الرئيسية / القرآن الكريم / نفحات من القران

نفحات من القران

والمراد بـ: «ما كنت تدري ما الكتاب» هو أن الرسول لم يكن عارفاً
بمحتوى الايات قبل البعثة، وهناك شواهد تاريخية وروايات تكشف عن سبق معرفته بالله للبعثة.
وعلى أية حال ان هذا تأكيد آخر على قبول «الوحي» كأهم مصدر للمعرفة، لأن القرآن عُدَّ هنا «روحاً و«نوراً» و«هداية».
* * *
والآية الثامنة بعد ما تجاوزت نبوة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) أشارت الى الانبياء من قبله وقالت: (وَما اَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ اِلاّ رِجالا نُوحِي اِليهِمْ فاسْئَلوا اَهْلَ الذِّكْرِ) فاهم على ارتباط وعلم بمنبع المعرفة هذا.
* * *
وتحدثت الآية التاسعة عن «البينات» ونزول الكتب السماوية وقوانين الحق والعدالة على الرسل، وقالت: إِنّا أنزلنا الرسل وزودناهم بمعاجز من جهة، وبكتب وقوانين حقة من جهة اخرى لكي يقوم الناس بالقسط والعدول عن الظلم، وهذه كلها امو ملهمة من مصدر الوحي.
* * *
وقد تحدثت الآية العاشرة عن انزال «الذكر» أي الآيات التي تكون سبباً لتذكر
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – يقول الراغب: «سمي روحاً لكونه القرآن سبباً للحياة الاخروية».
[203]
الناس ووعيهم، كما أن الله يعد الناس في هذه الآية بحفظ هذه الآيات من أي نقص او تحريف فالوحي ـ إِذن ـ هو عامل يقظة الناس، وبما أن الله له حافظ، فسيحتفظ الوحي كمصدر مهم أو أهم للمعرفة.
* * *
وتقول الآية الحادية عشرة: (قَدْ بَيَّنا لَكُمُ الآياتِ اِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) وهذا دليل واضح على أن الآيات الالهية سبب ليقظة العقول ونشاطها.
* * *
واخيراً، وقد تحدثت الآية الثانية عشرة عن تكليم الله لموسى(عليه السلام)، وقد كان الكلام هذا مصدراً لمعرفة موسى الالهية، وهو نوع من الوحي.
هذه نماذج من آيات القرآن التي صرحت ـ رافعةً لأي ابهام وشبهة ـ بأن الوحي مصدر أساس للمعرفة.
هذا في وقت ينكر فيه الفلاسفة الماديون هذا المصدر على الاطلاق، ويفسرونه بتفاسير نقرؤها في البحوث القادمة.
وبعد نما اتضح أصل هذا المصدر، ونذهب الى قضايا مختلفة تحوم حوله.
* * *
إيضاحات:
1 ـ أقسام «الوحي» في القرآن المجيد:
لقد استعملت مفردة «الوحي» في القرآن المجيد في عدة معان، بعضها تكوينية واخرى تشريعية، وبصورة عامه فانها مستعملة في سبعة معان:
1 ـ «الوحي التشريعي» وهو الذي يهبط على الرسل، وقد جاءت في أول البحث نماذج من الآيات التي استعملت فيها هذه المفردة بهذا المعنى.
[204]
2 ـ «الالهامات التي توحى لغير الانبياء» كما هو الأمر بالنسبة لأم موسى (وَاَوْحَيْنا اِلى اُمِّ مُوسى اَنْ ارْضِعِيهِ…) (القصص / 7).
وهناك إلهام يماثل هذا إلاّ انه يختلف عنه شكلياً، كالذي حدث لمريم،
حيث تمثل لها الوحي وبشرها بولادة عيسى (مريم / 17 ـ 19).
3 ـ «وحي الملائكة» أي الخطابات الالهية التي توجه إِليهم، كما جاء ذلك في سورة الأنفال الآية: (اِذْ يُوحي رَبُّكَ اِلى الْمَلآئِكةِ اِنِّي مَعَكُمْ فَثبّتُوا الّذِينَ
آمَنوا).
