في اعتقادنا أن ولاية الأمر بعد النبي صلى الله عليه وآله كانت أمراً مفروغاً عنه عنده صلى الله عليه وآله، وأن الله تعالى أمره أن يبلغ الأمة ولاية عترته من بعده، كما هي سنته تعالى في أنبيائه، أن يورث عترتهم الكتاب والحكم والنبوة..
ونبينا صلى الله عليه وآله أفضلهم، ولا نبوة بعده، بل إمامةٌ ووراثةُ الكتاب..
وعترته وذريته صلى الله عليه وآله أفضل من ذريات جميع الأنبياء عليهم السلام وقد طهرهم الله تعالى واصطفاهم، وأورثهم الحكم والكتاب (ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم… ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا…).
وقد كان النبي صلى الله عليه وآله طوال نبوته يبلغ ولاية عترته بالحكمة والتدريج، والتلويح والتصريح، لعلمه بحسد قريش لبني هاشم، وخططها لإبعادهم عن الحكم بعده، بل قد لمس صلى الله عليه وآله مراتٍ عديدة عنف قريش ضدهم، فأجابهم بغضب نبوي!
وكانت حجة الوداع فرصةً مناسبةً للنبي صلى الله عليه وآله لكي يبلغ الأمة ولاية الأمر لعترته رسمياً على أوسع نطاق، حيث لم يبق بعد تبليغ الفرائض والأحكام، واتساع الدولة الإسلامية، والمخاطر المحيطة بها، وإعلان النبي صلى الله عليه وآله قرب رحيله الى ربه.. إلا أن يرتب أمر الحكم من بعده.
بل تدل النصوص ومنطق الأمور، على أن ذلك كان هو الهم الأكبر للنبي صلى الله عليه وآله في حجة الوداع، وأن قريشاً كانت تعرف جيداً ماذا يريد النبي صلى الله عليه وآله، وتعمل لمنع إعلان ذلك! وأنها زادت من فعاليتها في حجة الوداع لمنع تكريس ولاية علي والعترة عليهم السلام بشكل رسمي، وأخذ البيعة لهم من الأمة!
ولا يتسع هذا البحث للإستدلال على المفردات التي ذكرناها.. وكل مفردة منها عليها عدة أدلة.. بل نكتفي هنا باستطلاع خطب النبي صلى الله عليه وآله في حجة الوداع.. فقد ذكرت المصادر أنه صلى الله عليه وآله خطب خمس خطب غير خطبة الغدير، وكان من حق هذه الخطب النبوية أن تنقلها المصادر كاملةً غير منقوصة، لأن المستمعين كانوا عشرات الألوف.. ولكنك تراها مجزأةً مقتضبة، خاصة في الصحاح المعتمدة رسمياً عند الخلافة القرشية.
قال في السيرة الحلبية: 3|333:
خطب صلى الله عليه وسلم في الحج خمس خطب: الأولى يوم السابع من ذي الحجة بمكة، والثانية يوم عرفة، والثالثة يوم النحر بمنى، والرابعة يوم القر بمنى، والخامسة يوم النفر الأول بمنى أيضاً. انتهى.
وقد راجعنا نصوص هذه الخطب من أكثر من مئة مصدر، فوجدنا فيها الغرائب والعجائب، من التعارض والتضارب، والمؤشرات والأدلة على تدخلات قريش ورواتها في نصوصها! !
وكل ذنب خطب الوداع أن النبي صلى الله عليه وآله أمر المسلمين فيها بإطاعة أهل بيته من بعده، وحذرهم من الإختلاف بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم، وأقام عليهم الحجة، كاملةً غير منقوصة!
ولكن رغم كل التعتيم القرشي، فقد وصلنا منها في المصادر القرشية نفسها، ما فيه بلاغٌ لمن أراد معرفة أوامر نبيه، وتأكيده على الإلتزام بقيادة عترته الطاهرين من بعده.. صلى الله عليه وعليهم.
