الرئيسية / الاسلام والحياة / كتاب نهج الحق وكشف الصدق للعلامة الحلي

كتاب نهج الحق وكشف الصدق للعلامة الحلي

نهج الحق وكشف الصدق / الصفحات: ١٦١ – ١٨٠

كالاستهزاء به، والسخرية، والضحك عليه، لأن ذلك يسقط محله من القلوب، وينفر الناس عن الانقياد إليه، فإنه من المعلوم بالضرورة الذي لا يقبل الشك والارتياب. 

١٦١
وخالفت السنة فيه:أما الأشاعرة، فباعتبار نفي الحسن والقبح، فلزمهم: أن يذهبوا إلى جواز بعثة ولد الزنا، المعلوم لكل أحد.

وأن يكون أبوه فاعلا لجميع أنواع الفواحش، وأبلغ أصناف الشرك، وهو ممن يسخر به، ويضحك عليه، ويصفع في الأسواق، ويستهزأ به، ويكون قد ليط به دائما، لابنة فيه، قوادا.

وتكون أمه في غاية الزنا والقيادة، والافتضاح بذلك، لا ترد، يد لامس.

 

١٦٢
ويكون هو في غاية الدناءة والسفالة، ممن قد ليط به طول عمره، حال النبوة وقبلها، ويصفع في الأسواق، ويعتمد المناكير، ويكون قوادا، بصاصا.فهؤلاء يلزمهم القول بذلك، حيث نفوا التحسين والتقبيح العقليين، وأن ذلك ممكن، فيجوز من الله وقوعه، وليس هذا بأبلغ من تعذيب الله من لا يستحق العذاب، بل يستحق الثواب طول الأبد!.

وأما المعتزلة، فلأنهم جوزوا صدور الذنب عنهم، لزمهم القول بجواز ذلك أيضا. واتفقوا على وقوع الكبائر منهم كما في قصة إخوة يوسف.

فلينظر العاقل بعين الإنصاف: هل يجوز المصير إلى هذه الأقاويل الفاسدة، والآراء الردية؟ وهل يبقى مكلف ينقاد إلى قبول قول من كان يفعل به الفاحشة طول عمره إلى وقت نبوته؟. وأنه يصفع ويستهزأ به حال النبوة؟. وهل يثبت بقول هذا حجة على الخلق؟.

واعلم أن البحث مع الأشاعرة في هذا الباب ساقط، وأنهم إن بحثوا في ذلك استعملوا الفضول، لأنهم يجوزون تعذيب المكلف على أنه لم يفعل ما أمره الله تعالى به، من غير أن يعلم ما أمره به، ولا أرسل إليه رسولا البتة، بل وعلى امتثال أمره به.

وأن جميع القبائح من عنده تعالى، وأن كل ما وقع في الوجود فإنه فعله تعالى، وهو حسن، لأن الحسن هو الواقع، والقبيح هو الذي لم يقع.

فهذه الصفات الخسيسة في النبي وأبويه، تكون حسنة، لوقوعها من الله تعالى، فأي مانع حينئذ من البعثة باعتبارها، فكيف يمكن للأشاعرة منع كفر النبي، وهو من الله، وكل ما يفعله تعالى فهو حسن؟ وكذا أنواع المعاصي؟ وكيف يمكنهم مع هذا المذهب التنزيه للأنبياء؟

 

١٦٣
كتاب نهج الحق وكشف الصدق للعلامة الحلي (ص ١٦٤ – ص ١٨٠)

١٦٤

المسألة الخامسة
في الإمامة

وفيها مباحث

 

وجوب عصمة الإمام

المبحث الأول: في أن الإمام يجب أن يكون معصوما.

ذهبت الإمامية إلى أن الأئمة كالأنبياء، في وجوب عصمتهم عن جميع القبائح والفواحش، من الصغر إلى الموت، عمدا وسهوا، لأنهم حفظة الشرع، والقوامون به، حالهم في ذلك كحال النبي، ولأن الحاجة إلى الإمام إنما هي للانتصاف من المظلوم عن الظالم، ورفع الفساد، وحسم مادة الفتن، وأن الإمام لطف يمنع القاهر من التعدي، ويحمل الناس على فعل الطاعات، واجتناب المحرمات، ويقيم الحدود والفرائض، ويؤاخذ الفساق، ويعزر من يستحق التعزير، فلو جازت عليه المعصية، وصدرت عنه، انتفت هذه الفوائد، وافتقر إلى إمام آخر، وتسلسل.

وخالفت السنة في ذلك، وذهبوا إلى جواز إمامة الفساق، والعصاة، والسراق، كما قال الزمخشري، وهو أفضل علمائهم: (لا كالدوانيقي المتلصص)، يشير به إلى المنصور..

 

١٦٥
فأي عاقل يرضى لنفسه الانقياد الديني، والتقرب إلى الله تعالى بامتثال أوامر من كان يفسق طول وقته، وهو غائص في القيادة وأنواع الفواحش، ويعرض عن المطيعين، المبالغين في الزهد والعبادة، وقد أنكر الله تعالى ذلك بقوله: ” أمن هو قانت آناء الليل، ساجدا وقائما، يحذر الآخرة، ويرجو رحمة ربه، قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، إنما يتذكر أولوا الألباب ” (١). 

 

(١) الزمر: ٩ قال ابن حجر في الصواعق المحرقة ص ١١: أخرج البغوي، بسند حسن، عن عبد الله بن عمر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: ” يكون خلفي اثنا عشر خليفة، أبو بكر لا يلبث إلا قليلا، قال الأئمة صدر هذا الحديث مجمع على صحته “. إنتهى.أقول: فعلى هذا يكون ذيله ملحقا ومجعولا، إلا أن أحاديث: ” إن خلفائي اثنا عشر “، عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله، غير قابلة للترديد عند فرق المسلمين.

