نهج الحق وكشف الصدق / الصفحات: ١٢١ – ١٤٠
يلزم الجبرية المخالفة للقرآن والسنة المتواترة، والإجماع، والعقل
ومنها: أنه يلزم مخالفة القرآن العظيم، والسنة المتواترة، والإجماع، وأدلة العقل.
أما الكتاب: فإنه مملوء من إسناد الأفعال إلى العبيد، وقد تقدم بعضها، وكيف يقول الله تعالى: ” فتبارك الله أحسن الخالقين ” (١)، ولا خالق سواه؟، وقوله: ” إني لغفار لمن تاب، وآمن، وعمل صالحا، ثم اهتدى ” (٢)، ولا تحقق لهذا الشخص البتة، ويقول: ” من عمل صالحا فلنفسه، ومن أساء فعليها ” (٣)، و ” ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ” (٤)، ” لنبلوهم أيهم أحسن عملا ” (٥)، ” أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات ” (٦) ” أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار ” (٧)، ولا وجود لهؤلاء!..
ثم كيف يأمر وينهى ولا فاعل، وهل هو إلا كأمر الجماد ونهيه؟.
وقال النبي صلى الله عليه وآله: ” اعملوا فكل ميسر لما خلق له ” (٨) ” نية المؤمن خير من عمله ” (٩) إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى (١٠) والإجماع: دل على وجوب الرضا بقضاء الله تعالى، فلو كان الكفر
(٣) فصلت: ٤٦.
(٤) النجم: ٣١.
(٥) الكهف: ٧.
(٦) الجاثية: ٢١.
(٧) ص: ٢٨.
(٨) الجامع الصغير ج ١ ص ١٥٦، رقم الحديث: ٢٠٢ (ط مصر).
(٩) كنز العمال ج ٣ ص ٢٤٢ رقم: ٢١٤٣ و ٢١٤٢، والجامع الصغير ج ٢ ص ٥٨٥ رقم: ٩٢٩٥.
(١٠) كنز العمال ج ٣ ص ٢٤٣ رقم ٢١٤٥.
شبهة الأشاعرة في الجبر
المطلب الحادي عشر: في نسخ شبههم.
إعلم أن الأشاعرة احتجوا على مقالتهم بوجهين، هما أقوى الوجوه عندهم، يلزم منهما الخروج عن العقيدة. ونحن نذكر ما قالوا: ونبين دلالتهما على ما هو معلوم البطلان بالضرورة من دين النبي صلى الله عليه وآله.
الأول: قالوا لو كان العبد فاعلا لشئ ما بالقدرة والاختيار، فإما أن يتمكن من تركه، أو لا.
والثاني: يلزم منه الجبر، لأن الفاعل الذي لا يتمكن من ترك ما يفعله موجب لا مختار، كما يصدر عن النار الاحراق، ولا تتمكن من تركه، والأول، إما أن يترجح الفعل حالة الايجاد، أو لا.
والثاني أيضا: أنه يلزم ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح، لأنهما لما استويا من كل وجه بالنسبة إلى ما في نفس الأمر، وبالنسبة إلى القادر الموجد، كان ترجيح القادر للفعل على الترك ترجيحا للمساوي بغير مرجح، وإن ترجح، فإن لم ينته إلى حد الوجوب أمكن حصول المرجوح مع تحقق الرجحان وهو محال.
أما أولا، فلامتناع وقوعه حالة التساوي فحالة المرجوحية أولى.
وأما ثانيا، فلأنه مع قيد الرجحان يمكن وقوع المرجوح، فلنفرضه واقعا في وقت، والراجح في آخر، فترجيح أحد الوقتين بأحد الأمرين لا بد له من مرجح غير المرجح الأول، وإلا لزم ترجيح أحد المتساويين
الجواب عن شبهة الأشاعرة
والجواب عن الوجهين، من حيث النقض، ومن حيث المعارضة.
أما النقض ففي الأول من وجوه:
الأول: وهو الحق: أن الوجوب من حيث الداعي والإرادة، لا ينافي الامكان في نفس الأمر، ولا يستلزم الايجاب وخروج القادر عن قدرته، وعدم وقوع الفعل بها. فإنا نقول: الفعل المقدور للعبد يكمن وجوده منه، ويمكن عدمه. فإذا خلص الداعي إلى إيجاده، وحصلت الشرائط، وارتفعت الموانع، وعلم القادر خلوص المصالح الحاصلة من الفعل عن شوائب المفسدة البتة وجب من هذه الحيثية إيجاد الفعل، ولا يكون ذلك جبرا، ولا إيجابا بالنسبة إلى القدرة والفعل لا غير.