ونذكر منها فيما يلي: حديث الأئمة الإثني عشر، حيث اتفق الجميع على أن النبي صلى الله عليه وآله طرح قضيتهم في خطبه على المسلمين في حجة الوداع!
ثم نستعرض أهم ما تضمنته الخطب الشريفة من محاور، ومنها حديث الثقلين: الكتاب والعترة، وحديث: حوض النبي صلى الله عليه وآله، والصحابة الذين يمنعون من الورود عليه، ويؤمر بهم الى النار!
ـ روى البخاري في صحيحه: 8|127:
جابر بن سمرة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يكون اثنا عشر أميراً، فقال كلمة لم أسمعها، فقال أبي: إنه قال: كلهم من قريش!
ـ وفي صحيح مسلم: 6|3:
جابر بن سمرة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يزال الإسلام عزيزاً الى اثني عشر خليفة، ثم قال كلمة لم أفهمها، فقلت لأبي: ما قال؟ فقال: كلهم من قريش!
ثم روى مسلم رواية ثانية نحوها قال فيها (ثم تكلم بشيء لم أفهمه).
ثم روى ثالثة، جاء فيها (لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً الى اثني عشر خليفة، فقال كلمة صَمَّنِيها الناس! فقلت لأبي: ما قال؟ قال: كلهم من قريش). انتهى.
ولم يصرح البخاري أن هذا الحديث جزءٌ من خطبة حجة الوداع في عرفات، وقد قلده غيره في ذلك، ولكن عدداً من المصادر نصت عليه!
ففي مسند أحمد: 5|93 و 96 و 99 (عن جابر بن سمرة قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفات، فقال…) وفي ص 87 (يقول في حجة الوداع). وفي ص 99 منه (وقال المقدمي في حديثه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يخطب بمنى). انتهى.
وستعرف أن النبي صلى الله عليه وآله كرر هذا الموضوع المهم في عرفات، وفي منى عند الجمرة، وفي مسجد الخيف.. ثم أعلنه شرعياً وصريحاً في غدير خم!
***
فما هي قصة الأئمة الإثني عشر؟ ولماذا طرحها النبي صلى الله عليه وآله على أكبر تجمعٍ للمسلمين، وهو يودع أمته؟!
يجيبك البخاري: إن هؤلاء ليسوا أئمة بعد النبي صلى الله عليه وآله تجب طاعتهم، بل هم أمراء صالحون سوف يكونون في أمته في زمن ما، وأنه صلى الله عليه وآله قد أخبر أمته بما أخبره الله تعالى من أمرهم، وأنهم جميعاً من قريش، لا من بني هاشم وحدهم، بل من البضع وعشرين قبيلة التي تتكون منها قريش! وليس فيهم من الأنصار، ولا من قبائل العرب الأخرى، ولا من غير العرب.. وهذا كل ما في الأمر! !
وتسأل البخاري: لماذا أخبر النبي صلى الله عليه وآله أمته في حجة الوداع في عرفات بهؤلاء الإثني عشر؟ وما هو الأمر العملي الذي يترتب على ذلك؟!
يجيبك البخاري: بأن الموضوع مجرد إخبار فقط، فقد أحب النبي صلى الله عليه وآله أن يخبر أمته بذلك، لكي تأنس به.. فكأنه مجرد خبرٍ صحفي ليس فيه أي عنصرٍ عملي! !
والنتيجة: أن البخاري لم يروِ في صحيحه في الأئمة الإثني عشر إلا هذه الرواية اليتيمة المبهمة، التي لا يمكنك أن تفهمها أنت ولا قومك! بينما روى عن حيض أم المؤمنين عائشة في حجة الوداع روايات عديدة، واضحة مفهومة، تبين كيف احترمها النبي صلى الله عليه وآله، وأرسل معها من يساعدها على إحرامها وعمرتها!
***
أما مسلم فكان أكرم من البخاري قليلاً، لأنه اختار روايةً يفهم منها أن هؤلاء الإثني عشر هم خلفاء يحكمون بعد النبي صلى الله عليه وآله !
ويفرح المسلم بحديث مسلم هذا، لأنه يعني أن الله تعالى قد حل مشكلة الحكم في الأمة بعد نبيه صلى الله عليه وآله، فهؤلاء أئمة معينون من الله تعالى على لسان نبيه، ويستمدون شرعيتهم من هذا التعيين، ولا يحتاج الأمر الى سقيفة واختلافات، ثم الى صراعٍ دموي على الحكم من صدر الإسلام الى يومنا هذا.. وملايين الضحايا.. وانقساماتٍ في الأمة أدت الى تراكم ضعفها.. الى أن.. انهارت خلافتها وخلفاؤها!
الصفحة 29
ولكن رواية مسلم تقول: كلا لم تحل المشكلة، لأن النبي صلى الله عليه وآله أخبر عنهم إخباراً مجملاً! ولم يخبر المسلمين عن هويتهم وأسمائهم؟ ولم يسأله أحدٌ من عشرات الألوف الذين أخبرهم بهذا الموضوع الخطير: من هم يا رسول الله؟!
وياليت أحدهم سأله فحددهم، حتى تسلم قريش لهم الأمر بلا منازع؟!
يقول مسلم كما قال البخاري: كلا، كلا.. إنهم فقط أناسٌ ربانيون، يعز الله بهم الإسلام.. وهم من قريش.. من قريش! !
***
وهكذا لا يمكنك أن تصل من البخاري ومسلم الى نتيجة مقنعة في أمر هؤلاء الأئمة الإثني عشر.. فقد أقفل الشيخان عليك الأبواب، وقالا لك مقولة قريش: إن نبيك تحدث في حجة الوداع عن رائحة الأئمة الإثني عشر فقط، فشمها واسكت!
ولكنك لا تعدم الكشف عن عناصر مفيدة من مصادر قرشية أخرى، أقل مراعاة من البخاري ومسلم للسياسة وأهلها، أو أن ظروف أصحابها أحسن من ظروفهما!
فقد روى أحمد في مسنده: 5|92، عن نفس الراوي جابر السوائي قال: إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يكون (بعدي)…
وروى في نفس الصفحة عن نفس الراوي جابر بن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يكون بعدي اثنا عشر خليفة، كلهم من قريش. قال ثم رجع الى منزله، فأتته قريش فقالوا: ثم يكون ماذا؟ قال: ثم يكون الهرج. انتهى.
ففي الروايتين كلمة (بعدي) والمفهوم منها أنهم يكونون بعده مباشرة، والثانية تكشف عن اهتمام قريش بالموضوع، وسؤالهم عن هؤلاء الأئمة الربانيين، وأن القصة في المدينة، لا في حجة الوداع، فاحفظ ذلك لما يأتي!
وقد وردت كلمة بعدي، ومن بعدي، في عدد من روايات الحديث، منها ما رواه أحمد أيضاً في: 5|94، عن نفس الرواي (يكون بعدي اثنا عشر أميراً، ثم لا أدري ما قال بعد ذلك، فسألت القوم..)
وفي: 5|99 و 108 عن السوائي أيضاً (يكون من بعدي اثنا عشر أميراً، فتكلم فخفي علي، فسألت الذي يليني أو الى جنبي، فقال: كلهم من قريش).
وفي سنن الترمذي: 3 |340
(يكون من بعدي اثنا عشر أميراً، قال: ثم تكلم بشىَ لم أفهمه، فسألت الذي يليني، فقال قال: كلهم من قريش).
وفي تاريخ البخاري: 1|446 رقم 1426: عن جابر بن سمرة أيضاً أنه سمع النبي قال: يكون بعدي اثنا عشر خليفة.. انتهى.
وفي الصواعق المحرقة لابن حجر |20 قال:
خرَّج أبو القاسم البغوي بسند حسن، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يكون خلفي اثنا عشر خليفة. انتهى.
***
إذن، فقد طرح النبي صلى الله عليه وآله في حجة الوداع أمر الحكم من بعده، وأخبر عن ربه عز وجل بأن حكم الأمة الشرعي يكون لاثني عشر!