الأذان بين الأصالة والتحريف / الصفحات: ١٦١ – ١٨٠
الأذان وآثاره في الحياة الاجتماعية
من الثابت في الشريعة الإسلامية استحباب الأذان والإقامة لأمور حياتيّة واجتماعيّة كثيرة غير الصلاة، نذكر موارد منها:
الأذان والمولود
عن عليّ (عليه السلام): “مَن وُلِد له مولود فليؤذِّن في أُذنه اليمنى بأذان الصلاة، وليقم في اليسرى، فإنَّ ذلك عصمة من الشيطان الرجيم والإفزاع له”(١).
وفي سنن أبي داود بسنده عن عبيدالله بن أبي رافع، عن أبيه، قال: رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) أذّن في أُذن الحسن بن عليّ حين ولدته فاطمة بالصلاة(٢).
الأذان والعقم
شكا هشام بن إبراهيم إلى الرضا (عليه السلام) سقمه وأنّه لا يولد له، فأمره أن يرفع صوته بالأذان في منزله، قال: ففعلتُ ذلك، فأذهب اللهُ عني سقمي، وكثر ولدي(١).
الأذان والمرض
عن جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام) أنّه دخل عليه رجل من مواليه وقد وعك، فقال له (عليه السلام): “ما لي أراك متغيِّر اللون؟”.
فقلتُ: جُعِلتُ فداك، وعكتُ وعكاً شديداً منذ شهر، ثمّ لم تنقلع الحمّى عنّي، وقد عالجتُ نفسي بكلّ ما وصفه لي المترفّقون فلم أنتفع بشيء من ذلك.
فقال له الصادق (عليه السلام): “حلَّ أزرار قميصك، وأدخل رأسك في قميصك وأذِّن وأقِم واقرأ سورة الحمد سبع مرات”.
قال: ففعلتُ ذلك، فكأنّما نشطتُ من عقال(٢).
وحكى العجلوني في كشف الخفاء عن الفقيه محمّد السيابا ـ فيما حكى عن نفسه ـ أنّه هبّت ريح فوقعت منه حصاة في عينه وأعياه خروجها وآلمته أشدّ الألم، وأنّه لمّا سمع المؤذّن يقول: أشهد أن محمّداً رسول الله، قال ذلك، فخرجت الحصاة من فوره(٣).
٣- كشف الخفاء ٢: ٢٠٦ ـ ٢٠٧.
الأذان وسعة الرزق
شكا رجل لأبي عبدالله الصادق (عليه السلام) الفقر، فقال: “أذِّن كلَّما سمعتَ الأذان كما يُؤذّن المؤذّن”(١).
وقال سليمان بن مقبل المدينيّ: قلتُ لأبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام): [لأيّ ]علّة يستحبّ للإنسان إذا سمع الأذان أن يقول كما يقول المؤذِّن، وإن كان على البول والغائط؟
فقال (عليه السلام): “لأنَّ ذلك يزيد في الرزق”(٢).
الأذان ووجع الرأس
ذكر الشيخ الطبرسيّ في عدّة السفر وعمدة الحضر: روي عن الأئمَّة: أنّه: “يكتب الأذان والإقامة لرفع وجع الرأس ويُعَلَّق عليه”(٣).
الأذان وسوء الخُلق
عن الصادق (عليه السلام): “إن لكلّ شيء قَرَماً، وأنَّ قَرَم الرجل اللحم، فَمَن تركه أربعين يوماً ساء خُلقه، ومَن ساء خلقه فأذِّنّوا في أُذنه اليمنى”(٤).
الأذان وطرد الشيطان
روى سليمان الجعفريّ أنّه سمع الإمام الصادق (عليه السلام)، يقول: “أذِّن في بيتك،
٣- مستدرك وسائل الشيعة ٤: ٧٦، مستدرك سفينة البحار ١: ٦٥ في مادة ” أذن “، الطبعة القديمة.
٤- المحاسن ٢: ٢٥٦ كتاب المآكل ح ١٨٠٨، بحار الأنوار ٨١: ١٥١.
الأذان والغول
في دعائم الإسلام عن عليّ (عليه السلام) قال: “قال رسول الله: إذا تَغَوّلت لكم الغِيلان(٢) فأذِّنوا بالصلاة”(٣).
وعن أبي سعيد الخدريّ: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): “لا يسمع مدى صوت المؤذِّن جنّ ولا إنس ولا شيء إلاَّ وشهد له يوم القيامة”(٤).
