جمع الآيات وتفسيرها:
إنّ الآية الاولى بعد اشارتها لمقارنة ابراهيم بطل التوحيد للشرك وعبادة الاصنام، تحدثت عن الشأن الرفيع لايمانه ويقينه، ودليل هذا الشأن هو أن الله أراه ملكوت السموات والأرض، فأصبح من أهل اليقين أي وصل الى درجة عين اليقين وحق اليقين ، وقد يكون هذا عطية من الله له، جزاءً لما عاناه من جراء كفاحه للشرك وعبدة الأصنام، ومع الالتفات الى أن «السموات» تفيد العموم هنا (لانها جاءت جمعاً لا مفرداً ومعرفة لا نكرة)، تدرك أن الله أطلع ابراهيم عن سلطانه على جميع ما في السموات من الكواكب والنجوم والمجرات وغيرها، كذلك سلطانه على الارض ما ظهر منها وما بطن، وقد عبّر القرآن عن هذا الأمر بهذا التعبير «نُريَ ابراهيم …»
ومع الالتفات الى أن الانسان لا يمكنه رؤية هذه الحقائق بعينه الظاهرية واستدلالاته العقلية، ندرك أن الله أراه هذه الحقائق عن طريق الشهود الباطني وإزالة الستار التي تحول دون مشاهدة الانسان الحقائق المكتومة.
ويذكر الفخر الرازي احتمالين في تفسيره لـ «الاراده»، أحدهما: انها حسية، والثاني: إنها إرائة عن طريق الاستدلال العقلي، ثم اختار الاحتمال الثاني، وذكر تسعة أدلة عليه(2).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – الميزان الجزء 14 الصفحة 37.
2 – التفسير الكبير الجزء 13 الصفحة 43.
[233]
لكنّ ـ كلما قلنا سابقاً ـ الانسان عاجز عن الاحاطة الكاملة بأسرار سلطان الله على العالم سواء كان عن طريق الحس أو عن طريق العقل، وتحتاج الاحاطة هذه إلى طريق إدراك آخر، وهو الشهود الباطني، ولهذا السبب يذكر صاحب «في ظلال القرآن»: ان المراد من الآية إخبار ابراهيم عن أسرار الخلق الخفية ورفع الحجاب عن آيات كتاب الخلق التي نشرت كي يصل ابراهيم الى درجة اليقين الكامل(1).
وتعبير آخر: إن ابراهيم اجتاز مراحل التوحيد الفطري والاستدلالي ـ في البداية ـ من مشاهدته لطلوع الشمسُ وغروبها وطلوع النجوم وافولها، وجاهد المشركين واجتاز درجات التوحيد في ظل هذا الجهاد العظيم، الواحدة تلوا الاخرى، الى أن بلغ مرحلة حيث كشف الله له الحقائق، وهي مرحلة الشهود الباطني.
وهناك حديث للامام الصادق(عليه السلام) في هذا المجال يشير فيه الى هذا المعنى حيث يقول: «كُشِط لإبراهيم السموات السبع حتى نظر ما فوق العرش، وكشط له الارضون السبع، وفُعِل لمحمد(صلى الله عليه وآله وسلم) مثل ذلك …» «والائمة من بعده قد فُعل بهم مثل ذلك»(2).
وقد جاء صاحب البرهان بكثير من الآيات في تفسيره هذا المجال، تكشف أن الادراك هذا ليس هو نفس الادراك العقلي أو الحسي، بل ـ وكما صرح صاحب الميزان وأشرنا إليه سابقاً ـ إن الملكوت هي مجموعة الامور التي تتعلق بالذات الربانية من حيث انتمائها الى تلك الذات، وهذا ما شاهده ابراهيم وبلغ به الى أن وصل الى التوحيد الخالص(3).
وهناك روايـتان نقلتا في تفسير « الدر المنثور » عن أحد صـحابة
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – في ظلال القرآن الجزء 39 الصفحة 291.
2 – تفسير البرهان الجزء 1 الصفحة 531 الحديث 2 (ومضمون الحديث الثالث والرابع قريب من مضمون هذا الحديث).
3 – الميزان الجزء 7 الصفحة 178.
