هل ستنجح فرضية سيطرة المصارف على الموارد النفطية لتغذية صندوق استعادة الودائع !؟
د. عدنان يعقوب(*)
في التسعينيات انطلقت الدولة اللبنانية في سلسلة من الإصلاحات الاقتصادية الرامية الى تحديث الاقتصاد اللبناني، وذلك بالانفتاح على باقي العالم وبزيادة الاعتماد على قوى السوق وتوسيع دور القطاع الخاص. كانت الغاية وقتها إصلاح جوانب التصلب القائمة في أنظمة الإدارة والإنتاج والمصاحبة لمجموعة متشابكة من النظم الرقابية. حيث اعتمدت تدابير عديدة لتعزيز دور القطاع الخاص فقط!! سيما قطاع الخدمات والتجارة (مع إهمال قطاعي الانتاج الصناعي والزراعي)، حيث تم تخفيف إجراءات الرقابة والقيود على الأسعار والتجارة والنقد الأجنبي، كما جرى تطبيق مجموعة جديدة من التدابير والإصلاحات التي استهدفت على وجه الخصوص تدعيم القطاع المصرفي والمالي. ونتساءل هنا:
ـــ ألم يحن الوقت لإعادة إصلاح القطاع المصرفي والمالي وما هي الحاجة إلى إصلاح كهذا؟
ـــ ما هو تأثير العمل المصرفي في الإنتاجية وفي الخروج من الازمة الاقتصادية على المدى الطويل؟
إن الاشكالية الأساسية في التصور الذي سنطرحه هي أن للقطاع المصرفي دورا أساسيا وحاسما في تأمين نجاح أي تدابير الإصلاح الاقتصادي عبر إعادة تحسين أداء المصارف، وتخصيص وتوزيع الموارد بطريقة عادلة تؤدي الى تنمية حقيقية تستفيد منها الشرائح الفقيرة، وهذا أمر له آثار إيجابية في النمو الاقتصادي على المدى الطويل.
لكن الواقع الحالي يصعب عملية إصلاح القطاع المصرفي والمالي نظراً لتأثر الاقتصاد بالعوامل السلبية والمخاطر والصدمات الاقتصادية والسياسية المفتعلة، حيث انّ درجة تورّط المصارف بالدين العام و رغبات الحكومات اللبنانية المتعاقبة ادى الى مخاطر جمة.
من هنا سوف نستعرض الأوضاع النقدية والمصرفية خلال الفترة الماضية 2010 ـــ 2019:
منذ عام 2010 حتى عام 2019، حققت مصارف لبنان أرباحاً صافية متراكمة (بعد تسديد الضريبة) بقيمة 18.5مليار دولار، مقابل تسديد ضريبة أرباح للخزينة بقيمة 4.9 مليارات دولار حيث كان الجزء الأكبر من أرباح المصارف توظيفات المصارف لدى القطاع العام عبر الاكتتاب بسندات الخزينة والأدوات التي أصدرها مصرف لبنان، وهذا الأمر أتاح لها مضاعفة رؤوس أموالها بمعدل 1.3 مرات أو ما قيمته 12.4 مليارات دولار.
أشارت وقتها الإحصاءات (وفقا للجدول رقم 1) إلى أن المصارف واصلت تحقيق الأرباح الهائلة بسبب تنفيذ الهندسات المالية وسجلت 1642 مليون $ عام 2010 ارتفعت بعدها الى 1883 مليون $ عام 2015 2016 ثم الى 2672 مليون $ عام 2017 لتعود وتتراجع في بداية الأزمة الى 2234 مليون $ والى 1780 مليون $ عام 2019 ، دون ان ننسى ان هذه الأرباح (كانت تأتي رغم زيادة ضريبة الفوائد من 5% إلى 7% في عام 2017 وإلغاء الإعفاء الذي كان ممنوحاً للمصارف عليها).
بدأت الأزمة ككل الأزمات الاقتصادية الفردية والجماعية، وبعد أن تأقلمت الدولة وعاشت في مستوى تجاوز قدراتها المالية، حيث اعتمدت على الاستدانة والاقتراض للإنفاق على دلع السياسين حينها! ومع مرور الوقت استمرت الدولة الاقتراض لتسديد ما عليها من ديون، وتفاقمت الأزمة، حيث اقترضت لسداد فوائد الديون وليس الأصول، وتفاقمت المأساة عندما لم تجد أحداً يقوم بإقراضها في الوقت الذي يحين فيه موعد سداد ما عليها من ديون”.
