الأذان بين الأصالة والتحريف / الصفحات: ٢٨١ – ٣٠٠
بالأذان، فبلغ ذلك بلالاً فأخذ في الأذان، فلمّا قال: “الله أكبر الله أكبر” ذكرت أباها (صلى الله عليه وآله) وأيّامه فلم تتمالك من البكاء، فلمّا بلغ إلى قوله “أشهد أنّ محمّداً رسول الله” شَهِقت فاطمة شهقةً وسـقطت لوجـهها وغُشي عليها، فقال الناس لبلال: أمِسـكْ يا بلال، فقد فارقت ابنةُ رسول الله الدنيا، وظنّوا أنّها قد ماتت، فقَطَع أذانه ولم يُتمّه، فأفاقت فاطمة وسألته أن يُتّم الأذان فلم يفعل، وقال لها: يا سيّدة النسوان، إني أخشى عليك مما تُنزلينه بنفسك إذا سمعتِ صوتي بالأذان، فأعفته عن ذلك(١). |
وهذا يدل على وجود بلال في المدينة قبل وفاة الزهراء (عليها السلام)، ولم يكن قد خرج منها بعدُ إلى الشام، وهذا يؤكد أنّ أبا بكر بقي أربعين يوماً(٢) ـ على أقل التقادير ـ يدبّر أموره قبل أن يجهز لقتال المرتدين، وظل يقاتل المرتدين مدّة لا تقل عن ستة أشهر ولا تزيد عن سنة قبل أن يسيِّر الجيوش التي فتحت الشام بعد أن كان جيش أسامة رجع عن وجهة الشام دون قتال.
وقد علمتَ أنّ بلالاً لم يشارك في قتال المرتدين، بل صرّحوا بأنّه أقام في المدينة إلى أن خرجت بعوث الشام(٣).
كان بلال إذاً في المدينة ولم يؤذّن لأبي بكر، فلماذا لم يؤذّن لأبي بكر؟! إنّه تساؤل يفرض نفسه، ويبحث عن اجابة.
٣- انظر: كنز العمّال ١٣: ٣٠٥ ح ٣٦٨٧٣، مختصر تاريخ دمشق ٥: ٢٦٥. بل قال ابن أبي حاتم أنّه خرج إلى الشام في خلافة عمر. انظر: المراسيل: ١٠٨، وعنه في تهذيب الكمال ١٧: ٣٧٣.
روى إبراهيم بن محمد بن سليمان بن بلال بن أبي الدرداء، حدثني أبي محمد بن سليمان، عن أبيه سليمان بن بلال، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء، قال: إنّ بلالاً رأى في منامه النبيّ (صلى الله عليه وآله) وهو يقول له: ما هذه الجفوة يا بلال؟! أما آن لك أن تزورني يا بلال؟
فانتبه حزينا وجلاً خائفاً، فركب راحلته وقصد المدينة [من الشام]، فأتى قبر النبي (صلى الله عليه وآله) فجعل يبكي عنده ويمرّغ وجهه عليه. فأقبل الحسن والحسين فجعل يضمّهما ويقبِّلهما، فقالا له: يا بلال، نشتهي أن نسمع أذانك الذي كنت تؤذّنه لرسول الله (صلى الله عليه وآله) في السَّحَر، ففعل، فَعَلا سطح المسجد، فوقف موقفه الذي كان يقف فيه، فلمّا أن قال: “الله أكبر الله أكبر” ارتجّت المدينة. فلما أن قال: “أشهد أن لا إله إلاّ الله” زاد تعاجيجها، فلما أن قال: “أشهد أن محمّداً رسول الله” خرج العواتق من خدورهنّ، فقالوا: أبُعِث رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟! فما رؤي يوماً أكثر باكياً وباكية بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) من ذلك اليوم(١).
|
قال النووي في تهذيب الاسماء: جعل النبيّ (صلى الله عليه وآله) سعد القرظ مؤذناً بقباء، فلما ولي أبو بكر الخلافة وترك بلالٌ الأذان نقله أبو بكر إلى مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليؤذن فيه فلم يزل يؤذن فيه حتّى مات في أيّام الحجاج بن يوسف الثقفي، وتوارث بنوه الأذان. وقيل: الذي نقله عمر بن الخطاب(٢).
