الرئيسية / الاسلام والحياة / كتاب نهج الحق وكشف الصدق للعلامة الحلي

كتاب نهج الحق وكشف الصدق للعلامة الحلي

نهج الحق وكشف الصدق / الصفحات: ٣٢١ – ٣٤٠

ولم يتمكن من الانتصاف من رجل واحد، حيث كان لهم غرض فاسد في منعه، وخالفوه، واختلفوا عليه، واقتصر على الامساك؟ فكيف يكون حال أهله بعده مع هؤلاء القوم؟.وروى الحميدي في مسند أبي هريرة في صحيح مسلم: أن النبي صلى الله عليه وآله لما فتح مكة، وقتل جماعة من أهلها، فجاء أبو سفيان بن الحارث بن هاشم، فقال يا رسول الله أبيدت خضراء قريش، فلا قريش بعد اليوم، فقال:

من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، فقالت الأنصار بعضهم لبعض: أما الرجل فأدركته رغبة في تربته، ورأفة بعشيرته، وفي رواية أخرى: فقد أخذته رأفة بعشيرته، ورغبة في قريته (١).

فلينظر العاقل: هل يجوز أو يحسن من الأنصار مثل هذا القول في حق النبي صلى الله عليه وآله؟.

وروى الحميدي في الجمع بين الصحيحين، في مسند عائشة، من المتفق عليه: أن النبي صلى الله عليه وآله قال لها: يا عائشة لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية وفي رواية حديثو عهد بكفر، وفي رواية حديثو عهد بشرك، وأخاف أن تنكر قلوبهم لأمرت بالبيت فهدم، فأدخلت فيه ما أخرج منه، ولزقته بالأرض، وجعلت له بابا شرقيا، وبابا غربيا، فبلغت به أساس إبراهيم (٢).

فانظر أيها المنصف: كيف يروون في صحاح أحاديثهم: أن النبي صلى الله عليه وآله كان يتقي قوم عائشة، وهم من أعيان المهاجرين والصحابة، من أن يواطئهم في هدم الكعبة، وإصلاح بنائها؟ فكيف لا يحصل الاختلال بعده في أهل بيته الذين قتلوا آباءهم وأقاربهم؟.

 

 

(١) التاج الجامع لأصول ج ٤ ص ٤٣٩ وصحيح مسلم ج ٣ ص ١٦٠(٢) ورواه أحمد في المسند ج ٦ ص ١٧٦ و ١٧٨ و ١٨٠ و ٢٣٩.

 

٣٢١
وروى الحميدي في الجمع بين الصحيحين، في مسند عائشة عن عبد الله ابن عمرو بن العاص، في الحديث الحادي عشر من أفراد مسلم، قال:إن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: إذا فتحت عليكم خزائن فارس والروم أي قوم أنتم؟ قال عبد الرحمن بن عوف: نكن كما أمرنا الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: أو غير ذلك، تتنافسون، ثم تتحاسدون، ثم تتدابرون، ثم تتباغضون. وفي رواية: ثم تنطلقون في مساكن المهاجرين، فتحملون بعضهم على رقاب بعض، وهذا ذم منه صلى الله عليه وآله لأصحابه (١).

وفي الجمع بين الصحيحين، في مسند المسيب بن حزن بن أبي وهب، من أفراد البخاري: أن سعيد بن المسيب حدث: أن جده حزن قدم على النبي صلى الله عليه وآله، فقال: ما اسمك قال: اسمي حزن، قال: بل أنت سهل، قال: ما أنا بمغير اسما سمانيه أبي، وفي رواية قلت: لا أغير اسما سمانيه أبي، قال ابن المسيب: فما زالت فينا الحزونة بعد (٢).

وهذه مخالفة ظاهرة من الصحابي للنبي صلى الله عليه وآله فيما لا يضره، بل فيما ينفعه فكيف لا يخالفونه بعد فيما ينفعهم؟.

وروى الحميدي في الجمع بين الصحيحين، من المتفق عليه من مسند أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: والذي نفسي بيده، لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب، ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلا فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال وأحرق عليهم بيوتهم، والذي نفسي بيده، لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقا سمينا، وخبزا برا لشهد العشاء، وهذا ذم من النبي صلى الله عليه وآله لجماعة من أصحابه حيث لم يحضروا الصلاة جماعة معه (٣).

 

 

(١) ورواه ابن ماجة في سننه ج ٢ ص ١٣٢٤، رقم الحديث ٣٩٩٦(٢) ورواه أيضا في الإصابة ج ١ ص ٣٢٥ وفي هامشها الاستيعاب ص ٣٨٦ وفي التاج الجامع للأصول ج ٥ ص ٢٧٥ وقال: رواه البخاري، وأحمد، وأبو داود.

(٣) ورواه في منتخب كنز العمال ج ٣ ص ٣٤٢ في هامش المسند وفي التاج الجامع للأصول ج ١ ص ٢٤٩ بتفاوت يسير، وقال: رواه الخمسة.

 

٣٢٢
وروى الحميدي في الجمع بين الصحيحين، في مسند حذيفة بن اليمان، عن زيد بن زيد، قال: كنا عند حذيفة فقال رجل: لو أدركت رسول الله صلى الله عليه وآله قاتلت معه فأبليت؟ فقال حذيفة أنت كنت تفعل ذلك؟ لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله ليلة الأحزاب، وأخذتنا ريح شديدة وقر، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: ألا رجل يأتيني بخبر القوم، جعله الله معي يوم القيامة، فسكتنا فلم يجبه منا أحد، ثم قال: ألا رجل يأتيني بخبر القوم، جعله الله معي يوم القيامة؟ فسكتنا، فلم يجب منا أحد، ثم قال: ألا رجل يأتيني بخبر القوم، جعله الله معي يوم القيامة؟ فسكتنا فلم يجبه منا أحد، فقال:قم يا حذيفة، فأتنا بخبر القوم، فلم أجد بدا إذ دعاني باسمي أن أقوم.