4 ـ (الخطاب مع الاشارة» كما جاء ذلك في حديث زكريا مع قومه: (فَخَرَجَ عَلى قَومِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَاوحى اِلَيْهِم اَنْ سَبِّحوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً) (مريم / 11).
5 ـ (الالقاءات الشيطانية الغامضة» كما جاء في الآية: (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبيّ عَدُوّاً شَياطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحي بَعضُهُمْ اِلى بَعْض زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً)(الانعام / 112).
6 ـ «تقدير القوانين الالهية في عالم التكوين» كما في الآية: (وَاَوْحى فِي كُل سَماء اَمْرَها) (فصلت / 12).
وما جاء في شهادة الارض يوم القيامة: (يَومَئِذ تُحَدَّثُ اَخْبارَها بِاَنَّ رَبَّكَ اَوْحى لَها) (الزلزال / 5) قد يكون تلميحاً لهذا المعنى من الوحي.
وقد جاءت مفردة الوحي بمعنى «خلق الغرائز» كما في الآية: (وَاَوْحى رَبُّكَ اِلَى النَّحلِ اَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَجَرِ وَمِمّا يَعْرُشُون)
(النحل / 68)
ومن جهة اخرى فان هبوط الوحي على الرسل جاء على أربع صور على الاقل، كما جاء ذلك في القرآن المجيد، وهي:
1 ـ صورة ملك يشاهده الرسول.
2 ـ وسماع صوت الوحي دون رؤيته.
3 ـ وفي صورة إِلهام قلبي.
[205]
4 ـ وفي صورة رؤيا صادقة، كما جاء ذلك في قصة ابراهيم(عليه السلام) عندما أمره
الله أن يذبح ابنه اسماعيل (الصافات / 102)، أو ما حصل للرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)عندما بشره الله ـ بالرؤيا ـ بدخول المسلمين الكعبة آمنين (الفتح / 27).
وقد جاء في رواية أن أحد الصحابة سأل الرسول: كيف ينزل عليك
الوحي؟
فأجابه الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم): «يأتيني احياناً مثل صلصلة الجَرس، وهو أشدُّهُ عليّ، فيفصم عني وقد وعيتُ ما قال، وأحياناً يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول»(1).
وفي حديث آخر عن الامام الصادق(عليه السلام) قال:
الانبياء والمرسلون على اربع طبقات: فنبيّ منبّأ في نفسه لا يعدو غيرها، ونبي يرى في النوم ويسمع الصوت ولا يعاينه في اليقظة، ولم تبعث الى أحد وعليه إمام مثل ما كان ابراهيم على لوط(عليه السلام) ونبيٌّ يرى في منامه ويسمع الصوت ويعاين الملك، وقد أرسل الى طائفة قلّوا أو كثروا كيونس(عليه السلام) … والذي يرى في نومه ويسمع الصوت ويعاين في اليقظة وهو إمام مثل اولي العزم وقد كان ابراهيم(عليه السلام)نبياً وليس بإمام حتى قال الله (اني جاعلك للناس إماماً قال: ومن ذريتي فقال الله: لا ينال عهدي الظالمين» من عبد صنماً أو وثناً لا يكون إماماً)(2).
* * *
2 ـ ما هي حقيقة الوحي؟
لقد قرأنا وسمعنا الكثير عن حقيقة الوحي، لكن رغم ذلك كله، فان معرفتنا لحقيقته غير ممكنة، لعدم ارتباطنا بهذا العالم الغامض، وحتى لو فسره لنا الرسول بنفسه، فانه لا ينطبع شيء في أذهاننا عنه سوى شبح.
ومثلنا كمثل الأعمى منذ الولادة الذي يريد تصوير أشعة الشمس الجميلة،
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – بحار الانوار الجزء 18 الصفحة 260.