وقد حاول علماء أهل السنة توجيهها وتأويلها، فقال ابن حجر: قال القاضي عياض:

لعل المراد ب: (اثنا عشر) في هذه الأحاديث، وما شابهها: أنهم يكونون في مدة عزة الخلافة، وقوة الإسلام، واستقامة أموره، والاجتماع على من يقوم بالخلافة. وقد وجد هذا فيمن اجتمع عليه الناس إلى أن اضطرب أمر بني أمية، ووقعت بينهم الفتنة زمن وليد بن يزيد.

وقال: قال شيخ الإسلام في فتح الباري: كلام القاضي هذا أحسن ما قيل في هذا الحديث، وأرجحه، لتأييده بقوله في بعض طرقه الصحيحة (كلهم مجتمع عليه الناس) والمراد باجتماعهم: انقيادهم لبيعته. والذي اجتمعوا عليه: الخلفاء الثلاثة، ثم علي.. إلى أن وقع أمر الحكمين في صفين، فتسمى معاوية يومئذ بالخلافة، ثم اجتمعوا عليه عند صلح الحسن، ثم على ولده يزيد، ثم اجتمعوا على عبد الملك، ثم على أولاده الأربعة الوليد، فسليمان، فيزيد، فهشام، فهؤلاء سبعة (معاوية ومن بعده) بعد الخلفاء الراشدين، والثاني عشر: الوليد بن يزيد بن عبد الملك (الصواعق المحرقة ص ١٢ باختصار).

وقال ابن حجر: ” اعلم أن أهل السنة اختلفوا في تكفير يزيد بن معاوية، وولي عهده من بعده، فقالت طائفة: إنه كافر لما هو المشهور: أنه لما جاءه رأس الحسين (ع) جمع أهل الشام، وجعل ينكت رأسه بالخيزران، وينشد أبيات ابن الزبعري: ليت أشياخي ببدر شهدوا… الأبيات المعروفة، وزاد فيها بيتين مشتملين على صريح الكفر.. (إلى أن قال) فلا نتعرض لتكفيره أصلا، لأن هذا هو الأحرى والأسلم. والقول بأنه مسلم، فهو فاسق شرير، سكير، جائر “. (الصواعق ص ١٣١ و ١٣٢).

بل إمامة الفاسق الجائر كادت أن تكون من أصول مسألة الإمامة عند أهل السنة، كما قال الباقلاني في (التمهيد ص ١٨٦): ” قال الجمهور من أهل الاثبات، وأصحاب الحديث: لا ينخلع الإمام بفسقه وظلمه، بغصب الأموال، وضرب الأبشار، وتناول النفوس المحرمة، وتضييع الحقوق، وتعطيل الحدود، ولا يجب الخروج عليه… إلى آخر ما قال “.

وقريب منه ما قاله التفتازاني في شرح المقاصد ج ٢ ص ٧١ و ٢٧٢، وما قاله النووي في شرح مسلم، هامش إرشاد الساري ج ٨ ص ٣٦. (وليراجع: الغدير ج ٧ ص ١٣٦ و ١٣٩).

وقد صرح مشاهير علماء أهل السنة، في تفسير الآية الكريمة: ” وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس، والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا “

(الإسراء: ٦٠) – صرحوا -: يقول الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله: أن المراد من قوله تعالى: ” والشجرة الملعونة في القرآن ” هو بنو أمية، ذكره السيوطي في تفسيره ج ٤ ص ١٩١، والحلبي في سيرته ج ١ ص ٢١٧، وفي هامشه زيني دحلان في السيرة النبوية ج ١ ص ٢٢٦، والقرطبي في تفسيره ج ١٠ ص ١٨٦، والآلوسي في تفسيره ج ١٥ ص ١٠٧، وقال ما معناه: ” ومعنى جعل ذلك فتنة للناس: جعله بلاء لهم ومختبرا، وبذلك فسره ابن المسيب ولعل هذا الاختبار والابتداء كان بالنسبة إلى خلفائهم بني أمية الذين فعلوا ما فعلوا، وعدلوا عن سنن الحق، وما عدلوا… ثم عقبه بذكر من عد الخلفاء ممن كان من أعوانهم، المرتكبين لأعظم الخبائث والمنكرات.

ويحتمل أن يكون المراد: ما جعلنا خلافتهم أو ما جعلناهم أنفسهم إلا فتنة، وفيه من المبالغة في ذمهم ما لا يخفى، وجعل ضمير ” نخوفهم ” على هذا لمن كان منهم له أولاد منهم وعم التعبير للشجرة: باعتبار أن المراد بها بنو أمية، وقد لعنهم لما صدر منهم من استباحة الدماء المعصومة، والفروج المحصنة، وأخذ الأموال من غير حلها، ومنع الحقوق عن أهلها، وتبديل الأحكام، والحكم بغير ما أنزل الله تبارك وتعالى على نبيه عليه الصلاة والسلام، إلى غير ذلك من القبائح العظام، والمخازي الجسام، التي لا تكاد تنسى، ما دامت الليالي والأيام.

وجاء لعنهم في القرآن، إما على الخصوص كما زعمه الشيعة، أو على العموم كما نقول، فقد قال سبحانه وتعالى: ” إن الذين يؤذون الله ورسوله، لعنهم الله في الدنيا والآخرة ” وقال عز وجل: ” فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض، وتقطعوا أرحامكم.

أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم “، وغير ذلك من الآيات.

ودخولهم في عموم ذلك يكون دخولا أوليا ” انتهى كلام الآلوسي، فراجع روح البيان.

