الرئيسية / الاسلام والحياة / كتاب نهج الحق وكشف الصدق للعلامة الحلي

كتاب نهج الحق وكشف الصدق للعلامة الحلي

نهج الحق وكشف الصدق / الصفحات: ١٠١ – ١٢٠

” وما ربك بظلام للعبيد ” (١) و ” لا ظلم اليوم ” (٢)، و ” لا يظلم ربك أحدا ” (٣)..والظلم هو إضرار غير المستحق، وأي إضرار أعظم من هذا، مع أنه غير مستحق؟ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

 

إرادة النبي موافقة لإرادة الله

المطلب التاسع: في أن إرادة النبي صلى الله عليه وآله موافقة لإرادة الله تعالى.

ذهبت الإمامية إلى أن النبي (ع) يريد ما يريده الله تعالى، ويكره ما يكرهه، وأنه لا يخالفه في الإرادة والكراهة.

وذهبت الأشاعرة إلى خلاف ذلك، وأن النبي صلى الله عليه وآله يريد ما يكرهه الله تعالى (٤) ويكره ما يريده، لأن الله تعالى أراد من الكافر الكفر، ومن العاصي العصيان، ومن الفاسق الفسوق، ومن الفاجر الفجور. والنبي صلى الله عليه وآله أراد منهم الطاعات، فخالفوا بين مراد الله تعالى وبين مراد النبي صلى الله عليه وآله وأن الله كره من الفاسق الطاعة، ومن الكافر الإيمان، والنبي أرادهما منهما، فخالفوا بين كراهته تعالى، وكراهة النبي، نعوذ بالله تعالى من مذهب يؤدي إلى القول بأن مراد النبي يخالف (٥) مراد الله تعالى، وأن الله تعالى لا يريد من الطاعات ما يريده أنبياؤه، بل يريد ما أرادته الشياطين: من المعاصي، وأنواع الفواحش والفساد!.

 

 

(١) فصلت ٤٦.(٢) غافر: ١٧.

(٣) الكهف: ٤٩.

(٤) راجع: الفصل في الملل والأهواء والنحل، لابن حزم ج ٣ ص ٥٢، وما بعدها، . و ١٤٢، وما بعدها…

(٥) أقول: هذه كلمة من أركان المذهب الأشعري، وهم يستندون إليها في أكثر مسائلهم الاعتقادية.

 

١٠١

إنا فاعلون

المطلب العاشر: في إنا فاعلون.

اتفقت الإمامية (١)، والمعتزلة على ” إنا فاعلون ” وادعوا الضرورة في ذلك. فإن كل عاقل لا يشك في الفرق بين الحركات الاختيارية والاضطرارية، وأن هذا الحكم مركوز في عقل كل عاقل، بل في قلوب الأطفال والمجانين. فإن الطفل لو ضربه غيره بآجرة تؤلمه، فإنه يذم الرامي، دون تلك الآجرة، ولولا علمه الضروري بكون الرامي فاعلا دون الآجرة لما استحسن ذم الرامي دون الآجرة، بل هو حاصل في البهائم..

قال أبو الهذيل: (حمار بشر أعقل من بشر، لأن الحمار إذا أتيت به إلى جدول كبير، فضربته، لم يطاوع على العبور، وإن أتيت به إلى جدول صغير جاز، لأنه فرق بين ما يقدر عليه، وما لا يقدر عليه، وبشر لا يفرق بينهما، فحماره أعقل منه).

وخالفت الأشاعرة في ذلك، وذهبوا إلى أنه لا مؤثر في الوجود إلا الله تعالى (٢)

 

(١) لا يخفى على من تتبع كتب الإمامية: أنهم يبطلون الجبر، خلافا للأشاعرة، ويبطلون التفويض خلافا للمعتزلة، كما استفاض، بل تواتر عن أئمة أهل البيت عليهم السلام:” لا جبر ولا تفويض، بل أمر بين الأمرين “، فنفوا حقيقة الجبر، وحقيقة التفويض بنفي الجنس فيهما. وفسروا عليهم آلاف التحية والثناء الأمر بين الأمرين: بأنه الملكية الواقعية

(التي لا ترديد في تحققها، بضرورة العقل والوجدان) للقدرة والاستطاعة التي يملكها العباد، بتمليك الله تعالى لهم إياها، وهو أملك لما ملكهم، والقادر على ما أقدرهم عليه، فبإذنه تعالى شأنه يتصرف الإنسان فيه، ويوجد ما اختاره من الفعل أو الترك. قال تعالى:

” لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ” البقرة: ٢٨٦. وقال تعالى: ” فاتقوا الله ما استطعتم، واسمعوا وأطيعوا ” التغابن: ١٦ وغيرهما من الآيات.

(٢) الملل والنحل ج ١ ص ٩٧ شرح العقائد قفتازاني ص ١٢٣.

 

١٠٢

مكابرة الجبرية بضرورة العقل

فلزمهم من ذلك محالات:

منها: مكابرة الضرورة، فإن العاقل يفرق بالضرورة بين ما يقدر عليه، كالحركة يمنة ويسرة، والبطش باليد، وبين الحركة الاضطرارية، كالوقوع من شاهق، وحركة المرتعش، وحركة النبض.