[234]
الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) والاخرى عن ابن عباس تبينان أن الله رفع الستار الحاجب عن ابراهيم وأراه ملكوت السموات والارض أي أسرار قدرته، وتحكمه بأسرار الكون(1).
* * *
والآية الثانية بعد ذكرها لأحكام «الزكاة والصدقة والتوبة» خاطبت الرسول قائلة: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ اِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةَ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).
لا شك ان المراد رؤية الأعمال هو رؤية الله لجميع أعمال الناس سواء
الصالحة منها أو غير الصالحة وما ظهر منها وما بطن « بقرينة وحدة السياق » وينبغي القول بأن مشاهدة الرسول مثل مشاهدة الله، لأن الآية مطلقة ولم يقيدها شيء ، وأما المؤمنون، فالمراد منهم خلفاء الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) المعصومون (لا جميع المؤمنين».
ومع الالتفات الى أنه لا يمكن مشاهدة هذه الأعمال مشاهدة حسية أو استدلالية عقلية، ينبغي القول: إن الآية بينت حقيقة وهي أن الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)والائمة(عليه السلام) يتحلون بمشاهدة تختلف عن المشاهدة الحسية المتعارفة يشاهدون بها جميع أعمال المؤمنين.
وقد ذهب الفخر الرازي الى ان المراد من الآية جميع المؤمنين لا الائمة، وعندما وقع في اشكال أن المؤمنين لا يطلع أحدهم على أعمال الآخر، أجاب: إن المراد أنهم يُخبرون بها. وهذا تكلف بلا نتيجة، وتبرير خلاف الظاهر.
كما أنه نقلت روايات عديدة في ذيل هذه الآية بينت أن أعمال العباد تُعرض
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – الدر المنثور الجزء 3 الصفحة 24.
[235]
كل صباح (بعض الروايات ليس فيها قيد الصباح) على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)والائمة(عليهم السلام) فيرونها ويفرحون بها إن كانت طاعات، ويتألمون إن كانت معاصياً(1).
وهذا الحجم الكبير من الروايات درس كبير لجميع سالكي طريق الحق والهداية، فان هناك مراقبين أجلاّء يراقبون أعمالهم. إن الايمان بهذه الحقيقة لها مردودات تربوية جمة، وقد نقل هذا المضمون في ضمن روايات كثيرة عن الامام الصادق(عليه السلام) حيث يقول في أحدهما: «إذا صار الأمر إليه جعل له عموداً من نور يُبصِرُ به ما يعمل به أهل كل بلدة»(2).
* * *
والآية الثالثة إشارة الى ما يعتقده البعض من مشاهدة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)لجبرئيل(عليه السلام) في شكلة الحقيقي، وقد شاهده بهذا النحو مرتين، المرة الاولى في بداية بعثته حيث ظهر عليه السلام في الافق وغطى الشرق والغرب، وكان بدرجة من الجلالة والعظمة حيث اضطرب الرسول حينها اضطراباً شديداً، والمرة الثانية هي عند معراجه(صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد اشير في النجم لكلا اللقائين.
وهناك تفسير آخر وهو أن المراد من الرؤية في الآيه هو حصول الشهود الباطني له، الشهود للذات الالهية المقدسة، وهو شهود بالعين الباطنية لا الظاهرية، وهو مصداق واضح لـ «لقاء الله» في هذا العالم، وقد جاء شرح ذلك مفصلا في تفسير الأمثل ذيل آيات سورة النجم(3).
وعلى أي حال فان الآية تصرح: إن ما رآه الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بقلبه قد حدث
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – جاء في تفسير البرهان في ذيل الآية المذكورة، وفي البحار الجزء 33 الصفحة 326 فما بعد، عشرات من الروايات المنقولة في هذا المجال، ويمكن القول: انها وصلت الى مستوى التواتر، وفي المجلد الثاني الصفحة 157 فما بعد، والمجلد الاول من اصول الكافي باب «عرض الأعمال» جاء ذلك مفصلاً.
2 – منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة الجزء 5 الصفحة 200 (لقد جمع في هذا الكتاب روايات عديدة بهذا المضمون) وقد ذكر بعضاً منها البحراني في تفسيره «البرهان».
