نهج الحق وكشف الصدق / الصفحات: ٣٢١ – ٣٤٠
من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، فقالت الأنصار بعضهم لبعض: أما الرجل فأدركته رغبة في تربته، ورأفة بعشيرته، وفي رواية أخرى: فقد أخذته رأفة بعشيرته، ورغبة في قريته (١).
فلينظر العاقل: هل يجوز أو يحسن من الأنصار مثل هذا القول في حق النبي صلى الله عليه وآله؟.
وروى الحميدي في الجمع بين الصحيحين، في مسند عائشة، من المتفق عليه: أن النبي صلى الله عليه وآله قال لها: يا عائشة لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية وفي رواية حديثو عهد بكفر، وفي رواية حديثو عهد بشرك، وأخاف أن تنكر قلوبهم لأمرت بالبيت فهدم، فأدخلت فيه ما أخرج منه، ولزقته بالأرض، وجعلت له بابا شرقيا، وبابا غربيا، فبلغت به أساس إبراهيم (٢).
فانظر أيها المنصف: كيف يروون في صحاح أحاديثهم: أن النبي صلى الله عليه وآله كان يتقي قوم عائشة، وهم من أعيان المهاجرين والصحابة، من أن يواطئهم في هدم الكعبة، وإصلاح بنائها؟ فكيف لا يحصل الاختلال بعده في أهل بيته الذين قتلوا آباءهم وأقاربهم؟.
وفي الجمع بين الصحيحين، في مسند المسيب بن حزن بن أبي وهب، من أفراد البخاري: أن سعيد بن المسيب حدث: أن جده حزن قدم على النبي صلى الله عليه وآله، فقال: ما اسمك قال: اسمي حزن، قال: بل أنت سهل، قال: ما أنا بمغير اسما سمانيه أبي، وفي رواية قلت: لا أغير اسما سمانيه أبي، قال ابن المسيب: فما زالت فينا الحزونة بعد (٢).
وهذه مخالفة ظاهرة من الصحابي للنبي صلى الله عليه وآله فيما لا يضره، بل فيما ينفعه فكيف لا يخالفونه بعد فيما ينفعهم؟.
وروى الحميدي في الجمع بين الصحيحين، من المتفق عليه من مسند أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: والذي نفسي بيده، لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب، ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلا فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال وأحرق عليهم بيوتهم، والذي نفسي بيده، لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقا سمينا، وخبزا برا لشهد العشاء، وهذا ذم من النبي صلى الله عليه وآله لجماعة من أصحابه حيث لم يحضروا الصلاة جماعة معه (٣).
(٣) ورواه في منتخب كنز العمال ج ٣ ص ٣٤٢ في هامش المسند وفي التاج الجامع للأصول ج ١ ص ٢٤٩ بتفاوت يسير، وقال: رواه الخمسة.
قال: اذهب فأتني بخبر القوم ولا تذعرهم، فلما وليت من عنده جعلت كأنما أمشي في حمام حتى أتيتهم، فرأيت أبا سفيان يصلي ظهره بالنار، فوضعت سهما في كبد القوس، فأردت أن أرميه، فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وآله: لا تذعرهم، ولو رميته لأصبته، فرجعت، وأنا أمشي في مثل حمام، فلما أتيته فأخبرته بخبر القوم، وفرغت، قررت، فألبسني رسول الله صلى الله عليه وآله من فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها، فلم أزل نائما حتى أصبحت، قال: قم يا نومان (١).
وهذا يدل على التهاون في أمره، والإعراض عن مطالبه، وقلة القبول منه، وترك المراقبة لله تعالى، وإيثارهم الحياة على لقاء الله تعالى، فكيف يستبعد منهم المخالفة بعد موته؟.
وروى الحميدي في الجمع بين الصحيحين، من أفراد البخاري، من مسند ابن عمر قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله خالد بن الوليد إلى بني جذيمة.