وقال الحافظ سليمان القندوزي الحنفي، في كتابه (ينابيع المودة) ص ٤٤٦ طبع استانبول سنة (١٣٠٢): ” قال بعض المحققين: إن الأحاديث الدالة على كون الخلفاء بعده صلى الله عليه وآله وسلم اثنا عشر، قد اشتهرت من طرق كثيرة، فبشرح الزمان، وتعرف الكون والمكان، علم أن مراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من حديثه هذا: الأئمة الاثنا عشر من أهل بيته وعترته، إذ لا يمكن أن يحمل هذا الحديث على الخلفاء بعده من أصحابه، لقلتهم عن اثني عشر (وهم أربعة) ولا يمكن أن يحمله على ملوك الأموية، لزيادتهم على اثني عشر (وهم ثلاثة عشر)، ولظلمهم الفاحش، إلا عمر بن عبد العزيز ولكونهم غير بني هاشم، لأن النبي صلى الله عليه وآله قال: ” كلهم من بني هاشم ” في رواية عبد الملك عن جابر. وإخفاء صوته صلى الله عليه وآله في هذا القول يرجح هذه الرواية، لأنهم لا يحسنون خلافة بني هاشم، ولا يمكن أن يحمله على الملوك العباسية، لزيادتهم (وهم خمسة وثلاثون) على العدد المذكور، ولقلة رعايتهم الآية: ” قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى “، وحديث الكساء، فلا بد من أن يحمل هذا الحديث على الأئمة الاثني عشر من أهل بيته وعترته صلى الله عليه وآله، لأنهم كانوا أعلم أهل زمانهم، وأجلهم، وأورعهم، وأتقاهم، وأعلاهم نسبا، وأفضلهم حسبا، وأكرمهم عند الله، وكان علمهم عن آبائهم متصلا بجدهم صلى الله عليه (وآله) وسلم، وبالوراثة واللدنية، كذا عرفهم أهل العلم والتحقيق، وأهل الكشف والتوفيق. ويؤيد هذا المعنى: أي مراد النبي صلى الله عليه وآله: الأئمة اثنا عشر من أهل بيته، ويشهده، ويرجحه، ” حديث الثقلين “، والأحاديث المتكثرة المذكورة في هذا الكتاب وغيرها، وأما قوله صلى الله عليه وآله: كلهم يجتمع عليه الأمة في رواية جابر بن سمرة، فمراده صلى الله عليه وآله: أن الأئمة يجتمع على الاقرار بإمامة كلهم وقت ظهور قائمهم المهدي رضي الله عنهم.

وروي في ذلك الكتاب ص ٤٤٥ عن ابن عباس، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول:

أنا، وعلي، والحسن، والحسين، وتسعة من ولد الحسين، مطهرون معصومون.

وقال: وأيضا أخرجه الحمويني.

وقال تعالى: ” أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون ” يونس ٣٥ وإن إجماع الأمة على إمامتهم، وغلبة الدين على الأديان الباطلة، من الأمور التي وعد الله بها، والله لا يخلف الميعاد، قال تعالى: ” يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم، والله متم نوره ولو كره الكافرون (٨) هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ” الصف: ٩.

 

١٦٦
فالأشاعرة لا يتمشى هذا على قواعدهم، حيث جوزوا صدور القبائح عنه تعالى، ومن جملتها الكذب، فجاز الكذب في هذا القول، تعالى عن ذلك علوا كبيرا. 

١٦٧
وأما الباقون فإنهم جوزوا تقديم المفضول على الفاضل، ولا يتمشى هذا الانكار على قوله أيضا، فقد ظهر أن الفريقين خالفوا الكتاب العزيز.. 

١٦٨

الإمام أفضل من رعيته

المبحث الثاني: في أن الإمام يجب أن يكون أفضل من رعيته.

اتفقت الإمامية على ذلك.. وخالف فيه الجمهور، فجوزوا تقديم المفضول على الفاضل.

وخالفوا مقتضى العقل، ونص الكتاب، فإن العقل يقبح تقديم المفضول، وإهانة الفاضل، ورفع مرتبة المفضول، وخفض مرتبة الفاضل، والقرآن نص على إنكار ذلك، فقال تعالى: ” أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدي إلا أن يهدى، فما لكم كيف تحكمون ” (١)؟.

وقال تعالى: ” هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، إنما يتذكر أولوا الألباب ” (٢).

وكيف ينقاد الأعلم، الأزهد، الأشرف، حسبا ونسبا، للأدون في ذلك كله؟!!

 

طريق تعيين الإمام

المبحث الثالث: في طريق تعيين الإمام.

ذهبت الإمامية كافة إلى أن الطريق إلى تعيين الإمام أمران:

– النص من الله تعالى، أو نبيه، أو إمام ثبتت إمامته بالنص عليه.

– أو ظهور المعجزات على يده، لأن شرط الإمامة العصمة. وهي من الأمور الخفية الباطنة التي لا يعلمها إلا الله تعالى.

 

 

(١) يونس: ٣٥(٢) الزمر: ٩.

 

١٦٩
وخالفت السنة في ذلك، وأوجبوا إطاعة أبي بكر على جميع الخلق، في شرق الأرض وغربها، باعتبار مبايعة (١) عمر بن الخطاب له برضاء 

(١) ولم تكن هذه البيعة إلا بالإجبار وبالقهر والغلبة، كما قال براء بن عازب: لم أزل لبني هاشم محبا، فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله خفت أن تتمالأ قريش على إخراج هذا الأمر عنهم، فأخذني ما يأخذ الوالهة العجول مع ما في نفسي من الحزن لوفاة رسول الله صلى الله عليه وآله فكنت أتردد إلى بني هاشم، وهم عند النبي صلى الله عليه وآله في الحجرة، وأتفقد وجوه قريش فإني كذلك، إذ فقدت أبا بكر، وعمر، وإذا قائل يقول: القوم في سقيفة بني ساعدة.وإذا قائل آخر يقول: قد بويع أبو بكر، فلم ألبث وإذا أنا بأبي بكر قد أقبل، ومعه عمر، وأبو عبيدة، وجماعة من أصحاب السقيفة، وهم محتجزون بالأزر الصنعانية، لا يمرون بأحد إلا خبطوه، وقدموه فمدوا يده، فمسحوها على يد أبو بكر، يبايعه شاء ذلك، أو أبي. (شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد ج ١ ص ٧٣).