الثاني: يجوز أن يترجح الفعل فيوجده المؤثر، والعدم فيعدمه، ولا ينتهي الرجحان إلى الوجوب، على ما ذهب إليه جماعة من المتكلمين، فلا يلزم الجبر، ولا الترجيح من غير مرجح.
قوله: (مع ذلك الرجحان لا يمتنع النقيض، فليفرض واقعا في وقت،
الرابع: أن هذا الدليل ينافي مذهبهم، فلا يصح لهم الاحتجاج به لأن مذهبهم: أن القدرة لا تصلح للضدين، فالمتمكن من الفعل يخرج عن القدرة لعدم التمكن من الترك، وإن خالفوا مذهبهم (١): أن القدرة لا تتقدم. على المقدور عندهم، وإن فرضوا للعبد قدرة موجودة حال وجود قدرة الفعل، لزمهم: إما اجتماع الضدين، أو تقدم القدرة على الفعل، فانظر إلى هؤلاء القوم، الذين لا يبالون في تضاد أقوالهم، وتعاندها.
وفي الثاني من وجهين:
الأول: العلم بالوقوع تبع الوقوع، فلا يؤثر فيه، فإن التابع إنما يتبع متبوعه، ويتأخر عنه بالذات، والمؤثر متقدم.
الثاني: أن الوجوب اللاحق لا يؤثر في الامكان الذاتي، ويحصل الوجوب باعتبار فرض وقوع الممكن، فإن كل ممكن على الاطلاق إذا
وأما المعارضة في الوجهين: فإنهما آتيان في حق واجب الوجود تعالى.
فإنا نقول في الأول:
لو كان الله تعالى قادرا مختارا، فإما أن يتمكن من الترك أو لا، فإن لم يتمكن من الترك كان موجبا مجبورا على الفعل، لا قادرا مختارا. وإن تمكن، فإما أن يترجح أحد الطرفين على الآخر أو لا، فإن لم يترجح لزم وجود الممكن المتساوي من غير مرجح، فإن كان محالا في حق العبد كان محالا في حق الله تعالى، لعدم الفرق. وإن ترجح، فإن انتهى إلى الوجوب، لزم الجبر، وإلا تسلسل، أو وقع المتساوي من غير مرجح فكل ما تقولونه ها هنا نقوله نحن في حق العبد.
ونقول في الثاني:
إن ما علمه الله تعالى إن وجب، ولزم بسبب هذا الوجوب خروج القادر منا عن قدرته، وإدخاله في الموجب، لزم في حق الله تعالى ذلك بعينه. وإن لم يقتض سقط الاستدلال.
فقد ظهر من هذا أن هذين الدليلين آتيان في حق الله تعالى، وهما إن صحا
فلينظر العاقل من نفسه: هل يجوز له أن يقلد من يستدل بدليل يعتقد صحته، ويحتج به غدا يوم القيامة؟ وهو يوجب الكفر، والالحاد؟.
وأي عذر لهم عن ذلك؟ وعن الكفر والالحاد؟ فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا؟، هذه حجتهم تنطق بصريح الكفر على ما ترى. وتلك الأقاويل التي لهم قد عرفت أنه يلزم منها نسبة الله سبحانه إلى كل خسيسة ورذيلة، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
وليحذر المقلدون، وينظروا كيف هؤلاء القوم الذين يقلدونهم، فإن استحسنوا لأنفسهم بعد البيان والايضاح اتباعهم كفاهم بذلك ضلالا، وإن راجعوا عقولهم، وتركوا اتباع الأهواء، عرفوا الحق بعين الإنصاف، وفقهم الله لإصابة الثواب (١).
في إبطال الكسب
المطلب الثاني عشر: في إبطال الكسب.
إعلم: أن أبا الحسن الأشعري وأتباعه لما لزمتهم هذه الأمور الشنيعة، والإلزامات الفظيعة، والأقوال الهايلة، من إنكار ما علم بالضرورة ثبوته، وهو الفرق بين الحركات الاختيارية، والحركات الجمادية، وما شابه ذلك التجأ إلى ارتكاب قول توهم هو وأتباعه الخلاص من هذه الشناعات، ولات حين مناص، فقال مذهبا غريبا عجيبا، لزمه بسببه
فقال بعضهم: معنى الكسب: خلق الله تعالى الفعل عقيب اختيار العبد الفعل، وعدمه عقيب اختيار العدم، فمعنى الكسب: إجراء العادة يخلق الله الفعل عند اختيار العبد.