قال: اذهب فأتني بخبر القوم ولا تذعرهم، فلما وليت من عنده جعلت كأنما أمشي في حمام حتى أتيتهم، فرأيت أبا سفيان يصلي ظهره بالنار، فوضعت سهما في كبد القوس، فأردت أن أرميه، فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وآله: لا تذعرهم، ولو رميته لأصبته، فرجعت، وأنا أمشي في مثل حمام، فلما أتيته فأخبرته بخبر القوم، وفرغت، قررت، فألبسني رسول الله صلى الله عليه وآله من فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها، فلم أزل نائما حتى أصبحت، قال: قم يا نومان (١).

وهذا يدل على التهاون في أمره، والإعراض عن مطالبه، وقلة القبول منه، وترك المراقبة لله تعالى، وإيثارهم الحياة على لقاء الله تعالى، فكيف يستبعد منهم المخالفة بعد موته؟.

وروى الحميدي في الجمع بين الصحيحين، من أفراد البخاري، من مسند ابن عمر قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله خالد بن الوليد إلى بني جذيمة.

فدعاهم إلى الإسلام، فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فجعلوا يقولون:

صبأنا صبأنا، فجعل خالد يقتل، ويأسر، ودفع إلى كل رجل منا أسيره،

 

(١) ورواه مسلم في الصحيح ج ٢ ص ١٦٥ والتاج الجامع للأصول ج ٤ ص ٤١٨. 

٣٢٣
حتى إذا كان يوم أمر خالد: أن يقتل كل واحد منا أسيره، فقلت:والله لا أقتل أسيري، ولا يقتل واحد من أصحابي أسيره حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وآله، فذكرنا له ذلك، فرفع يديه، وقال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد… مرتين (١).

ولو كان ما فعله خالد صوابا، لم يتبرأ الرسول صلى الله عليه وآله منه، وإذا كان خالد قد خالفه في حياته، وخانه في أمره فكيف به وبغيره بعده؟.

وروى أحمد بن حنبل في مسنده، من عدة طرق: أن رسول الله صلى الله عليه وآله بعث ببراءة مع أبي بكر إلى أهل مكة، فلما بلغ ذا الحليفة دعا عليا (ع)، فقال: أدرك أبا بكر، فحيث لحقته فخذ الكتاب منه، واذهب به إلى أهل مكة، واقرأ عليهم، قال: فلحقته بالجحفة، فأخذت الكتاب منه،

 

(١) ورواه في التاج الجامع للأصول ج ٤ ص ٤٤١ وقال: رواه البخاري وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٩٧ وتاريخ الكامل ج ٢ ص ١٧٣ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ١٩٧، وفيها: ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وآله علي بن أبي طالب، فقال: يا علي، اخرج إلى هؤلاء القوم، فانظر في أمرهم، واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك، فخرج علي حتى جاءهم، ومعه مال قد بعث به رسول الله صلى الله عليه وآله، فودى لهم الدماء، وما أصيب من الأموال، حتى أنه ليدي لهم ميلغة الكلب، حتى إذا لم يبق شئ من دم ولا مال إلا وداه بقيت معه بقية من المال، فقال لهم، على حين فرغ منه: هل بقي دم أو مال لم يؤد لكم؟ قالوا: لا، قال: فإني أعطيتكم هذه البقية من هذا المال احتياطا لرسول الله صلى الله عليه وآله، ثم رجع إليه صلى الله عليه وآله فأخبره الخبر، قال: أصبت وأحسنت، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله فاستقبل القبلة قائما شاهرا يديه حتى أنه ليرى ما تحت منكبيه يقول: ” اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن وليد ” ثلاث مرات.وروى الصدوق في الأمالي ص ١٧٢ عن أبي جعفر الباقر عليه السلام (إلى أن قال):

فلما رجع النبي صلى الله عليه وآله قال: يا علي، أخبرني ما صنعت؟ فقال: يا رسول الله، عمدت فأعطيت لكل دم دية، ولكل جنين غرة، ولكل مال مالا، وفضلت معي فضلة فأعطيتهم لميلغة كلابهم، وحيلة رعاتهم، وفضلت معي فضلة، فأعطيتهم لروعة نسائهم، وفزع صبيانهم. وفضلت معي فضلة، فأعطيتهم لما يعلمون، ولما لا يعلمون. وفضلت معي فضلة فأعطيتهم ليرضوا عنك يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وآله: يا علي أعطيتهم ليرضوا عني؟ رضي الله عنك يا علي، إنما أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي.

 

٣٢٤
فرجع أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وآله، فقال: يا رسول الله، نزل في شئ؟قال: لا، ولكن جبرئيل جاءني فقال: لا يؤدي عنك إلا أنت، أو رجل منك (١).

ونحوه روى البخاري في صحيحه.

وفي الجمع بين الصحاح الستة، عن أبي داود، والترمذي، عن عبد الله بن عباس: أن النبي صلى الله عليه وآله دعا أبا بكر، وأمره أن ينادي في الموسم ببراءة، ثم أردفه عليا، فبينا أبو بكر في بعض الطريق، إذ سمع رغاء ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله العضباء، فقام أبو بكر فزعا، وظن أنه حدث أمر، فدفع إليه علي كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله، فيه: أن عليا ينادي بهؤلاء الكلمات، فإنه لا يبلغ عني إلا رجل من أهل بيتي، فانطلقا، فقام علي أيام التشريق ينادي ذمة الله ورسوله برية من كل مشرك، فسيحوا في الأرض أربعة أشهر، ولا يحجن بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت بعد اليوم عريان، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة (٢).