2 – اصول الكافي، باب طبقات الانبياء، الجزء 1.
[206]
وأمواج البحر الهائجة وأجنحة الطاووس الملوّنة والمنظر الخلاّب للورد وبراعم الحديقة الخضراء.
قد تحصل صور مبهمة ومشوشة لهذه المخلوقات عند الأعمى إِلاّ أن تصويرها الحقيقي أمر محال له.
لكننا نستطيع توضيح الوحي عن طريق آثاره وأهدافه ونتائجه، ونقول: إِن الوحي هو الالقاء الالهي الذي يتمّ بهدف تحقيق النبوة والتبشير والانذار، أو نقول: إِنه نور يهدي به الله من يشاء، أو نقول: إِنه وسيلة الارتباط بعالم الغيب وإِدراك معارف ذلك العالم.
وقد يكون اختصاص حديث القرآن عن الوحي بآثاره ناشئاً من هذا
السبب.
ينبغي أن لا نتعجب من هذا الأمر، وأن لا نتخذ عدم ادراك حقيقته دليلا على عدم الوجود، أو نفسره بتفاسير مادية جسمية، فان في عالم الحيوانات التي نعدها في مستوى أدنى من مستوانا فضلا عن عالم النبوّة، تُشاهد آثار أحاسيس وإِدراكات يعجز البشر عن ادراكها، فانا نعلم ان بعض الحيوانات تضطرب قبل حدوث الزلزلة وتصرخ بصورة جماعية احياناً، وتارة تحدث اصواتاً مروعة حاكية عن قرب وقوع حدث مفجع، هذا كله بسبب تحلّيها بحاسة تستطيع بواسطتها أن تكشف قرب وقوع الزلزلة، الأمر الذي تعجز عن كشفه أحدث تكنولوجيا في العصر الحاضر.
أو أن بعض الحيوانات تتنبأ بتغييرات الأحوال الجوية للأشهر القادمة، فتبني بيوتها وفقاً لتلك الاحوال في الأشهر المقبلة عليها، وتعد الطعام الذي يتناسب مع طول فصل المطر والشتاء، فاذا كان طويلا ـ مثلا ـ يختلف مقداره عمّا لو كان قصيراً!
كما أن بعض الطيور قادرة على الهجرة الجماعية من المناطق القطبية الى الاستوائية أو بالعكس، وقد يتمّ ذلك في الليل بل وحتى في الليالي وفي السماء
[207]
الملبدة بالغيوم، مع أن الانسان لا يمكنه السير في هذا الطريق وينجح باجتيازه بنسبة واحد بالمائة، إلاّ بالاستعانة بالوسائل الدقيقة، وكذا الأمر بالنسبة لبعض الحيوانات حيث تطلب صيدها في ظلام الليل الدامس، وأحياناً تحت أمواج المياه وغير ذلك من الأمثلة التي يصعب على الانسان تصديقها، إِلاّ أن العلم أثبت صحتها.
إِن هذه الواقعيات التي تثبت بالعلم والتجربة تكشف عن وجود إِدراك وشعور خاص لتلك الحيوانات لم نَتَحلَّ به نحن، بالطبع إِن الاطلاع الكامل على عالم حواس الحيوانات الغامض أمر محال، إِلاّ أنه لا يمكن إِنكار هذه الحقائق(1).
فبالرغم من ان حواس الحيوانات أمر طبيعي لا يرتبط بما وراء الطبيعة، الا اننا نعرف حقيقته، فكيف يمكن لنا أن ننكر عالم الوحي الغامض او نشكك فيه بسبب عدم إدراكنا له؟
لم نقصد من حديثنا الاخير الاستدلال على ثبوت مسألة الوحي، بل أردنا نفي استبعاد وجود هذا العالم، وهو جواب لاُولئك الذين ينكرون وجوده بسبب عدم امكان ادراكه.