وقال بعضهم: معنى الكسب: أن الله تعالى يخلق الفعل من غير أن يكون للعبد فيه أثر البتة، لكن العبد يؤثر في وصف كون الفعل طاعة أو معصية، فأصل الفعل من الله تعالى، ووصف كونه طاعة أو معصية من العبد.
وقال بعضهم: إن هذا الكسب غير معلوم، ولا معقول، مع أنه صادر عن العبد. (٢).
وهذه الأجوبة فاسدة:
أم الأول: فلأن الاختيار والإرادة من جملة الأفعال، فإذا جاز صدورهما عن العبد فليجز صدور أصل الفعل عنه. وأي فرق بينهما؟ وأي حاجة وضرورة إلى التمحل بهذا؟ وهو أن ينسب القبائح بأسرها إلى الله تعالى، وأن ينسب الله تعالى إلى الظلم، والجور، والعدوان، وغير ذلك، وليس بمعلوم.
وإن لم يكن موجبا، لم يبق فرق بين الاختيار والآكل مثلا، في نسبتهما إلى إيقاع الفعل وعدمه، فيكون الفعل من الله تعالى لا غير من غير شركة للعبد فيه.
وأيضا: العادة غير واجبة الاستمرار، فجاز أن يوجد الاختيار، ولا يخلق الله تعالى عقيبه، ويخلق الله تعالى الفعل ابتداء، من غير تقدم اختيار، فحينئذ ينتفي المخلص بهذا العذر.
وأما الثاني: فلأن كون الفعل طاعة أو معصية: إما أن يكون نفس الفعل في الخارج، أو أمرا زائدا عليه. فإن كان الأول، كان أيضا من الله تعالى، فلا يصدر عن العبد شئ، فيبطل العذر.
وإن كان الثاني، كان العبد مستقلا بفعل هذا الزائد، وإذا جاز إسناد هذا الفعل فليجز إسناد أصل الفعل، وأي ضرورة للتمحل بمثل هذه المحاذير الفاسدة، التي لا تنهض بالاعتذار؟، وأي فارق بين الفعلين ولم يكن أحدهما صادرا عن الله تعالى، والآخر صادرا عن العبد؟.
وأيضا دليلهم آت في هذا الوصف، فإن كان حقا عندهم امتنع استناد هذا الوصف إلى العبد، وإن كان باطلا امتنع الاحتجاج به.
وأيضا كون الفعل طاعة، هو كون الفعل موافقا لأمر الشريعة، وكونه موافقا لأمر الشريعة إنما هو شئ يرجع إلى ذات الفعل: إن طابق الأمر
وأيضا المعصية قد نهى الله تعالى عنها إجماعا، والقرآن مملوء من المناهي والتوعد عليها. وكل ما نهى الله تعالى عنه فهو قبيح، إذ لا معنى للقبيح عندهم إلا ما نهى الله عنه، مع أنها قد صدرت عن إبليس، وفرعون، وغيرهما من البشر. وكل ما صدر من العبد فهو مستند إلى الله تعالى، والفاعل له هو الله تعالى لا غير عندهم، فيكون حسنا حينئذ، وقد فرضناه قبيحا، وهذا خلف.
وأما الثالث: فهو باطل بالضرورة. إذ إثبات ما لا يعقل غير معقول.
وكفاهم عن الاعتذار الفاسد اعتذارهم بما لا يعلمون. وهل يجوز للعاقل المنصف من نفسه المصير إلى هذه الجهالات، والدخول في هذه الظلمات؟، والأعراض عن الحق الوضح، والدليل اللائح؟ والمصير إلى ما لا يفهمه القائل، ولا السامع، ولا يدري؟ هل يدفع عنهم ما التزموا به؟ أو لا؟
فإن هذا الدفع وصف من صفاته، والوصف إنما يعلم بعد العلم بالذات، فإذا لم يفهموه كيف يجوز لهم الاعتذار به؟!.
القدرة متقدمة على الفعل
المطلب الثالث عشر: في أن القدرة متقدمة على الفعل.
ذهبت الإمامية، والمعتزلة كافة إلى أن القدرة التي للعبد متقدمة على الفعل.