3 – تفسير الأمثل الجزء 22 الصفحة 484 الى 393.
[236]
بالفعل، وقلبه صادق بما شاهده وغير كاذب.
والتعبير هذا شاهد على مسألة الكشف والشهود الباطني الذي يعتبر أحد مصادر المعرفة الانسان، انسان مثل الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم).
وقد جاء في تفسير الميزان:
ولا بدع في نسبة الرؤية وهي مشاهدة العيان الى الفؤاد فان للإنسان نوعاً من الإدراك الشهودي وراء الادراك باحدى الحواس الظاهره والتخيل والتفكر بالقوى الباطنه كما أننا نشاهد من انفسنا أننا نرى وليست هذه المشاهدة العيانية ابصاراً بالبصر ولا معلوماً بفكر، وكذا نرى من انفسنا أننا نسمع ونشم ونذوق ونلمس ونشاهد أننا نتخيل ونفتكر وليست هذه الرؤية ببصر او بشيء من الحواس الظاهرة او الباطنة فإنا كما نشاهد مدركات كل واحدة من هذه القوى بنفس تلك القوة كذلك نشاهد ادراك كل منها لمدركها وليس هذه المشاهدة بنفس تلك القوة بل بأنفسنا المعبر عنها بالفؤاد(1).
وقد صرّح المفسرين: إن المراد من الرؤية في الآية هو المشاهدة بالقلب.
وقد جاء في حديث أن سأل أحد صحابة الامام أبو الحسن علي بن موسى الرضا(عليه السلام): هل رأى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ربّه عزّ وجلّ؟ فاجابه(عليه السلام) «نعم بقلبه، أما سمعت الله عزّ وجلَّ يقول: ما كذب الفؤاد ما رأى، لم يَرَه بالبصر ولكن رآه بالفؤاد»(2).
بديهي، أن المراد من «الرؤية القلبية» ليس هو الفكر والاستدلال العقلي، لأن هذا أمر لا يختص بالرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بل يحصل لجميع المؤمنين والموحدين.
* * *
وقد خاطبت الآية الرابعة المؤمنين كافة قائلةً: (كَلاّ لَوْ تَعْلَمُوَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – تفسير الميزان: ج19، ص29.
2 – نور الثقلين الجزء 5 الصفحة 153 حديث 34.
[237]
الجَحيم) ثم تضيف: (ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ).
وهناك بحث بين المفسرين في ان الرؤية هذه تقع في الدنيا أم في الآخرة؟ أو أن الاولى في الدنيا والثانية في الآخرة؟ لكن ظاهر الآية يدل على أن الثانية تقع في الآخرة، بقرينة (ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ) وذلك لأنه لا سؤال في الدنيا، وعلى هذا فالرؤية الاولى «رؤية الجحيم» تقع في الدنيا.
وقد جاء في تفسير الميزان: إن ظاهر الآية يدل على وقوع رؤية الجحيم قبل يوم القيامة، بالطبع رؤية قلبية التي تعد من ثمار الايمان واليقين، كما هو الأمر في قصة ابراهيم ورؤيته لملكوت السموات والارض.
وقد تقدّم انّ البعض يرى ان الرؤية في كلا الموردين تتعلق بيوم القيامة، ولهذا تكلفوا كثيراً عند بيانهم للفرق بين الرؤيتين، كما يُشاهد ذلك في كلام المفسر الفخر الرازي(1).
وعلى أية حال، فان الآية تأكيد في ظاهرها على أن الانسان ـ في بعض الحالات ـ تُرفع عن قلبه الحجب فيتمكن من رؤية بعض حقائق عالم الغيب.
* * *
والآية الخامسة أشارت الى طلب الكافرين المُلِح، حيث كانوا يسألون: لِمَ لَمْ يُنزَّل علينا ملائك؟ أو لِمَ لَمْ نَرَ الله جهرةً؟ (الفرقان / 21).
ويجيبهم القرآن: (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً).
وهناك خلاف بين المفسرين في المراد من «يوم» في الآية . فأي يوم هو؟ يعتقد البعض ان المراد منه هو يوم القيامة لكن البعض يعتقد ـ مع الالتفات الى الآيات التي تحدثع عن (ملائكة الموت» ومن ضمنها الآية التالية: (وَلَوْ تَرَى اِذِ الظّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمْ) ـ أن
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – تفسير الفخر الرازي الجزء 32 الصفحة 80.