ويفرق بين حركات الحيوان الاختيارية، وحركات الجماد، ومن شك في ذلك فهو سوفسطائي، إذ لا شئ أظهر عند العاقل من ذلك، ولا أجلى منه.

 

يلزم الجبرية إنكار الأحكام الضرورية

ومنها: إنكار الحكم الضروري، من: حسن مدح المحسن، وقبح ذمه، وحسن ذم المسئ، وقبح مدحه.

فإن كل عاقل يحكم بحسن مدح من يفعل الطاعات دائما، ولا يفعل شيئا من المعاصي، ويبالغ بالاحسان إلى الناس، ويبذل الخير لكل أحد، ويعين الملهوف، ويساعد الضعيف، وإنه يقبح ذمه، ولو شرع أحد في ذمه.

باعتبار إحسانه عده العقلاء سفيها، ولأمه كل أحد.. ويحكمون حكما ضروريا بقبح مدح من يبالغ في الظلم، والجور، والتعدي، والغضب، ونهب الأموال، وقتل الأنفس، ويمتنع من فعل الخير وإن قل، وأن من مدحه على هذه الأفعال عد سفيها، ولأمه كل عاقل.

ونعلم ضرورة قبح المدح والذم على كونه طويلا أو قصيرا، أو كون السماء فوقه، والأرض تحته، وإنما يحسن هذا المدح والذم لو كان الفعلان

١٠٣
صادرين عن العبد، فإنه لو لم يصدر عنه لم يحسن توجه المدح والذم إليه (١).والأشاعرة لم يحكموا بحسن هذا المدح والذم، فلم يحكموا بحسن مدح الله تعالى على إنعامه، ولا الثناء عليه، ولا الشكر له، ولا بحسن ذم إبليس، وسائر الكفار، والظلمة، المبالغين في الظلم، بل جعلوهما متساويين في استحقاق المدح والذم.

فليعرض العاقل المنصف من نفسه هذه القضية على عقله، ويتبع ما يقوده عقله إليه، ويرفض تقليد من يخطئ في ذلك، ويعتقد ضد الصواب، فإنه لا يقبل منه غدا يوم الحساب. وليحذر من إدخال نفسه في زمرة الذين قال الله تعالى عنهم: ” وإذ يتحاجون في النار، فيقول الضعفاء للذين استكبروا: إنا كنا لكم تبعا، فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار ” (٢)؟.

 

يلزم الجبرية قبح التكليف

منها: أنه يقبح منه تعالى حينئذ تكليفنا فعل الطاعات، واجتناب المعاصي، لأنا غير قادرين على ممانعة القديم، فإذا كان الفاعل للمعصية فينا هو الله تعالى، لم نقدر على الطاعة، لأن الله تعالى إن خلق فينا فعل الطاعة كان واجب الحصول، وإن لم يخلقه كان ممتنع الحصول.

ولو لم يكن العبد متمكنا من الفعل والترك كانت أفعاله جارية مجرى

 

(١) في الطرائف: روي أن رجلا سأل جعفر بن محمد الصادق (ع)، عن القضاء والقدر، فقال: ما استطعت أن تلوم العبد عليه فهو منه، وما لم تستطع أن تلوم العبد عليه فهو من فعل الله، يقول الله تعالى للعبد: لم عصيت؟ لم فسقت؟ لم شربت الخمر؟ لم زنيت؟فهذا فعل العبد، ولا يقول له: لم مرضت؟ لم قصرت؟ لم ابيضضت؟ لم اسوددت؟

لأنه من فعل الله تعالى. (بحار الأنوار ج ٥ ص ٥٩).

(٢) المؤمن: ٤٧.

 

١٠٤
حركات الجمادات، وكما أن البديهة حاكمة بأنه لا يجوز أمر الجماد، ونهيه، ومدحه، وذمه، وجب أن يكون الأمر كذلك في أفعال العباد، ولأنه تعالى يريد منا فعل المعصية، ويخلقها فينا، فكيف نقدر على ممانعته؟ولأنه إذا طلب منا: أن نفعل فعلا، ولا يمكن صدوره عنا، بل إنما يفعله هو، كان عابثا في الطلب، مكلفا لما لا يطاق، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

 

يلزم الجبرية كونه تعالى ظالما

ومنها: أنه يلزم أن يكون الله سبحانه أظلم الظالمين، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، لأنه إذا خلق فينا المعصية، ولم يكن لنا فيها أثر البتة، ثم عذبنا عليها، وعاقبنا على صدورها منه تعالى فينا، كان ذلك نهاية الجور والعدوان، نعوذ بالله من مذهب يؤدي إلى وصف الله تعالى بالظلم والعدوان!. فأي عادل يبقى بعد الله تعالى، وأي منصف سواه، وأي راحم للعبد غيره، وأي مجمع للكرم والرحمة، والإنصاف عداه، مع أنه يعذبنا على فعل صدر عنه، ومعصية لم تصدر عنا بل منه.

 

يلزم الجبرية نفي ما علم ثبوته وإثبات ما علم نفيه بالضرورة

ومنها: أنه يلزم تجويز انتفاء ما علم بالضرورة ثبوته.

وبيانه. أنا نعلم بالضرورة: أن أفعالنا إنما تقع بحسب قصودنا ودواعينا، وتنتفي بحسب انتفاء الدواعي، وثبوت الصوارف.