ولم تكن هذه البيعة على ما فسرها عمر بن الخطاب، إلا ذلة وخيانة، وفلتة كفلتة الجاهلية وقى الله شرها، ذكره ابن أبي الحديد في شرح النهج ج ١ ص ١٢٣ و ج ٢ ص ١٩، والباقلاني في التمهيد ص ١٩٦، وصحيح البخاري باب رجم الحبلى والصواعق المحرقة ص ٥ و ٨ و ٢١ وتاريخ الطبري ج ٣ ص ٢١٠.

ولم تقم هذه البيعة إلا بالتهديد بالسيف والقتل، كما صرح به على لسان عمر بن الخطاب، وذكره ابن حجر في الصواعق ص ٢١ والباقلاني في التمهيد ص ١٩٦، ابن أبي الحديد في شرح النهج ج ١ ص ١٢٣ و ١٢٤.

فهل ترى مع ذلك يصح لمسلم دعوى الاجماع، ويجزم بوقوعه، ولا يعتريه الريب، فضلا عن أن يجعله مستندا لدينه الذي يلقي الله عز وجل به؟ وكيف يقال بوقوع الاجماع على بيعة أبي بكر، مع أنه لم يبايعه زعيم الخزرج وسيدهم سعد بن عبادة، ولا ذووه إلى أن مات أبو بكر، ولم يبايعه من يدور الحق معه حيث دار، إلا بعد ما هجموا عليه، وهموا بإحراق بيته، كما سيأتي تفصيله، وكذلك الزبير لم يبايع إلا بعد أن كسروا سيفه، وأخذوه قهرا، ولا المقداد إلا بعد ما دفعوا في صدره وضربوه، وكذلك جملة من خيار الصحابة والمسلمين إلا بعد الغلبة والقهر، كسلمان، وأبي ذر، وعمار، وحذيفة، وبريدة، وغيرهم من أعاظم الصحابة رضوان الله عليهم!!.

فمن أراد التفصيل فليراجع كتب القوم، مع حرية الفكر، وإمعان النظر، ومنها الإمامة والسياسة ج ١ ص ٩ إلى ١١ وشرح النهج لابن أبي الحديد ج ١ ص ٧٣، ٧٤، ١٢٣، ١٢٤، ومجلداته الأخرى، وسائر كتب السير والتاريخ.

 

١٧٠
أربعة: أبي عبيدة، وسالم مولى حذيفة، وبشير بن سعد، وأسيد بن حضير لا غير.فكيف يحل لمن يؤمن بالله، واليوم الآخر، إيجاب اتباع من لم ينص الله تعالى عليه ولا رسوله، ولا اجتمعت الأمة عليه، على جميع الخلق، لأجل مبايعة أربعة أنفار.

بل قد ذهب الجويني، وكان من أكثرهم علما، وأشدهم عنادا لأهل البيت عليهم السلام، إلى أن البيعة تنعقد لشخص واحد من بني هاشم، إذا بايعه رجل واحد لا غير.

فهل يرضى العاقل لنفسه الانقياد إلى هذا المذهب، وأن يوجب على نفسه الانقياد، وبذل الطاعة لمن لا يعرف عدالته أيضا، ولا يدري حاله من الإيمان، وعدمه، ولا عاشره، ليعرف جيده، من رديه وحقه من باطله، لأجل أن شخصا لا يعرف عدالته بايعه؟ وهل هذا إلا محض الجهل، والحمق، والضلال عن سبيل الرشاد؟ نعوذ بالله من اتباع الهوى، وغلبة حب الدنيا.

ومن أغرب الأشياء وأعجبها، بحث الأشاعرة عن الإمامة، وفروعها، وعن الفقه وتفاصيله، مع تجويز أن يكون جميع الخلائق على الخطأ والزلل، وأن يكون الله تعالى قد قصد إضلال العبيد بهذه الشرائع والأديان، فإنهم غير جازمين بصدقها، ولا ظانين، فإنه مع غلبة الضلال، والكفر، وأنواع العصيان الصادرة منه تعالى، كيف يظن العاقل، أو يشك في صحة الشرايع؟ بل يظن بطلانها عندهم، حملا على الغالب، إذ الصلاح في العالم أقل القليل.

ثم مع تجويزهم أن يحرم الله علينا التنفس في الهواء، مع الضرورة والحاجة إليه، وعدم الغناء عنه من كل وجه، ويحرم علينا شرب الماء السائغ مع شدة العطش، والانتفاع بذلك الماء، وعدم التضرر به، وانتفاء

١٧١
المفاسد كلها، كيف يحصل الجزم بأنه يفعل اللطف بالعبد، والمصلحة في إيجاب اتباع هذا الإمام؟. 

تعيين إمامة علي (ع) بدليل العقل

المبحث الرابع: في تعيين الإمام:

ذهبت الإمامية كافة: إلى أن الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله، هو علي بن أبي طالب عليه السلام.

وقالت السنة: إنه أبو بكر بن أبي قحافة، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان، ثم علي بن أبي طالب.

وخالفوا المعقول والمنقول.

أما المعقول: فهي الأدلة الدالة على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام، من حيث العقل، وهي من وجوه:

الأول: الإمام يجب أن يكون معصوما. وغير علي لم يكن معصوما بالإجماع، فتعين أن يكون هو الإمام.

الثاني: شرط الإمام أن لا يسبق منه معصية على ما تقدم، والمشايخ قبل الإسلام كانوا يعبدون الأصنام، فلا يكونوا أئمة، فتعين علي عليه السلام لعدم الفارق.

الثالث: الإمام يجب أن يكون منصوصا عليه. وغير علي من الثلاثة ليس منصوصا عليه، فلا يكون إماما.

الرابع: الإمام يجب أن يكون أفضل من رعيته، وغير علي لم يكن كذلك، فتعين عليه السلام.

الخامس: الإمامة رئاسة عامة، وإنما تستحق بالزهد، والعلم،

١٧٢
والعبادة، والشجاعة، والإيمان، وسيأتي أن عليا هو الجامع لهذه الصفات على الوجه الأكمل، الذي لم يلحقه غيره، فيكون إماما. 

تعيين إمامة علي (ع) بالقرآن

وأما المنقول: فالقرآن، والسنة المتواترة.

أما القرآن فآيات:

الأولى: ” إنما وليكم الله، ورسوله، والذين آمنوا، الذين يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة وهم راكعون ” (١). أجمعوا على نزولها في علي عليه السلام، وهو مذكور في الصحاح الستة (٢) لما تصدق بخاتمه على المسكين في الصلاة بمحضر من الصحابة، والولي: هو المتصرف. وقد أثبت الله تعالى الولاية لذاته، وشرك معه الرسول، وأمير المؤمنين، وولاية الله عامة فكذا النبي والولي.

 

نزول آية التبليغ في علي (ع)

الثانية: قوله تعالى: ” يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ” (٣)

 

(١) المائدة: ٥٥(٢) ورواه في جامع الأصول ج ٩ ص ٤٧٨ (ط مصر)، عن الجامع بين الصحاح الست، للشيخ أبي الحسن العبدري الأندلسي.

أقول: إن نزول الآية الكريمة في حق علي أمير المؤمنين مما دلت عليه الروايات المتواترة في كتب الحديث، والتفسير، والكلام، والفقه. ونص الأعاظم من الجمهور على صحة تلك الروايات، والوثوق بها، والركون إليها. وقد جمع منها العلامة الأميني في كتابه:

” الغدير ” ج ٢ ص ٢٥، والعلامة الفيروزآبادي في كتابه: ” فضائل الخمسة من الصحاح الستة “، والعلامة السيد شرف الدين في كتابه: ” المراجعات “، وفي ” النص والاجتهاد ” طائفة لا بأس بها من الكتب المعتبرة، والمصادر المهمة عند القوم، فمن أراد التفصيل، فليراجعها وغيرها من كتبهم.

(٣) المائدة: ٦٧.

 

١٧٣
نقل الجمهور: (١) أنها نزلت في بيان فضل علي عليه السلام يوم الغدير، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله بيد علي (ع)، وقال: ” أيها الناس، ألست أولى منكم بأنفسكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ” من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه كيف ما دار “.المولى يراد به: الأولى بالتصرف، لتقدم ألست، ولعدم صلاحية غيره هاهنا.

 

آية التطهير

الثالث: قوله تعالى: ” إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا “.

أجمع المفسرون (٢)، وروى الجمهور، كأحمد بن حنبل وغيره:

 

 

(١) أخرج ذلك متواترا أئمة التفسير، والحديث، والتاريخ، وكذا تواتر نزول الآية الكريمة في يوم الغدير، وخطبة النبي صلى الله عليه وآله في هذا اليوم، بمحضر مائة ألف أو يزيدون، ونقلوا احتجاج أهل البيت، وكثير من الصحابة، فنقتصر طلبا للاختصار على ذكر أقل القليل من كتبهم منها: شواهد التنزيل ج ١ ص ١٨٧، والدر المنثور ج ٢ ص ٢٩٨، وفتح القدير ج ٣ ص ٥٧، وروح المعاني ج ٦ ص ١٦٨، والمنار ج ٦ ص ٤٦٣، وتفسير الطبري ج ٦ ص ١٩٨، والصواعق المحرقة ص ٧٥(٢) نزول آية التطهير في فضل ” أصحاب الكساء ” في بيت أم سلمة، مما أجمعت عليه الأمة الإسلامية، وروي متواترا عن أئمة أهل البيت، وكثير من الصحابة، وهذا أنموذج من مصادره: الحافظ الكبير، الحنفي المعروف بالحاكم الحسكاني في ” شواهد التنزيل، ج ٢ ص ١٠. إلى ١٩٢ بعدة أسانيد، والحافظ جلال الدين السيوطي في الدر المنثور ج ٥ ص ١٩٨ بطرق، وكذا الطحاوي في مشكل الآثار ج ١ ص ٣٣٢ إلى ٢٣٨، والحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد ج ٩ ص ١٢١ و ١٤٦ و ١٦٩ و ١٧٢ وأحمد بن حنبل في مسنده ج ١ ص ٢٣٠ ج ٤ ص ١٠٧، وابن حجر في الصواعق ص ٨٥، والطبري في تفسيره ج ٢٢ ص ٥ و ٦ و ٧، وابن الأثير في أسد الغابة ج ٤ ص ٢٩، والنسائي في خصائصه ص ٤.

وكفاك هذا برهانا على أنهم أفضل من في الأرض يومئذ، ولم يكون غيرهم حائزا على هذه الفضيلة الإلهية، لا من بني عبد المطلب (كما اعترف ابن عباس من أنها نزلت في أصحاب الكساء) ولا من أمهات المؤمنين من أزواج النبي صلى الله عليه وآله، بدليلين واضحين.

الأول: إعلامهن بأن الله لم يرزقهن هذه الفضيلة الكبرى.. قالت أم سلمة: قلت: وأنا معهم يا رسول الله، ما أنا من أهل البيت؟،، قال: إنك على خير، وهؤلاء أهل بيتي، إنك من أزواج النبي. وفي رواية عمرة الهمدانية، كما في مشكل الآثار ج ١ ص ٣٣٦:

قالت أم سلمة: فوددت أنه قال نعم، فكان أحب إلي مما تطلع الشمس وتغرب (راجع ما قدمناه آنفا من المصادر، ومستدرك الحاكم ج ٢ ص ٤١٦، وسنن البيهقي ج ٢ ص ١٥٠، وتاريخ بغداد ج ٩ ص ١٢٦، وذخائر العقبى ص ٢١ وغيرها.