وقالت الأشاعرة هنا قولا غريبا عجيبا، وهو أن القدرة لا توجد قبل الفعل، بل مع الفعل غير متقدمة عليه، لا بزمان ولا بآن (١)، فلزمهم من ذلك محالات:
منها: تكليف ما لا يطاق، لأن الكافر مكلف بالإيمان إجماعا منا ومنهم، فإن كان قادرا عليه حال كفره ناقضوا مذهبهم، من أن القدرة مع الفعل غير متقدمة عليه، وإن لم يكن قادرا عليه لزمهم تكليف ما لا يطاق.
ونص الله تعالى على امتناعه، فقال: ” لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ” (٢)، والعقل دل عليه، وقد تقدم.
وإن قالوا: إنه غير مكلف حال كفره، لزم خرق الاجماع، لأن الله تعالى أمره بالإيمان، بل عندهم أنه أمره في الأزل ونهاهم، فكيف لا يكون مكلفا؟.
ومنها: الاستغناء عن القدرة، لأن الحاجة إلى القدرة إنما هي لإخراج الفعل من العدم إلى الوجود. وهذا إنما يتحقق حال العدم، لأن حال الوجود
ومنها: إلزام حدوث قدرة الله تعالى، أو قدم العالم، لأن القدرة مقارنة للفعل. وحينئذ يلزم أحد الأمرين وكلاهما محال، لأن قدرة الله تعالى يستحيل أن تكون حادثة، والعالم يمتنع أن يكون قديما. ولأن القدم مناف للقدرة، لأن القدرة إنما تتوجه إلى إيجاد المعدوم، فإذا كان الفعل قديما امتنع استناده إلى القادر. ومن أعجب الأشياء بحث هؤلاء القوم عن القدرة للعبد، والكلام في أحكامها.. مع أن القدرة غير مؤثرة في الفعل البتة، وأنه لا مؤثر غير الله تعالى، فأي فرق بين القدرة واللون وغيرهما بالنسبة إلى الفعل، إذا كانت غير مؤثرة، ولا مصححة للتأثير. وقال أبو علي بن سينا، ردا عليهم: (لعل القائم لا يقدر على القعود) (١).
القدرة صالحة للضدين
المطلب الرابع عشر: في أن القدرة صالحة للضدين.
ذهب جميع العقلاء إلى ذلك، عدا الأشاعرة فإنهم قالوا: القدرة غير
المتولد من الفعل من جملة أفعالنا
المطلب السادس عشر: في التولد.
ذهبت الإمامية إلى أن المتولد من أفعالنا مستند إلينا.
وخالفت أهل السنة في ذلك، وتشعبوا في ذلك، وذهبوا كل مذهب، فزعم معمر (٢): أنه لا فعل للعبد إلا الإرادة وما يحصل بعدها فهو من طبع المحل، وقال بعض المعتزلة: لا فعل للعبد إلا الفكر (٣). وقال النظام (٤): لا فعل للعبد إلا ما يوجد في محل قدرته، وما يجاورها. فهو واقع بطبع المحل.
وذهبت الأشاعرة: إلى أن المتولد من فعل الله تعالى (٥).
وقد خالف الكل ما هو معلوم بالضرورة عند كل عاقل، فإنا نستحسن المدح والذم على المتولد، كالمباشر، كالكتابة، والبناء، والقتل، وغيرها.
وحسن المدح والذم فرع على العلم بالصدور عنا، ومن كابر في حسن
(٣) وهو ثمامة بن أشرس، المتوفى سنة ٢١٣ (راجع الفرق بين الفرق ص ١٠٣، والملل والنحل ج ١ ص ٧١).
(٤) الملل والنحل – ج ١ ص ٥٥.
(٥) الملل والنحل ج ١ ص ٩٨، والفصل لابن حزم ج ٥ ص ٥٩.
التكليف سابق على الفعل
المطلب السابع عشر: في التكليف.
لا خلاف بين المسلمين في أن الله تعالى كلف عباده فعل الطاعات، واجتناب المعاصي، وأن التكليف سابق على الفعل.
وقالت الأشاعرة ها هنا مذهبا غريبا عجيبا، وهو: أن التكليف بالفعل حالة الفعل، لا قبله (١)، وهذا يلزم منه محالات:
الأول: أن يكون التكليف بغير المقدور، لأن الفعل حال وقوعه يكون واجبا، والواجب غير مقدور.
الثاني: يلزم أن لا يكون أحد عاصيا البتة، لأن العصيان مخالفة الأمر، فإذا لم يكن الأمر ثابتا إلا حالة الفعل، وحال العصيان هو حال عدم الفعل، فلا يكون مكلفا حينئذ، وإلا لزم تقدم التكليف على الفعل، وهو خلاف مذهبهم. لكن العصيان ثابت بالإجماع ونص القرآن، قال الله تعالى:
” أفعصيت أمري ” (٢)؟ ” ولا أعصي لك أمرا ” (٣)، ” الآن وقد عصيت قبل ” (٤).
ويلزم انتفاء الفسق الذي هو الخروج من الطاعة أيضا.
فلينظر العاقل لنفسه: هل يجوز لأحد تقليد هؤلاء الذين طعنوا في الضروريات؟ فإن كل عاقل يعلم بالضرورة من دين محمد صلى الله عليه
(٣) الكهف: ٦٩.
(٤) يونس: ٩١.
بيان الشرطية: أن التكليف: إما أن يكون بالفعل الثابت حالة التكليف، أو بغيره. والأول يستلزم تحصيل الحاصل.
والثاني: يستلزم تقدم التكليف على الفعل، وهو خلاف الفرض.
وأيضا: هو المطلوب.
وأيضا: يستلزم التكرار.
شرائط التكليف
المطلب الثامن عشر: في شرائط التكليف.
ذهبت الإمامية إلى أن شرائط التكليف ستة:
الأول: وجود المكلف، لامتناع تكليف المعدوم، فإن الضرورة قاضية بقبح أمر الجماد، وهو إلى الإنسان أقرب من المعدوم، وقبح أمر الرجل عبيدا يريد أن يشتريهم، وهو في منزله وحده، ويقول: يا سالم، قم، ويا غانم، كل. – يعده كل عاقل سفيها، وهو إلى الإنسان الموجود أقرب.
وخالفت الأشاعرة في ذلك، فجوزوا تكليف المعدوم، ومخاطبته،
وخالفت الأشاعرة في ذلك، وجوزوا تكليف هؤلاء (٤).
فلينظر العاقل هل يحكم عقله: بأن يؤاخذ المولود حال ولادته بالصلاة، وتركها، وترك الصوم، والحج، والزكاة؟ وهل يصح مؤاخذة المجنون المطبق على ذلك؟.
الثالث: فهم المكلف، فلا يصح تكليف من لا يفهم الخطاب قبل فهمه.
وخالفت الأشاعرة في ذلك (٥)، فلزمهم التكليف بالمهمل، وإلزام المكلف معرفته، ومعرفة المراد منه. مع أنه لم يوضع لشئ البتة، ولا يراد منه شئ أصلا، فهل يجوز للعاقل أن يرضى لنفسه المصير إلى هذه الأقاويل؟.
الرابع: إمكان الفعل إلى المكلف، فلا يصح التكليف بالمحال.
وخالفت الأشاعرة فيه، فجوزوا تكليف الزمن الطيران إلى السماء (٦)،
(٢) البقرة: ٢١.
(٣) نوح: ١.
(٤) وقولهم هذا مبتن على ما ذهبوا إليه من جواز التكليف بما لا يطاق.
(٥) وهذا أيضا مبتن على قولهم بجواز التكليف بما لا يطاق، وعلى قولهم بجواز التكليف بالمحال.
(٦) شرح العقائد، وحاشيته للكستلي ص ١٢٤ وتفسير روح المعاني ج ٣ ص ٦١.
وإن فيه: ” لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ” (١)؟.
الخامس: أن يكون الفعل ما يستحق به الثواب، وإلا لزم العبث والظلم على الله تعالى.
وخالفت الأشاعرة فيه، فلم يجعلوا الثواب مستحقا على شئ من الأفعال، بل جوزوا التكليف بما يستحق عليه العقاب، وأن يرسل رسولا يكلف الخلق فعل جميع القبائح، وترك جميع الطاعات (٢).
فلزمهم من هذا أن يكون المطيع المبالغ في الطاعة من أسفه الناس، وأجهل الجهلاء، من حيث يتعب بماله وبدنه في فعله دون أن ينال شيئا، وربما يكون هلاكه فيه، وأن يكون المبالغ في المعصية والفسوق أعقل العقلاء، حيث يتعجل اللذة، وربما يكون تركها سبب الهلاك، وفعلها سبب النجاة، فكان وضع المدارس والربط، المساجد من نقص التدبيرات البشرية. حيث تخسر الأموال فيما لا نفع فيه، ولا فائدة عاجلة، ولا آجلة.
السادس: أن لا يكون حراما، لامتناع كون الشئ الواحد من الجهة الواحدة مأمورا به، منهيا عنه، لاستحالة التكليف بما لا يطاق، وأيضا
ومن أعجب العجائب: أنهم حرموا الصلاة في الدار المغصوبة، ومع ذلك لم يوجبوا القضاء، وقالوا: إنها صحيحة (١)، مع أن الصحيح، ما هو المعتبر عند الشارع، وإنما يطلق على المطلوب شرعا، والحرام غير معتبر في نظر الشارع، مطلوب الترك شرعا، وهل هذا إلا محض التناقض؟.
أعواض الآلام
المطلب التاسع عشر: في الأعواض:
ذهبت الإمامية إلى: أن الألم الذي يفعله الله تعالى بالعبد، إما أن يكون على وجه الانتقام والعقوبة، وهو المستحق لقوله تعالى: ” ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت، فقلنا لهم: كونوا قردة خاسئين ” (٢). وقوله تعالى: ” أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين، ثم لا يتوبون، ولا هم يذكرون ” (٣)، ولا عوض فيه. فإما أن يكون على وجه الابتداء، وإنما يحسن فعله من الله تعالى بشرطين: أحدهما: أن يشتمل على مصلحة ما للمتألم، أو لغيره. وهو نوع من اللطف، لأنه لولا ذلك لكان عبثا والله تعالى منزه عنه.. والثاني: أن يكون في مقابلته عوض للمتألم يزيد على الألم، وإلا لزم الظلم، والجور من الله سبحانه على عبيده، لأن إيلام
(٣) التوبة: ١٢٦.
مع أن العلم الضروري حاصل لنا، بأن من فعل من البشر مثل هذا عده العقلاء ظالما جائرا، سفيها، فكيف يجوز للإنسان نسبة الله تعالى إلى مثل هذه النقائص، ولا يخشى ربه؟ وكيف لا يخجل منه غدا يوم القيامة، إذا سألته الملائكة يوم الحساب: هل كنت تعذب أحدا من غير استحقاق ولا تعوضه عن ألمه عوضا يرضى به؟.. فيقول: كلا ما كنت أفعل ذلك.
فيقال له: وكيف نسبت ربك عز وجل إلى هذا الفعل، الذي لا ترضاه لنفسك؟…
والعوض في ذلك كله على الله تعالى، وإما من فعله تعالى، إما لاستحقاق كالعقاب، أو ابتداء كالآلام المبتدأة في الدنيا، إما للمكلف، أو لغيره من الأطفال.
ووجه حسنها: العوض الزائد، بحيث يختاره المكلف مع الألم لو عرض عليه، واللطف معا، أو للمتألم، أو لغيره. فبالعوض الزائد يخرج عن الظلم، وباللطف يخرج عن العبث.
والأعواض هي: النفع الخالي عن تعظيم وإجلال، فالواجب علينا جعله مساويا للألم، والواجب عليه تعالى هو أن يزيده بحيث يختاره المكلف مع العوض. (منه أعلى الله مقامه في كتابه: نهج المسترشدين ص ٥٥).
(٢) قال الفضل في المقام: وأما الأشاعرة، فذهبوا إلى أن الله تعالى لا يجب عليه شئ، لا عوض على الألم، ولا غيره.
المسألة الرابعة
مباحث في النبوة
نبوة محمد صلى الله عليه وآله
وفيها مباحث:
الأول: في نبوة محمد صلى الله عليه وآله.
إعلم: أن هذا أصل عظيم من الدين، وبه يقع الفرق بين المسلم والكافر، فيجب الاعتناء به، وإقامة البرهان عليه، ولا طريق في إثبات النبوة على العموم، ولا على الخصوص إلا بمقدمتين:
إحداهما: أن النبي ادعى رسالة رب العالمين له إلى الخلق، وأظهر المعجزة على وفق دعواه، لغرض التصديق له.
والثانية: أن كل من صدقه الله تعالى فهو صادق.
وهاتان المقدمتان لا يقول بهما الأشاعرة.
أما الأولى: فلأنه يمتنع أن يفعل الله لغرض من الأغراض، أو لغاية من الغايات، فلا يجوز أن يقال: إنه تعالى فعل المعجزة على يد مدعي الرسالة لغرض تصديقه، ولا لأجل تصحيح دعواه، بل فعلها مجانا. ومثل هذا لا يمكن أن يكون حجة للنبي، لأنا لو شككنا في أن الله فعله لغرض