فإنا نعلم بالضرورة أنا متى أردنا الفعل، وخلص الداعي إلى إيجاده، وانتفى الصارف، فإنه يقع، ومتى كرهناه لم يقع. فإن الإنسان متى اشتد به الجوع، وكان تناول الطعام ممكنا، فإنه يصدر منه تناول الطعام، ومتى اعتقد أن في الطعام سما انصرف عنه، وكذا يعلم من حال غيره ذلك، فإنا نعلم بالضرورة: أن شخصا لو اشتد به العطش ولا مانع له من

١٠٥
شرب الماء فإنه يشربه بالضرورة، ومتى علم مضرة دخول النار لم يدخلها، ولو كانت الأفعال صادرة من الله تعالى جاز أن يقع الفعل، وإن كرهناه، وانتفى الداعي إليه، ويمتنع صدوره عنا وإن أردناه وخلص الداعي إلى إيجاده على تقدير أن لا يفعله الله تعالى، وذلك معلوم البطلان، فكيف يرتضي العاقل لنفسه مذهبا يقوده إلى بطلان ما علم بالضرورة ثبوته؟.ومنها: أنه يلزم تجويز ما قضت الضرورة بنفيه، وذلك لأن أفعالنا إنما تقع على الوجه الذي نريده ونقصده، ولا يقع منا على الوجه الذي نكرهه، فإنا نعلم بالضرورة: أنا إذا أردنا الحركة يمنة، لم تقع يسرة، ولو أردنا الحركة يسرة لم تقع يمنة، والحكم بذلك ضروري، فلو كانت الأفعال صادرة من الله تعالى، جاز أن تقع الحركة يمنة، ونحن نريد الحركة يسرة، وبالعكس. وذلك ضروري البطلان.

 

الجبرية يخالفون نصوص القرآن

ومنها: يلزم مخالفة الكتاب العزيز، ونصوصه، والآيات المتضافرة فيه، الدالة على استناد الأفعال إلينا. وقد بينت في كتاب ” الايضاح ” مخالفة أهل السنة لنص الكتاب والسنة، بالوجوه التي خالفوا فيها آيات الكتاب العزيز، حتى أنه لا تمضي آية من الآيات إلا وقد خالفوا فيها من عدة أوجه، فبعضها يزيد على عشرين، ولا ينقص شئ منها عن أربعة.

ولنقتصر في هذا المختصر على وجوه قليلة، دالة على أنهم خالفوا صريح القرآن، ذكرها أفضل متأخريهم، وأكبر علمائهم فخر الدين الرازي (١)، وهي عشرة:

 

الآيات التي نسب للفعل فيها إلى العبد

الأول: الآيات الدالة على إضافة الفعل إلى العبد: ” فويل للذين

 

(١) التفسير الكبير ج ٢ ص ٤٣. 

١٠٦
كفروا ” (١) ” فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ” (٢) ” إن يتبعون إلا الظن ” (٣) ” ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ” (٤) ” بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل ” (٥) ” فطوعت له نفسه قتل أخيه ” (٦) ” من يعمل سوءا يجز به ” (٧) ” كل امرئ بما كسب رهين ” (٨) ” وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم ” (٩). 

الآيات التي مدح فيها المؤمن أو ذم فيها الكافر

الثاني: ما ورد في القرآن من مدح المؤمن على إيمانه، وذم الكافر على كفره، ووعده بالثواب على الطاعة، وتوعده بالعقاب على المعصية، كقوله تعالى: ” اليوم تجزى كل نفس بما كسبت ” (١٠)، ” إنما تجزون ما كنتم تعملون ” (١١)، ” وإبراهيم الذي وفى ” (١٢)، ” ألا تزر وازرة وزر أخرى ” (١٣)، ” لتجزى كل نفس بما تسعى ” (١٤)، ” هل جزاء الاحسان إلا الاحسان ” (١٥)، ” هل تجزون إلا ما كنتم تعملون ” (١٦)، ” من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ” (١٧)، ” ومن أعرض عن ذكري ” (١٨)، ” أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا ” (١٩)، ” إن الذين كفروا بعد إيمانهم ” (٢٠)

 

(١) مريم: ٣٧.(٢) البقرة: ٧٩.

(٣) الأنعام: ١٤٨.

(٤) الأنفال: ٥٣.

(٥) يوسف: ١٨.

(٦) المائدة: ٣٠.

(٧) النساء: ١٢٣.

(٨) الطور: ٢١.

(٩) إبراهيم: ٢٢.

(١٠) غافر: ١٧.

(١١) الطور: ١٦.

(١٢) النجم: ٣٧ و ٣٨.

(١٣) النجم: ٣٧ و ٣٨.

(١٤) طه: ١٥.

(١٥) الرحمن: ٦٠.

(١٦) النمل: ٩٠.

(١٧) الأنعام: ١٦٠.

(١٨) طه: ١٢٤.

(١٩) البقرة: ٨٦.

(٢٠) آل عمران: ٩٠.