ولكنّ بلالاً مع ذلك لم يمتنع عن التأذين لأهل البيت والمسلمين المخلصين ـ ولذلك قال جعفر بن محمّد: رحم الله بلالاً فإنّه كان يحبنا أهل البيت(٣) ـ، بل إنّه
٣- الاختصاص: ٧٣. ويدل على اختصاص بلال بعليّ وأهل البيت وعدم إيمانه بشرعية خلافة أبي بكر، ما روي في تفسير الحسن العسكري: في ان بلالاً كان يعظّم أمير المؤمنين (عليه السلام) ويوقره أضعاف توقيره لأبي بكر، فقيل له في ذلك مع أنّ أبا بكر كان مولاه الذي اشتراه واعتقه من العذاب، فأجاب من ذلك بأحسن جواب، فكان فيما قال: ان حقَّ عليٍّ أعظم من حقه، لأنّه أنقذني من رق العذاب الذي لو دام عليّ وصبرت عليه لصرت الى جنات عدن، وعليّ انقذني من رق العذاب الأبد، واوجب لي بموالاتي له وتفضيلي إيّاه نعيم الأبد “تفسير العسكري ٦٢١/ ح ٣٦٥”.
هذا وقد بقى بلال إلى آخر لحظات عمره الشريف موالياً لمحمّد وآل محمّد، وقد ردد قبل موته نفس الشعار الذي ردده عمار في صفين من بعد:
غداً سنلقى الأحبّة | محمداً وحزبه |
“مختصر تاريخ دمشق ٥: ٢٦٧”.
وقال المزّي: ويقال: إنّه لم يؤذّن بعد النبيّ(صلى الله عليه وآله)، إلاّ مرّة واحدة، في قَدمة قَدِمها لزيارة قبر النبيّ(صلى الله عليه وآله)، وطلب إليه الصحابة ذلك فأذّن، ولم يُتمّ الأذان…(٢)
وفي كتاب أصفياء أمير المؤمنين، روى عن ابن أبي البختري، قال: حدّثنا عبدالله بن الحسن: انّ بلالاً أبى أن يبايع أبا بكر، وإنّ عمر جاء وأخذ بتلابيبه، فقال: يا بلال، إنّ هذا جزاء أبي بكر منك؟! إنّه أعتقك فلا تجيء تبايعه؟!
فقال بلال: إن كان أبو بكر أعتقني لله فليدعني له، وإن كان أعتقني لغير ذلك فها أنا ذا(٣).
٣- لا يخفى عليك أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) هو الذي اشترى بلالاً وأعتقه، لكن بواسطة أبي بكر إذ كانت عنده علاقات حسنة مع كفار قريش ولم يكن وَتَرهم.
فارتَحَلَ إلى الشام(١)…
وفي كتاب كامل البهائي ـ لعماد الدين الطبري(٢) ـ: إنّ بلالاً امتنع عن بيعة أبي بكر والأذان له(٣).
فعلى هذا يكون بلال قد عارض خلافة أبي بكر، وامتنع من التأذين له مع بقائه بالمدينة، لعدم إيمانه بشرعية خلافته، ولأنّه وعمر أرادا منه ما يأباه، خرج إلى الشام مكرهاً لا ترجيحاً للجهاد على منصبه النبوي في التأذين، ولاردّة فعل منه تجاه وفاة الرسول االمصطفى (صلى الله عليه وآله).
فإنّ بلالاً لم يبايع لهما، وبقي معارضاً للغاصبين في صفّ عليّ وغيره من عيون الصحابة، وقد أذّن في هذه المدّة لفاطمة، وكان على اتصال بأهل البيت، ثمّ إنّهم بعد وفاة فاطمة وإجبار عليّ على البيعة، ونفي سعد بن عبادة إلى الشام، وكسرهم سيف الزبير، ووو…. أجبروا بلالاً على مغادرة المدينة تحت غطاء القتال في جبهات الشام، وكان قد عاد إلى المدينة لزيارة قبر النبيّ (صلى الله عليه وآله)، فأذّن للحسن والحسين.