ولنا طرق واضحة لاثبات قضية الوحي منها:
1 ـ نشاهد من جهة رجالا يدعون النبوة جاؤوا بكتب وتعاليم تفوق قدرة البشر الفكرية، فالرسول الامي ـ مثلا ـ كيف أمكنه الاتيان بكتاب ذي محتوى مجيد من مجتمع متأخر للغاية كمجتمع الحجاز في عصر الجاهلية؟!
2 ـ ومن جهة اخرى فان دعوى الرسل مقترنة دائماً مع معاجز تفوق قدرة البشر، وهذا يكشف عن ارتباطهم بعالم ما وراء الطبيعة.
3 ـ ومن جهة ثالثة، فان الرواية الكونية التوحيدية تقول لنا: أن الله خلقنا للتكامل والسير نحو ذاته المقدسة الأبدية، وبديهي أن اجتياز هذا الطريق أمر غير ممكن لكثرة مصاعبه وانعطافاته وتعرجاته ومشاكله واخطاره لأننا نشاهد عجز
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – يراجع كتاب «عالم حواس الحيوانات الغريب» (بالفارسية).
[208]
العقل وضعفه في ادراك كثير من الحقائق، وشاهدنا الاختلاف الفاحش بين العلماء والمفكرين، وشاهدنا مصير الامم التي وضعت قوانينها بالاعتماد على العقل
فقط.
وعلى هذا، فإنا نقطع بأن الله لم يترك الانسان وعقله بل أمده بقادة يرتبطون بعالم الغيب، ويستفيضون من بحر العلم الالهي، وهذا هو الذي يعينه لاجتياز الطريق والوصول الى الاهداف المقصودة.
وبهذه القرائن الثلاث أمكننا ادراك العقلاقة بين عالم الانسانية وعالم ما وراء الطبيعة، وأمكننا الايمان بالوحي رغم أننا لم نتعرف على حقيقته وماهيته، وبتعبير آخر: إِن علمنا بالوحي علم اجمالي وليس علماً تفصيلياً.
* * *
3 ـ الوحي عند فلاسفة الشرق والغرب:
سعى كثير من فلاسفة الشرق والغرب في العهد القديم والجديد الى فتح الطريق أمامهم نحو عالم الوحي الغامض وسعوا الى تفسيره بما يتناسب مع مبانيهم الفلسفية، إِلاّ أن دراسة بحوثهم في هذا المجال تكشف عن ضياعهم في متاهات الطريق، إِلاّ البعض منهم، ولم ينجلِ لذلك البعض إِلا شبح مبهم عن ذلك
العالم.
يقول أحد العلماء:
كان الغربيون الى القرن السادس عشر كجميع الامم المتديّنة يقولون بالوحي لان كتبهم مشحونة بأخبار الانبياء، فلما جاء العلم الجديد بشكوكه ومادياته ذهبت الفلسفة الغربية الى ان مسألة الوحي من بقايا الخرافات القديمة، وتعالت حتى انكرت الخالق والروح معاً، وعللت ما ورد عن الوحي في الكتب القديمة بأنه اما اختلاف من المتنبأة انفسهم لجذب الناس اليهم وتسخيرهم لمشيئتهم، واما الى هذيان مرضي يعتري بعض العصبيين فيخيل اليهم انهم يرون اشباحاً تكلمهم
[209]
وهم لا يرون في الواقع شيئاً.
.. راج هذا التعليل العالم الغربي حتى صار مذهب العالم الرسمي فلما ظهرت آية الارواح في امريكا سنة 1846 واعاد العلماء البحث بها على قاعدة العلم التجريبي المقرر لا المفرد ولا على اسلوب التقليد الديني ولا من طريق الضرب في مهامة الخيالات.
توصلوا الى نتائج وان كانت غير ما قرره علماء الدين الاسلامي الا انها خطوة كبيرة في سبيل اثبات امر عظيم كان قد احيل الى عالم الامو الخرافيه»(1).
