الوقت- اليوم، يمر النظام الدولي بتغييرات عميقة على المستوى الكلي والمناطق الاقل أهمية، وكما يعتقد جون ميرشايمر، المنظر الأمريكي البارز، أن “المبادئ الأساسية للنظام الماضي تتغير ومن الصعب التفكير في استعادته” . كما أدى دخول النظام الدولي في الفترة الانتقالية التي أعقبت أمريكا إلى ظهور ديناميكيات بيئية على مستوى المناطق، ويمكن ذكر أهمها في منطقة غرب آسيا والخليج الفارسي (الشرق الأوسط).
إن النظرة على بيئة الشرق الأوسط، تُظهر أن هذه المنطقة الاستراتيجية في توفير أمن الطاقة والاقتصاد العالمي قد شهدت أزمات مختلفة خلال العقدين الماضيين، ما تسبب في عدم تشكيل نظام أمني قائم على توازن القوى، وفي هذه الحالة، يركز المحللون بشكل أساسي على الوضع، وفي الفترة الانتقالية، يؤكدون ضرورة الانتقال من النظام الفوضوي إلى هندسة جديدة للنظام الأمني في المنطقة. وفي هذه العملية الانتقالية، فإن دور تقليل وزن وتأثير أمريكا في عملية التطورات الإقليمية مهم للغاية.
وترى نظرية الاستقرار المهيمن أن الهدف الرئيسي للولايات المتحدة في الشرق الأوسط في هذا الوقت هو منع ظهور قوة إقليمية مهيمنة يمكن أن تهدد المصالح الحيوية للولايات المتحدة وحلفائها. لذلك، مع بداية عملية تقليص الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة (بعد مغادرة أفغانستان)، حاولت هذه الدولة دفع هذا الهدف الاستراتيجي من خلال تقريب العرب من إسرائيل وتوحيدهم ضد الجمهورية الإسلامية ومحور المقاومة.
من ناحية أخرى، هناك دول وجهات فاعلة حكومية وغير حكومية لا تقبل الهيمنة الأمريكية في المنطقة. وفي السنوات الأخيرة، كانت الجمهورية الإسلامية الإيرانية زعيمة المعارضة الأمريكية في محور المقاومة. ويشمل هذا المعسكر سوريا واليمن والعراق، وفاعلين غير حكوميين مثل حزب الله اللبناني وحركة حماس، الذين حاولوا التعاون مع قوى خارج إقليمية نشطة في المنطقة، مثل الصين وروسيا، من أجل مواجهة خطط هيمنة الولايات المتحدة.
انتصارات المقاومة في شطرنج المعادلات
في هذه المعادلة ذات الاتجاهين في نظام الأمن الانتقالي في المنطقة، يمكننا أن نشهد التكوين المستمر وانتشار تحالفات متعددة تتنافس في كل من الطيفين. وفي التحالفات المتعددة، يواجه الفاعلون تحالفًا يتم إنشاؤه من الرابط بين القضايا المختلفة التي تمتد من منطقة إلى مناطق أخرى، والقدرة على دمج الأهداف تزيل التحالف من كونه حصريًا لقضية معينة.
وفي هذا الصدد، فإن الهدف النهائي للولايات المتحدة هو تعزيز تطبيع العلاقات بين الدول العربية والنظام الصهيوني، إلى جانب استمرار الضغط على إيران (من العقوبات والفوضى الداخلية إلى محاولات إغلاق شرايين التنفس الاقتصادي كتجارة مع الجيران)، ومنع انتهاء الأزمة السورية والضغط على فصائل المقاومة في لبنان والعراق واليمن، تتماشى جميعها مع بناء تحالف للحفاظ على نظام الهيمنة الأمريكية في المنطقة.
ومع ذلك، فإن التطورات في الأشهر الأخيرة أظهرت تدريجيًا عدم فعالية السياسات الأمريكية. ومن جهة، شهد استعداد الدول العربية لقبول شرعية الحكومة السورية وإعادة العلاقات مع هذا البلد، خلافًا لرغبات الولايات المتحدة، اتجاهاً متزايداً في الأشهر الأخيرة، وهو ما سيؤدي على الأرجح إلى عودة مقعد دمشق في جامعة الدول العربية في المستقبل القريب. وتعد زيارة بشار الأسد إلى عُمان في وقت سابق من الشهر الجاري، والتي أعقبتها زيارة وفد من أعضاء البرلمان العربي إلى دمشق وإمكانية إعادة العلاقات بين سوريا وتركيا في المستقبل القريب، أحداثًا مهمة في نهاية الأزمة السورية.