ورواه الثعلبي في تفسير براءة، وروى أن أبا بكر رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: نزل في شئ؟ قال: لا، ولكن لا يبلغ عني غيري، أو رجل مني (٣).

فمن لا يصلح لأداء آيات يسيرة يبلغها، كيف يستحق التعظيم المفرط في الغاية، وتقديمه على من عزله وكان هو المؤدي؟ ولكن صدق الله العظيم:

” إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ” (٤).

فلينظر العاقل في هذه القصة، ويعلم أن الله تعالى لو لم يرد إظهار فضيلة

 

(١) في المسند ج ٣ ص ٢٨٣ وراجع ما تقدم في الهامش.(٢) في البخاري ج ٦ ص ٨١ ورواه في روح المعاني ج ١٠ ص ٤٠ وشواهد التنزيل ج ١ ص ٢٣٩

(٣) ورواه أيضا: الطبري في تفسيره ج ١٠ ص ٦٤

(٤) الحج: ٤٦.

 

٣٢٥
مولانا أمير المؤمنين عليه السلام، وأن أبا بكر ينبغي أن يتابعه، لما رده عن طريقه بعد خروجه من المدينة، على أعين الخلائق، وكان يمنعه من الخروج في أول الحال، بحيث لا يعلم أحد انحطاط مرتبته، لكن لم يأمره بالرد إلا بعد تورطه في المسير أياما، لأنه سبق في علمه تعالى تقصير أكثر الأمة بعد النبي صلى الله عليه وآله، ففعل في هذه القضية ما فعل ليكون حجة له تعالى عليهم يوم العرض بين يديه.وكذلك في قصة خيبر، فإنهم رووا في صحيح أخبارهم: أن النبي صلى الله عليه وآله أعطى أبا بكر الراية، فرجع منهزما، ثم أعطاها لعمر، فرجع منهزما، فقال صلى الله عليه وآله: ” لأعطين الراية رجلا يحبه الله ورسوله، ويحب الله ورسوله، كرار غير فرار “، ثم أعطاها لعلي (ع) (١).

وقصد بذلك إظهار فضله، وحط منزلة الآخرين، لأنه قد ثبت بنص القرآن العظيم أنه: ” ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ” (٢)، فوجب أن يكون دفع الراية إليهما بقول الله تعالى، ولا شك في أنه تعالى عالم بالأشياء في الأزل فيكون عالما بهرب هذين، فلولا إرادة إظهار فضل علي (ع) لكان في ابتداء الأمر أوحى بتسليم الراية إليه.

ثم إن النبي صلى الله عليه وآله وصفه بما وصفه، وهو يشعر باختصاصه بتلك الأوصاف، وكيف لا يكون؟ ومحبة الله تعالى تدل على إرادة لقائه، وأمير المؤمنين عليه السلام لم يفر، قاصدا بذلك لقاء ربه تعالى، فيكون محبا له تعالى.

 

تألم علي (ع) من الصحابة

وقد روى ابن عبد ربه من الجمهور: أن أمير المؤمنين كان يتألم من الصحابة كثيرا في عدة مواطن، وعلى رؤوس المنابر، وقال في بعض خطبته:

 

 

(١) راجع ما تقدم في الهامش وراجع أيضا: مناقب ابن المغازلي ص ١٧٦ فقد رواه بإسناد وطرق متعددة.(٢) النجم: ٢ و ٣.

 

٣٢٦
عفا الله عما سلف، سبق الرجلان، وقام الثالث كالغراب، همه بطنه.ويله لو قص جناحه وقطع رأسه لكان خيرا له، انظروا فإن أنكرتم فأنكروا، وإن عرفتم فاعرفوا، ألا إن أبرار عترتي، وأطائب أرومتي أحلم الناس صغارا، وأعلمهم كبارا، ألا وإنا نحن أهل البيت، من علم الله علمنا، وبحكم الله حكمنا، من قول صادق سمعنا، فإن تتبعوا آثارنا تهتدوا ببصائرنا، معنا راية الحق، من تبعها لحق، ومن تأخر عنها غرق، ألا وبنا عزة كل مؤمن، وبنا تخلع ربقة الذل من أعناقهم، وبنا فتح الله وبنا ختم (١).

ونقل الحسن بن عبد الله بن مسعود بن العسكري، من أهل السنة، في كتاب: معاني الأخبار، بإسناده إلى ابن عباس، قال: ذكرت الخلافة عند أمير المؤمنين (ع)، فقال: والله، لقد تقمصها فلان (ابن أبي قحافة)، وإنه ليعلم: أن محلي منها محل القطب من الرحى، ينحدر عني السيل، ولا يرقى إلي الطير، فسدلت دونها ثوبا، وطويت عنها كشحا، وطفقت أرتأي بين أن أصول بيد جذاء، أو أصبر على طخية عمياء، يشيب فيها الصغير، ويهرم فيها الكبير، ويكدح فيها قلب المؤمن حتى يلقى ربه، فرأيت: أن الصبر على هاتا أحجى، فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجى، أرى تراثي نهبا، حتى مضى الأول لسبيله، فأدلى إلى فلان (ابن الخطاب) بعده، (ثم تمثل بقول الأعشى):

شتان ما يومي على كورها ويوم حيان أخي جابر

فيا عجبا… بينا هو يستقيلها في حياته، إذ عقدها لآخر بعد وفاته، لشد ما تشطر ضرعيها، فصيرها في حوزة خشناء، يغلظ كلمها، ويخشن مسها، ويكثر العثار فيها، والاعتذار منها، فصاحبها كراكب الصعبة، إن أشنق لها خرم، وإن أسلس لها تقحم. فمني الناس لعمر الله،

 

(١) رواه في كتابه العقد الفريد ج ٢ ص ١١٣. 