[238]
المراد منه هو لحظات الموت، أو بعد الموت وقبل يوم القيامة.
وقد نقل هذا الرأي عن ابن عباس(1).
وقد جاء في حديث الامام الباقر(عليه السلام): «فاذا بلغت الحلقوم ضربت الملائكة وجهه ودبره (قيل اخرجوا أنفسكم اليوم تُجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون) وذلك قوله (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذ لِلْمُجْرِمِينَ)(2).
وطبقاً لهذا التفسير، فان الانسان عندما يكون على وشك الموت تُرفع عن قلبه الحُجُب، فتحصل له حالة الكشف والشهود، فيرى الملائكة.
* * *
والآية السادسة تحدثت عن معرك بدر وأن الشيطان زيّن للمشركين
أعمالهم وصوَّرها لهم وكأنهم يحسنون صنعاً، وذلك كي يظنون حُسْنَ للظن بعقباهم.
ومن جهة اخرى فان جنود قريش رغم عدتهم وعددهم الذي يقدر بعدة أضعاف المسلمين آنذاك اصطفوا أمام المسلمين، والشيطان يوسوس لهم في هذا الحين أنهم سينتصرون (لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النّاسِ وَاِنّي جارٌ لَكُمْ).
وعندما استعد الحرب ونزلت الملائكة لنصرة المسلمين، تراجع الشيطان، وقال لهم: (اِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ اِنِّي أَرَى ما لا تَرَوْنَ اِنِّي أَخافُ اللهَ وَاللهُ شَديدُ الْعِقابِ) لأنه رأى الامدادات الغيبية وآثار رحمة الله!
اختار كثير من المفسرين الرأي الأول، وهناك روايات معروفة تؤيد هذا الرأي، حيث قالت : إن الشيطان تمثَّل لهم في صورة « سراقة بن مالك » الذي يعتبر من أشراف «بنى كنانة» وقد حصل هذا الأمر «التمثل» عندما هاجر
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – تفسير الفخر الرازي الجزء 24 الصفحة 70.
2 – البرهان الجزء 3 الصفحة 158، حديث1.
[239]
الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث اشترك الشيطان آنذاك في شورى المشركين في «دار الندوة» متمثلا في صورة رجل كبير السن من أهالي «نجد» وليس محالا أن يتمثل في صورة انسان، لأن هذا ممكن بالنسبة للملائكة (كما هو منقول في قصة ابراهيم ومريم).
والبحث الآخر هو : هل ان الشيطان رأى الملائكة حقاً يساندون جند الاسلام؟ أو أنه عندما رأى آثار الانتصار غير المرتقب تيقن بنزول الملائكة والامدادات الغيبية؟ هناك نظريتان في هذا المجال:
يعتقد كثير من المفسرين أن المراد رؤيتهم حقيقةً، ويؤيد ذلك ظاهر الآيات اللاحقة التي تحدثت عن دخول الملائكة ساحة بدر.
وعلى هذا، فما كان المؤمنون ولا المشركون يرون تواجد الملائكة في بدر، بينما كانت الحجب مرفعوعة عن الشيطان، فكان يرى الملائكة.
وهذا نوع من الكشف والشهود منحه الله للشيطان لأهداف معينة.
* * *
والآية السابعة أشارت الى قصة يوسف. فعندما خرج أولاد يعقوب مع
القافلة فرحين من مصر، وكانوا قد شاهدوا يوسف على عرش السلطة رجعوا حاملين قميص يوسف لتقرَّ عين أبيهم، وعندما تحركت القافلة من مصر، قال يعقوب لمن حوله في بلاد كنعان: إني أشم رائحة يوسف إذا لم ترموني بالكذب والجهل. إن ما قاله يعقوب كان صدقاً لانه لم يشم الرائحة بالشامة الطبيعية التي يمتلكها جميع الناس ولهذا لم يصدقه أحد ممن كان حوله فنسبوا الضلالة الى الشيخ الكنعاني ذلك النبي العظيم حيث قالوا له: (تالله إنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ
الْقَدِيم)(يوسف / 95).