بالمحصلة وصلنا الى استنتاج مفاده اقتراب سقوط لبنان مع ما صاحبه في الأروقة من اخضاع اقتصاده المصرفي الى تخمة الاقراض في ظل الحفاظ على العائد المتوقع على الرساميل، حيث موّلت المصارف فئتين كبيرتين كانتا تعيشان على الدين وبأكثر مما تسمح به قدراتهم الحقيقية:
القطاع العام والقطاع الخاص بمؤسساته وأفراده. حيث يمكن النظر الى ما جرى في لبنان من خلال عدة نقاط:
1.استخدام القطاع النقدي في الازمة الجيوسياسية المتصلّة بالصراع العربي الاسرائيلي والتي بموجبها مطلوب إخضاع لبنان وخاصة الفريق المتحالف مع سوريا وإيران ضمن الطبقة السياسية التي استخدمته كأزمة متلاحقة وسلاحاً يتمّ استخدامه في معركة الاخضاع.
2.أزمة سوء إدارة وفساد مالي تللمنظومة الحاكمة (الطبقة السياسية الفاسدة)، والتي ادّت إلى تحولات في انفجار رغم احقية مطالبه، لكن للاسف تم تسخيره واستثماره في أهداف خارجية عبر بعض المنظمات غير الحكومية المشبوهة التي تلقت ملايين $.
3.ارتفاع درجة تورّط المصارف بالدين العام برغبات الحكومات اللبنانية وهذا واضح من خلال توظيف أكثر من 60% من موجودات المصارف في الدين العام سواء كان على شكل سندات خزينة أم شهادات إيداع صادرة عن مصرف لبنان وهندسات مالية مع مصرف لبنان.
أمام هذا الواقع استمرت المصارف في لعب دور الضحية ومطالبتها بإصلاح فساد السياسيين وإبعادهم خلال، على الرغم من أنها قامت بتمويل هذا الفساد طوال العقود الماضية، وانغمست فيه إلى أقصى حدود بدليل أنها تمكّنت طول الفترة الماضية بمضاعفة رؤوس أموالها مع ما يعني أن الجزء الأكبر من إيرادات المصارف هو من المال العام الذي تنفقه وزارة المال أو يصنعه مصرف لبنان.
هذا الأمر يبين مستوى الترابط بين الدين وبين مركزية الدولةوتخصيصها الموارد لهذا الأمر بنسبة كبيرة من النفقات العامة، وهذا يعني أن أرباح المصارف ضمن أولويات هذه القوى السياسية وليس الاقتصاد، حيث اعتبرت المصارف نفسها في مأزق كبير والخوف من أن يؤدّي ذلك الى ذوبان قسم مهم من رساميلها، إلا أن مشكلتها أكبر بسبب تدنّي سيولتها إلى حدود قد لا تكفي لتلبية ضغط المودعين، وهي معرّضة لدعاوى إفلاس ناتجة عن امتناعها عن السداد، سواء سداد الودائع المستحقة للزبائن، أم سداد التزاماتها والتزامات الزبائن للخارج مدعية أن العطب ليس في أرباحها الهائلة، بل في النظام السياسي الفاسد وسرقات السياسيين وفسادهم.
في نيسان/ أبريل عام 2020 بدأ الحديث عن مشروع قانون الكابيتال كونترول، وفي آب/ أغسطس من السنة عينها أصدر مصرف لبنان، التعميم الأساسي الذي يحمل الرقم 154 الذي يهدف إلى إطلاق عجلة إعادة جزء من الودائع الصغيرة.
لكن عملية الإصلاح كانت جزئية ويجب أن تبدأ بتنازل المصارف عن أرباحها لفترة معينة كافية للخروج من المأزق المالي وبمواكبةّ إصدار قوانين تفرض ضرائب موازية لما هو معمول فيه عالمياً، على كل النشاطات الريعية، وبمعدلات تصاعدية تحمي الفقراء ولا تساويهم مع الأثرياء (كل دخل سواء أكان فوائد ودائع، أم مبيعات عقارية أم سواها من النشاطات المحلية والخارجية التي يقوم بها اللبنانيون).
ولكن، حتى اليوم، لا إنجازات تُذكر في الحالتين، وتقاذفت السلطة السياسية وجمعية المصارف الاتهامات، ونقل مشروع القانون بين لجنة المال والموازنة والإدارة والعدل والهيئة العامة مرات عدة في سياق محاولة إقرار قانون الكابيتال كونترول وما صاحبه من اغلاق المصارف كضغط من المصارف على إعادة هيكلة القطاع المصرفي وفقا لمصلحتها . حيث دارت المناقشات في مشروع قانون الكابيتال كونترول مع فشل محاولة إقراره والذي تضمن ثلاث نقاط:
1ـ من جهة تنظيم العلاقة بين المودعين والمصارف
أظهرت الإحصائيات من خلال الجدول والرسم البياني رقم (2) تراجع ودائع القطــاع الخــاص المقيـم من 126.41مليار $عام 2019 الى 101.19مليار $ عام 2022 (بنسبة تراجع بلغت 19.95% ) كما انخفضت ودائع القطــاع الخــاص الغير مقيم من 32.45مليار $ عام 2019 الى 23.56 مليار $ عام 2022 (بنسبة تراجع بلغت 27.39% ) بالمقابل بلــغ مجمــوع انخفــاض الودائــع فـي السنوات الثلاث الماضية (2019 ــ 2021) مـا يقـرب 34 مليـار دولار.