٣٢٧
بخبط وشماس، وتلون واعتراض، فصبرت على طول المدة، وشدة المحنة.حتى إذا مضى لسبيله، جعلها في جماعة زعم أني أحدهم، فيا لله، وللشورى، متى اعترض الريب في مع الأول منهم، حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر، لكني أسففت إذ أسفوا، وطرت إذ طاروا، فصفى رجل منهم لضغنه، ومال الآخر لصهره، مع هن وهن.

إلى أن قالم ثالث القوم، نافخا حضنيه، بين نثيله، ومعتلفه، وقام معه بنو أبيه، يخضمون مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع، إلى أن انتكث فتله، وأجهز عليه عمله، وكبت به بطنته، فما راعني إلا والناس كعرف الضبع إلي، ينثالون علي من كل جانب، حتى لقد وطئ الحسنان، وشق عطفاي مجتمعين حولي كربيضة الغنم، فلما نهضت بالأمر، نكثت طائفة:

ومرقت أخرى، وقسط آخرون، كأنهم لم يسمعوا كلام الله حيث يقول:

” تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا، والعاقبة للمتقين ” (١).

بلى والله، لقد سمعوها ووعوها، ولكنهم حليت الدنيا في أعينهم، وراقهم زبرجها، أما والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء: أن لا يقاروا على كظة ظالم، ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز (٢)!…

 

 

(١) القصص: ٨٣(٢) قال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ج ١ ص ٦٩: قد وجدت أنا كثيرا من هذه الخطبة في تصانيف شيخنا أبي القاسم البلخي، إمام البغداديين من المعتزلة، وكان في دولة المقتدر، قبل أن يخلق الرضي بمدة طويلة إلى آخر ما قال.

وذكرها الميداني في مجمع الأمثال، وابن منظور الإفريقي المصري، في لسان العرب ج ١٢ ص ٥٢، وأوعز إليها الفيروزآبادي في القاموس ج ٣ ص ٢٥٩، وابن الأثير الجزري في نهاية اللغة ج ٢ ص ٤٩٠، ووجدت بخط قديم، عليه كتابة الوزير أبي الحسن علي بن الفرات، المتوفى (٣١٢) كما في شرح ابن ميثم. ورواها محمد عبده في شرحه نهج البلاغة ج ١ ص ٣٠ والدكتور صبحي الصالح في شرحه على النهج ص ٤٨ وسبط بن الجوزي في تذكرة الخواص، وغيرهم من أعلام القوم.

 

٣٢٨
وهذا يدل بصريحه على تألم أمير المؤمنين، وتظلمه من هؤلاء الصحابة، وأن المستحق للخلافة هو، وأنهم منعوه عنها، ومن الممتنع ادعاؤه الكذب، وقد شهد الله له بالطهارة وإذهاب الرجس عنه، وجعله وليا لنا في قوله تعالى: ” إنما وليكم الله ورسوله، والذين آمنوا ” (١)، الآية. وأمر النبي صلى الله عليه وآله بالاستعانة به في الدعاء ” المباهلة “، فوجب أن يكون محقا في أقواله.وروي أنه اتصل به: أن الناس قالوا: ما باله لم ينازع أبا بكر، وعمر، وعثمان، كما نازع طلحة والزبير، فخرج مرتديا، ثم نادى بالصلاة جامعة، فلما اجتمع أصحابه قام خطيبا، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:

يا معشر الناس، بلغني: أن قوما قالوا: ما باله لم ينازع أبا بكر، وعمر، وعثمان، كما نازع طلحة، والزبير، وعائشة، وإن لي في سبعة من الأنبياء أسوة.

فأولهم: نوح، قال الله تعالى: ” إني مغلوب فانتصر ” (٢).

فإن قلتم: ما كان مغلوبا، كذبتم القرآن، وإن كان ذلك كذلك فعلي أعذر.

والثاني: إبراهيم خليل الرحمن، حيث يقول: ” وأعتزلكم وما تدعون من دون الله ” (٣).

 

 

(١) المائدة: ٥٥(٢) القمر: ١٠

(٣) مريم: ٤٨.

 

٣٢٩
فإن قلتم: إنه اعتزلهم من غير مكروه، فقد كفرتم، وإن قلتم:رأى مكروها منهم فاعتزلهم، فالوصي أعذر.

والثالث: ابن خالته لوط إذ قال لقومه: ” لو أن لي بكم قوة ” (١).

فإن قلتم: إنه لم يكن بهم قوة فاعتزلهم فالوصي أعذر.

ويوسف: إذ قال: ” رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه ” (٢).

فإن قلتم: إنه دعي إلى ما يسخط الله عز وجل فاختار السجن، فالوصي أعذر.

وموسى بن عمران: إذ يقول: ” ففررت منكم لما خفتكم، فوهب لي ربي حكما، وجعلني من المرسلين ” (٣).

فإن قلتم: إنه فر منهم خوفا، فالوصي أعذر.

وهارون: إذ قال: ” يا ابن أم، إن القوم استضعفوني، وكادوا يقتلونني، فلا تشمت بي الأعداء، ولا تجعلني مع القوم الظالمين ” (٤).

فإن قلتم: إنهم استضعفوه، وأشرفوا على قتله، فالوصي أعذر.

ومحمد صلى الله عليه وآله: لما هرب إلى الغار، فإن قلتم: إنه هرب من غير خوف أخافوه، فقد كذبتم، وإن قلتم: إنهم أخافوه فلم يسعه إلا الهرب، فالوصي أعذر!.

فقال الناس جميعا: صدق أمير المؤمنين (٥).