٣- الأربعين للماحوزي: ٢٥٧، نقلاً عن كامل البهائي.
ثانيها: ما رواه البيهقي في سننه ١: ٤١٩، وابن عساكر في تاريخه ١٠: ٤٧١، والذهبي في سيره ١: ٣٥٧، وكلها تنتهي إلى ” أبي الوليد أحمد بن عبدالرحمن القرشي، حدّثنا الوليد بن مسلم، قال: سألت مالك بن أنس… “. وهذا الإسناد فيه أحمد بن عبدالرحمن القرشي الذي لم يسمع من الوليد بن مسلم قط، وكان شبه قاصٍّ، وقالوا عنه: لا تقبل شهادته على تمرتين. ناهيك عن الوليد بن مسلم الذي كان رفّاعاً للحديث كثير الخطأ وروى عن مالك عشرة أحاديث ليس لها أصل، وكان رديء التدليس.
ثالثها: ما ذكره البخاري في التاريخ الصغير والذهبي في سيرة ١: ٣٥٧ والنص عن البخاري: ” حدّثنا يحيى بن نشر، حدّثنا قراد، أخبرنا هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه “. وهذا الإسناد فيه هشام بن سعد الذي ضعفه أحمد بن حنبل وابن سعد ويحيى بن معين والنسائي، وقال أبو حاتم الرازي: لا يحتج به، وقال ابن حبان: كان ممن يقلب الاسانيد وهو لا يفهم، ويسند الموقوفات من حيث لا يعلم، وبطل الاحتجاج به.
رابعها: ما أخرجه ابن الأثير في أسد الغابة عن أولاد سعد القرظ.
وفي هذا الإسناد أولاد سعد القرظ المجهولون كما مرّ عليك.
ولا يفوتنّك أنّ أولاد سعد القرظ أرادوا التغطية على نزاع بلال مع الخلفاء الذي أدّى إلى تركه الأذان، حتّى جاءوا بسعد القرظ فجعلوه بديلاً عن بلال رحمه الله، واستمرّ التأذين الرسمي في ذريّته كما عرفت.
٢- السنن الكبرى للبيهقي ٦: ٣١٨.
٣- الروض الأنف ٦: ٥٨١، المبسوط للسرخسي ١٠: ١٦.
٤- اسد الغابة ٢: ٧٩، تار يخ دمشق ١٦: ٢١، الاصابة ٤: ٧٢.
مرّ أبو سفيان ببلال وسلمان وصهيب، فقالوا: ما أخَـذَت سيوفُ الله من عُـنُق هذا بعدُ مأخذها، فقال أبو بكر الصديق: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيّدها؟!
فذهب أبو بكر إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأخبره بذلك، فقال له النبيّ (صلى الله عليه وآله): يا أبا بكر لعلّـك أغضبتهم، لئن كنـت أغضبتهم لقد أغضبت ربّك، قال: فرجع أبو بكر، فقال: يا إخوة، لعلّكم غضبتم. قالوا: يغفر الله لك يا أبا بكر(١)!
|
وقد كان بين بلال وعمر اختلاف في وقت الأذان، أدّى بهم من بعد أن يختلقوا صحة أذان ابن أم مكتوم الأعمى في الفجر، مخطّئين أذان بلال لعدم تشخيصه الفجر الصادق، لضعف في بصره!!(٢)
روى الأوزاعي أنّ بلالاً أتى عمر بن الخطّاب فقال: الصلاة الصلاة، فردّدها عليه، فقال له عمر: نحنُ أعلمُ بالوقت منك، فقال له بلال: لاَنا أعلم بالوقت منك، إذ أنت أضلّ من حمار أهلك(٣)!