وقد تبين صدق شيخ كنعان عند رجوع الاخوة الى كنعان.
وقد عُدَّت المسافة بين مصر وكنعان بعشرة أيام في بعض الروايات، وبثمانية
[240]
أيام في بعضها الاخر وفي روايات اخرى بثمانين فرسخاً(1).
لا دليل على حمل الآية على المعنى المجازي والقول بأن شم رائحة القميص كناية عن قرب لقائه بيوسف حيث ألهم الأب بذلك اللقاء (مثل قولنا نشم رائحة انتصار المسلمين على الأعداء)، وذلك لأنه مع امكان حمل الألفاظ على الحقيقة لا يمكن الحمل على المجاز.
وفي النهاية نستنتج أن مكاشفة حصلت ليعقوب ورفعت عنه الحجب، وباحساس يفوق الاحساس الظاهري استطاع أن يشم رائحة قميص ابنه من بعيد.
* * *
وقد تحدثت الآية الثامنة والاخيرة عن قصة تمثّل الملك الالهي لمريم حيث يقول القرآن في هذا المجال بصراحة:
انعزلت مريم عن أهلها في الضفة الشرقية من « بيت المقدس »، واتخذت حجاباً بينها وبين الناس ( وهذا الحجاب اما أن يكون لأجل التفرغ للعبادة ولانجوى أكثر، أو أن يكون لأجل التطهير والغسل )، وأيّما كان فان الله أرسل إليها روحه، فتمثل لها بشراً وانساناً سويّاً اي كاملا من دون عيب وذا هندام جميل، ففزعت مريم في الوهلة الاولى، لكنها اطمأنت عندما قال لها: (إنما انا رسول ربّك لأهب لك غلاماً زكياً) أي عيسى (عليه السلام).
واستمر الحديث بينهما طويلا، وقد ذكر في سورة مريم(2).
ادعى البعض ان الملك تمثل لمريم في حس الباصرة فقط، (وليس في الخارج)، لكن هذا خلاف الظاهر ولا دليل عليه، والقرائن على أن هذا الشهود قد حصل لمريم فقط، ويحتمل انه اذا كان أحد معهما ما كان قادراً على الرؤية، وعليه فالآية قرينة اخرى على مسألة امكانية الشهود حتى لغير الأنبياء.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – تفسير مجمع البيان الجزء 5 الصفحة 262، وتفسير الفخر الرازي الجزء 18 الصفحة 207.
2 – راجع تفسير الأمثل الجزء 13 الصفحة 32 فما بعد.
[241]
* * *
النتيجة:
نستخلص مما مضى أن هناك مصدراً للمعرفة غير المصادر التي قرأنا عنها الى الآن، وهو مصدر مبهم وغامض بالنسبة لنا، لن يستفاد وجوده من آيات القرآن بوضوح، وهو لا يختص بالانبياء والائمة، بل قد يحصل لغيرهم أيضاً، وإذا شككنا في بعض الآيات في مجال استفادة هذا المصدر منها، فانه يُستشف من مجموع الآيات هذا المصدر.
بالطبع، إن هذا الحديث لا يعني فسح المجال أمام كل من يدعي الكشف والشهود، بل إنّ لهما علائم سنشير إليها فيما بعد ان شاء الله.
* * *
إيضاحات:
1 ـ نماذج جميلة من الكشف والشهود في الأحاديث الاسلامية:
إنَّ الروايات التي كشفت عن هذا المصدر ليست قليلة وقد وصلت الى
درجة «الاستفاضة» على حد تعبير علماء الحديث، وقد أوردنا هنا نماذجاً من هذه الروايات:
1 ـ ذكر في تاريخ معركة الاحزاب أن المسلمين عند حفرهم للخندق حول المدينة (كوسيلة دفاعية أمام العدو» حرجت عليهم صخره كسرت المعول، فأعلموا النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، فهبط إليها ومعه سلمان فأخذ المعول وضرب الصخرة ضربة صدعها، وبرقت منها برقة أضاءت ما بين لابتي المدينة، فكبر رسول(صلى الله عليه وآله وسلم)والمسلمون ، ثم الثانية كذلك ، ثم الثالثة ، ثم خرج وقد صدعها ، فأسأله سلمان عمّا رأى من البرق، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): أضاءت الحيرة وقصور كسرى في البرقة الاولى، وأخبرني جبرئيل أو امتي ظاهرة عليها، وأضاء لي في الثانية
[242]
القصور الحمر من أرض الشام والروم، وأخبرني أن أمتي ظاهرة عليها، وأضاء لي في الثلاثة قصور صنعاء، وأخبرني أن امتي ظاهرة عليها، فأبشروا، فاستبشر المسلمون(1).
