الأذان بين الأصالة والتحريف / الصفحات: ٦١ – ٨٠
وهذه المشاورة ذات ثمرات صالحة، منها: أنّها تُشعِر المشاوَرين بالمشاركة في صنع الموقف المسؤول، ومنها أنّها تَهَبُهم طاقة للاندفاع في سبيل تنفيذ مقرّرات هذه المشاورة وتحمّل نتائجها. ومع ذلك كلّه تظلّ لرسول الله (صلى الله عليه وآله) الكلمة الأخيرة في مقرّرات المشاورة، فهو الذي يحدّد ما ينبغي وما لا ينبغي، ويكون عزمه في المسألة هو الساري الجارى {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ}.
إنّ الشورى ليس لها دخل في الأحكام، ومتى تدخّلت في الحكم فإنّها تكون قد شاركت الوحيَ في التشريع، وهَوَّنت من شأن النبوّة والنبيّ، وفتحت باباً للتقوّل على الله.. ذلك التقوّل الذي هدّد اللهُ تعالى باجتراح ولو بعض منه.
ولقد حذّر اللهُ رسولَه ـ وهو أحبّ خلقه إليه ـ أيما تحذير، وهدّده أيّما تهديد.. إذا ما غيّر حرفاً واحداً، وذلك لمّا جاءه أهل قرية الناصرة بأحمال الذهب والفضّة
والأذان مقدّمة للصلاة، وكلاهما عبادة خالصة لله عزّوجلّ صادرة عن حقيقة وجودية توحيدية عميقة. من هنا يكون من الغفلة الاعتقاد بأنّ الله عزّوجلّ قد أمر خاتم أنبيائه الكرام بإقامة الصلاة على وجهها الذي شرّعه الله تعالى، ثمّ ترك شأن تعليم أذان الصلاة وإقامتها لأُناس عاديّين يقولون إنّهم رأوها في المنام! أو إنّهم قد أضافوا إليها من عندهم ما يكملها، دون أن يُعلّمها رسولَه الذي هو مبلّغ الوحي وحامل راية الهدى لأجيال البشرية كافّة.
ثالثاً: تشير بعض النصوص السنيّة التي أوردتها كتب الصحاح والسنن في موضوع الأذان إلى أنّ رسول الله كان في حيرة من أمر الأذان، ولم يكن يعلم الحكم
٣- النجم: ٣.
وتجدر الإشارة إلى أنّ هذه الآية نزلت لمّا تنازع أبو بكر وعمر في تعيين مَن يكون موفد الرسول المصطفى إلى بني تميم.
فقال أبو بكر: القعقاع بن معبد، وقال عمر: الأقرع بن حابس، فقال أبو بكر لعمر: ما أردتَ إلاَّ خلافي، فقال عمر: ما أردت خلافك، فتمارَيا حتّى ارتفعت أصواتهما، فنزلت في ذلك هذه الآيات الحكيمة(٢).
فإذا كان الله سبحانه لا يرتضي التنازع ورفع الصوت بمحضر النبيِّ في أيّة قضيّة من القضايا احتراماً له وتوقيراً لمقامه، فكيف يصحّ أن يُنسَب إليه التحيّر في شأن أمر تعبّدي كالأذان حتّى اختار ـ أو كاد أن يختار ـ ناقوس النصارى يُنقس به إعلاماً للصلاة؟!
ويشير إهمال الشيخين لهذا الحديث إلى أنّه لا أصل لحديث عبدالله بن زيد عن رسول الله، ويؤيّد ذلك ما أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء في ترجمة عمر بن عبدالعزيز عن عبيدالله بن عمر، قال: (دَخَلتْ ابنة عبدالله بن زيد على عمر بن
(وقال الحاكم والبيهقي: الروايات عن عبدالله بن زيد في هذا الباب كلّها منقطعة ; لأنّ عبدالله بن زيد استشهد يوم أحد. ثمّ أسند عن الدراوردي عن عبيدالله بن عمر قال: دخلت ابنة عبدالله بن زيد على عمر بن عبدالعزيز فقالت: يا أمير المؤمنين، أنا ابنة عبدالله بن زيد، شهد أبي بدراً وقتل يوم أحد، وفي صحّة هذا نظر ; فإن عبيدالله بن عمر لم يدرك هذه القصّة… وروى الواقدي عن محمد بن عبدالله بن زيد قال: تُوفّي أبي بالمدينة سنة اثنين وثلاثين، وقال ابن سعد: شهد أحداً والخندق والمشاهد كلها، ولو صحّ ما تقدم للزم أن تكون بنت عبدالله بن زيد صحابية). عن تلخيص الحبير ٣: ١٦٢ ـ ١٦٣.