وقالت عائشة: قلت: يا رسول الله، ألست من أهلك؟ قال: إنك على خير. وفي بعض الروايات قال: تنحي، فإنك إلى خير (راجع المصادر المتقدمة، وفرائد السمطين، وكفاية الطالب ص ٣٢٣، وتفسير ابن كثير ج ٣ ص ٤٨٥، وهكذا روى الحسكاني عن أم المؤمنين زينب في شواهد التنزيل.

وتذكير ضمير (عنكم)، وما بعده في الآية الكريمة دليل واضح على عدم شمولها لأمهات المؤمنين، كما اعترف به ابن حجر في الصواعق، وغيره من الأعلام.

ووقوعها بين آيات أزواج النبي إنما هو من باب الاستطراد والاعتراض، وهذا من خواص كلام البليغ، كما هو دأب القرآن الكريم في آيات أخر، فتدبر في القرآن، فإن التدبر فيه يجلي البصر، ويصفي الرأي.

الثاني: دلالة الآية على عصمة الخمسة، لأنها صدرت بأداة الحصر، وهي كلمة:

إنما، وتعلق إرادته تعالى بالتطهير وبإذهاب الرجس، وهو فعله تعالى يدل على أن الإرادة تكوينية على ما ثبت في محله، ومتعلق التطهير وهو ” الرجس ” مطلق محلى بألف ولام الجنس، فالآية الشريفة تعلن نفي ماهية الرجس بنحو العام الاستيعابي المجموعي عن أهل البيت المذكورين فيها.

ومعنى الرجس: على ما في النهاية لابن الأثير وغيره، ومن موارد استعمالها في آيات أخر هو: كل ما يوجب نقصا في الروح، واضطرابا في الرأي.

ومن المعلوم أن المعصية، والسهو، والخطأ، والنسيان، من الرجس أيضا.. ويعبر عنه بالفارسية: ب (بليدي)، فعلى هذا تكون الآية من أدلة العصمة ومضادة للآيات المربوطة بأمهات المؤمنين.

 

١٧٤
أنها نزلت في رسول الله، وعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين، وروى أبو عبد الله، محمد بن عمران المرزباني، عن أبي الحمراء، قال: خدمت النبي صلى الله عليه وآله تسعة أشهر، أو عشرة، وكان عند كل فجر لا يخرج من بيته حتى يأخذ بعضادتي باب علي، فيقول: السلام عليكم ورحمة الله

١٧٥
وبركاته. فيقول: علي، وفاطمة، والحسن، والحسين، عليك السلام يا نبي الله، ورحمة الله وبركاته، ثم يقول: الصلاة رحمكم الله، ” إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا “.ثم انصرف إلى مصلاه (١).

والكذب من الرجس، ولا خلاف في أن أمير المؤمنين (ع) ادعى الخلافة لنفسه، فيكون صادقا.

 

آية المودة

الرابعة: قوله تعالى: ” قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ” (٢).

روى الجمهور في الصحيحين، وأحمد بن حنبل في مسنده والثعلبي في تفسيره، عن ابن عباس، قال: لما نزل، ” قل: لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى “، قالوا: يا رسول الله، من قرابتك الذين وجبت علينا مودتهم؟ قال: علي، وفاطمة، والحسن، والحسين (٣).

ووجوب المودة يستلزم وجوب الطاعة (٤).

 

 

(١) شواهد التنزيل ج ٢ ص ٤٧.(٢) الشورى: ٢٣.

(٣) نزول آية المودة في فضلهم، مما لا يرتاب فيه أحد إلا من كابر، وقد تواترت الروايات بهذا المعنى في الكتب المعتبرة عندهم. فراجع: الدر المنثور ج ٦ ص ٧، وتفسير الطبري ج ٢٥ ص ١٤ و ١٥، ومستدرك الحاكم ج ٢ ص ٤٤٤ عن الصحيحين، ومسند أحمد ج ١ ص ١٩٩ وينابيع المودة ص ١٥ عن مسند أحمد وغيره، والصواعق المحرقة ص ١١ و ١٠٢ وذخائر العقبى ص ٢٥.

(٤) أجر رسالة رسول الله صلى الله عليه وآله جاء في آيات عديدة:

فعدة منها تنفي أجر الرسالة عن الخلق، وتصرح بأن معطي الأجرة هو رب العالمين، قال تعالى: ” وما تسألهم عليه من أجر، إن هو إلا ذكر للعالمين ” يوسف: ١٠٤، وقال تعالى: ” قل لا أسألكم عليه أجرا ” الأنعام: ٩٠، وقال تعالى: ” قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين ص ٨٦، فهذه الآيات تعلن بأن أجره صلى الله عليه وآله على الله تعالى، وما كلف الناس بشئ من الأجر الذي لا ينتفع منه إلا نفسه صلى الله عليه وآله.

وعدة منها تثبت له أجرا على الناس غير الأجر المنفي في الآيات السابقة، قال تعالى:

” قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى “، وقال تعالى: ” ما سألتكم من أجر فهو لكم ” سبأ: ٤٧، وقال تعالى: ” قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا ” الفرقان: ٥٧، وهذه الآيات تعلن بأن الأجر المطلوب من الناس يعود لهم لا عليهم، وينتفعون هم منه في أمر دينهم، وشؤون حياتهم، والمودة المطلوبة في القربى ليست إلا معرفة فضلهم الذي أوجبه الله عز وجل، فإن المودة على قدر معرفة الفضل والإطاعة لهم، بما أمر به الله والرسول، فكانوا هم السبيل إليه تعالى، والمسلك إلى رضوانه.