وروى ابن المغازلي الشافعي، في كتاب ” المناقب “، بإسناده قال:

 

 

(١) هود: ٨٠(٢) يوسف: ٣٣

(٣) الشعراء: ٢١

(٤) الأعراف: ١٥٠

(٥) كما رواه أبو منصور الطبرسي في كتابه: الاحتجاج ج ١ ص ٢٧٩.

 

٣٣٠
قال رسول الله صلى الله عليه وآله لعلي بن أبي طالب: إن الأمة ستغدر بك بعدي (١).ومن كتاب ” المناقب “، لأبي بكر أحمد بن موسى بن مردويه الحافظ، من الجمهور، بإسناده، إلى ابن عباس قال: خرجت أنا، والنبي صلى الله عليه وآله، وعلي، فرأيت حديقة، فقلت: ما أحسن هذه يا رسول الله صلى الله عليه وآله؟ فقال: حديقتك في الجنة أحسن منها، ثم مررنا بحديقة فقال علي ما أحسن هذه يا رسول الله؟ قال: حتى مررنا بسبع حدائق، فقال:

حدائقك في الجنة أحسن منها، ثم ضرب بيده على رأسه، ولحيته، وبكى، حتى علا بكاؤه، يقال علي (ع): ما يبكيك يا رسول الله؟ قال:

ضغائن في صدور لا يبدونها لك حتى يفقدوني (٢).

فإذا كان علماؤهم قد رووا هذه الروايات، لم يخل: إما أن يصدقوا، فيجب العدول عنهم، وإما أن يكذبوا، فلا يجوز التعويل على شئ من رواياتهم البتة.

وقد روى الحافظ محمد بن موسى الشيرازي، في كتابه الذي استخرجه من التفاسير الاثني عشر، أبي يوسف يعقوب بن سفيان، وتفسير ابن جريح، وتفسير مقاتل بن سليمان، وتفسير وكيع بن جراح، وتفسير يوسف بن موسى القطان، وتفسير قتادة، وتفسير سليمان، وتفسير أبي عبد الله القاسم بن سلام، وتفسير علي بن حرب الطائي، وتفسير السدي، وتفسير مجاهد، وتفسير مقاتل بن حيان، وتفسير أبي صالح، وكلهم من الجماهر، عن أنس بن مالك قال: كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وآله،

 

(١) ورواه أيضا: ابن أبي الحديد في شرح النهج ج ٢ ص ١٨ والمتقي الهندي في كنز العمال ج ٦ ص ١٥٧ في كتاب الفضائل وأحمد بن عبد العزيز الجوهري في كتاب السقيفة.(٢) ورواه أبو يوسف الكنجي الشافعي، في كتاب: كفاية الطالب، والخطيب في تاريخ بغداد ج ١٢ ص ٣٩٧ بسنده عن أبي عثمان النهدي (وثقه ابن حجر في تهذيب التهذيب، والذهبي في ميزان الاعتدال)، والمتقي في كنز العمال ج ٦ ص ٤٠٨ وقال: أخرجه البزار، وأبو يعلى.

 

٣٣١
فتذاكرنا رجلا يصلي، ويصوم، ويزكي، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وآله:لا أعرفه. فقلنا: يا رسول الله، إنه يعبد الله، ويسبحه، ويقدسه:

ويوحده. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: لا أعرفه.

فبينا نحن في ذكر الرجل إذ طلع علينا، فقلنا: هو ذا فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وآله، وقال لأبي بكر: خذ سيفي هذا وامض إلى هذا الرجل، واضرب عنقه، فإنه أول من يأتيه من حزب الشيطان، فدخل أبو بكر المسجد، فرآه راكعا، فقال: والله، لا أقتله فإن رسول الله صلى الله عليه وآله نهانا عن قتال المصلين، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: يا رسول الله، إني رأيته يصلي، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: إجلس فلست بصاحبه.

قم يا عمر، وخذ سيفي من أبي بكر، وادخل المسجد، واضرب عنقه، قال عمر: فأخذت السيف من أبي بكر، ودخلت المسجد، فرأيت الرجل ساجدا، فقلت: والله، لا أقتله، فقد استأمنه من هو خير مني، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، فقلت: يا رسول الله، إني رأيت الرجل ساجدا، فقال: يا عمر، اجلس، فلست بصاحبه.

قم يا علي، فإنك أنت قاتله، إن وجدته فاقتله، فإنك إن قتلته لم يقع بين أمتي اختلاف أبدا، قال علي: فأخذت السيف، ودخلت المسجد فلم أره، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، فقلت: يا رسول الله، ما رأيته، فقال:

يا أبا الحسن: إن أمة موسى افترقت إحدى وسبعين فرقة، فرقة ناجية والباقون في النار، وإن أمة عيسى افترقت اثنتين وسبعين فرقة، فرقة ناجية والباقون في النار. وإن أمتي ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، فرقة ناجية والباقون في النار، فقلت: يا رسول الله، وما الناجية؟ فقال: المتمسك بما أنت وأصحابك عليه، فأنزل الله في ذلك ” ثاني عطفه ” (١). يقول هذا أول من يظهر من أصحاب البدع والضلالات.

 

 

(١) الحج: ٩. 