فدعاهم إلى الإسلام، فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فجعلوا يقولون:
صبأنا صبأنا، فجعل خالد يقتل، ويأسر، ودفع إلى كل رجل منا أسيره،
ولو كان ما فعله خالد صوابا، لم يتبرأ الرسول صلى الله عليه وآله منه، وإذا كان خالد قد خالفه في حياته، وخانه في أمره فكيف به وبغيره بعده؟.
وروى أحمد بن حنبل في مسنده، من عدة طرق: أن رسول الله صلى الله عليه وآله بعث ببراءة مع أبي بكر إلى أهل مكة، فلما بلغ ذا الحليفة دعا عليا (ع)، فقال: أدرك أبا بكر، فحيث لحقته فخذ الكتاب منه، واذهب به إلى أهل مكة، واقرأ عليهم، قال: فلحقته بالجحفة، فأخذت الكتاب منه،
فلما رجع النبي صلى الله عليه وآله قال: يا علي، أخبرني ما صنعت؟ فقال: يا رسول الله، عمدت فأعطيت لكل دم دية، ولكل جنين غرة، ولكل مال مالا، وفضلت معي فضلة فأعطيتهم لميلغة كلابهم، وحيلة رعاتهم، وفضلت معي فضلة، فأعطيتهم لروعة نسائهم، وفزع صبيانهم. وفضلت معي فضلة، فأعطيتهم لما يعلمون، ولما لا يعلمون. وفضلت معي فضلة فأعطيتهم ليرضوا عنك يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وآله: يا علي أعطيتهم ليرضوا عني؟ رضي الله عنك يا علي، إنما أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي.
ونحوه روى البخاري في صحيحه.
وفي الجمع بين الصحاح الستة، عن أبي داود، والترمذي، عن عبد الله بن عباس: أن النبي صلى الله عليه وآله دعا أبا بكر، وأمره أن ينادي في الموسم ببراءة، ثم أردفه عليا، فبينا أبو بكر في بعض الطريق، إذ سمع رغاء ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله العضباء، فقام أبو بكر فزعا، وظن أنه حدث أمر، فدفع إليه علي كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله، فيه: أن عليا ينادي بهؤلاء الكلمات، فإنه لا يبلغ عني إلا رجل من أهل بيتي، فانطلقا، فقام علي أيام التشريق ينادي ذمة الله ورسوله برية من كل مشرك، فسيحوا في الأرض أربعة أشهر، ولا يحجن بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت بعد اليوم عريان، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة (٢).
ورواه الثعلبي في تفسير براءة، وروى أن أبا بكر رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: نزل في شئ؟ قال: لا، ولكن لا يبلغ عني غيري، أو رجل مني (٣).
فمن لا يصلح لأداء آيات يسيرة يبلغها، كيف يستحق التعظيم المفرط في الغاية، وتقديمه على من عزله وكان هو المؤدي؟ ولكن صدق الله العظيم:
” إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ” (٤).
فلينظر العاقل في هذه القصة، ويعلم أن الله تعالى لو لم يرد إظهار فضيلة
(٣) ورواه أيضا: الطبري في تفسيره ج ١٠ ص ٦٤
(٤) الحج: ٤٦.
وقصد بذلك إظهار فضله، وحط منزلة الآخرين، لأنه قد ثبت بنص القرآن العظيم أنه: ” ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ” (٢)، فوجب أن يكون دفع الراية إليهما بقول الله تعالى، ولا شك في أنه تعالى عالم بالأشياء في الأزل فيكون عالما بهرب هذين، فلولا إرادة إظهار فضل علي (ع) لكان في ابتداء الأمر أوحى بتسليم الراية إليه.
ثم إن النبي صلى الله عليه وآله وصفه بما وصفه، وهو يشعر باختصاصه بتلك الأوصاف، وكيف لا يكون؟ ومحبة الله تعالى تدل على إرادة لقائه، وأمير المؤمنين عليه السلام لم يفر، قاصدا بذلك لقاء ربه تعالى، فيكون محبا له تعالى.