 

١٠٧

الآيات التي تنزه فعله تعالى عن شبه أفعال العباد

الثالث: الآيات الدالة على أن أفعال الله تعالى منزهة عن أن تكون مثل أفعال المخلوقين، في التفاوت، والاختلاف، والظلم. قال الله تعالى:

” ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت ” (١)، ” الذي أحسن كل شئ خلقه ” (٢)، والكفر والظلم ليس بحسن، وقال تعالى: ” وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق ” (٣)، والكفر ليس بحق، وقد قال تعالى: ” إن الله لا يظلم مثقال ذرة ” (٤)، ” وما ربك بظلام للعبيد (٥)، ” وما ظلمناهم ” (٦)، ” لا ظلم اليوم ” (٧)، ” ولا يظلمون فتيلا ” (٨).

 

الآيات التي توبخ العباد على كفرهم وعصيانهم

الرابع: الآيات الدالة على ذم العباد على الكفر والمعاصي كقوله تعالى:

” كيف تكفرون بالله ” (٩)، والانكار والتوبيخ مع العجز عنه محال.

ومن مذهبهم: (أن الله خلق الكفر في الكافر، وأراده منه، وهو لا يقدر على غيره) (١٠)، فكيف يوبخه عليه؟ وقال تعالى: ” وما منع

 

(١) الملك: ٣.(٢) السجدة: ١٧.

(٣) الحجر: ٨٥.

(٤) النساء: ٤٠.

(٥) فصلت: ٤٦.

(٦) هود: ١٠١.

(٧) غافر: ١٧.

(٨) الإسراء: ٧١.

(٩) البقرة: ٢٨.

(١٠) قال ابن تيمية، في كتابه مجموعة الرسائل الكبرى ج ١ ص ١٢٩، ما خلاصته: قالت الجهمية، والأشعرية: قد علم أن الله خالق كل شئ، وربه، ومليكه. ولا يكون خالقا إلا بقدرته، ومشيئته، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن. وكل ما في الوجود فهو بمشيئته، وقدرته، هو خالقه، سواء في ذلك أفعال العباد، وغيرها..

وقال الشهرستاني: في الملل والنحل ج ١ ص ٩٦: قال الأشعري: وإرادته واحدة، قديمة أزلية، متعلقة بجميع المرادات، من أفعاله الخاصة، وأفعال عباده، من حيث أنها مخلوقة له، أراد الجميع، خيرها وشرها، ونفعها وضرها، وكما أراد وعلم، أراد من العباد ما علم، وأمر القلم، حتى كتب في اللوح المحفوظ.

 

١٠٨
الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ” (١)، وهو إنكار بلفظ الاستفهام، ومن المعلوم: أن رجلا لو حبس آخر في بيت، بحيث لا يمكنه الخروج عنه، ثم يقول: ما منعك من التصرف في حوائجي؟ قبح منه ذلك. وكذا قوله تعالى: ” وماذا عليهم لو آمنوا ” (٢)، ” ما منعك أن تسجد ” (٣)، وقوله تعالى: ” ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ” (٤)، ” فما لهم عن التذكرة معرضين (٥)، ” فما لهم لا يؤمنون ” (٦)، ” عفا الله عنك لم أذنت لهم ” (٧)، ” لم تحرم ما أحل الله لك ” (٨)، وكيف يجوز أن يقول: لم تفعل؟ مع أنه ما فعله، وقوله تعالى: ” لم تلبسون الحق بالباطل ” (٩)، ” لم تصدون عن سبيل الله ” (١٠).قال الصاحب بن عباد: كيف يأمر بالإيمان ولم يرده؟، وينهى عن المنكر وقد أراده؟. ويعاقب على الباطل وقدره؟ وكيف يصرفه عن الإيمان؟ ويقول: ” أنى تصرفون ” (١١)، ويخلق فيهم الكفر، ثم يقول:

” كيف تكفرون ” (١٢)؟ ويخلق فيهم لبس الباطل، ثم يقول: ” لم تلبسون الحق بالباطل ” (١٣)، وصدهم عن سواء السبيل، ثم يقول:

” لم تصدون عن سبيل الله ” (١٤)، وحال بينهم وبين الإيمان، ثم قال:

” وماذا عليهم لو آمنوا بالله ” (١٥)، وذهب بهم عن الرشد، ثم قال:

” فأين تذهبون ” (١٦)، وأضلهم عن الدين حتى أعرضوا، ثم قال:

” فما لهم عن التذكرة معرضين ” (١٧)؟.

 

 

(١) الكهف: ٥٥(٢) النساء: ٣٩.

(٣) ص: ٧٥.

(٤) طه: ٩٢.

(٥) المدثر: ٤٩.

(٦) الانشقاق: ٢٠.

(٧) التوبة: ٤٣.

(٨) التحريم: ١.

(٩) آل عمران: ٧١.

(١٠) آل عمران: ٩٩.

(١١) يونس: ٣٢.

(١٢) البقرة: ٢٨.

(١٣) آل عمران: ٧١.

(١٤) آل عمران: ٩٩.

(١٥) النساء ٣٩.

(١٦) التكوير: ٢٦.

(١٧) المدثر: ٤٩.

 

١٠٩

الآيات الدالة على التخيير في الأفعال التكليفية

الخامس: الآيات التي ذكر الله تعالى فيها تخيير العباد في أفعالهم، وتعلقها بمشيئتهم، قال تعالى: ” فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ” (١)، ” اعملوا ما شئتم ” (٢)، ” فسيرى الله عملكم ” (٣)، ” لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر ” (٤)، ” فمن شاء ذكره ” (٥)، ” فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا ” (٦)، ” فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا ” (٧).