وخلال الفترة الماضية تقاربت العلاقات العربية مع دمشق، حيث قدمت عدد من الدول العربية دعمها لسوريا في أعقاب الزلزالين اللذين ضربا أجزاء من البلاد في 6 فبراير، وهذه الخطوات تمثل محاولة حقيقية من قبل تلك الدول لإعادة بناء العلاقات مع الدولة التي مزقتها الحرب، حيث إن دول الشرق الأوسط تركز الآن على إعادة بناء اقتصاداتها بعد سنوات من الصراع والفوضى التي خلفتها القوى الخارجية، بما في ذلك فشل المعارضة في سوريا في تقديم بديل قابل للتطبيق لحكومة الرئيس بشار الأسد.، وباعتبار أن القوى الخارجية خلقت الكثير من الفوضى في الشرق الأوسط، تحاول دول الشرق الأوسط في فضائها الخاص بوسائلها الخاصة بناء اقتصاداتها، وقد نُقل على نطاق واسع عن وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان آل سعود قوله إن الإجماع يتزايد في العالم العربي على أن عزل سوريا “لم يكن مجديًا” وأن الحوار مع دمشق كان ضروريًا في مرحلة ما على الأقل لمعالجة القضايا الإنسانية وعودة اللاجئين.
من ناحية أخرى، كان توقيع اتفاقية خفض التصعيد بين إيران والسعودية بوساطة الصين، والتي تحققت في الأيام الماضية، بمثابة ضربة قاضية لحلم تشكيل تحالف عربي – صهيوني مناهض لإيران. والتي من المحتمل أن يكون لها تأثيرات أمنية على المنطقة، وخاصة في اليمن والعراق ولبنان والخليج الفارسي، وستؤدي إلى تحييد أجواء الرهاب من إيران وخطة بيع وهم الأمن للعرب بالموافقة على تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني. كما تؤكد اتفاقية بناء الأمن هذه على دور الصين في التطورات في المنطقة. بطبيعة الحال، لعبت الاتفاقيات الاقتصادية بين الصين وإيران والسعودية دورًا مهمًا في تكوين بيئة تواصل جديدة، وسيضاعف ذلك من رغبة الدول العربية في تطوير الشراكة والتعاون مع هذا العملاق الآسيوي، وهو ما يعد ضربة أخرى لبيئة الاتصالات المطلوبة في النظام الأمني الأمريكي في المنطقة.
بالنسبة للعديد من صانعي السياسة الأمريكيين المخضرمين، من المقلق رؤية لعبة الأمن الصينية في غرب آسيا. وتقول “مارا رودمان”، نائبة الرئيس التنفيذي للسياسة الأمريكية والمبعوثة السابقة للبلاد إلى الشرق الأوسط في عهد أوباما: “وساطة الصين في العلاقات الإيرانية السعودية، هي أحدث تذكير بأن المنافسة على المسرح العالمي آخذة في التغير. وهذا يعني أن مجال النفوذ والمنافسة مع الصين لا يقتصر بأي حال من الأحوال على منطقة المحيطين الهندي والهادئ، تمامًا كما لا يقتصر تأثير الصين على المجال الاقتصادي فقط. فالصين تدخل مجالات أمنية واقتصادية وجغرافية جديدة تتحدى أمريكا“.
على الرغم من أن أمريكا لا تزال لديها أوراق رئيسية في غرب آسيا، ولديها علاقات تجارية وعسكرية واستخباراتية واسعة مع العديد من الجهات الفاعلة المهمة في المنطقة، ولکن لا شك في أنها ستواجه بعد ذلك منافسًا جادًا في المنطقة يسمى الصين. هذا في حين أنه بعد نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي، كانت أمريكا هي اللاعب الأجنبي المهم الوحيد في المنطقة، ورغم أنه في السنوات الماضية ومنذ أن بدأت روسيا عملياتها العسكرية في سوريا عام 2015 لصالح حكومة بشار الأسد، واجهت الولايات المتحدة أيضًا تحدي وجود منافس دولي في سوريا، وهو روسيا، لكن في الخليج الفارسي لم تشهد أمريكا منافسًا سياسيًا لفترة طويلة، وفجأةً يتم توقيع الاتفاقية بين إيران والسعودية في بكين، وترى أمريكا منافسًا قويًا في الخليج الفارسي يسمى الصين.
وبعبارة أخرى، أظهر اتفاق بكين أنه في الخليج الفارسي، إضافة إلى الولايات المتحدة، هناك جهة فاعلة أخرى تسمى الصين، والتي يجب على الولايات المتحدة أن تأخذها في الاعتبار. يبدو أن النظام الإقليمي آخذ في التغير، وبعد الآن سيختبر الأمريكيون بشكل ملموس النظام العالمي متعدد الأقطاب، وهو نظام جديد يضغط على أمريكا في مجالات نفوذها التقليدية، ويخلق لها منافسين جديين مثل الصين. لذلك، من خلال متابعة هذه التطورات، يمكن الاستنتاج أنه في منافسة الشطرنج بين قوتين متنافستين لتحديد مستقبل النظام الأمني في المنطقة، تدهورت الاستراتيجية الأمريكية لإقامة نظام جديد قائم على تطبيع العلاقات مع الردود المناسبة من المنافسين الإقليميين والدوليين.