٣٣٢
قال ابن عباس: والله ما قتل ذلك الرجل إلا أمير المؤمنين (ع) يوم ” صفين “، ثم قال: له في الدنيا خزي القتل: ويذيقه يوم القيامة عذاب الحريق، بقتاله علي بن أبي طالب عليه السلام (١).فلينظر العاقل: إلى ما تضمنه هذا الحديث المشهور، المنقول من أن أبا بكر وعمر لم يقبلا أمر النبي صلى الله عليه وآله، ولم يقبلا قوله، واعتذر بأنه يصلي، ويسجد، ولم يعلما: أن النبي صلى الله عليه وآله أعرف بما هو عليه منهما، ولو لم يكن مستحقا للقتل لم يأمر الله نبيه بذلك، وكيف ظهر إنكار النبي صلى الله عليه وآله على أبي بكر، بقوله: ” لست بصاحبه “، وامتنع عمر من قتله، ومع ذلك، فإن النبي صلى الله عليه وآله حكم بأنه لو قتل لم يقع بين أمته اختلاف أبدا، وكرر الأمر بقتله ثلاث مرات عقيب الانكار على الشيخين، وحكم صلى الله عليه وآله بأنه أمته ستفترق ثلاثا وسبعين فرقة: اثنتان وسبعون منها في النار، وأصل هذا بقاء ذلك الرجل، الذي أمر النبي صلى الله عليه وآله الشيخين بقتله، فلم يقتلاه، فكيف يجوز للعامي تقليد من يخالف أمر الرسول صلى الله عليه وآله؟.

 

قول عمر: إن النبي ليهجر

وهذا كما روى مسلم في صحيحه (٢)، والحميدي في مسند عبد الله بن

 

(١) ورواه أحمد في مسنده عن أبي سعيد ج ٣ ص ١٥، وابن عبد ربه في العقد الفريد ج ١ ص ٣٠٥ وابن حجر في الإصابة ج ١ ص ٤٨٤ إلا أن في حديث المصنف وأحمد: أن النبي صلى الله عليه وآله أمر كلا من أبي بكر، وعمر، وعليا بقتله.وفي حديث ابن عبد ربه وابن حجر: أن النبي صلى الله عليه وآله قال: أيكم يقوم فيقتله.

وقال ابن حجر: ولقصة ذي الثدية طرق كثيرة جدا، استوعبها محمد بن قدامة في كتاب الخوارج. (إلى أن قال: ولذلك) قلت: وللقضية الأولى شاهدان عند محمد بن قدامة:

أحدهما: من مرسل الحسن، فذكر شبيها بالقصة، والآخر: من طرق مسلمة بن بكرة، عن أبيه، عن محمد بن قدامة. وذكرها الحاكم في المستدرك، ولم يسم الرجل فيهما.

(٢) وقد أسلفنا ما هو التحقيق في سند ومتن ذلك الحديث، فراجع. وذكره المصنف هاهنا في ما جاء في عمر بن الخطاب، وأعاده ثانيا، لما فيه من الطعن بالصحابة، من حيث موافقتهم له في شتم النبي صلى الله عليه وآله، ورد أمره، ومن حيث تأميرهم لمثله. وراجع: مسند ج ١ ص ٢٢٢، و ٣٢٥، ٣٥٥.

 

٣٣٣
كتاب نهج الحق وكشف الصدق للعلامة الحلي (ص ٣٣٤ – ص ٣٥٠)

٣٣٤

وفي الجمع بين الصحيحين، من مسند جابر بن عبد الله، قال: ” دعا رسول الله صلى الله عليه وآله عند موته، فأراد أن يكتب لهم كتابا لا يضلون بعده أبدا، فكثر اللغط، وتكلم عمر، فرفضها رسول الله صلى الله عليه وآله (١).

وكيف يسوغ لعمر منع رسول الله صلى الله عليه وآله من كتبه ما يهتدون به إلى يوم القيامة، فإن كان هذا الحديث صحيحا عن عمر وجب ترك القبول منه، وإلا لم يجز لهم إسناده إليه، وحرم عليهم التعويل على كتبهم هذه.

 

نوادر الأثر في علم عمر

وفي الجمع بين الصحيحين، من مسند أبي هريرة، من أفراد مسلم، قال: كنا قعودا حول عند رسول الله صلى الله عليه وآله، ومعنا أبو بكر، وعمر، في نفر، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله من بين أظهرنا فأبطأ علينا، حتى خشينا أن يقطع دوننا، وفزعنا فقمنا، وكنت أول من فزع، فخرجت أبتغي رسول الله صلى الله عليه وآله حتى أتيت حائطا للأنصار لبني النجار، فدرت به: هل أجد له بابا، فلم أجده، فإذا ربيع، أي جدول، يدخل في جوف الحائط، من بئر خارجة، فاحتفرت كما يحتفر الثعلب، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله.

فقال: أبو هريرة؟ فقلت: نعم يا رسول الله، فقال: ما شأنك؟ قلت:

كنت بين أظهرنا، فقمت وأبطأت علينا، فخشينا أن تقتطع دوننا ففزعنا، فكنت أول من فزع، فأتيت هذا الحائط فاحتفرت كما يحتفر الثعلب، وهؤلاء الناس ورائي، فقال: يا أبا هريرة. وأعطاني نعليه، فقال:

اذهب بنعلي هاتين، فمن لقيت وراء هذا الحائط، يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه، فبشره بالجنة، فكان أول من لقيت عمر، فقال:

ما هاتان النعلان يا أبا هريرة؟ قلت: نعلا رسول الله صلى الله عليه وآله بعثني بهما من لقيت يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه بشرته بالجنة، قال: فضرب

 

(١) ورواه أحمد في مسنده ج ٣ ص ٣٤. 

٣٣٥
عمر بين ثديي فخررت لإستي، فقال: ارجع يا أبا هريرة، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، فأجهشت بالبكاء، وركبني عمر، فإذا هو على أثري، فقال رسول الله، ما لك يا أبا هريرة، قلت: لقيت عمر، فأخبرته بالذي بعثتني به، فضرب بين ثديي ضربة خررت لإستي، وقال:ارجع، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله: يا عمر، ما حملك على ما صنعت، فقال: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، أبعثت أبا هريرة بنعليك من لقي يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه بشره بالجنة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وآله:

نعم، قال: فلا تفعل، فإني أخشى أن يتكل الناس عليها، فخلهم يعملون، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: خلهم (١).