وقد أنكر الله تعالى على من نفى المشيئة عن نفسه، وأضافها إلى الله تعالى بقوله: ” سيقول الذين أشركوا: لو شاء الله ما أشركنا ” (٨)، ” وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ” (٩).

 

الآيات التي فيها أمر العباد بالأفعال

السادس: الآيات التي فيها أمر العباد بالأفعال، والمسارعة إليها، قبل فواتها، كقوله تعالى: ” وسارعوا إلى مغفرة من ربكم ” (١٠)، ” أجيبوا داعي الله وآمنوا به ” (١١)، ” استجيبوا لله وللرسول ” (١٢)، يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا (١٣)، ” اعبدوا ربكم ” (١٤)، ” فآمنوا به خير لكم ” (١٥) ” واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم ” (١٦)، ” وأنيبوا إلى ربكم ” (١٧)،.

 

 

(١) الكهف: ٢٩.(٢) فصلت: ٤٠.

(٣) التوبة: ١٠٥.

(٤) المدثر: ٣٧.

(٥) عبس: ١٢.

(٦) المزمل: ١٩.

(٧) النبأ: ٣٩.

(٨) الأنعام: ١٤٨.

(٩) الزخرف: ٢٠.

(١٠) آل عمران: ١٣٣.

(١١) الأحقاف: ٣١.

(١٢) الأنفال: ٢٤.

(١٣) الحج: ٧٧.

(١٤) البقرة: ٢١.

(١٥) النساء: ٥٧.

(١٦) الزمر: ٥٥.

(١٧) الزمر: ٥٤.

 

١١٠
فكيف يصح الأمر بالطاعة، وللمسارعة إليها، مع كون المأمور ممنوعا، عاجزا عن الاتيان به؟ وكما يستحيل أن يقال فيها للمقعد الزمن:قم، ولمن يرمى من شاهق جبل: احفظ نفسك، فكذا ها هنا.

 

الآيات التي حث الله تعالى فيها على الاستعانة به

السابع: الآيات التي حث الله تعالى فيها على الاستعانة به، كقوله تعالى: ” إياك نعبد وإياك نستعين ” (١)، ” فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ” (٢) ” استعينوا بالله ” (٣).

فإذا كان الله تعالى خلق الكفر والمعاصي كيف يستعان، ويستعاذ به.

وأيضا يلزم بطلان الألطاف والدواعي، لأنه تعالى إذا كان هو الخالق لأفعال العباد، فأي نفع يحصل للعبد من اللطف الذي يفعله الله تعالى.

ولكن الألطاف حاصلة، كقوله تعالى: ” أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة، أو مرتين ” (٤)، ” ولولا أن يكون الناس أمة واحدة ” (٥)، ” ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ” (٦)، ” فبما رحمة من الله لنت لهم ” (٧)، ” إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ” (٨).

 

الآيات الدالة على اعتراف الأنبياء بأعمالهم

الثامن: الآيات الدالة على اعتراف الأنبياء بذنوبهم (٩)، وإضافتها إلى

 

(١) الحمد: ٥.(٢) النحل: ٩٨.

(٣) الأعراف: ١٢٨.

(٤) التوبة: ١٢٦.

(٥) الزخرف: ٣٣.

(٦) الشورى: ٢٧.

(٧) آل عمران: ١٥٩.

(٨) العنكبوت: ٤٥.

(٩) ستعرف في بحث النبوة، بأجلى بيان، وأحكم برهان منه قدس الله سره: أن الأنبياء منزهون عن الذنوب، والخطأ، والسهو، والنسيان. وهذا الاعتراف من الأنبياء (ع) ليس إلا إظهارا للخضوع، ونهاية العبودية، في مقابل جلال كبريائه تعالى وعظمته، ومن باب ما عبدناك حق عبادتك، فليس مراده من قوله (قدس الله سره): (على اعتراف الأنبياء بذنوبهم): ذنب مخالفة أمر الله تعالى، وعصيانهم له تعالى، بل مراده كما قال عفيف عبد الفتاح طبارة، في كتابه: ” مع الأنبياء في القرآن الكريم ” ص ٢١:

وقد يعتبر الأنبياء أنفسهم مقصرين في حق الله، لأنهم أعرف الناس بجلال الله، وعظمته، فيستغفرون الله على تقصيرهم، لا على ذنوب اقترفوها.

 

١١١
أنفسهم، كقوله تعالى، حكاية عن آدم (ع): ” ربنا ظلمنا أنفسنا (١)، وعن يونس (ع): ” سبحانك إني كنت من الظالمين ” (٢)، ” وعن موسى (ع): ” رب إني ظلمت نفسي ” (٣)، وقال يعقوب لأولاده:” بل سولت لكم أنفسكم أمرا ” (٤)، وقال يوسف (ع): ” من بعد أن نزع الشيطان بيني وبين إخوتي ” (٥)، وقال نوح (ع): ” رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم ” (٦).

فهذه الآيات تدل على اعتراف الأنبياء بكونهم فاعلين لأفعالهم..