أقول: الظاهر أنّ كلام الحاكم هو الصحيح، فإنّ الراوي هو عبيدالله بن عمر العمري كما في الإصابة ٢: ٣١٢ ترجمة عبدالله بن زيد بن ثعلبة، وهو عبيدالله بن عمر بن حفص ابن عاصم بن عمر بن الخطّاب، المتوفّى سنة ١٤٤ أو ١٤٥ أو ١٤٧ هـ، والمسند إليه صحيح بلحاظ الراوي والمروي عنه. انظر: تهذيب الكمال ١٩: ١٢٤ ـ ١٣٠.
تلك المكارِمُ لا قعبان من لَبن | شِيبا بماء فعادا بَعدُ أبوالا |
سَليني ما شئتِ، فسألت فأعطاها ما سألت(١).
ولو ثبت بشكل قطعي أنَّ عبدالله رأى الأذان لَذَكرتْ ابنته هذه المكرمة له وعدّتها ضمن منقبتيه الأُوليين: حضوره بدراً وقتله بأُحد، بل أن فضيلة رؤيا الأذان لو كانت واقعةً فعلاً لَما ضاهاها شيء ; إذ إنّ الوحي قد وافقه في هذه المسألة دون عموم بني البشر، وهي أهمّ من حضوره بدراً وقتله بأُحد، وذلك لمشاركة آخَرين له في هاتين الفضيلتين.
إنَّ عدم ذكر ابنة عبدالله بن زيد لهذه المنقبة ـ وهي في معرض استعطاف عمر بن عبدالعزيز ـ ليشير إلى عدم ثبوت هذه المكرمة له في العهد الأوّل.
خامساً: من الثابت عند أهل العلم أنّ رؤيا الأنبياء وحدهم حجّة، لا رؤيا غيرهم. نعم، إنّهم صحّحوا هذه الرؤيا والمنامات الأخرى بتطابق الوحي معها.
قال العسقلانيّ: (وقد استشكل إثبات حكم الأذان برؤيا عبدالله بن زيد، لأنَّ رؤيا غير الأنبياء لا يُبنى عليها حكم شرعيّ، وأُجيب باحتمال مقارنة الوحي لذلك…)(٢).
لكنّ هذا الجواب غير علميّ ولا دقيق ; لأنَّ مجرّد احتمال مقارنة الوحي لا يفيد، إذ لو كان ذلك صحيحاً لذكرته الروايات المعتمدة في الباب ولم تنحصر باجتهادات
إنَّ تعارض النصوص وتخالفها مع الثوابت الأُخرى تُخطِّئ هذه الرؤية ; لأنَّ القول بتشريع الأذان في المَسرى لا يتطابق مع حيرة النبيّ وسعيه لمشاورة الصحابة في المدينة، وخصوصاً حينما نشم رائحة الغلوّ من بعض النصوص وادِّعاء نزول ما يشابه الوحي على عبدالله بن زيد، أو على عمر، أو بلال، لقول عبدالله في بعض النصوص: “كأنّي وأنا بين نائم ويقظان”، وفي آخر: “لولا أن يقول الناس لقلتُ بأنّي كنتُ يقظان غير نائم”!!
أو ما جاء في نصوص أُخرى: “إنَّ جبرئيل أذَّن في سـماء الدنيا، فسمعه عمر وبلال، فسـبق عمـر بلالاً فأخـبر النـبيّ ثمّ جاء…”، أفَـلا تـرى أنّ هـذه النصـوص تـرفـع من شـأن عبدالله بن زيد ومن شـأن عمرَ إلى مرتـبة النـبوّة، وتغـلو فيهـما؟!