ولا تزال المصارف تتمسك بامكانية متابعة تطبيق التعميم 158 في ظل ادعاء العديد منها بأنه ليس لديه سيولة كافية حالياً لدفع مبلغ 1000 دولار! شهرياً كحد أقصى بحسب ما يتطلبه مشروع القانون. مع بروز آراء وطروحات عشوائية لـ “قص الودائع”، أو فرض ضريبة استثنائية لمرّة واحدة على الودائع التي تفوق حدّاً معيّناً وذلك بنسب تصاعدية، على غرار ما حصل في قبرص في عام 2013.
هذا الامر يرتب على السلطة النقدية والمالية “فرض إعادة العمل بوسائل الدفع المتاحة بين القطاعات الانتاجية والناس من خلال القطاع المصرفي (بطاقات الدفع والائتمان، والشيكات والتحاويل) وإعادة تنظيم القوانين التي ترعى هذه العلاقة (قانون النقد والتسليف، وتعاميم مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف) ولكن يأتي الجواب من المصارف من واقع الدعوى الحالية (حسب رأيهم) حيث أن قلة من كبار المودعين في الخارج هم من يربحون الدعاوى ضد المصارف يجففون سيولتها المفروض توزيعها بالتساوي على كافة المودعين عبر التعميم 158.!
لكن هذا غير صحيح لأنه من خلال النظر الى الجدول (2) لاحظنا تراجع حجم ودائع الغير مقيمين بمبلغ( 23.56 مليار $) وهي تشكل أقل من ربع ودائع المقيمين 101.19مليار $) وليس كما تدعي المصارف انها تحافظ على ما تبقى من سيولة لاستعمالها بتسديد الودائع حسب التعميم 158.
2ـــ من جهة إقرار ضوابط على تقييد انتقال رؤوس الأموال الى الخارج
جاء إقفال المصارف في بداية الأزمة الاقتصادية والمالية بحجة الحدّ من عمليات التحويل وسحب الودائع، في ظل عدم فرض الحكومة والبنك المركزي أيّ ضوابط نظامية لمنع تفاقم موجة هروب الرساميل، بذريعة أنّ ذلك قد يؤثر سلباً على تدفق الرساميل، ولكن هذا طرح علامات استفهام كثيرة؟؟
لا سيما أن القيود غير المعلنة والاستنسابية التي أصابت أصحاب الودائع الصغيرة والمتوسطة، في ظل تهريب رؤوس أموال المودعين الكبار وأصحاب المصارف، وبالرغم من محاولة مصرف لبنان عبر الطلب من السلطة السياسية التصرّف بسرعة للحدّ منه بإصدار التعميم رقم 154 للمصارف والطلب من عملائها وكبار المساهمين فيها وحثهم على إعادة ما بين بين 15% و30% من ما أخرج من أموال كل هذا دليل على أن لبنان كان بحاجة إلى وضع ضوابط على حركة رأس المال قبل الأزمة بكثير! (على غرار ما حدث في بداية الحرب الروسية الاوكرانية وهو إسراع الرئيس بوتين بتقييد حركة انتقال الرساميل لحماية الاقتصاد الروسي ).
إلا أن جدوى هذا الإجراء وعدالته تراجعت في ظل قيام كبار المودعين تهريب ودائعهم والنفاذ بثرواتهم ورمي الأكلاف والخسائر على الفئات متوسّطة الدخل وأصحاب الادّخارات الصغيرة والمتوسطة، فضلاً عن أن هروب الودائع ساهم بزيادة الضغوط على سعر صرف الليرة وقوّض إمكانيات التمويل للقطاعين العام والخاص وسرّع الانهيار الذي يُقلق الجميع.
من هنا فإن الممر الإلزامي لإعادة الحياة إلى القطاع المصرفي وانطلاق عجلة ترميم الثقة بين المودعين والمصارف بما تملك من سيولة بالعملات الأجنبية النقدية مع امكانية استخدام جزء من رساميلها الخاصة التي تجاوزت ( 16.26مليار$) ،وذلك إذا صح أن الهدف من هذه النقاشات عودة الحياة إلى القطاع المصرفي.
3ــ من جهة إبراء ذمة المصارف من المخالفات الغير قانونية منذ انطلاق الأزمة عام 2019
منذ انطلاقة الأزمة في تشرين الاول/ اكتوبر من 2019 ومطالبة كل المودعين بسحب كل أموالهم، عاد النقاش في اللجان النيابية المختصة ومن قبل المراقبين والمحللين بإعادة التوازن للقطاع المالي عبر قانون هيكلة القطاع المصرفي، حيث أعلنت المصارف الإضراب كونها تفضل البقاء على الوضع الحالي بهدف استنزاف الودائع على مر السنين، ولكن هل يملك القطاع المصرفي ترف الوقت لا ينتظر عقوداً من الزمن مع ما راكمه من خسائر سنوية وما يعانيه من تقليص لأعماله؟ وهل من مصلحة المصارف وهي المتضررة من النزف الحاصل أن تتوخى استمراره لسنوات؟
من هنا تأتي ضرورة إقرار مشروع قانون إعادة هيكلة المصارف في الوقت الذي يجب معالجة أخطاء المؤسسات المصرفية من خلال القضاء المختص بالتنسيق مع لجنة الرقابة على المصارف وإذا تعذرت المعالجة، يجب أن يتم تصفية المصرف بعد توزيع حجم الخسائر بين ثلاثة أطراف وهي: المودع، المصرف، السلطة السياسية التي هدرت هذه الأموال وامتدادها في مصرف لبنان.
أمام هذا الواقع يعتقد البعض بأن شطب الودائع يريح المصارف من التزاماتها، مع ما يعنيه ذلك من تملص الدولة من التزاماتها تجاه المصارف بطريقة غير مباشرة، فأصول الدولة قد تشكل جزءا بسيطا َّ من الخسائر المالية المقدرة، كما لا تزال الإيرادات المحتملة من النفط والغاز غير مؤكَّدة ويحتاج تحقيقها سنوات.
في النتائج:
من هنا أن أي عملية إعادة هيكلة يجب ان تكون صادقة وأن تعتمد مبادئ الإنصاف والعدالة لضمان حماية صغار المودعين الذين تحملوا حتى الان وطأة هذه الازمة. (مع الانتباه من مطالبة عامة المواطنين بتعويض المساهمين في البنك والمودعين الأثرياء أن تؤدي إلى عدم عدالة توزيع الثروة).
كل ما سبق يجب أن يتماشى مع أفضل الخطط لإعادة هيكلة القطاع المصرفي التي تدعو إلى الاعتراف بالخسائر الكبيرة ومعالجتها بشكل مسبق، واحترام ترتيب المطالبات، وحماية صغار المودعين، والامتناع عن اللجوء إلى الموارد ُالعامة، لأنه حتى أن الأموال التي يوفرها صندوق النقد (750 مليون $) لن تكون كافية لذلك لا بد أن تكون المعالجة كاملة وتتضمن:
1. إطلاق عجلة إعادة ترميم الثقة بين المصرف وعملائه من مودعين ومصارف مراسلة لإعادة الحياة إلى ربوعه عبر إنشاء صندوق استعادة الودائع عبر شراكة حقيقية من قبل المصارف والدولة.
2. إصلاح القطاع المصرفي وضخ الأموال بشرط معالجة سلة القطاع العام المثقوبة والتي لم يعد يتقبلها المودعون وعموم الشعب اللبناني بسبب سياسة الدولة التي استهلكت 62 ملياراً (عبر هدر أموال المودعين من أجل تمويل فسادها) من أصل فجوة قدرها 73 ملياراً.
3. إجراء إصلاحات شاملة وجذرية لمكامن الهدر والفساد في القطاع العام والتحول من الاقتصاد الريعي الى الاقتصاد المنتج عبر النموذج الإنمائي المستدام.
في النهاية إن محاولة اسقاط لبنان في ظل اخضاع اقتصاده المصرفي الى تخمة الاقراض للحفاظ على العائد المتوقع على الرساميل، ما هو إلا أزمة مفتعلة ومركّبة لها أبعاد تتصلّ بأزمة سوء الإدارة الاقتصادية والسياسية وبتدخل مباشر وغير مباشر من الولايات المتحدة وأعوانها في المنطقة عموماً، وفي لبنان بشكل خاص عبر أدواتها واستخدام العصا النقدية المفروضة ” الدولار”، وهذا واضح منذ ما يعرف باتفاقية بريتون وودز التي اقرت بعد الحرب العالمية الثانية لتطويع وجعل الدول وخاصة في منطقة الشرق الاوسط تدور في فلكها الاقتصادي والسياسي خدمة لمصالح وأمن طفلها المدلل الكيان الصهيوني وفي ظل آليات عميقة يعمل بموجبها هذا النظام بالسيطرة على قطاع المصارف وإدارة البنوك المركزية في اغلب دول العالم .
(*) باحث في الشؤون الاقتصادية والإدارية والتربوية