 

١٧٦

آية من يشتري نفسه

الخامسة: قوله تعالى: ” ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله ” (١).

قال التعلبي، ورواه ابن عباس: أنها نزلت في علي عليه السلام، لما هرب النبي صلى الله عليه وآله من المشركين إلى الغار، خلفه لقضاء دينه، ورد ودايعه، فبات على فراشه، وأحاط المشركون بالدار، فأوحى الله إلى جبرئيل، وميكائيل: أني قد آخيت بينكما، وجعلت عمر أحدكما أطول من الآخر، فأيكما يؤثر صاحبه بالحياة؟ فاختار كل منهما الحياة، فأوحى الله إليهما: ألا كنتما مثل علي بن أبي طالب، آخيت بينه وبين محمد، فبات على فراشه، يفديه بنفسه، ويؤثره بالحياة؟ إهبطا إلى الأرض، فاحفظاه من عدوه، فنزلا فكان جبرئيل عند رأسه، وميكائيل عند رجليه، فقال جبرئيل: بخ بخ، من مثلك يا ابن أبي طالب، يباهي الله بك الملائكة (٢)!

 

 

(١) البقرة: ٢٠٧.(٢) راجع أيضا: أسد الغابة ج ٤ ص ٢٥، وشواهد التنزيل ج ١ ص ٩٨، ومستدرك الحاكم ج ٣ ص ١٣٢، ونور الأبصار ص ٨٦، وينابيع المودة ص ٩٢، والتفسير الكبير ج ٥ ص ٢٠٤، ومسند أحمد ج ١ ص ٣٣١، وتفسير الطبري ج ٩ ص ١٤٠ والسيرة النبوية لدحلان في هامش السيرة الحلبية: ج ١ ص ٣٠٧، وغيرها من كتب القوم.

وقال بن حجر في تهذيب التهذيب ج ٤ ص ٤٣٩: وقيل: إن الآية نزلت في صهيب الرومي.

أقول: جعل هذه الرواية وأشباهها إنما هو من أعداء أهل البيت (ع)، وإلا فإنه يظهر بأدنى تأمل: أن الآية الكريمة إنما هي في فضيلة من بذل النفس في سبيل الله، وليس هذا إلا علي بن أبي طالب عليه السلام في الليلة التي بات فيها على فراش النبي صلى الله عليه وآله، ومدلول الرواية الواردة في صهيب الرومي ليس إلا بذل المال، وأين هذا من ذلك، فلا ربط بينها وبين الآية الكريمة.

 

١٧٧

آية المباهلة (١)

السادسة: أجمع المفسرون (٢): على أن: ” أبناءنا ” إشارة إلى الحسن والحسين، ” وأنفسنا ” إشارة إلى علي عليه السلام. فجعله الله نفس محمد

 

(١) قال الله تعالى: ” فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم، فقل: تعالوا، ندع أبناءنا وأبناءكم، ونساءنا ونساءكم، وأنفسنا وأنفسكم، ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين “.(٢) قال الحاكم في كتابه: ” معرفة الحديث ” (ط مصر) ص ٥٠: وقد تواترت الأخبار في التفاسير، عن عبد الله بن عباس وغيره: أن رسول الله صلى الله عليه وآله أخذ يوم (المباهلة) بيد علي، وحسن، وحسين، وجعلوا فاطمة وراءهم، ثم قال صلى الله عليه وآله: هؤلاء أبناؤنا، وأنفسنا، ونساؤنا، فهلموا أنفسكم، ونساءكم، ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين.

ومن جملة مصادرها: صحيح مسلم ج ٢ ص ١٠٨ باب فضائل علي (ع)، والصواعق المحرقة ص ٩٣، ومسند أحمد ج ١ ص ١٨٥، وصحيح الترمذي ج ٢ ص ٦٦، ومستدرك الحاكم ج ٣ ص ١٥٠، وسنن البيهقي ج ٧ ص ٧٣، وتفسير الطبري ج ٣ ص ٢١٣.

وفي تفسير البيضاوي ج ٢ ص ٣٢، بعد نقل مجئ أصحاب الكساء إلى المباهلة، قال:

فقال أسقفهم: يا معشر النصارى: إني لأرى وجوها لو سألوا الله تعالى أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله، فلا تباهلوا فتهلكوا.. إلى آخر ما قال، وروى ذلك الفخر في تفسيره ج ٨ ص ٨٠، والكشاف ج ١ ص ١٩٣.

وقد أجمع أهل القبلة: على أن الرسول لم يدع للمباهلة أي واحدة من النساء، بما فيهن أم هاني ذات الشأن والمكانة، وغيرها من أزواج النبي، ونساء الخلفاء والمهاجرين والأنصار سوى بضعته الزهراء. ولم يدع من الأبناء كذلك إلا سبطيه الحسن، والحسين، ومن الرجال سوى علي بن أبي طالب، مع وجود الخلفاء وسائر المهاجرين والأنصار، ولم يجعل أحدا من المسلمين شريكه في متن هدايته، وهذا هو منتهى التكريم لهؤلاء المصطفين من الله والرسول، وهذا مقام الأبرار لم يعطه الله ورسوله أحدا من المؤمنين سواهم، لأنه لم يكن بين النساء من تجمع شرائط الهداية إلا الصديقة الطاهرة، ومن الأبناء إلا ريحانتا الرسول صلى الله عليه وآله، الحسن والحسين، ولم يكن من الرجال من نفسه كنفس النبي الأعظم في هداية الأمة، إلا علي أمير المؤمنين، ولذا قال الزمخشري في تفسير الآية من كشافه ج ١ ص ١٩٣: وفيه دليل لا شئ أقوى منه على فضل أصحاب الكساء عليهم السلام، وذكر ذلك مسلما به ابن حجر في الصواعق ص ٩٣.