وقال الخطاب الرعيني في مواهب الجليل نقلاً عن الناشري من الشافعيّة في الإيضاح: يستحبّ الأذان لمزدَحَم الجنّ، وفي أُذُن الحزين، والصبيّ عندما يولد في اليمنى ويقيم في اليسرى، والأذان خلف المسافر والإقامة(٥).
فتلخّص مما سبق ومن أقوال بعض علماء أهل السنّة والجماعة، وجميع الشيعة بفرقها الثلاث أنَّ تشريع الأذان كان في المسرى وأنَّ تشريعه لم يكن لتعيين وقت الصلاة خاصّة ; لاكتناف هذه الشعيرة الإسلاميّة أسراراً عالية ومعاني باطنيّة عميقة ذكرنا بعضها، وستقف على غيرها لاحقاً، وستعرف بأنَّ السِّرَّ في رفع «حيّ على خير العمل» لم يكن لِما علّلوه، وكذا المقصود من جملة «الصلاة خير من النوم» لم يكن كما يفهمه عامّة الناس من العبارة، بل هناك أسرار ومسائل تكتنف هذه
٣- دعائم الإسلام ١: ١٤٧ كما في بحار الأنوار ٨١: ١٦٢، ومستدرك وسائل الشيعة ٤: ٦٢.
٤- صحيح البخاري ١: ٣٠٦ كتاب الأذان باب رفع الصوت بالأذان ح ٥٧٥، سنن النسائي ٢: ١٢ كتاب الأذان باب رفع الصوت بالأذان.
٥- مواهب الجليل ٢: ٨٥. وانظر فتح المعين لشرح فرة العين المطبوع في هامش اغاثة الطالبين ١: ٢٣٠.
٢ ـ توقيفيّة الأذان
وصل البحث بنا إلى طرح سؤال آخر وهو: هل الأذان توقيفيّ بمعنى لزوم إتيان فصوله كما هي، أم إنّ لنا الحق في الزيادة والنقصان حسب ما تقتضيه المصلحة وهو المعني بعدم توقيفيته كما مرّت الإشارة إليه؟ وهل هناك فرق بين الأمور التوقيفية العباديّة وغيرها، وبين الواجبات والمستحبات، أم لا؟
بل ما هو حكم الأذان، وهل توقيفيته كالقرآن لا يمكن الزيادة والنقيصة فيها؟ أم أن توقفيته هي بشكل آخر؟
من الثابت المعلوم أن الأذان توقيفيّ، وقد مرت عليك نصوص أهل بيت النبيّ الدالّة على أنّه شرّع في الإسراء والمعراج، ومثله جاء في كتب بعض أهل السنة والجماعة.
لكن من حقّنا أن نتساءل: لو كان كذلك فكيف لنا أن نتعامل مع بعض الأحاديث والنصوص المشعرة بعدم التوقيفية، وذلك لما فيها من الزيادة والنقصان، وعلى أيّ شيء تدل، هل على التخيير أم الرخصة أم على شيء آخر؟
روى أبو بصير عن أبي عبدالله الصادق (عليه السلام)، قال: لو أنّ موّذناً أعاد في الشهادة وفي حيّ على الصلاة أو حيّ على الفلاح المرتين والثلاث وأكثر من ذلك إذا كان إماماً يريد به جماعة القوم ليجمعهم لم يكن به بأس(١).
وعن أبي مريم الأنصاري في الصحيح، قال: سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول: إقامة المرأة أن تكبّر وتشهد أن لا إله إلاَّ الله وأنّ محمّداً عبده ورسوله (صلى الله عليه وآله) (٣).
وجاء في رواية البخاري ومسلم، عن عبدالله بن الحارث، قال: خَطَبنا ابنُ عبّاس في يوم ذي رزغ، فأمرَ المؤذّن لمّا بلغ (حيّ على الصلاة) قال قل: “الصلاة في الرحال”، فنظر بعضهم إلى بعض، فكأنّهم أنكروا، فقال: كأنّكم أنكرتم هذا، إنَّ هذا فَعَلُه مَن هو خير منّي ـ يعني النبيّ (صلى الله عليه وآله) ـ وإنّها عزمة، وإنّي كرهت أن أُحرجكم(٤).