بل العجب العجاب أن نرى إلقاء العبء الأكبر في الأذان على عبد الله بن زيد بن عبدربّه الخزرجي الأنصاري، هذا الصحابي غير الواضح المعالم في التاريخ والفقه، والذي لم يُعرَف ولم يشتهر إلاّ عبر هذه المفردة، إذ عرف بـ “الذي أُرِيَ الأذان”. ومثل ذلك ما قيل في سَمِيّه عبدالله بن زيد بن عاصم المازني الأنصاري “صاحب حديث الوضوء” الذي ألقوا على عهدته قسماً من الوضوء الثلاثي الغَسلي وادّعوا أن الأخبار الصحيحة جاءت عنه وهو منها بريء!
فلماذا هذان الصحابيان الأنصاريان الغامضا المعالم؟! اللذان لا يعرفان إلاّ في
قال ابن حجر في إرشاد الساري: (فإن قلتَ: ما الحكمة في تخصيص الأذان برؤيا رجل ولم يكن بوحي؟
أُجيب: لما فيه من التنويه بالنبيّ والرفع لذِكره ; لأنَّه إذا كان على لسان غيره كان أرفَعَ لذكره وأفخَرَ لشأنه، على أنَّه روى أبو داود في المَراسيل أنَّ عمر لمّا رأى الأذان جاء ليخبر النبيّ فوجد الوحي قد ورد بذلك، فما راعه إلاّ أذان بلال، فقال له (عليه السلام): سبقك بها الوحي. ورواة هذا الحديث خمسة، وفيه التحديث والإخبار)(٢).
وهذا التعليل عليل، لأنَّه لو صحّ للزم لحاظ هذا الوجه في كلّ شيء ورد فيه ذِكر الشهادتين، لأنَّ نقل ذلك على لسان غيره أرفع لذكره وأفخر لشأنه وأدفع لتهم أعدائه، في حين نعلم بأنَّ الباري جَلَّ شأنه هو الذي رفع ذِكره بقوله: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} (٣)، وبعد هذا فلا يحتاج إلى أن يرفع ذكره بعد الباري جلّ شأنه أحدٌ.
هذه أهمّ الأقوال التي قيلت في تشريع الأذان عند مدرسة أهل السنّة والجماعة، وقد يمكن إرجاع بعضها إلى بعض، وتقليص حجم اختلافاتها، غير أنّ إعادة جميع النصوص إلى قول واحد محالٌ من القول، لأنّ القول بتشريعها والتأذين بها في الإسراء والمعراج لا يتّفق مع هَمِّ وغمّ رسول الله في المدينة وجلوسه مع
٣- الانشراح: ٤.
وكذا القول بأنّ أبا بكر كان أوّل مَن أخبر رسولَ الله بالأذان ـ كما في خبر جامع المسانيد ـ فهو يخالف المشهور بين المحدّثين من أنّ عبدالله بن زيد الأنصاريّ كان أوّل مَن أخبر رسول الله بمنامه.
وكذا الحال بالنسبة إلى ما اشتهر عن عبدالله بن زيد وأنّه أخبر رسول الله في الصّباح ـ بعد أن نام بالليل ـ لقوله: (فلمّا أصبحتُ أتيت رسول الله) أو: (فلما غدا…) وهو يخالف ما قاله الحافظ الدمياطي في سيرته من أنّ عبدالله بن زيد أتى رسول الله ليلاً وأخبره(١).
وقد حاول الحلبيّ الجمع بين القولين ذاهباً إلى عدم المنافاة بينهما ; لأنّ جملة: (فلمّا أصبحتُ) أو: (فلمّا غدا) إشارة إلى مقاربة الوقت للصباح.
وهذا تأويل بعيد يخالف الظاهر، لأن المتبادر من كلمة (فلما اصبحت) أو (غدوت) صريح في الصبح، فكان على الحلبي أن يخطّئ نقل الحافظ الدمياطي وهو خير له من أن يقول بهذا القول.
وكذا الحال بالنسبة إلى عمر بن الخطّاب، ففي بعض النصوص نراه يخرج حينما
قال: والظاهر أنّ إشارة عمر بإرسال رجل ينادي بالصلاة كانت عقب المشاورة فيما يفعلونه، وأنَّ رؤيا عبدالله كانت بعد ذلك ; وتعقّبه العينيّ بما رواه أبو داود عن أبي بشر، عن أبي عمير، عن أنس، عن عمومة له من الأنصار، أنّ عبدالله بن زيد: قال (إذ أتاني آت فأراني الأذان، وكان عمر قد رآه قبل ذلك فكتمه، فقال له النبيُّ: ما منعك أن تخبرنا…) إلى آخره، ليس فيه أنَّ عمر سمع الصوت فخرج ; فقال: فهو يُقَوي كلام القرطـبيّ ويردّ كلام بعضهـم ـ أي ابن حجـر ـ انتهى.