هناك نظريتان مختلفتان لتبرير ظاهرة الوحي، أحداهما للفلاسفة المتقدمين، والاخرى للمتأخرين، ألاّ أنهما لا تنطبقان مع حقيقة الوحي التي تستشف من القرآن. والنظريتان هما:
1 ـ يعتقد عدد من الفلاسفة المتقدمين أن منشأ الوحي هو «العقل الفعّال»، والعقل الفعّال وجود روحي مستقل عن وجودنا، وهو قرينة، ومصدر لجميع علوم البشر ومعارفه، كما يعتقدون بأن الأنبياء كانت لهم علاقة وثيقة مع هذا العقل الفعّال، وكانوا يستلهمون منه، وما حقيقة الوحي إِلاّ هذه العلاقة.
وفي الحقيقة، لا دليل لهؤلاء لاثبات مدعاهم القائل بأن الوحي هو عبارة
عن الارتباط والعلاقة مع القع الفعّال، أضافة الى هذا، فانه لا دليل على وجد ما يزعمون وجوده أي «العقل الفعّال» كمصدر مستقل للعلوم، كما ذكر ذلك في المباحث الفلسفية.
وعلى هذا، فالنظرية المذكورة عبارة عن احتمال مبني على احتمال، وفرضية مستندة الى فرضية، ولم تثبت أيِ من الفرضيتين، كما أنه لا حاجة لفرض «العقل الفعّال» بل يكفينا القول بأن الوحي عبارة عن التصال بعالم ما وراء الطبيعة والذات المنورة، أما كيف وبأي شكل يتم ذلك؟ فهذا لم يتضح لنا.
نحن شاهدنا آثاره فآمنا بوجوده، دون أن نعرف حقيقته، وكثير من حقائق هذا
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – دائرة معارف القرن العشرين الجزء 10 الصفحة 712.
[210]
العالم حالها كحال الوحي.
2 ـ يعتقد عدد من الفلاسفة المعاصرين أن «الوحي» هو تجلِّ «علم اللاشعور» أو العلاقة الغامضة مع حقائق هذا العالم التي قد تنشأ من «النبوغ الباطني» تارة، وتارة اخرى من «الرياضة الروحية» وعن مساع من هذا النوع. وقد عَدَّ علماء النفس شخصيتين للانسان: «الشخصية الظاهرة والارادية» وهي جهاز الادراك والتفكير والمعلومات الحصالة بالحواس العادية، والشخصية الاخرى هي «الشخصية غير المرئية واللا إرادية» التي قد يعبر عنها بـ «الوجدان الخفي» أو «الضمير الباطني» أو «علم اللاشعور» ويعتبر علماء النفس أنّ حلَّ كثير من المشاكل الروحية كامن في هذه الشخصية.
أنهم يعتقدون أن مجالات فعالية ونشاط الشخصية الثانية اوسع بكثير من مجالات نَشاط وفعالية الاولى.
وقد كتب أحد علماء النفس في هذا المجال:
يمكننا تشبيه الشخصية بقطعة ثلج عائمة في الماء، وعادة ما يكون تُسْعُها خارج الماء، وهذا المقدار الخارج هو الشخصية الظاهرة أو عالم الشعور، ويقابلها الشخصية اللاإرادية او عالم اللاشعور، حيث ان القسم الاعظم من النشاط الذهني لم نُحط به علماً ويحصل بشكل غير إرادي، وهو بمثابة الأجزاء الثمانية من قطعة الثلج تحت الماء(1).
لا شأن لنا فيمن كشف الشخصية الثانية للانسان، «فرويد» أم غيره، كما لا شأن لنا في أن كلام المتقدمين فيه إِشارة الى ما ذهب اليه المعاصرون أم لا، المهم بالنسبة لنا هو أن كثيراً من علماء النفس، بعد اكتشاف عالم اللاشعور وحل بعض المعضلات الروحية عن طريق هذا الاكتشاف، سعى لتبرير ظاهرة الوحي بما يتناسب ويتفق مع هذا الاكتشاف، حيث ادعوا أن الوحي هو ترشحات عالم اللاشعور التي تظهر عند الانبياء على شكل طفرات فكرية بالصدفة.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – معرفة النفس ترجمة (الدكتور ساعدي) الصفحات 6 و 7 مع إيضاح بسيط (بالفارسية).