وجاء عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه كان يزيد في الفجر جملة “الصلاة خير من
٣- الكافي ٣: ٣٠٥، كتاب الصلاة باب بدء الأذان والإقامة.
٤- صحيح البخاري ١: ٣٢٤ ـ ٣٢٥، كتاب الأذان باب هل يصلي الإمام بمن حضر… في المطر ح ٦٢٩ وقرئت منه في باب (الرخصة في المطر والعلة ان يُصلي في رحله) وفي باب (الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة…) عن نافع قال اذن ابن عمر في ليلة بارده بصحبنا ثمّ قال: صلوا في رحالكم… وانظر فتح الباري لابن رجب ٣: ٤٩٣، صحيح مسلم ١: ٤٨٥ ح ٦٩٩، كتاب صلاة المسافرين وقصرها.
وهل أنّ توقيفية الأذان تختلف عن غيره من الأحكام فيجوز إعادة (حيّ على الفلاح) ثلاث مرات أو أكثر في الأذان، ولا يجوز الزيادة والنقيصة في أمر عبادي آخر؟
وهل هناك فرق بين الواجب التوقيفيّ والمستحبّ التوقيفيّ؟
إن التوقيفيّ معناه هو التعبّديّ، أي التعبّد بما جاء به الشارع المقدّس دون زيادة ولا نقصان، فلو صحّ مجيء “حيّ على الفلاح” في الأذان ثلاثاً فهو شرعيّ ويحمل إما على التخيير أو الرخصة لضرورة خاصة.
ولو لم يصح الخبر فلا يعمل به، وليس هناك فرق بين التوقيفيّ في العبادات والتوقيفيّ في المعاملات، وكذا لا فرق بين التوقيفيّ في الواجبات والمستحبّات، فعلى المكلف أن يؤدّي ما سمعه وعقله على الوجه الذي أمر به الشارع فقط، ففي كمال الدين للصدوق، عن عبدالله بن سنان، قال: قال الصادق (عليه السلام): ستصيبكم شبهة فتبقون بلا عَلَم يُرى ولا إمام هدىً، لا ينجو منها إلاَّ من دعا بدعاء الغريق.
قلت: وكيف دعاء الغريق؟
قال: تقول: يا الله يا رحمن يا رحيم يا مقلّب القلوب، ثبّت قلبي على دينك..
فقلت: يا مقلّب القلوب والأبصار ثبّت قلبي على دينك.
فقال (عليه السلام): إن الله عزّ وجلّ مقلّب القلوب والأبصار، ولكن قُل كما أقول: يا
نعم، قد يختلف توقيفي عن توقيفي آخر، وبلحاظ زاوية خاصة، بمعنى أنّ توقيفية الأذان قد تختلف عن توقيفية الزواج والطلاق، أي: أنّ توقيفية الزواج والطلاق تتعلّق بأمر كلّي لا بجزئيته، أي يجب على المطلِّق أو العاقد أن يُنشئ عقدة الزواج والطلاق في كلامه دون التعبد بصيغة واحدة خاصة، فله أن يقول: (أنكحت) أو (زوّجت) أو (متّعت)، فلو أتى العاقد بأي صيغة منها صح زواجه.
وكذا الحال بالنسبة إلى الطلاق فلو قال المطلِّق: زوجتي طالق، أو فاطمة طالق، أو امرأتي التي في ركن الدار طالق ـ لو كانت هناك مثلاً ـ صح طلاقه، لأنّ المطلوب هو إنشاء علقة الزوجية في الزواج، وقصد الإبانة في الطلاق دون التعبّد بصيغة مخصوصة، وهذا بخلاف التعبد بنصوص القرآن وما شابهه، لأن الثاني يأبى التغيير والتبديل، فلا يجوز تقديم جملة من القرآن على أخرى، فلا يجوز أن تقول: (الرحيم الرحمن) بدل (الرحمن الرحيم) ; لأن المطلوب أداء النصّ السماوي كما هو.
اذاً توقيفيات الأمور تختلف بحسب تعلّق الأحكام، فتارة: تتعلّق بالحقيقة وذات الأمر، وأخرى بلزوم التعبد بالنص المعهود دون زيادة ونقيصة، وقد وضّحنا قبل قليل بأنّ توقيفية الزواج والطلاق مثلاً تتعلق بالحقيقة الكلية دون التعبد بصيغة بخصوصها، بخلاف توقيفية القرآن فإنّها توقيفية بالنص فلا يجوز
نترك القارى معنا إلى الابواب اللاحقة كي نوقفه على حقيقة الأمر وما نريد قوله بهذا الصدد.