تألم علي (ع) من الصحابة
وقد روى ابن عبد ربه من الجمهور: أن أمير المؤمنين كان يتألم من الصحابة كثيرا في عدة مواطن، وعلى رؤوس المنابر، وقال في بعض خطبته:
ونقل الحسن بن عبد الله بن مسعود بن العسكري، من أهل السنة، في كتاب: معاني الأخبار، بإسناده إلى ابن عباس، قال: ذكرت الخلافة عند أمير المؤمنين (ع)، فقال: والله، لقد تقمصها فلان (ابن أبي قحافة)، وإنه ليعلم: أن محلي منها محل القطب من الرحى، ينحدر عني السيل، ولا يرقى إلي الطير، فسدلت دونها ثوبا، وطويت عنها كشحا، وطفقت أرتأي بين أن أصول بيد جذاء، أو أصبر على طخية عمياء، يشيب فيها الصغير، ويهرم فيها الكبير، ويكدح فيها قلب المؤمن حتى يلقى ربه، فرأيت: أن الصبر على هاتا أحجى، فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجى، أرى تراثي نهبا، حتى مضى الأول لسبيله، فأدلى إلى فلان (ابن الخطاب) بعده، (ثم تمثل بقول الأعشى):
شتان ما يومي على كورها | ويوم حيان أخي جابر |
فيا عجبا… بينا هو يستقيلها في حياته، إذ عقدها لآخر بعد وفاته، لشد ما تشطر ضرعيها، فصيرها في حوزة خشناء، يغلظ كلمها، ويخشن مسها، ويكثر العثار فيها، والاعتذار منها، فصاحبها كراكب الصعبة، إن أشنق لها خرم، وإن أسلس لها تقحم. فمني الناس لعمر الله،
إلى أن قالم ثالث القوم، نافخا حضنيه، بين نثيله، ومعتلفه، وقام معه بنو أبيه، يخضمون مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع، إلى أن انتكث فتله، وأجهز عليه عمله، وكبت به بطنته، فما راعني إلا والناس كعرف الضبع إلي، ينثالون علي من كل جانب، حتى لقد وطئ الحسنان، وشق عطفاي مجتمعين حولي كربيضة الغنم، فلما نهضت بالأمر، نكثت طائفة:
ومرقت أخرى، وقسط آخرون، كأنهم لم يسمعوا كلام الله حيث يقول:
” تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا، والعاقبة للمتقين ” (١).
بلى والله، لقد سمعوها ووعوها، ولكنهم حليت الدنيا في أعينهم، وراقهم زبرجها، أما والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء: أن لا يقاروا على كظة ظالم، ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز (٢)!…
وذكرها الميداني في مجمع الأمثال، وابن منظور الإفريقي المصري، في لسان العرب ج ١٢ ص ٥٢، وأوعز إليها الفيروزآبادي في القاموس ج ٣ ص ٢٥٩، وابن الأثير الجزري في نهاية اللغة ج ٢ ص ٤٩٠، ووجدت بخط قديم، عليه كتابة الوزير أبي الحسن علي بن الفرات، المتوفى (٣١٢) كما في شرح ابن ميثم. ورواها محمد عبده في شرحه نهج البلاغة ج ١ ص ٣٠ والدكتور صبحي الصالح في شرحه على النهج ص ٤٨ وسبط بن الجوزي في تذكرة الخواص، وغيرهم من أعلام القوم.
يا معشر الناس، بلغني: أن قوما قالوا: ما باله لم ينازع أبا بكر، وعمر، وعثمان، كما نازع طلحة، والزبير، وعائشة، وإن لي في سبعة من الأنبياء أسوة.
فأولهم: نوح، قال الله تعالى: ” إني مغلوب فانتصر ” (٢).
فإن قلتم: ما كان مغلوبا، كذبتم القرآن، وإن كان ذلك كذلك فعلي أعذر.
والثاني: إبراهيم خليل الرحمن، حيث يقول: ” وأعتزلكم وما تدعون من دون الله ” (٣).
(٣) مريم: ٤٨.
والثالث: ابن خالته لوط إذ قال لقومه: ” لو أن لي بكم قوة ” (١).
فإن قلتم: إنه لم يكن بهم قوة فاعتزلهم فالوصي أعذر.
ويوسف: إذ قال: ” رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه ” (٢).
فإن قلتم: إنه دعي إلى ما يسخط الله عز وجل فاختار السجن، فالوصي أعذر.
وموسى بن عمران: إذ يقول: ” ففررت منكم لما خفتكم، فوهب لي ربي حكما، وجعلني من المرسلين ” (٣).
فإن قلتم: إنه فر منهم خوفا، فالوصي أعذر.
وهارون: إذ قال: ” يا ابن أم، إن القوم استضعفوني، وكادوا يقتلونني، فلا تشمت بي الأعداء، ولا تجعلني مع القوم الظالمين ” (٤).
فإن قلتم: إنهم استضعفوه، وأشرفوا على قتله، فالوصي أعذر.
ومحمد صلى الله عليه وآله: لما هرب إلى الغار، فإن قلتم: إنه هرب من غير خوف أخافوه، فقد كذبتم، وإن قلتم: إنهم أخافوه فلم يسعه إلا الهرب، فالوصي أعذر!.
فقال الناس جميعا: صدق أمير المؤمنين (٥).
وروى ابن المغازلي الشافعي، في كتاب ” المناقب “، بإسناده قال:
(٣) الشعراء: ٢١
(٤) الأعراف: ١٥٠
(٥) كما رواه أبو منصور الطبرسي في كتابه: الاحتجاج ج ١ ص ٢٧٩.
حدائقك في الجنة أحسن منها، ثم ضرب بيده على رأسه، ولحيته، وبكى، حتى علا بكاؤه، يقال علي (ع): ما يبكيك يا رسول الله؟ قال:
ضغائن في صدور لا يبدونها لك حتى يفقدوني (٢).
فإذا كان علماؤهم قد رووا هذه الروايات، لم يخل: إما أن يصدقوا، فيجب العدول عنهم، وإما أن يكذبوا، فلا يجوز التعويل على شئ من رواياتهم البتة.
وقد روى الحافظ محمد بن موسى الشيرازي، في كتابه الذي استخرجه من التفاسير الاثني عشر، أبي يوسف يعقوب بن سفيان، وتفسير ابن جريح، وتفسير مقاتل بن سليمان، وتفسير وكيع بن جراح، وتفسير يوسف بن موسى القطان، وتفسير قتادة، وتفسير سليمان، وتفسير أبي عبد الله القاسم بن سلام، وتفسير علي بن حرب الطائي، وتفسير السدي، وتفسير مجاهد، وتفسير مقاتل بن حيان، وتفسير أبي صالح، وكلهم من الجماهر، عن أنس بن مالك قال: كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وآله،
ويوحده. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: لا أعرفه.
فبينا نحن في ذكر الرجل إذ طلع علينا، فقلنا: هو ذا فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وآله، وقال لأبي بكر: خذ سيفي هذا وامض إلى هذا الرجل، واضرب عنقه، فإنه أول من يأتيه من حزب الشيطان، فدخل أبو بكر المسجد، فرآه راكعا، فقال: والله، لا أقتله فإن رسول الله صلى الله عليه وآله نهانا عن قتال المصلين، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: يا رسول الله، إني رأيته يصلي، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: إجلس فلست بصاحبه.