وفي زحمة هذا التضادّ السياسي الفقهي بين بلال من جهة، وأبي بكر وعمر وأتباعهما من جهة، يبدو أنّهم طلبوا منه حذف «حيّ على خير العمل» وإبدالها بـ
٣- مختصر تاريخ دمشق ٥: ٢٦٦ ـ ٢٦٧.
العمل(١). |
وقال الحافظ العلوي: أخبرنا محمّد بن طلحة النعالي البغدادي، حدثنا محمّد بن عمر الجعابي الحافظ، حدّثنا إسحاق بن محمّد [بن مروان]، حدّثنا أبي، حدّثنا المغيرة بن عبد الله، عن مقاتل بن سليمان، عن عطاء، حدّثنا أبي [السائب بن مالك ]عن عمر أنّه كان يؤذن بحيّ على خير العمل، ثمّ ترك ذلك وقال: أخاف أن يتكل الناس(٢).
وجاء في كتاب الاحكام ـ من كتب الزيدية ـ: قال يحيى بن الحسين صلوات الله عليه: وقد صحّ لنا أنّ «حيّ على خير العمل» كانت على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) يؤذن بها ولم تطرح إلاّ في زمن عمر بن الخطاب، فإنّه أمر بطرحها وقال: أخاف أن يتّكل الناس عليها، وأمر بإثبات «الصلاة خير من النوم» مكانها.
قال يحيى بن الحسين رضي الله عنه: والأذان فأصله أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) عُلِّمهُ ليلة المسرى، أرسل الله إليه ملكاً فعلّمه إيّاه، فأما ما يقول به الجهال من أنّه رؤيا…(٣).
وعن نافع، عن ابن عمر: أنّه كان يؤذن فيقول: حيّ على خير العمل، ويقول كانت في الأذان فخاف عمر أن ينكل الناس عن الجهاد.
وعن الباقر قال، كان أبي عليّ بن الحسين يقول إذا أذّن: حيّ على الفلاح، حيّ على خير العمل. قال: وكانت في الأذان، وكان عمر لمّا خاف ان يتثبط الناس
٣- الإحكام ١: ٨٤.
وعن جعفر بن محمّد قال: كان في الأذان حيّ على خـير العمل، فنقصـها عمر(٣).
وعن أبي جعفر الباقر (عليه السلام)، قال: كان الأذان بحيّ على خير العمل على عهد رسول الله، وبه أمروا أيّام أبي بكر وصدراً من أيّام عمر، ثمّ أمر عمر بقطعه وحذفه من الأذان والإقامة، فقيل له في ذلك فقال: إذا سمع الناس أنّ الصلاة خير العمل تهاونوا بالجهاد وتخلفوا عنه. وروينا مثل ذلك عن جعفر بن محمّد، والعامة تروي مثل هذا…(٤)
٣- النصوص عن ابن عمر والباقر، وزيد، وجعفر بن محمد موجودة في الأذان بحيّ على خير العمل، للحافظ العلوي بتحقيق عزّان: ٦٣.
٤- دعائم الإسلام ١: ١٤٢، بحار الأنوار ٨١: ١٥٦. وجاء في كتاب الايضاح للقاضي نعمان المتوفى ٣٦٣ هـ والمطبوع في (ميراث حديث شيعه) ١٠: ١٠٨:.. فقد ثبت انه اذن بها على عهد رسول الله حتى توفاه الله تعالى وان عمر اقطعه وقد يزيد الله في فرائض دينه بكتابه وعلى لسان نبيه ما شاء لا شريك له وانا ذاكر ما جاءت به الرواية من الأذان بحي على خير العمل ـ وبدأها بهذا الخبر ـ: في كتب ابن الحسين علي بن فرسند [ورسند] روايته عن احمد عن الحسين عن لولو عن بشر عن ابي جعفر محمد بن علي قال: اسقط عمر من الأذان حي على خير العمل فنهاه علي فلم ينته.
فقال: لئلاّ يتّكل الناس عليها ويتركوا الجهاد(٢).
وعن الحسن بن يحيى بن الحسين بن زيد بن عليّ، قال: لم يَزَل النبيّ (صلى الله عليه وآله) يؤذن بحيّ على خير العمل حتّى قبضه الله، وكان يؤذّن بها في زمن أبي بكر، فلمّا ولي عمر قال: دعوا «حيّ على خير العمل» لا يشتغل الناس عن الجهاد، فكان أوّل من تركها(٣).
وقال الفضل بن شاذان (المتوفّى ٢٦٠ هـ) مخاطباً أهل السنّة:… ورويتم عن أبي يوسف القاضي ـ رواه محمّد بن الحسن عن أصحابه ـ وعن أبي حنيفة، قالوا: كان الأذان على عهد رسول الله وعلى عهد أبي بكر وصدراً من خلافة عمر يُنادى فيه «حيّ على خير العمل».
فقال عمر بن الخطاب: إنّي أخاف أن يتّكل الناس على الصلاة إذا قيل: «حيّ على خير العمل» ويَدَعُوا الجهاد، فأمر أن يطرح من الأذان “حيّ على خير
٣- الأذان بحيّ خير العمل، للحافظ العلوي بتحقيق عزّان: ٦٣ ـ ٦٤.
إنّ عمر نفَّذَ في أثناء تسلّمه أزمّة الأمور ما كان يطمح إليه من حذف «حيّ على خير العمل» التي كانت في أذان المسلمين، وقد سمعت أنّ مما نقمه المسلمون على عمر حذفه «حيّ على خير العمل».
ويبدو أنّه لم يتسنَّ لعمر أن يحذفها بعد وفاة النبيّ (صلى الله عليه وآله) مباشرة وإن حاول ذلك، وكان الجهاد قائماً على سوقه أيضاً، لكنّه نجح في ذلك عند استلامه الخلافة مسكتاً المعارضين بالقوة والشدة المعهودتين منه.
ومن هنا تعرف أنّ المقصود من كلمة بلال “لا أوذّن لأحد بعد رسول الله” أنّها تعني: أنني لا أوذّن لأحد اغتصب الخلافة ظلماً بعد رسول الله، ومن جدّ في حذف ما يدل على الإمامة والولاية وإسقاطها من الأذان(٢).
وبهذا فليس هناك تخالف بين مارواه أبو بصير وما قالته الشيعة ـ بفرقها الثلاث ـ وذلك للدور الذي لعبه عمر بن الخطاب إبّان عهد الخليفة الأوّل في رسم الخطوط العامة للحكم الذي يرتضـيانه، إذ أقـرّ تلك التطـلعات بعد بسـط نفـوذه في خلافته، ممّا دعا بلالا الى أن يترك الأذان ويقـول: “لا أوذّن لأحد بعد رسـول
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى ـ كما ستعرف في الباب الثاني “الصلاة خير من النوم شرعة أم بدعة” ـ أنّ إضافة «الصلاة خير من النوم» أيضاً كانت من مبتكرات عمر بن الخطاب، الذي رفع الحيعلة الثالثة وجعل مكانها «الصلاة خير من النوم» فسار الأمويّون والمجتهدون من بعده على مساره، وأحكموا ما ذهب إليه عمر، حتّى صار في العصور اللاحقة تلازم بين إثبات الحيعلة الثالثة ورفض التثويب عند نهج التعبد، وفي المقابل ثمّة تلازم بين حذف الحيعلة الثالثة واثبات التثويب عند نهج الاجتهاد والحكومات. وقد تطور الأمر ـ كما سيأتيك ـ إلى أن صار ذلك شعاراً سياسيّاً لكل من طرفَي النزاع.
وفي هذا المقام نلحظ ما رواه زيد النرسي في أصله عن أبي الحسن
وتدلّ عليه رواية الصدوق في علل الشرائع وعيون أخبار الرضا فيما رواه من العلل عن الإمام الرضا (عليه السلام)… فقال: أخبِرني عن الأذان، لِم أُمروا به؟
قال: لعلل كثيرة، منها: أن يكون تذكيراً للساهي، وتنبيهاً للغافل، وتعريفاً لمن جهل الوقت… إلى أن يقول: فجعل النداء إلى الصلاة في وسط الأذان، فقدّم قبلها أربعاً: التكبيرتين والشهادتين، وأخّر بعدها أربعاً: يدعو إلى الفلاح حثاً على البر والصلاة، ثمّ دعا إلى خير العمل مرغّباً فيها وفي عملها وفي أدائها، ثمّ نادى بالتكبير والتهليل ليتمّ بعدها أربعاً…(١).
أما المعنى الباطني المكنون ـ الذي يعرفه أهل البيت ومن نزل في بيوتهم الكتاب والوحي ـ فهو ما رواه الصدوق في معاني الأخبار وعلل الشرائع، بإسناده عن محمّد بن مروان، عن الباقر (عليه السلام)، قال: أتدري ما تفسير «حيّ على خير العمل»؟
قلت: لا.
قال: دعاك إلى برِّ فاطمة وولدها(١).
وقال الحافظ العلوي: أخبرنا محمّد بن أحمد قراءة، أخبرنا محمّد بن أبي العبّاس الوراق في كتابه، أخبرنا محمّد بن القاسم، حدّثنا حسن بن عبدالواحد، حدّثني حرب بن حسن، حدّثنا الحارث بن زياد ـ يعني الطحان ـ حدّثنا محمّد بن مروان، قال: سمعت أبا جعفر وسأله رجل عن تفسير الأذان قال، فقال له: الله أكبر، قال: فهو كما قال الله أكبر من كلّ شيء… حتّى بلغ: حيّ على خير العمل، قال: أمّا قوله: حيّ على خير العمل، قال: فأمرك بالبر، تدري برّ مَن؟
قال الرجل: لا.
قال: بر فاطمة وولدها(٢).
وفي خبر آخر عن الصادق (عليه السلام): سئل عن معنى «حيّ على خير العمل». فقال: خير العمل الولاية(٣).
هذا وقد علّل الإمام الكاظم سببَ حذف عمر بن الخطاب لهذه العبارة من الأذان بسبيين: ظاهري وباطني.
إذ روى الصدوق في كتاب علل الشرائع بسنده الحسن بل الصحيح عن ابن أبي عمير أنّه سأل أبا الحسن (الكاظم) عن «حيّ على خير العمل» لِمَ تركت من الأذان؟
٣- التوحيد للصدوق: ٢٤١، وعنه في بحار الانوار ٨١: ١٣٤.
فقال: أمّا العلة الظاهرة فلئلاّ يدع الناس الجهاد اتّكالاً على الصلاة، وأمّا الباطنة فإنّ “خير العمل” الولاية، فأراد مِن أمره بترك «حيّ على خير العمل» من الأذان أن لا يقع حثٌّ عليها ودعاءٌ إليها(١).
فما وجه الترابط بين الصلاة والدعوة إلى برّ فاطمة وولدها؟
بل ما يُعنى بمجيء الولاية وبرّ فاطمة وولدها في الأذان للصلاة؟
وهل حقاً أنّ جملة “خير العمل” هي الولاية أم أنّها: الصلاة، والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟.. وهل هناك تناف بين الرؤيتين.
وهل يصح مضمون الرواية القائلة بأنّ عمر أراد من أمره بتركها أن لا يقع حثٌّ على الولاية ودعاءٌ إليها؟ أم هناك شيء آخر؟
وما هي المقدّمات التي تساعدنا على تفهّم مقصود الإمام أبي الحسن الكاظم في علّة حذف عمر بن الخطاب لعبارة «حيّ على خير العمل».
بل بماذا تفسّر الشيعة هذه المقولة وما جاء عن أبي جعفر الباقر بأن الإسلام بُني على خَمس: الصلاة والصوم والزكاة والحجّ والولاية، ولم يُنادَ بشيء كما نُودي بالولاية(٢).
بل كيف تكون الولاية أهمّ من كلّ شيء؟ وهل هي أهمّ من الشهادتين كذلك؟ ولماذا تُرجع الشيعة كلَّ شيء إلى الولاية؟
إنّ أئمّة أهل البيت قد أجابوا عن هذه التساؤلات، وأنّ المعنيّ عندهم بـ “ما