وأجاب ابن حجر في انتقاض الاعتراض بأنَّه إذا سكت في رواية أبي عمير عن قوله: فسمع عمر الصوت فخرج، وأثبتها ابن عمر، إنّما يكون إثبات ذلك دالاً على أنَّه لم يكن حاضراً، فكيف يعترض بمثل هذا؟!(١).
ومجمل الكلام أنّهم بهذه الوجوه سعوا للجمع بين بعض النصوص، ولكن أنَّى
أحدهما: يقول بتشريعه في الإسراء والمعراج وأنَّه من الوحي الذي لا يجوز فيه الزيادة والنقصان.
وثانيهما: يعتقد بأنَّ تشريعه جاء على أثر منام رآه عبدالله بن زيد بن عبد ربّه، أو أنّه شُرِّع بمشورة من الصحابة.
وقد اختلف الاتّجاهان في المفاهيم والأُصول ; لأنَّ القائل بتشريعه في الإسراء والمعراج يربطه بقضايا إلهيّة قدسيّة، حيث إنَّ حقيقة الإسراء هي حقيقة عالية ترتبط بالغيب، وإنَّ أهل بيت الرسالة وبعض الصحابة المتعبّدين كانوا هم المطّلعين بما دار في الإسراء والمعراج، بعكس بعض قر يش التي كانت تنكر حقيقة المسرى وتسخّف مغزاه، فلم تكن تقبل بأن الرسول الأعظم تجاوز الحجب حتّى وصل إلى دار العظمة، حاملاً معه مفاهيم ربانية وأفكاراً عالية لا يمكن الوصول إليها إلاَّ بالاستعانة بالقدرة الإلهيّة، ولا يمكن معرفة دقائقها إلاّ عن أهل بيت الرسالة والوحي، الذين وضحوا لنا المبهم من هذه الأمور.
أمّا القائل بتشريعه عن طريق رؤيا رآها عبدُالله بن زيد، أو سبعةٌ آخرون من الصحابة، فيعطي لفكرته مسحة عدم التوقيف، ليكون له مساغ في أن يزيد في هذه الشعيرة المقدسة، أو ينقص منها.
قال السرخسي في المبسوط: “… بدليل ما روي عن إبراهيم أنَّ: أوّل مَن أفرد الإقامة معاوية. وقال مجاهد: كانت الإقامة مثنى كالأذان حتّى استخفّه بعض
فهذا النصّ وما سبقه يتضح منهما أن غالب أهل السنّة والجماعة يقولون بعدم توقيفـيّة الأذان بالنحو الذي تقوله الشـيعة، إذ العامة يسـتدلون على شـرعيّـة الأذان بمـنام عبدالله بن زيـد حتّى أنّ بعض أمـراء الجـور أفرد الإقامـة لحاجـة لـه.
والعجب في هذا الباب ما قاله ابن عبد البرّ في موضع آخر من الكتاب المذكور: “في حديث هذا الباب لمالك وغيره من سائر ما أوردنا فيه من الآثار أوضح الدلائل على فضل الرؤيا وأنّها من الوحي والنبوّة، وحسبك بذلك فضلاً لها وشرفاً، ولو لم تكن وحياً من الله ما جعلها شريعة ومنهاجاً لدينه”(٣).
قال أبو عمر(٤): “اختلفت الآثار في صفة الأذان وإن كانت متّفقة في أصل أمره، كان من رؤيا عبدالله بن زيد، وقد رآه عمر بن الخطّاب أيضاً(٥)!!! “
٣- فتح المالك ٢: ٧.
٤- هو ابن عبد البرّ.
٥- التمهيد لابن عبدالبر ٢٤: ٢٧.
تحقيق في ما وراء نظريّة الرؤيا
بعد أن توصلنا إلى وجود اختلاف بين المسلمين في كيفيّة تشريع هذه الشعيرة الإسلامية، وعلمنا أنّ أهل بيت النبوّة لا يقبلون فكرة الرؤيا، حاولنا تحديد زمن النزاع بين المسلمين، والدوافع الكامنة وراء طرح مثل هذه الآراء في الشريعة.
ممّا لا شك فيه أنّ قدرات المسـلمين وأفهامهم وإدراكاتهم لحقيقة الإيمان والإسلام لم تكن بمرتبة واحدة.
فالبعضُ منهـم كان يفهم مغـزى الرسالة ومكانة الرسول وما يريده الله من أوامره ونواهيه بدّقة عالية فكان يتعبد بما قاله رسول الله ولا يرى لنفسه الخيرة من أمره.
والبعض الآخر كان يرى لنفسه حقّ التشريع وإبداء الرأي مسمّياً فعله بالاجتهاد.
وهناك اتّجاه ثالث أغرق في النزع، فراح يتعامل مع الرسول كأنّه رجل حارب فانتصر!
ورابع وخامس و…
وقد وضحنا في دراستنا لأسباب “منع تدوين الحديث” ونتائجه هذه الاتجاهات وقلنا أنّها جميعاً تنخرط وتنتظم في نهجين هما:
١ ـ المتعبدون = التعبد المحض.
٢ ـ المجتهدون = الاجتهاد بالرأي.
ونحن لا نريد أن نعود إلى ما كتبناه سابقاً، بل نريد الإشارة إلى بعض الشيء
إنّ خبر الإسراء والمعراج ثابت لا كلام فيه، وقد وردت سورة باسم الإسراء في الذكر الحكيم.
وقد اختلف المسلمون في يوم الإسراء ومكانه وكيفيّة عروجه (صلى الله عليه وآله) إلى السماء، وما جرى في الإسراء والمعراج، وهل أُسري به مرّة أو مرّتين(١) أو أكثر من ذلك(٢)، وهل كان عروجه بروحه وجسده أم بروحه فقط؟ على أنّ هناك من فَصَّل بين إسرائه ومعراجه، فقال بأن إسراءَهُ من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى كان بروحه وجسمه، وأنّ عروجه إلى السماء كان بروحه فقط؟
فالذين لا يدركون عمق الرسالة ومكانة الرسول شكّكوا في حقيقة الإسراء والمعراج وقالوا بأشياء لا تتفق مع رسالة الغيب والوحي، وقد ارتدّ بعض من أَسلَمَ حينما سمع بخبر الإسراء، وهناك من ثبت على الدين وصَدَّق بما قال الرسول وبما حكاه من مشاهدات ومغيّبات، كبعض الصحابة المتعبدين المخلصين الذين شهد لهم
قال: مِن ليلتك؟!
قال: نعم.
قال: هل أصابك إلاّ خير؟
قال: ما أصابني إلاّ خير، وقيل غير ذلك(١).
وفي روضة الكافي عن الصادق (عليه السلام) قال: لمّا أسري برسول الله (صلى الله عليه وآله) أصبح فقعد فحدَّثهم بذلك ; فقالوا له: صِفْ لنا بيت المقدس. قال: فوصف لهم، وإنّما دخله ليلاً فاشتبه عليه النعت، فأتاه جبرئيل فقال: انظر هاهنا، فنظر إلى البيت فوصفه وهو ينظر إليه، ثمّ نعت لهم ما كان من عِير لهم فيما بينهم وبين الشام، ثمّ قال: هذه عير بني فلان تَقدِم مع طلوع الشمس يتقدّمها جملٌ أورَق أو أحمر. قال: وبعثت قريش رجلاً على فرس ليردّها، قال: وبلغ مع طلوع الشمس، قال قرطة بن عبد عمرو: يا لَهفا!! ألاّ أكون لك جذعاً حين تزعم أنّك أتيت بيت المقدس ورجعت من ليلتك!(٢)
وفي أمالي الصدوق بإسناده عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: لمّا أسري برسول الله إلى بيت المقدس حمله جبرئيل على البُراق، فأتَيا بيت المقدس وعرض عليه محاريب الأنبياء وصلّى بها وردّه، فمرّ رسول الله في رجوعه بعِير لقريش، وإذا لهم ماء في آنية وقد أضلّوا بعيراً لهم وكانوا يطلبونه، فشرب رسول الله من ذلك الماء وأهرق باقيه.