الخلاصة
بعد أن بيّنّا معنى الأذان لغة واصطلاحاً، والأقوال التي قيلت في تأريخ تشريع الأذان، عرضنا أشهر الأقوال الموجودة عند أهل السنة والجماعة في بدء الأذان فكانت ستّة:
١ ـ تشريعه باقتراح من الصحابة وخصوصاً عمر بن الخطّاب.
٢ ـ تشريعه بمنامات رآها بعض الصحابة. مثل أبي بكر وعمر وعبدالله بن زيد وغيرهم.
٣ ـ نزول الأذان تدريجياً، ثمّ إضافة عمر الشهادة بالنبوّة.
٦ ـ إنّ تشـريع الأذان نزل به جبرئيل على آدم لمّا استوحش.
ثمّ أتينا برؤية أهل البيت في بدء الأذان، وأكّدنا اتّفاقهم على كون تشريعه كان في المعراج، ونقلنا نصوصاً عن:
١ ـ الإمام عليّ بن أبي طالب.
٢ ـ الإمام الحسن بن عليّ.
٣ ـ الإمام الحسين بن عليّ.
٤ ـ محمّد بن عليّ بن أبي طالب (ابن الحنفية).
٥ ـ الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين.
٦ ـ الإمام محمّد بن عليّ الباقر.
٧ ـ الإمام جعفر بن محمّد الصادق.
٨ ـ الإمام عليّ بن موسى الرضا.
ثمّ ذكرنا أقوال بعض أعلام الإمامية كي نؤكّد إطباقهم على هذا الأمر وأنه مأخوذ من الوحي النازل على النبيّ دون الرؤيا.
وحيث أن القول بكونه وحياً قد ورد عند الفريقين بعكس القول بكونه مناماً الذي انفردت به أهل السنة والجماعة، ألقينا بعض الضوء على هذه الرؤية فكانت لنا وقفة مع أحاديث الرؤيا، ثمّ تحقيق في دواعي نشوء مثل هذه الفكرة عندهم، واحتملنا ارتباط هذا الأمر مع قوله تعالى {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ} المرتبط بلعن بني أميّة، موضحين هناك بعض معالم الخلاف وجذوره، مؤكدين على أن أهل البيت كانوا يشيرون في كلماتهم ومواقفهم إلى أن بني أميّة
ثمّ ذكرنا ما حكي عن الإمام الحسين وأنّه سئل عما يقول الناس فقال (عليه السلام): الوحي ينزل على نبيكم وتزعمـون أنّه أخذ الأذان عن عبد الله بن زيد.
وما نقل عن محمّد بن الحنفية أنّه فزع لمّا سمع ما يُقال عن تشريع الأذان بالرؤيا وقوله: وعمدتم إلى ما هو الأصل في شرائع الإسلام ومعالم دينكم فزعمتم أنّه كان رؤيا رآها رجل من الأنصار في منامه يحتمل الصدق والكذب وقد تكون أضغاث أحلام.
قال [الراوي]: فقلت: هذا الحديث قد استفاض في الناس؟
قال: هذا والله هو الباطل.
ثمّ نقلنا بعد ذلك كلمات الإمام عليّ والزهراء والحسن والحسين وعليّ بن الحسين وزينب، المصرّح أو الملوّح فيها ببني أميّة ومن قبلهم ممن كانوا قد تصدو
البابُ الأَوَّل
حيَّ عَلى خَيْرِ العَمَلِ
الشرعية والشعارية
أنّها جـزء على عهد رسـول الله
تأذين الصحابة وأهل البيت بها
رفـع الخـليفـة الثـاني لـها
بيان لمعنى الحيعلة وسبب حذفها
تاريخ المسألة والصراعات فيها
الفصل الثاني: في تحديد زمن حذف هذه الحَيعَلة، وامتناع بلال عن التأذين.
الفصل الثالث: في بيان معنى حيّ على خير العمل، والأسباب التي دَعَتِ عمر بن الخطاب إلى حَذْفِها من الأذان.
الفصل الرّابع: بيان تاريخ المسألة وكيف صارت شعاراً لنهج التعبّد المحض، وحذفُها شعاراً سياسيّاً لخصومهم في
العصور المتأخّرة بعد ثبوت شرعيّتها على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله).