الروح»(1).
وفي هذه الآية اشارة واضحة الى كون العلم البشري محدوداً (بناءً على أن المقصود من الروح فيها هو روح الانسان) وذلك لأن الانسان ما استطاع الاحاطة علماً بشيء هو أقرب إليه من الحقائق والموجودات في الكون وأن ما يعرفه عنهما هو معرفة سطحية واجمالية، فكيف يمكنه معرفة حقائق العالم الاُخرى؟!
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – إن جملة «ما أُوتيتم من العلم إلا قليلا» فُسّرت من قبل اغلب المفسرين بكونكم أُوتيتم قليلا من العلم، إلاّ أن البعض فسرها بأن قليلا منكم أُوتي علماً. إلاّ أن هذا التفسير الاخير يتنافى مع ظاهر الآية التي تجعل المشركين وأهل الكتاب السائلين عن الروح في مخاطباً لها (دققوا).
[97]
* * *
إن الآية الثانية والتي هي آخر آية من سورة لقمان، تكشُف عن علوم خاصة بالله تعالى وأشارت الى خمسة علوم: قيام القيامة ونزول المطر والجنين الذي في رحم الاُم والحوادث المستقبلية التي تتعلق بأعمال الانسان والبلد الذي يموت فيه الانسان. وقد أُشير الى هذه العلوم الخمسة في الروايات تحت عنوان «مفاتيح الغيب الخمسة» التي لا يعرف عنها أحد إلاّ الله(1).
وقد يعلم الانسان كليات عن هذه الأمور بالاستعانة بالقرائن، إلاّ أن الجزئيات لا تتضح لأحد أبداً، فلا يعلم ـ مثلا ـ ما هي قابليات الجنين الجسمية والروحية وهل هو جميل أم قبيح وانه سليم أم سقيم، وحتى جنسه (المذكر والمؤنث) لا يمكنه معرفته إلى مراحل متأخرة من حياته في الرحم.
إنَّ القرآن يخاطب الانسان في هذه الآية ويقول: يا أيها الانسان انك لا تعلم عن غداك شيئاً ولا تعلم في أي أرض تموت، وعليه فكيف تتوقع أن تعرف عن جميع مافي العالم وعلمك محدود؟!
* * *
وقد تحدثت الآية الثالثة عن تسبيح جميع الكائنات لله، فجميعهاـ بلسان حالها وبالنظام الدقيق والعجيب الذي يهيمن عليها ـ تحمد وتثني على الله وتشهد بنزاهته عن أي نقص وعيب، وتملأ العالم بلسان حالها ـ أو بلسان قالها اضافة الى لسان حالها ـ بهمهمة التسبيح والتحميد، وكل ذرة في هذا العالم بلا استثناء لها عقل وعرفان وشعور خاص بها، تحمد الله وتثني عليه بمعرفة، وقد شرحنا هذين الرأيين في تفسير الأمثل(2).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – مجمع البيان المجلد الثامن، ذيل الآية (34) من سورة لقمان.
2 – في ذيل الآية (44) من سورة الاسراء، (الجزء 12 الصفحة 133).
[98]
وعلى أي حال، فانا لا نستطيع فهم لسان حال الموجودات لأننا لا نعرف كل شيء عن أسرار هذا العالم ونظامه، كما لا نستطيع فهم لسان قالها أيضاً.
وعلى هذا، فالعالم مليءٌ بالهمهمة والألحان الالهية ونحن غافلون عن ذلك لأننا لا نحط به خبراً، وهذا دليل واضح على كون علمنا البشري محدوداً.
* * *
وتحدثت الآية الرابعة عن «الجهاد» وتقول للذين يكرهون الجهاد: أنتم تجهلون «الخير» و«الشر» ولا تميزون بينهما، فانكم أحياناً ما تكونون في حرب مع مصالحكم وقد تتقدمون نحو الشر حبّاً ورغبةً فيه، وهذا دليل واضح على علمكم المحدود حيث انكم لا تميزون احياناً بين ما هو شرٌ لكم عمّا هو خيرٌ لكم، إلاّ أن الله يعلم ذلك وقد اوضح بواسطة الوحي (الذي هو أحد مصادر المعرفة) وبيّنَ لكم ما فيه خير وما فيه شر.
إن الآية الخامسة مع إشارتها إلى عظمة خلق السموات والارض وبيانها لحقيقة أن خلقهما أعظم وأهم من خلق الانسان، أشارت الى عدم معرفة أكثر الناس لهذه القضية، هذا في الوقت الذي كانت فيه معلومات الانسان بصورة عامة والحجاز بصورة خاصة اتجاه خلق السموات والارض محدودة، ولعلهم كانوا يتصورون النجوم آنذاك مسامير فضية في سقف السماء، واليوم حيث توسعت معلوماتنا اتجاه خلق السموات والارض، فان معلوماتنا لا زالت محدودة.
* * *
والآية السادسة بعد أن أشارت إلى قضية الطلاق والعدّة وضرورة بقاء المطلقة في بيت الزوج عند اعتدادها بالعدة الرجعية، تقول: قد يحدث الله أمراً جديداً في هذه الأثناء أي اثناء مجاورتها لزوجها السابق الأمر الذي قد يؤدي الى الصلح بينهما.
والملفت للنظر هنا هو أن مخاطب الآية نفس الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فاذا كان
[99]
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مع علمه الواسع يُخَاطَب بخطاب كهذا فما حال باقي أفراد البشر؟!
وهذا دليل على قصور العلم البشري الى مستوى بحيث لا يستطيعون أن يعلموا بمستجدات يومهم اللاحق.
* * *
وفي الآية السابعة يؤمر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن يقول: إني لا أملكُ لنفسي نفعاً ولا ضرّاً، وأن يعترف:
إنّي لا أعلمُ الغيب (إلا ما علمني الله) واني لو كنت أعلمُ الغيب لاستكثرت وازددتُ من الخير لنفسي وما مسني ضرٌّ وما حصلت لي مشكلةٌ.
إن هذا الحديث قاله الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما كان أهل مكة يسألونه عمّا اذا كان يوحى إليه فلِمَ لا يعلم ما سيؤول إليه امر ارتفاع وآنخفاض اسعار السِّلع او الجفاف وهطول الغيث في المناطق المختلة كي تستزيد من الخير وتنتفع أكثر، فأجابهم: إنّ عالم الغيب هو الله وهو صاحب العلم غير المحدود.