 

الآيات الدالة على اعتراف الكفار والعصاة

التاسع: الآيات الدالة على اعتراف الكفار والعصاة: بأن كفرهم ومعاصيهم كانت منهم، كقوله تعالى: ” ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم ” (٧). إلى قوله: ” أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم؟

بل كنتم قوما مجرمين “، وقوله تعالى: ” ما سلككم في سقر؟ قالوا:

لم نك من المصلين ” (٨)، ” كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها: ألم يأتكم نذير ” (٩).. إلى قوله تعالى: ” فكذبنا “، وقوله تعالى: ” أولئك ينالهم

 

(١) الأعراف: ٢٣.(٢) الأنبياء: ٨٧.

(٣) القصص: ١٦.

(٤) يوسف: ١٨.

(٥) يوسف: ١٠٠.

(٦) هود: ٤٧.

(٧) سبأ: ٣١ إلى ٣٢.

(٨) المدثر: ٤٣ إلى ٤٦.

(٩) الملك: ٨ إلى ٩.

 

١١٢
نصيبهم من الكتاب ” (١) ” فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون ” (٢). 

الآيات الدالة على تحسر الكفار في الآخرة

العاشر: الآيات التي ذكر الله تعالى فيها ما يحصل منهم من التحسر في الآخرة على الكفر، وطلب الرجعة، قال تعالى: ” وهم يصطرخون فيها:

ربنا، أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل ” (٣)، ” قال: رب ارجعون لعلي أعمل صالحا ” (٤)، ” ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم عند ربهم، ربنا، أبصرنا، وسمعنا، فارجعنا نعمل صالحا ” (٥)، ” أو تقول حين ترى العذاب: لو أن لي كرة فأكون من المحسنين ” (٦).

فهذه الآيات، وأمثالها من نصوص الكتاب العزيز، الذي: ” لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد ” (٧)، فما عذر فضلائهم؟، وهل يمكنهم الجواب عن هذا السؤال: كيف تركتم هذه النصوص ونبذتموها وراءكم ظهريا (٨)؟… إلا بأنا طلبنا الحياة الدنيا، وآثرناها على الآخرة؟ وما عذر عوامهم في الانقياد إلى فتوى علمائهم، واتباعهم في عقائدهم؟ وهل يمكنهم الجواب عند السؤال: كيف تركتم هذه الآيات، وقد جاءكم بها نذير، وعمرناكم ما يتذكر فيه من تذكر (٩)؟ إلا بأنا قلدنا آباءنا وعلماءنا، من غير فحص، وبحث

 

(١) الأعراف: ٣٧.(٢) الأعراف: ٣٩.

(٣) فاطر: ٣٧.

(٤) المؤمنون: ٩٩.

(٥) السجدة: ١٢.

(٦) الزمر: ٥٨.

(٧) فصلت: ٤٢.

(٨) إشارة إلى قوله تعالى: ” فنبذوه وراء ظهورهم ” آل عمران: ١٨٧.

(٩) إشارة إلى قوله تعالى: ” أولم نعمركم؟ ما يتذكر فيه من تذكر، وجاءكم النذير ” فاطر: ٣٧.

 

١١٣
كتاب نهج الحق وكشف الصدق للعلامة الحلي (ص ١١٤ – ص ١٣١)

١١٤
ونهى عن بعضها، كالظلم، والجور. ولا يصح ذلك إذا لم يكن العبد موجدا، إذ كيف يصح أن يقال له: ائت بفعل الإيمان والصلاة، ولا تأت بالكفر والزنا، مع أن الفاعل لهذه الأفعال، والتارك لها هو غيره، فإن الأمر بالفعل يتضمن الأخبار عن كون المأمور قادرا عليه، حتى لو لم يكن المأمور قادرا على المأمور به، لمرض، أو سبب آخر، ثم أمره، فإن العقلاء يتعجبون منه، وينسبونه إلى الحمق، والجهل، والجنون..ويقولون: إنك لتعلم: أنه لا يقدر على ذلك، ثم تأمره به!!.

ولو صح هذا لصح أن يبعث الله رسولا إلى الجمادات مع الكتاب، فيبلغ إليها ما ذكرناه، ثم إنه تعالى يخلق الحياة في تلك الجمادات، ويعاقبها لأجل أنها لم تمتثل أمر الرسول، وذلك معلوم البطلان ببديهة العقل.

 

مخالفة الجبرية لإجماع الأمة

ومنها: أنه يلزم منه سد باب الاستدلال على وجود الصانع (١)، على كونه تعالى صادقا، والاستدلال على صحة النبوة، والاستدلال على صحة الشريعة، يفضي إلى القول بخرق إجماع الأمة، لأنه لا يمكن إثبات الصانع إلا بأن يقال: العالم حادث، فيكون محتاجا إلى المحدث، قياسا على أفعالنا المحتاجة إلينا، فمع منع حكم الأصل في القياس، وهو كون العبد موجدا، لا يمكنه استعمال هذه الطريقة، فينسد عليه باب إثبات الصانع (٢).

 

 

(١) في نسخة: والاستدلال على.(٢) توضيحه: أن مختار الأشاعرة: أن الدليل على وجود الصانع، هو الحدوث، فيتوقف إثبات الصانع على قولنا: العالم حادث، وكل حادث محتاج إلى محدث، ولا دليل على الكبرى إلا احتياج أفعالنا إلينا، وقياس سائر الحوادث عليها، في الحاجة إلى محدث، فإذا منع الأشاعرة الأصل، وهو احتياج أفعالنا إلينا، لعدم كوننا موجدين لها، ولم يكن في سواها من الحوادث دلالة على الحاجة إلى المحدث، انسد عليهم باب إثبات الصانع

(راجع: دلائل الصدق ج ١ ص ٢٩٧).

 

١١٥
وأيضا إذا كان تعالى خالقا للجميع، من القبايح وغيرها، لا يمتنع منه إظهار المعجز على يد الكاذب. ومتى لم يقطع بامتناع ذلك، انسد علينا باب إثبات الفرق بين النبي، والمتنبي..وأيضا إذا جاز: أن يخلق الله تعالى القبائح، جاز أن يكذب في إخباره، فلا يوثق بوعده، ووعيده، وإخباره عن أحكام الآخرة، والأحوال الماضية، والقرون الخالية.

وأيضا: يلزم من خلقه القبائح جواز أن يدعو إليها، وأن يبعث عليها، ويحث ويرغب فيها، ولو جاز ذلك جاز أن يكون ما رغب الله تعالى فيه من القبائح، فتزول الثقة بالشرائع، ويقبح التشاغل بها.

وأيضا لو جاز منه تعالى أن يخلق في العبد الكفر، والإضلال، ويزينه له، ويصده عن الحق، ويستدرجه بذلك إلى عقابه، للزم في دين الإسلام جواز أن يكون هو الكفر، والضلال، وأنه تعالى زينه في قلوبنا، وأن يكون بعض الملل المخالفة للإسلام هو الحق، ولكن الله تعالى صدنا عنه، وزين خلافه في أعيننا، فإذا جوزوا ذلك لزمهم تجويز ما هم عليه هو الضلال والكفر، وكون ما خصومهم عليه هو الحق، وإذ لم يمكنهم القطع بأن ما هم عليه هو الحق، وما خصومهم عليه هو الباطل، لم يكونوا مستحقين للجواب…

 

يلزم الجبرية الظلم والعبث في أفعاله تعالى

منها: تجويز أن يكون الله تعالى ظالما عابثا، لأنه لو كان الله تعالى هو الخالق لأفعال العباد، ومنها القبائح، كالظلم، والعبث، لجاز أن يخلقها لا غير، حتى تكون كلها ظلما وعبثا، فيكون الله تعالى ظالما، عابثا، لاعبا، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

 

١١٦

يلزم الجبرية السفه والجهل في أفعاله تعالى

منها: أنه يلزم إلحاق الله تعالى بالسفهاء والجهال، تعالى الله عن ذلك، لأن من جملة أفعال العباد الشرك بالله تعالى، ووصفه بالأضداد، والأنداد، والأولاد، وشتمه، وسبه، فلو كان الله تعالى فاعلا لأفعال العباد لكان فاعلا للأفعال كلها، ولكل هذه الأمور.. وذلك يبطل حكمته، لأن الحكيم لا يشتم نفسه، وفي نفي الحكمة إلحاقه بالسفهاء، نعوذ بالله من هذه المقالات الردية..

 

يلزم مخالفة الضرورة

منها: أنه يلزم مخالفة الضرورة، لأنه لو جاز أن يخلق الزنا واللواط، لجاز أن يبعث رسولا هذا دينه. ولو جاز ذلك لجوزنا: أن يكون فيما سلف من الأنبياء من لم يبعث إلا للدعوة إلى السرقة، والزنا، واللواط، وكل القبائح. ومدح الشيطان وعبادته، والاستخفاف بالله تعالى، والشتم له، وسب رسوله، وعقوق الوالدين، وذم المحسن، ومدح المسئ.

 

يلزم الجبرية كونه تعالى أضر من الشيطان

منها: أنه يلزم أن يكون الله سبحانه أشد ضررا من الشيطان، لأن الله تعالى لو خلق الكفر في العبد، ثم يعذبه عليه، لكان أضر من الشيطان، لأن الشيطان لا يمكن أن يلجئه إلى القبائح، بل يدعوهم إليها، كما قال الله تعالى: ” وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي ” (١).

ولأن دعاء الشيطان هو أيضا من فعل الله تعالى.

وأما الله سبحانه فإنه يضطرهم إلى القبائح، ولو كان كذلك لحسن

 

(١) إبراهيم: ٢٢. 

١١٧
من الكافر: أن يمدح الشيطان، وأن يذم الله تعالى عن ذلك علوا كبيرا. 

يلزم الجبرية مخالفة العقل والنقل

ومنها: أنه يلزم مخالفة العقل والنقل، لأن العبد لو لم يكن موجدا لأفعاله لم يستحق ثوابا ولا عقابا، بل يكون الله تعالى مبتدئا بالثواب والعقاب من غير استحقاق منهم، ولو جاز ذلك لجاز منه تعذيب الأنبياء (ع)، وإثابة الفراعنة، والأبالسة، فيكون الله تعالى أسفه السفهاء، وقد نزه الله تعالى نفسه عن ذلك، فقال: ” أفنجعل المسلمين كالمجرمين، ما لكم كيف تحكمون ” (١) ” أم نجعل المتقين كالفجار ” (٢).