وقد قال المنافقون آنذاك : ألا تعجبون؟ يعدكم الباطل ، ويخبركم أن ينظر من يثرب الحيرة ومدائن كسرى، وأنّها تفتح لم، وأنتم لا تستطيعون أن تبرزوا.
إلاّ أن الحوادث المستقبلة أثبتت صحة ما قاله الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم).
وقد يحمل البعض الشهود هنا على معنىً مجازي، لكن لا مبرر لهذا الحمل مع امكان الحمل على المعنى الحقيقي.
2 ـ قد جاء اخر حديث الامام الصادق(عليه السلام) حول معركة مؤتة (التي وقعت
بين المسلمين والروم الشرقية في شمال الجزيرة): ان المسلمين عندما ذهبوا للقتال بقيادة جعفر بن أبي طالب، فان الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يوماً في المسجد وقد تسطحت له الجبال والارتفاعات فشاهد جعفراً يقاتل الكافر ثم قال: قتل جعفر(2).
وقد جاءت تفاصيل اُخرى عن هذا الموضوع في روايات اُخرى ، حدث ان الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) ارتقى يوماً المنبر بعد صلاة الصبح، فصوَّر للمسلمين ساحة المعركة في مؤتة بدقة، وتحدثت بالتفصيل عن شهادة «جعفر» و«زيد بن حارثة» و«عبدالله بن رواحة» وكأنه يرى الساحة بأم عينيه، والجدير بالذكر أن التواريخ المعروفة ـ عند ايرادها لهذه القصة ـ نُقلت هذا الحديث عن الرسول أنه قال: إن الشهداء الثلاثة حُملوا الى السماء على سرر من ذهب ورأيت ازوراراً في سرير «عبدالله بن رواحة» نسبة لسريري الشهيدين الآخرين، فسِئل عمّا هذا؟ قال: مضيا، وتردد بعض التردد ثم مضى)، فالتعبير بالرؤية في الرواية له معنىً عميق وهو نموذج من نماذج الشهود.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – الكامل في التاريخ الجزء 2 الصفحة 179.
2 – البحار الجزء 21 الصفحة 58 حديث 9.
[243]
3 ـ وهناك حديث في تفسير الآية: (وَاِنَّ مِنْ اَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِالله وَما اُنْزِلَ اِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ اِلَيْهِمْ)، يقول: إن شأن نزول الآية هو النجاشي سلطان الحبشة، فانه عندما توفي أخبر جبرئيل الرسول بالأمر، فدعى الرسول المؤمنين لأن يصلُّوا على أحد اخوتهم، فسألوا: من هو؟ أجاب: النجاشي.
ثم جاء الرسول الى مقبرة البقيع، فتجلت له بلاد الحبشة وتابوت النجاشي من المدينة، فصلّى عليه(1).
4 ـ وقد جاء في تاريخ ام الرسول آمنة عليها السلام، أن نزول عليها ملك عندما كان الرسول في رحمها وقال لها: إن في رحمك سيد هذه الامة فقولي عند ولادته: إني أعوذ بالله الأحد من شرِّ الحاسدين، وسمّيه «محمد»، وقد شاهدت عند حملها أنه خرج منها نوراً أضاء لها قصور بُصْرى من أرض الشام!(2).
وهذا الحديث يكشف عن امكان حصول حالة الشهود لغير الأنبياء والائمة
5 ـ وفي الحديث المعروف: ان امير المؤمنين(عليه السلام) كان في بعض حيطان فدك وفي يده مسحاة فهجمت عليه امرأة من اجمل النساء فقالت: يا ابن ابي طالب ان تزوجتني اغنك عن هذه المسحاة وادلك على خزائن الارض ويكون لك الملك ما بقيت. قال لها: فمن أنتِ حتى اخطبك من اهلكِ؟
قالت: انا الدنيا: فقال(عليه السلام): ارجعي فاطلبي زوجاً غيري فلست من شأني فأقبل على مسحاته وانشأ.
لقد خاب من غرته دنيا دنية ***** وما هي ان غرت قروناً بطائل
اتتنا على زي العروس بثينة ***** وزينتها في مثل تلك الشمائل
… الخ(3).
وقد حمل البعض الرواية على «التشبيه» و«التمثيل» و«المجاز» لكنا اذا اردنا
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – البحار الجزء 8 الصفحة 411.
2 – سيرة ابن هشام الجزء 1 الصفحة 166.
3 – بحار الانوار الجزء 40 الصفحة 328 الحديث 10.
[244]
حفظ الظاهر، فمفهومها هو ان الدنيا تمثلت للامام علي(عليه السلام) في عالم المكاشفة في صورة امرأه جميلة واجابها(عليه السلام) بالسلب.
وقد نقل تمثل الدنيا للمسيح (عليه السلام) كذلك في صورة امرأة مخادعة مع اختلاف بسيط عمّا نقل عن الامام علي(عليه السلام)(1).
6 ـ وقد جاء في احوال الامام السجاد(عليه السلام) (وعندما كان فتنة عبدالله بن الزبير في الحجاز مستعرة والكل كان يرتقب نهاية الامر ) أن الامام(عليه السلام) قال : خرجت حتى انتهيت الى هذا الحائط فاتكأت عليه فاذا برجل عليه ثوبان ابيضان ينظر في تجاه وجهي ثم قال: يا علي بن الحسين ما لي أراك كثيباً حزيناً أعلى الدنيا فرزق الله حاضر للبر والفاجر.
قلت: ما على هذا أحزن وانه لكما تقول. قال : فعلى الآخرة فوعد صادق يحكم فيه ملك قاهر ـ او قال قادر ـ قلت: ما على هذا احزن وانه كما تقول: فقال: مم حزنك؟ قلت: مما نتخوف عليه فتنة ابن الزبير وما فيه الناس قال: فضحك ثم قال: يا علي بن الحسين هل رأيت أحداً دعا الله فلم يجبه قلت: لا، قال: فهل رأيت احداً توكل على الله فلم يكفه؟ قلت: لا، قال: فهل رأيت احداً سأل الله فلم يعطه؟ قلت: لا، ثم غاب عني(2).
7 ـ وفي حديث للامام نفسه(عليه السلام) يقول فيه: كأني بالقصور وقد شيدت حول قبر الحسين(عليه السلام) وكأني بالأسواق قد حفت حول قبره فلا تذهب الايام والليالي حتى سار اليه من الآفاق وذلك عند انقطاع ملك بني مروان(3).
8 ـ جاء في أمالي الصدوق عن احوال الحر بن يزيد الرياحي:
لما خرجت من الكوفة نوديت أبشر يا حُر بالجنة.
فقلت: ويلٌ للحر يبشر بالجنة وهو يسير الى حرب ابن بنت رسول
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – بحار الانوار الجزء 70 الصفحة 126 باب حب الدنيا وذمها الحديث 120.
2 – اصول كافي الجزء 2 باب التفويض الى الله الحديث 2.
3 – البحار الجزء 98 الصفحة 114 ـ كتاب المزار ـ الحديث 36.
[245]
الله(صلى الله عليه وآله وسلم)؟!(1).
9 ـ وقد جاء في حديث معروف دار بين ام سلمة زوجه الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)والامام الحسين(عليه السلام) ان الامام(عليه السلام) أراها كربلاء ومحل شهادته(2).
10 ـ وقد نقلت حكايات متعددة عن العلماء العظام والمتقين والمؤمنين الصادقين في مجال المكاشفات وذكرها هنا يطيل بحثنا ـ الا انه ينبغي القول بانها خرجت عن فحوى الخبر الواحد ووصلت الى درجة الاستفاضة ويمكنها ان تكون مؤيداً جيداً لموضوعنا.