قم يا عمر، وخذ سيفي من أبي بكر، وادخل المسجد، واضرب عنقه، قال عمر: فأخذت السيف من أبي بكر، ودخلت المسجد، فرأيت الرجل ساجدا، فقلت: والله، لا أقتله، فقد استأمنه من هو خير مني، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، فقلت: يا رسول الله، إني رأيت الرجل ساجدا، فقال: يا عمر، اجلس، فلست بصاحبه.
قم يا علي، فإنك أنت قاتله، إن وجدته فاقتله، فإنك إن قتلته لم يقع بين أمتي اختلاف أبدا، قال علي: فأخذت السيف، ودخلت المسجد فلم أره، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، فقلت: يا رسول الله، ما رأيته، فقال:
يا أبا الحسن: إن أمة موسى افترقت إحدى وسبعين فرقة، فرقة ناجية والباقون في النار، وإن أمة عيسى افترقت اثنتين وسبعين فرقة، فرقة ناجية والباقون في النار. وإن أمتي ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، فرقة ناجية والباقون في النار، فقلت: يا رسول الله، وما الناجية؟ فقال: المتمسك بما أنت وأصحابك عليه، فأنزل الله في ذلك ” ثاني عطفه ” (١). يقول هذا أول من يظهر من أصحاب البدع والضلالات.
قول عمر: إن النبي ليهجر
وهذا كما روى مسلم في صحيحه (٢)، والحميدي في مسند عبد الله بن
وقال ابن حجر: ولقصة ذي الثدية طرق كثيرة جدا، استوعبها محمد بن قدامة في كتاب الخوارج. (إلى أن قال: ولذلك) قلت: وللقضية الأولى شاهدان عند محمد بن قدامة:
أحدهما: من مرسل الحسن، فذكر شبيها بالقصة، والآخر: من طرق مسلمة بن بكرة، عن أبيه، عن محمد بن قدامة. وذكرها الحاكم في المستدرك، ولم يسم الرجل فيهما.
(٢) وقد أسلفنا ما هو التحقيق في سند ومتن ذلك الحديث، فراجع. وذكره المصنف هاهنا في ما جاء في عمر بن الخطاب، وأعاده ثانيا، لما فيه من الطعن بالصحابة، من حيث موافقتهم له في شتم النبي صلى الله عليه وآله، ورد أمره، ومن حيث تأميرهم لمثله. وراجع: مسند ج ١ ص ٢٢٢، و ٣٢٥، ٣٥٥.
وفي الجمع بين الصحيحين، من مسند جابر بن عبد الله، قال: ” دعا رسول الله صلى الله عليه وآله عند موته، فأراد أن يكتب لهم كتابا لا يضلون بعده أبدا، فكثر اللغط، وتكلم عمر، فرفضها رسول الله صلى الله عليه وآله (١).
وكيف يسوغ لعمر منع رسول الله صلى الله عليه وآله من كتبه ما يهتدون به إلى يوم القيامة، فإن كان هذا الحديث صحيحا عن عمر وجب ترك القبول منه، وإلا لم يجز لهم إسناده إليه، وحرم عليهم التعويل على كتبهم هذه.
نوادر الأثر في علم عمر
وفي الجمع بين الصحيحين، من مسند أبي هريرة، من أفراد مسلم، قال: كنا قعودا حول عند رسول الله صلى الله عليه وآله، ومعنا أبو بكر، وعمر، في نفر، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله من بين أظهرنا فأبطأ علينا، حتى خشينا أن يقطع دوننا، وفزعنا فقمنا، وكنت أول من فزع، فخرجت أبتغي رسول الله صلى الله عليه وآله حتى أتيت حائطا للأنصار لبني النجار، فدرت به: هل أجد له بابا، فلم أجده، فإذا ربيع، أي جدول، يدخل في جوف الحائط، من بئر خارجة، فاحتفرت كما يحتفر الثعلب، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله.
فقال: أبو هريرة؟ فقلت: نعم يا رسول الله، فقال: ما شأنك؟ قلت:
كنت بين أظهرنا، فقمت وأبطأت علينا، فخشينا أن تقتطع دوننا ففزعنا، فكنت أول من فزع، فأتيت هذا الحائط فاحتفرت كما يحتفر الثعلب، وهؤلاء الناس ورائي، فقال: يا أبا هريرة. وأعطاني نعليه، فقال:
اذهب بنعلي هاتين، فمن لقيت وراء هذا الحائط، يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه، فبشره بالجنة، فكان أول من لقيت عمر، فقال:
ما هاتان النعلان يا أبا هريرة؟ قلت: نعلا رسول الله صلى الله عليه وآله بعثني بهما من لقيت يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه بشرته بالجنة، قال: فضرب
نعم، قال: فلا تفعل، فإني أخشى أن يتكل الناس عليها، فخلهم يعملون، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: خلهم (١).
وهذا رد من عمر على رسول الله صلى الله عليه وآله، وإهانة لرسول الله صلى الله عليه وآله، حيث ضرب أبا هريرة حتى قعد على استه، ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله باكيا شاكيا.
مع أنه لو كان شريكا له في الرسالة لم يحسن منه وقوع مثل هذا في حق اتباع رسول الله صلى الله عليه وآله.
مع أنه كان يمكنه منع أبي هريرة من أداء الرسالة على وجه أليق، وألطف، فيبلغ غرضه معظما لرسول الله صلى الله عليه وآله.
من أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال له ذلك بوحي من الله تعالى، لقوله:
” وما ينطق عن الهوى “.
ولأن هذا جزاء أخروي، لا يعلمه إلا الله تعالى.
ولأنه ضمان على الله تعالى، ولأنه الحاكم في الجنة.
مع أن رسول الله صلى الله عليه وآله فيما رواه الحميدي، في الجمع بين الصحيحين،
فهذا صحيح عندهم، فكيف استجاز عمر الرد على رسول الله صلى الله عليه وآله؟.
وفيه، في مسند غسان بن مالك، متفق عليه، قال: إن النبي صلى الله عليه وآله قال: ” إن الله تعالى قد حرم النار على من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجهه ” (٣).
وإذا كان النبي صلى الله عليه وآله قال ذلك، في عدة مواضع، كيف استجاز عمر فعل ما فعله بأبي هريرة؟..
وقد روى عبد الله بن عباس، وجابر، وسهل بن حنيف، وأبو وائل، والقاضي عبد الجبار، وأبو علي الجبائي، وأبو مسلم الأصفهاني، ويوسف، والثعلبي، والطبري، والواقدي، والزهري، والبخاري، والحميدي في الجمع بين الصحيحين، في مسند المسور بن مخرمة، في حديث الصلح بين سهيل بن عمرو، وبين النبي صلى الله عليه وآله بالحديبية، يقول فيه عمر ابن الخطاب:
فأتيت النبي صلى الله عليه وآله فقلت له: ألست نبي الله حقا؟ قال: بلى، قلت: ألسنا على الحق، وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا؟ قال: إني رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري، قلت: أوليس كنت حدثتنا: إنا سنأتي البيت، ونطوف به؟
قال: بلى، أفأخبرتك أنا نأتيه العام؟ قلت: لا، قال: فإنك آتيه، ومطوف به.
(٣) تقدم آنفا تحت رقم ٢.
فأخبرك أنك تأتيه العام؟ قلت: لا، قال: فإنك آتيه ومطوف به (١).
وزاد الثعلبي في تفسيره سورة الفتح، وغيره من الرواة: ” أن عمر ابن الخطاب قال: ” ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ ” (٢).
وهذا الحديث يدل على تشكيك عمر، والانكار على النبي صلى الله عليه وآله فيما فعله بأمر الله تعالى، ثم رجوعه إلى أبي بكر حتى أجابه بالصحيح.
وكيف استجاز عمر: أن يوبخ النبي صلى الله عليه وآله، ويقول له، عقيب قوله:
” إني رسول الله ولست أعصيه، وهو ناصري “: ” أولست كنت تحدثنا:
أنا سنأتي البيت، ونطوف به؟؟ “.
وفي الجمع بين الصحيحين، في مسند عائشة، من المتفق على صحته:
أن عائشة قالت: أعتم رسول الله صلى الله عليه وآله بالعشاء حتى ناداه عمر: بالصلاة.
نام النساء والصبيان، فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله، وقال: وما كان لكم أن تنذروا رسول الله صلى الله عليه وآله على الصلاة، وذلك حين صاح عمر بن الخطاب (٣).
وقد قال الله تعالى: ” لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي، ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض، أن تحبط أعمالكم، وأنتم
(٣) صحيح مسلم ج ١ ص ٢٤١، وصحيح البخاري ج ١ ص ١٤١.
فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وآله (٤). وهذا رد على النبي صلى الله عليه وآله.
وفي الجمع بين الصحيحين، من مسند عائشة، قالت: (كان أزواج رسول الله صلى الله عليه وآله يخرجن ليلا إلى ليل قبل المصانع، فخرجت سودة بنت زمعة، فرآها عمر، وهو في مجلس، فقال: عرفتك يا سودة. فنزلت آية الحجاب عقيب ذلك) (٥).
وهو يدل على سوء أدب عمر، حيث كشف سر زوجة النبي صلى الله عليه وآله، ودل عليها أعين الناس وأخجلها، وما قصدت بخروجها ليلا إلا الاستتار
أقول: وقد روى غير واحد: أنها نزلت في أبي بكر وعمر، منهم البخاري في صحيحه ج ٦ ص ١٧١ والسيوطي في الدر المنثور ج ٦ ص ٨٤ ومنصور علي ناصف في التاج الجامع للأصول ج ٤ ص ٢٣٩ وقال: رواه البخاري، والترمذي، والنسفي في تفسيره في هامش تفسير الخازن ج ٤ ص ١٧٦ والآلوسي في تفسيره ج ٢٦ ص ١٢٣
(٣) التوبة: ٨٠
(٤) صحيح البخاري ج ٢ ص ٩٢ و ١١٥ في باب ما يكره من الصلاة على المنافقين، وباب الكفن في القميص، من أبواب الجنائز، و ج ٦ ص ٨٥
(٥) صحيح البخاري ج ١ ص ٤٨ وصحيح مسلم ج ٢ ص ٦.
وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وآله سيئ الرأي فيه، ولهذا أمره بالسماع، وأجاب عمر: إن لم نكن علمنا أنك رسول الله فإنك رسول الله صلى الله عليه وآله.
وفي الجمع بين الصحيحين، في مسند أنس بن مالك، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان، قال: فتكلم أبو بكر، فأعرض عنه، ثم تكلم عمر، فأعرض عنه (٢).
وهذا يدل على سقوط منزلتهما عنده، وقد ظهر بذلك كذب من اعتذر عنهما في ترك القتال ببدر بأنهما: كانا أو أحدهما في العريش (٣)، يستضئ
(٣) أقول: لم يؤثر عن الشيخين قبل الإسلام وبعده مشهد يدل على فروسيتهما، ولم يوجد لهما في مغازي النبي مع كثرتها وشهودهما فيها موقفا يشهد لهما بالشجاعة، أو وقفة تخلد لهما الذكر في التاريخ، أو خطوة قصيرة في ميادين تلك الحروب، تعرب عن شئ من هذا، غير ما كان في واقعة خيبر، من فرارهما عن مناضلة مرحب اليهودي، على ما أخرجه الطبراني، والبزار، كما في مجمع الزوائد ج ٩ ص ١٢٤، والقاضي عضد الإيجي في المواقف، وأقره شراحه كما في شرحه ج ٣ ص ٢٧٦، وابن المغازلي في المناقب ص ١٨٠ وابن أبي الحديد في شرحه على نهج البلاغة.