فجاء جبرئيل فعلّق صورة بيت المقدس تجاه وجهه، فجعل يخبرهم بما يسألونه عنه، فلمّا أخبرهم، قالوا: حتّى تجيء العير ونسألهم عمّا قلت، فقال لهم رسول الله: تصديقُ ذلك أن العِير تطلع عليكم مع طلوع الشمس يقدمها جملٌ أورَق.
فلما كان من الغد أقبلوا ينظرون إلى العَقَبة ويقولون: هذه الشمس تطلع [ علينا ] الساعة، فبينما هم كذلك إذ طلعت عليهم العِير ـ حتّى طلع القرص ـ يقدمها جمل أورَق، فسألوهم عمّا قال رسول الله فقالوا: لقد كان هذا ; ضلّ جمل لنا في موضع كذا وكذا، ووضعنا ماءً فأصبحنا وقد أهريق الماء فلم يَزِدْهم ذلك إلاّ عُتوّاً(١).
وروى البغوي في تفسيره عن ابن عبّاس وعائشة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): لمّا كانت ليلة أُسري بي أصبحت بمكّة فضِقتُ بأمري وعرفتُ أنّ الناس يكذّبوني، فروي أنّه عليه الصلاة والسلام قعد معتزلاً حزيناً، فمرّ به أبو جهل فجلس إليه، فقال له كالمستهزئ: هل استفدتَ من شيء؟
قال: نعم، إنِّي أُسري بي الليلة.
قال: إلى أين؟
قال: نعم.
فلم يُرِهِ أبو جهل أنّه ينكر ذلك مخافة أن يجحده الحديث، قال: أتُحدِّثُ قومك بما حدثتني به؟
قال: نعم.
قال أبو جهل: يا معشر بني كعب بن لؤيّ، هلمّوا. قال: فانقضّت إليه المجالس فجاؤُوا حتّى جلسوا إليهما، قال: فحدِّثْ قومك بما حدّثتني؟
قال: نعم، أنّه أُسري بي الليلة.
قالوا: إلى أين؟
قال: إلى بيت المقدس.
قالوا: ثمّ أصحبت بين ظهرانينا؟
قال: نعم.
قال: فمِن بين مصفّق، ومن بين واضع يدَه على رأسه متعجّباً للكذب، وارتدّ ناسٌ ممن كان آمن به وصدّقه…(١)
قال ابن إسحاق: وحدِّثتُ عن الحسن:…. فلمّا أصبح (صلى الله عليه وآله) غدا على قريش فأخبرهم الخبر، فقال أكثر الناس: هذا والله الأمر البيِّن! والله إنّ العِير لتطرد شهراً من مكّة إلى الشام ; مُدبرةً شهراً ومُقبلةً شهراً، فيذهب ذلك محمّد في ليلة واحدة ويرجع إلى مكّة!
قال: فارتدّ كثير ممن كان أسلم(٢)…
فقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير عن عائشة رضى الله تعالى عنها، قالت: ما فقدتُ جسدَ رسولِ الله، ولكنّ الله أسرى بروحه(١).
وأخرج ابن إسحاق وابن جرير عن معاوية بن أبي سفيان أنّه كان إذا سئل عن
قال القرطبي في تفسيره: وقد احتُجَّ لعائشة بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ} فسمّاها رؤيا.
وهذا يردّه قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً}، ولا يقال في النوم: “أسرى”، وأيضاً فقد يقال لرؤية العين “رؤيا”… وفي نصوص الأخبار الثابتة دلالة واضحة على أنّ الإسراء كان بالبدن…(٢) وقال ابن عطيّة الأندلسي:… والصحيح ما ذهب إليه الجمهور، ولو كانت منامة ما أمكن قريشاً التشنيع، ولا فضّل أبو بكر بالتصديق، ولا قالت له أمّ هاني: لا تُحدِّث الناس بهذا فيكذبوك، إلى غير هذا من الدلائل. واحتجّ لقول عائشة بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ} ويحتمل القول الآخر ; لأنّه يقال لرؤية العين “رؤيا”. واحتجّ أيضاً بأنّ في بعض الأحاديث “فاستيقظت وأنا في المسجد الحرام”، وهذا محتمل أن يريد من الإسراء النوم. واعترض قول عائشة بأنّها كانت صغيرة لم تشاهد ولا |