[211]
وقد ساعد الانبياء في ذلك احياناً ـ أمران: الاول النبوغ الفكري، والثاني هو الترويض والتفكير المستمر.
وطبقاً لهذه الفرضية، فان علاقة «الوحي» بعالم ما وراء الطبيعة ليست علاقة من نوع خاص ومغايرة للعلاقات الفكرية والعقلية لبقية أفراد البشر، وان هذا لا يتم عن طريق وجود روحي مستقل باسم «الوحي»، بل هو انعكاس لضمير الانبياء الخفي، وهذه الفرضية كالسابقة القائلة بأن الوحي هو الاتصال بالعقل الفعال، تفتقد الدليل. وقد يكون المراد بهذا من هذا الكلام ليس اثبات حقيقة الوحي، بل مرادهم إِن ظاهرة الوحي لا تتنافى مع العلوم الحديثة، ويمكن بتجلي عالم اللاشعور لدى الانبياء.
وبتعبير أوضح، فان العلماء يصرون على تفسير جميع ظواهر العالم طبقاً للقوانين الطبيعية والاصول العلمية التي اكتشفوها، ولهذا فانهم بمجرد
مشاهدتهم لظاهرة جديدة، يسعون الى تحليلها في اطار العلم الحديث ، واذا افتقوا الدليل في هذا المجال اكتفوابالفرضيات.
لكن تلقي ظواهر العالم بهذا الشكل ليس صحيحاً، وهذا هو خطأ العلماء الطبيعيين، فان مفهوم كلامهم هذا هو: اننا فهمنا الاصول والقوانين الاساسية للعالم، ولا توجد ظاهرة خارجة عن اُطُر هذه القوانين والاصول.
وهذا إِدعاء محض ولا دليل له، بل لنا دليل على العكس، حيث نشاهد بمرور الزمن اكتشاف اصول وقوانين جديدة لنظام هذا العالم، ولدينا قرائن تثبت أن نسبة ما نعلمه عن هذا الى ما لا نعلمه كنسبة القطرة الى البحر.
لقد عجزنا عن المعرفة الدقيقة لحواس الحيوانات الغامضة، بل وحتى عن معرفة أسرار وجودنا، لذا لا يمكننا سوى ادعاء معرفة قسم من هذه الأسرار فقط.
فلماذا ـ إِذن ـ هذا الاصرار كله على تبرى ظاهرة الوحي في اُطُر القوانين العلمية المكتشفة، بل ينبغي القول: إِن الوحي حقيقةٌ شاهدنا آثارها ولم نطلع على ذاتها وحقيقتها.
[212]
* * *
4 ـ فرضية كون الوحي غريزة:
أبدى بعض المفكرين الاسلاميين المتأثرين بأفكار العلماء الغربيين فرضية اخرى في مجال الوحي تختلف في الظاهر عن الفرضيتين السابقتين إلاّ أنها تتفق معهما جوهرياً.
وقد بُنيبت هذه الفرضية على الاصول الآتية:
1 ـ أَن «الوحي» لغة يعني النجوى بهدوء، واستعملت في القرآن بماهيم عدة تشمل أنواع الهدايات الغامضة، بدءً بهداية الجمادات والنباتات وانتهاءً
بهداية الانسان عن طريق الوحي.
2 ـ إِن الوحي نوع من انواع الغريزة، وهداية الوحي ليس الا هداية غريزية.
3 ـ أن الوحي هداية الانسان من وجهة نظر جماعية، أي ان المجتمع الانساني بما هو كتلة واحدة، له مسير وقوانين وحركة، فيحتاج للهداية، ودور «النبي» في هذا المجال كدور الجهاز المتسلِم الذي يتسلم ما يحتاجه نوع البشر بشكل غريزي.
4 ـ إِن الأحياء تهتدي في مراحلها الاولى بواسطة الغريزة، وكلما تكاملت ونما حس التصور والفكر عندها، كلما نقصت قدرة الغريزة فيها، وفي الحقيقة فان الحس والتفكير يستخلفان الغريزة، وعلى هذا الاساس فالحشرات لها غرائز أكثر وأقوى، والانسان أقل غرائزاً بالقياس الى الحيوانات الاخرى.
5 ـ أَن المجتمعات البشرية ( من وجهة نظر اجتماعية ) تسير دائماً في
طريق التكامل وتتجه نحوه، فكما أن الحيوانات في مراحل حياتها الابتدائية كانت تستند الى الهداية الغريزية بالكامل ، ثم اعتمدت تدريجياً على حواسها وتخيلها وايحاناً تفكيرها ، وعندما نما عندها التفكير والحواس تدريجياً ،
[213]
استخلفا الغريزة ، كذلك المجتمع البشري ، فبنموه وتكامل عقله ضعفت غريزة الوحي عنده.
6 ـ أَن للعالم البشري عهدين ، عهد هداية الوحي، وعهد هداية التعقل والتفكير في طبيعة التاريخ.
7 ـ أَن الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) الذي ختمت به النبوة رسول للعهد القديم والحديث ، فانه من حيث مصدر الالهام الذي كان يستفيض منه (لا مصدر التجربة الطبيعية والتاريخ) فهو يتعلق بالعهد القديم. ومن حيث روح تعاليمه التي تدعو الى التفكر والتعقل ودراسة الطبيعة والتاريخ (التي ينتهي عمل الوحي بمجيئها) فهو يتعلق بالعصر الحديث(1).
إِن المستخلص من هذه الفرضية أن الوحي نوع معرفة لا إِرادية تشبه الغرائز وهي دون المعرفة الارادية التي تحصل عن طريق الحواس ولاتجربة والعقل، وتضعف هذه القدرة «الوحي» كلما تكامل جهاز العقل والفكر، فيستخلف العقل حينئذ الوحي، ومن هذا الباب ختمت النبوة.
بالرغم من إِن هذه الفرضية ـ صدرت عن مفكر اسلامي ـ الا أنها أضعف في بعض جوانبها من الفرضيات التي أبداها علماء وكُتّاب غربيون في هذا المجال، ومثلها من حيث فقدان الدليل، ويمكن القول: إِن هذه النظرية أسوأ نظرية اُبديت في هذا المجال لحد الآن، وذلك للامور الآتية:
أولا ـ إِن العلماء الغربيين عدوا الوحي شيئاً فوق الادراك الحسي والعقلي للانسان، بينما عُدَّ في هذه النظرية شيئاً دون ذلك، وهذا شيءٌ عجاب!
ثانياً ـ لم يَعِدَّ المفكرون الغربيون الوحي نوعاً من أنواع الغرائز الحيوانية، في حين عُدَّ في هذه النظرية من ذلك القبيل.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – مقدمة في الرؤية العالمية الاسلامية، للشهيد المطهري (وقد ذكر الشهيد المرحوم النقاط السبعة السابقة التي تعكس رأي اقبال اللاهوري في كتابه «احياء الفكر الديني في الاسلام» بشكل ملخص ونقدها).
[214]
ثالثاً ـ إِن أمر الوحي واضح بالكامل لمسلم عارف بمفاهيم القرآن حيث يُعتبر نوعاً من الاتصال بالعالم الالهي، وتسلم معارف عظيمة وجليلة للغاية من هذا العلم لم يستطع الانسان أن يصل اليها بالعقل.
إِن الوحي من وجهة نظر القرآن الكريم هداية إِرادية بالكامل وأرفع بكثير من «الهداية العقلية»، ـ وكما قلنا سابقاً ـ فإنا اذا شبهنا العقل بنور مصباح نيّر فان الوحي بمثابة الشمس الساطعة.