وهذا رد من عمر على رسول الله صلى الله عليه وآله، وإهانة لرسول الله صلى الله عليه وآله، حيث ضرب أبا هريرة حتى قعد على استه، ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله باكيا شاكيا.

مع أنه لو كان شريكا له في الرسالة لم يحسن منه وقوع مثل هذا في حق اتباع رسول الله صلى الله عليه وآله.

مع أنه كان يمكنه منع أبي هريرة من أداء الرسالة على وجه أليق، وألطف، فيبلغ غرضه معظما لرسول الله صلى الله عليه وآله.

من أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال له ذلك بوحي من الله تعالى، لقوله:

” وما ينطق عن الهوى “.

ولأن هذا جزاء أخروي، لا يعلمه إلا الله تعالى.

ولأنه ضمان على الله تعالى، ولأنه الحاكم في الجنة.

مع أن رسول الله صلى الله عليه وآله فيما رواه الحميدي، في الجمع بين الصحيحين،

 

(١) رواه مسلم في صحيحه ج ١ ص ٢٨ في باب من لقي الله بالإيمان، وهو غير شاك فيه دخل الجنة وحرم على النار. 

٣٣٦
في مسند أبي ذر، قال صلى الله عليه وآله: ” أتاني جبرئيل فبشرني أنه من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ” (١).وفي رواية: ” لم يدخل النار ” (٢).

فهذا صحيح عندهم، فكيف استجاز عمر الرد على رسول الله صلى الله عليه وآله؟.

وفيه، في مسند غسان بن مالك، متفق عليه، قال: إن النبي صلى الله عليه وآله قال: ” إن الله تعالى قد حرم النار على من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجهه ” (٣).

وإذا كان النبي صلى الله عليه وآله قال ذلك، في عدة مواضع، كيف استجاز عمر فعل ما فعله بأبي هريرة؟..

وقد روى عبد الله بن عباس، وجابر، وسهل بن حنيف، وأبو وائل، والقاضي عبد الجبار، وأبو علي الجبائي، وأبو مسلم الأصفهاني، ويوسف، والثعلبي، والطبري، والواقدي، والزهري، والبخاري، والحميدي في الجمع بين الصحيحين، في مسند المسور بن مخرمة، في حديث الصلح بين سهيل بن عمرو، وبين النبي صلى الله عليه وآله بالحديبية، يقول فيه عمر ابن الخطاب:

فأتيت النبي صلى الله عليه وآله فقلت له: ألست نبي الله حقا؟ قال: بلى، قلت: ألسنا على الحق، وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا؟ قال: إني رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري، قلت: أوليس كنت حدثتنا: إنا سنأتي البيت، ونطوف به؟

قال: بلى، أفأخبرتك أنا نأتيه العام؟ قلت: لا، قال: فإنك آتيه، ومطوف به.

 

 

(١) رواه مسلم في الصحيح ج ١ ص ٤٢ والبغوي في المصابيح ج ١ ص ٥(٢) أقول: وجاء في معناهما روايات كثيرة. أنظر: المصابيح ج ١ ص ٤ و ٥ وصحيح مسلم ج ١ ص ٢٦ و ٤٢ والتاج الجامع للأصول ج ١ ص ٢٤، كتاب الإيمان.

(٣) تقدم آنفا تحت رقم ٢.

 

٣٣٧
قال عمر: فأتيت أبا بكر، فقلت: يا أبا بكر، أليس هذا نبي الله حقا؟ قال: بلى، قلت: ألسنا على الحق، وعدونا على الباطل؟ قال:بلى، قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذن؟ قال: أيها الرجل، إنه رسول الله، وليس يعصي ربه، وهو ناصره، فاستمسك بغرزه فوالله إنه على الحق، قلت: أليس كان يحدثنا: أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال:

فأخبرك أنك تأتيه العام؟ قلت: لا، قال: فإنك آتيه ومطوف به (١).

وزاد الثعلبي في تفسيره سورة الفتح، وغيره من الرواة: ” أن عمر ابن الخطاب قال: ” ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ ” (٢).

وهذا الحديث يدل على تشكيك عمر، والانكار على النبي صلى الله عليه وآله فيما فعله بأمر الله تعالى، ثم رجوعه إلى أبي بكر حتى أجابه بالصحيح.

وكيف استجاز عمر: أن يوبخ النبي صلى الله عليه وآله، ويقول له، عقيب قوله:

” إني رسول الله ولست أعصيه، وهو ناصري “: ” أولست كنت تحدثنا:

أنا سنأتي البيت، ونطوف به؟؟ “.

وفي الجمع بين الصحيحين، في مسند عائشة، من المتفق على صحته:

أن عائشة قالت: أعتم رسول الله صلى الله عليه وآله بالعشاء حتى ناداه عمر: بالصلاة.

نام النساء والصبيان، فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله، وقال: وما كان لكم أن تنذروا رسول الله صلى الله عليه وآله على الصلاة، وذلك حين صاح عمر بن الخطاب (٣).

وقد قال الله تعالى: ” لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي، ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض، أن تحبط أعمالكم، وأنتم

 

(١) ورواه في الدر المنثور ج ٦ ص ٧٦ وتفسير الخازن ج ٤ ص ١٦٨ والتاج الجامع للأصول ج ٤ ص ٣٣٦(٢) وهكذا في الدر المنثور ج ٦ ص ٧٦ وتفسير الخازن ج ٤ ص ١٤٨ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٢٤١

(٣) صحيح مسلم ج ١ ص ٢٤١، وصحيح البخاري ج ١ ص ١٤١.

 

٣٣٨
لا تشعرون (١)، فجعل ذلك محبطا للعمل، وقال: ” إن الذين ينادونك من وراء الحجرات، أكثرهم لا يعقلون، ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم ” (٢).وفي الجمع بين الصحيحين للحميدي، في مسند عبد الله بن عمر بن الخطاب، أنه لما توفي عبد الله بن أبي بن سلول، جاء ابنه عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، فسأله: أن يصلي عليه، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله ليصلي عليه، فقام عمر، فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وآله، فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وآله أتصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: إنما خبرني الله تعالى: قال: ” استغفر لهم، أو لا تستغفر لهم، إن تستغفر لهم سبعين مرة ” (٣)، وسأزيد على السبعين، قال: إنه منافق؟

فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وآله (٤). وهذا رد على النبي صلى الله عليه وآله.

وفي الجمع بين الصحيحين، من مسند عائشة، قالت: (كان أزواج رسول الله صلى الله عليه وآله يخرجن ليلا إلى ليل قبل المصانع، فخرجت سودة بنت زمعة، فرآها عمر، وهو في مجلس، فقال: عرفتك يا سودة. فنزلت آية الحجاب عقيب ذلك) (٥).

وهو يدل على سوء أدب عمر، حيث كشف سر زوجة النبي صلى الله عليه وآله، ودل عليها أعين الناس وأخجلها، وما قصدت بخروجها ليلا إلا الاستتار

 

(١) الحجرات: ٢ و ٤(٢) الحجرات: ٢ و ٤

أقول: وقد روى غير واحد: أنها نزلت في أبي بكر وعمر، منهم البخاري في صحيحه ج ٦ ص ١٧١ والسيوطي في الدر المنثور ج ٦ ص ٨٤ ومنصور علي ناصف في التاج الجامع للأصول ج ٤ ص ٢٣٩ وقال: رواه البخاري، والترمذي، والنسفي في تفسيره في هامش تفسير الخازن ج ٤ ص ١٧٦ والآلوسي في تفسيره ج ٢٦ ص ١٢٣

(٣) التوبة: ٨٠

(٤) صحيح البخاري ج ٢ ص ٩٢ و ١١٥ في باب ما يكره من الصلاة على المنافقين، وباب الكفن في القميص، من أبواب الجنائز، و ج ٦ ص ٨٥

(٥) صحيح البخاري ج ١ ص ٤٨ وصحيح مسلم ج ٢ ص ٦.

 

٣٣٩
عن أعين الناس، وصيانة نفسها، وأي ضرورة له إلى تخجيلها، حتى أوجب ذلك نزول آية الحجاب.وفي الجمع بين الصحيحين، في مسند جابر بن عبد الله، من المتفق عليه، قال جابر: إن أباه قتل يوم أحدا شهيدا، فاشتد الغرماء في حقوقهم، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وآله، وكلمته، فسألهم أن يقبلوا ثمرة حائطي، ويحلوا أبي، فلم يوافقوا، فلم يعطهم رسول الله صلى الله عليه وآله ثمرة حائطي، ولم يكسره لهم، ولكن قال: سأغدو عليكم، فغدا علينا رسول الله صلى الله عليه وآله حين أصبح، فطاف في النخل، ودعا في ثمرها بالبركة، فجذذتها، فقضيتهم حقوقهم، وبقي لنا من ثمرها بقية، ثم جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فأخبرته بذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله لعمر، وهو جالس: إسمع يا عمر، فقال عمر: إن لم نكن قد علمنا أنك رسول الله، فوالله إنك لرسول الله صلى الله عليه وآله (١).

وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وآله سيئ الرأي فيه، ولهذا أمره بالسماع، وأجاب عمر: إن لم نكن علمنا أنك رسول الله فإنك رسول الله صلى الله عليه وآله.

وفي الجمع بين الصحيحين، في مسند أنس بن مالك، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان، قال: فتكلم أبو بكر، فأعرض عنه، ثم تكلم عمر، فأعرض عنه (٢).

وهذا يدل على سقوط منزلتهما عنده، وقد ظهر بذلك كذب من اعتذر عنهما في ترك القتال ببدر بأنهما: كانا أو أحدهما في العريش (٣)، يستضئ

 

(١) ورواه البخاري في الصحيح ج ٣ ص ١٩٩، في كتاب الهبة.(٢) مسند أحمد ج ٣ ص ٢١٩ و ٢٢٠، وصحيح مسلم ج ٣ ص ١٥٩ والتاج الجامع للأصول ج ٤ ص ٤٠٨

(٣) أقول: لم يؤثر عن الشيخين قبل الإسلام وبعده مشهد يدل على فروسيتهما، ولم يوجد لهما في مغازي النبي مع كثرتها وشهودهما فيها موقفا يشهد لهما بالشجاعة، أو وقفة تخلد لهما الذكر في التاريخ، أو خطوة قصيرة في ميادين تلك الحروب، تعرب عن شئ من هذا، غير ما كان في واقعة خيبر، من فرارهما عن مناضلة مرحب اليهودي، على ما أخرجه الطبراني، والبزار، كما في مجمع الزوائد ج ٩ ص ١٢٤، والقاضي عضد الإيجي في المواقف، وأقره شراحه كما في شرحه ج ٣ ص ٢٧٦، وابن المغازلي في المناقب ص ١٨٠ وابن أبي الحديد في شرحه على نهج البلاغة.

 

شاهد أيضاً

الزهراء الصديقة الكبرى المثل الأعلى للمرأة المعاصرة / سالم الصباغ‎

أتشرف بأن أقدم لكم نص المحاضرة التي تشرفت بإلقائها يوم 13 / 3 في ندوة ...