 

يلزم الجبرية كونه تعالى ظالما جائرا

ومنها: يلزم مخالفة الكتاب العزيز، من انتفاء النعمة عن الكافر، لأنه تعالى إذ خلق الكفر في الكافر لزم أن يكون قد خلقه للعذاب في نار جهنم، ولو كان كذلك لم يكن له عليه نعمة أصلا، فإن نعمة الدنيا مع عقاب الآخرة لا تعد نعمة، كمن جعل لغيره سما في حلواء، وأطعمه، فإنه لا تعد اللذة الحاصلة من تناوله نعمة. والقرآن قد دل على أنه تعالى منعم على الكفار. قال الله تعالى: ” ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله ” (٣)، ” وأحسن كما أحسن الله إليك ” (٤).

وأيضا قد علم بالضرورة من دين محمد صلى الله عليه وآله: أنه ما من عبد إلا ولله عليه نعمة، كافرا كان أو مسلما.

ومنها: صحة وصف الله تعالى بأنه ظالم وجائر، لأنه لا معنى للظالم

 

(١) القلم ٣٥.(٢) ص: ٢٨.

(٣) إبراهيم: ٢٨.

(٤) القصص: ٧٧.

 

١١٨
إلا فاعل الظلم، ولا الجائر إلا فاعل الجور، ولا المفسد إلا فاعل الفساد، ولهذا لا يصح إثبات أحدها إلا حال نفي الآخر.ولأنه لما فعل العدل سمي عادلا، فكذا لو فعل الظلم سمي ظالما، ويلزم: أن لا يسمى العبد ظالما، ولا سفيها، لأنه لم يصدر عنه شئ من هذه!..

 

إلزام الجبرية بالالتزام بالمحال

منها: أنه يلزم المحال، لأنه لو كان هو الخالق للأفعال، فإما أن يتوقف خلقه لها على قدرتنا ودواعينا، أو لا، والقسمان باطلان.

أما الأول: فلأنه يلزم منه عجزه سبحانه عما يقدر عليه العبد.

ولأنه يستلزم خلاف المذهب، وهو وقوع الفعل منه، والداعي من العبد، إذ لو كان من الله تعالى لكان الجميع من عنده. ولأن القدرة والداعي: إن أثرا فهو المطلوب، وإلا، كان وجودهما كوجود لون الإنسان، وطوله. وقصره. ومن المعلوم بالضرورة: أنه لا مدخل للون، والطول، والقصر في الأفعال. وإذا كان هذا الفعل صادرا عنه جاز وقوع جميع الأفعال المنسوبة إلينا منا.

وأما الثاني: فلأنه يلزم منه أن يكون الله تعالى أوجد – أي خلق – تلك الأفعال من دون قدرتهم ودواعيهم، حتى توجد الكتابة والنساجة المحكمتان ممن لا يكون عالما بهما، ووقوع الكتابة ممن لا يد له، ولا قلم، ووقوع شرب الماء من الجائع في الغاية، الريان في الغاية، مع تمكنه من الأكل، ويلزم تجويز أن تنقل النملة الجبال، وأن لا يقوى الرجل الشديد القوة على رفع تبنة، وأن يجوز من الممنوع المقيد العدو، وأن يعجز القادر الصحيح عن تحريك الأنملة، وفي هذا زوال الفرق بين القوي والضعيف، ومن المعلوم بالضرورة الفرق بين الزمن والصحيح.

 

١١٩

يلزم الجبرية كونه تعالى جاهلا أو محتاجا

ومنها: تجويز أن يكون الله تعالى جاهلا أو محتاجا، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، لأن في الشاهد فاعل القبيح: إما جاهل، أو محتاج، مع أنه ليس عندهم فاعلا في الحقيقة، فلأن يكون كذلك في الغائب الذي هو الفاعل في الحقيقة أولى.

 

يلزمهم نسبة الظلم إليه تعالى

ومنها: أنه يلزم منه الظلم، لأن الفعل، إما أن يقع من العبد لا غير، أو من الله تعالى، أو منهما بالشركة، بحيث لا يمكن تفرد كل منهما بالفعل، أو لا من واحد منهما.

والأول: هو المطلوب.

والثاني: يلزم منه الظلم، حيث فعل الكفر، وعذب من لا أثر له فيه البتة، ولا قدرة موجدة له، ولا مدخل له في الايجاد. وهو أبلغ أنواع الظلم!.

والثالث: يلزم منه الظلم، لأنه شريك في الفعل، وكيف يعذب شريكه على فعل فعله هو وإياه؟، وكيف يبرئ نفسه من المؤاخذة، مع قدرته وسلطنته، ويؤاخذ عبده الضعيف على فعل فعله هو مثله؟.

وأيضا يلزم منه تعجيز الله تعالى إذ لا يتمكن من الفعل بتمامه، بل يحتاج إلى الاستعانة بالعبد.

وأيضا يلزم المطلوب وهو أن يكون للعبد تأثير في الفعل وإذ جاز استناد أثر ما إليه جاز استناد الجميع إليه، فأي ضرورة تحوج إلى التزام هذه المحالات، فما ترى لهم ضرورة إلى ذلك سوى أن ينسبوا ربهم إلى هذه النقائص، التي نزه الله تعالى نفسه عنها، وتبرأ منها.

 

شاهد أيضاً

مصباح الهداية إلى الخلافة والولاية

مصباح    26 إعلم، أيها الخليل الروحاني، وفقك الله لمرضاته وجعلك وإيانا من أصحاب شهود ...