يخاطب القرآن الناس ـ من جهة ـ قائلا: (وَما أوتيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ اِلاّ قليلا)(الاسراء / 85).
ومن جهة اخرى يصف الله علمه ويقول: (وَلَوْ اَنَّ ما في الاَْرْضِ مِنَ شَجَرَة اَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ اَبْحُرْ مّا نَفَدَتْ كَلِماتُ اللهِ اِنَّ اللهَ عَزيزٌ حَكيمٌ)(لقمان / 27).
فوحي النبوة ارتباط بهذا العلم اللامتناهي ولهذا يصرح القرآن الكريم أن الله هو معلم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
(النساء / 113)
ان العقل والعلم البشري مهما نميا وتكاملا أضعف من أن يقودا الانسان الى طريق السعادة من دون هداية الوحي، والدليل الحي لهذا الكلام هو مذاهب الفلاسفة وانحرافاتهم العجيبة.
ان الذين عُرفوا كمفكرين اسلاميين هم مفكرون غربيون في واقع أمرهم، وأفكارهم اتخذت صبغة الافكار الغربية، ولهذا سعوا دائماً لذكر تبريرات طبيعية للامور غير الطبيعية.
ان الغربيين اذا اصروا على ذكر تبريرات طبيعية للامور الغيبية، فذلك لانكارهم عالم الغيب، فلا ينبغي لأي مسلم اقتفاء أثرهم في ذكر تبرير طبيعي لمسألة كهذه.
[215]
من المؤسف أن الآثار السيئة لهذا التقليد نجدها في كثير من كتب اولئك المفكرين الذين غالباً ما درسوا في الغرب، ومعلوماتهم عن الاسلام قليلة جداً.
* * *
5 ـ كيف تيّقن الرسول بأن الوحي من الله؟
إن هذا السؤال من جملة الاسئلة التي طرحت حول مسألة الوحي. كيف علم الرسول بان الوحي من الله وليس إِلقاء شيطانياً؟ وبتعبير آخر: ما هو مصدر هذا العلم واليقين؟
ان الجواب عن هذا السؤال واضح، فاضافة الى أن الفرق بين الالقاءات الرحمانية والالقاءات الشيطانية كالفرق بين السماء والارض، فإِن محتوى كلٍّ منهما يعرف نفسه، وينبغي القول: إِن الرسول عندما يتصل بالوحي يذعن بحقيقته بالنظر الباطني، وأمره كالشمس الساطعة نهاراً، فلا نعتني بالذي يشكك بوجودها ويقول: يُحتمل أن تكون وهماً لا أكثر، وذلك لأن احساسنا بها قطعي ولا يقبل الشك.
يقول العلامة الطباطبائي(قدس سره) عند تفسيره للآية (فَلَمّا آتاها نُوديَ يا موسى * إنّي أنَا رَبُّكَ) (طه / 11 ـ 12).
وهذا حال النّبي والرسول في أوّل ما يوحى إليه بالنبوّة والرسالة ، لم
يختلجه شك ولم يعترضه ريب في ان الذي يوحي اليه هو الله سبحانه، من غير ان يحتاج الى اِعمال نظر، او التماس دليل، او اقامة حجة، ولو افتقر الى شيء من ذلك كان اكتساباً بواسطة القوة النظرية، لا تلقياً من الغيب، من غير توسّط واسطة(1).
ومن هنا يتضح سقم ما جاء في بعض الروايات من أن الوحي عندما نزل لأول
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – الميزان الجزء 14 الصفحة 138.

 

شاهد أيضاً

الزهراء الصديقة الكبرى المثل الأعلى للمرأة المعاصرة / سالم الصباغ‎

أتشرف بأن أقدم لكم نص المحاضرة التي تشرفت بإلقائها يوم 13 / 3 في ندوة ...