وهذه الفضيلة نص قاطع بكون الحسن والحسين ابني الرسول صلى الله عليه وآله، كما تواترت به الروايات عنه بهذه الحقيقة القرآنية. قال الفخر الرازي في تفسيره ج ٨ ص ٨١: ومما يؤكد هذا قوله تعالى، في سورة الأنعام (٨٤ – ٨٥): ” ومن ذريته داود وسليمان ” إلى قوله: ” وزكريا ويحيى وعيسى “، ومعلوم: أن عيسى (ع) إنما انتسب إلى إبراهيم (ع) بالأم لا بالأب، فثبت أن ابن البنت قد يسمى ابنا.

وقال كمال الدين بن طلحة الشافعي، المتوفى (٦٥٤)، في ” مطالب السؤل ” ص ١٦ بعد ذكر حديث الغدير، ونزول آية التبليغ فيه: ” فقوله صلى الله عليه وآله: من كنت مولاه فعلي مولاه. قد اشتمل على لفظ (من)، وهي موضوعة للعموم، فاقتضى أن كل إنسان كان رسول الله صلى الله عليه وآله مولاه كان علي مولاه، واشتمل على لفظة (المولى)، وهي لفظة مستعملة بإزاء معان متعددة قد ورد القرآن الكريم بها، فتارة تكون بمعنى: الأولى، قال الله تعالى في حق المنافقين: ” مأواكم النار هي مولاكم ” معناه أولى بكم (ثم ذكر بعض معانيها إلى أن قال): فإن عليا منه كذلك، وهذا صريح في تخصيصه لعلي (ع) بهذه المنقبة العلية، وجعله كنفسه بالنسبة إلى من دخلت عليهم كلمة (من) التي هي للعموم بما لا يجعله لغيره.

وليعلم أن هذا الحديث هو من أسرار قوله تعالى: في آية المباهلة: (وأنفسنا وأنفسكم)، والمراد نفس علي على ما تقدم، فإن الله تعالى لما قرن بين نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وبين نفس علي، وجمعها بضمير مضاف إلى رسول الله صلى الله عليه وآله أثبت رسول الله لنفس علي بهذا الحديث ما هو ثابت لنفسه على المؤمنين عموما، فإنه أولى بالمؤمنين، وناصر المؤمنين، وسيد المؤمنين، وكل معنى أمكن إثباته مما يدل عليه لفظ المولى لرسول الله فقد جعله لعلي (ع)، وهي مرتبة سامية، ومنزلة سامقة، ودرجة علية، ومكانة رفيعة، خصصه بها دون غيره، فلهذا صار ذلك اليوم يوم عيده وموسم سرور لأوليائه.

وروى أبو نعيم في حلية الأولياء ج ١ ص ٦٦، بسنده: أن عليا دخل على رسول الله صلى الله عليه وآله فقال صلى الله عليه وآله: (مرحبا بسيد المسلمين، وإمام المتقين)، فسيادة المسلمين، وإمامة المتقين، لما كانت من صفات نفسه صلى الله عليه وآله، وقد عبر الله تعالى عن نفس علي بنفسه، ووصفه بما هو من صفاته.

أقول: ويعلم مما تقدم أن محبة النبي صلى الله عليه وآله لعلي، وفاطمة، والحسنين، واختياره لهم عن غيرهم، ليس بدافع من الغريزة الإنسانية، الموجودة في كل أحد، كما زعمه الزمخشري وغيره، في تفسير الآية بل هو يحب الناس بمقدار ما يرتبط أولئك الناس بتعاليم نبوته ورسالته، كما قال علي بن الحسين (ع) في دعائه في الصلاة على رسول الله،

(الدعاء الثاني في الصحيفة السجادية): قطع في إحياء دينك رحمه، وأقصى الأدنين على جحودهم، وقرب الأقصين على استجابتهم لك، ووالى فيك الأبعدين، وعادى فيك الأقربين، وأدأب نفسه في تبليغ رسالتك (الدعاء).

 

١٧٨
صلى الله عليه وآله، والمراد المساواة ومساوي الأكمل الأولى بالتصرف، أكمل وأولى بالتصرف. وهذه الآية أدل دليل على علو رتبة مولانا أمير المؤمنين

١٧٩
(ع)، لأنه تعالى حكم بالمساواة لنفس رسول الله صلى الله عليه وآله، وأنه تعالى عينه في استعانة النبي صلى الله عليه وآله في الدعاء. وأي فضيلة أعظم من أن يأمر الله نبيه، بأن يستعين به على الدعاء إليه، والتوسل به؟ ولمن حصلت هذه المرتبة؟ 

آية فتلقى آدم

السابعة: قوله تعالى: ” فتلقى آدم من ربه كلمات ” (١).

روى الجمهور عن ابن عباس، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله عن الكلمات التي تلقاها آدم من ربه، فتاب عليه، قال: سأله بحق محمد، وعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين،: إلا تبت علي، فتاب عليه (٢).

 

آية إني جاعلك

الثامنة: قال تعالى: ” إني جاعلك للناس إماما، قال: ومن ذريتي ” (٣) روى الجمهور عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله:

 

 

(١) البقرة: ٣٧(٢) تفسير اللوامع ج ١ ص ٢١٥ ط لاهور، عن عمر بن الخطاب وغيره، والدر المنثور ج ١ ص ٦٠، وينابيع المودة ص ٩٧، ومناقب ابن المغازلي ص ٦٣، ومعارج النبوة ص ٩ للمعين الكاشفي ط. الهند.

(٣) البقرة: ١٢٣.

 

شاهد أيضاً

الجاهل القاصر والجاهل المقصر

الجاهل القاصر والجاهل المقصر الجاهل القاصر: هو الذي يعتقد جازما أن هذا الفعل الذي يفعله ...