الإمامة الإلهية (بحوث الشيخ محمد السند) – ج 1 / الصفحات: ٦١ – ٨٠
بناء على هذا التفكيك بين القوتين تتضح لنا حقيقة العقل النظري فهو يدرك نمطين من القضايا احدهما لا يرتبط بالعمل كالقول بان الوجود المادي متناهي. والاخرى ترتبط بالعمل وهذا القسم من الادراكات يتناوله العقل العملي بعدئذ ويؤثر على القوى المادون لتنصاع اليها فهو الرابط بين العقل النظري والقوى السفلية، وكمال العقل العملي هو الانصياع إلى ادراكات العقل النظري الصادقه.
بالبيان السابق اتضحت النقاط التي كنا اثرناها في مقدمة الفصل الأول من ان معنى الايمان والتسليم هو الاذعان وهو وظيفة العقل العملي وإنه ليس ادراكاً صرفا. فهناك ثلاث مراحل فحص و ادراك واذعان وايمان.
قال العرفاء ان الإنسان في حالة صعود وهبوط دائمين، ومقصودهم من ذلك ان الإنسان في حركاته اليومية وطريقة تفكيره ينتقل في درجات وجودية مختلفة ادناها هي المتصلة بعالم المادة واعلاها هي المجردة تجردا تاما، فيبدأ من الدرجات الحسية وهي المجردة عن المادة دون احكام المادة، إلى الخيال وهي مجردة عن المادة لا عن المقدار ولا ترتبط بالجزئي الحقيقي كالحسي، إلى الوهم وهو ادراك المعاني الخالية عن المقدار كالحب والبغض وهي مع تجردها عن
من النقاط السابقة يتضح لنا تعريفاً آخر للعقل العملي وذلك لاننا قلنا ان مهمته الاساسية هي الاذعان والحكم وهذا قد يكون بقضايا ترتبط بالعمل وحينئذ يترتب على الحكم والاذعان بها تأثر القوى السفلية، وقد يكون بالحكم والاذعان بقضايا لا ترتبط بالعمل كحدوث العالم وعدم تناهيه.
التنبيه الأول:
الحسن والقبح العقليان
وهذه المسألة من امهات مسائل علم الفلسفة وعلم الكلام والتي جرى البحث عنها منذ القدم في بداية عهد الفلسفة الاسلامية وقبلها الفلسفات الهندية الفهلوية واليونانية.
وقد ذهب الاشاعرة إلى كونهما اعتباريين بجعل العقلاء وأيدهم في ذلك بعض الإمامية وذهب كثير منهم إلى القول بعقليتهما وتكوينيتهما، ويبتني على هذه المسألة ثمرات عدة اذ ان اغلب البراهين تعود إلى حسن العدول وقبح الظلم فاذا كان الحسن والقبح اعتباريين فان الاستدلالات سوف تكون خطابية لا برهانية.
وتظهر خطورة المسألة اكثر حيث يذهب كثير من المتأخرين إلى اعتبارها من المشهورات التي لا واقع لها وراء تطابق آراء العقلاء، وينتج عن ذلك اختلال البنية التحتية للشريعة وذلك لأن المتكلمين يقولون أن الاحكام الشرعية ألطاف في الاحكام العقلية، أي ان العقل لو علم بملاكات الاحكام الشرعية لحكم بها، فهي موضوعات لطف في الكمال يحكم بها العقل لو اطلع عليها. فاذا كانت البنية التحتية للشريعة هي الأحكام العقلية وهي مسألة الحسن والقبح وهي مسألة اعتبارية بيد المعتبر وتتبع نظره، فينتج من ذلك تغيير الاحكام تبعا لتغيير الافكار وهو ما يُعرف حديثا بنظرية تغير المعرفة الدينية أو بسط وقبض الشريعة فلا
من الناحية التاريخية المسألة مرت بمراحل متعددة:-
١ ـ ان الفلاسفة القدمى قبل الاسلام سواء في الهندية او البهلوية او الحرانية أو اليونانية كلهم قائلون بعقلية المسألة، ومن المسلمين مَن اشار إلى عقليتهما الفارابي في كتابه المنطقيات.
٢ ـ ان ابن سينا الذي قام بمهمة ترجمة كتب القدماء عدل عن هذا الرأي ولم يبين عدوله ولم يشر اليه، وهكذا أثر في مَن أتى مِن بعده حيث تعاملوا مع كتبه على انها ترجمة امينة لكتب القوم. وقد تأثر هو في ذلك بما ذكره ابو الحسن الاشعري في التفكيك بين معاني الحسن والقبح.
وابن سينا تتضارب كلماته فهو في منطق الشفاء والاشارات (يمثل للمشهورات بالحسن والقبح وهي الاراء المحمودة التي تطابقت عليها آراء العقلاء)، وفي مقام اخر في النمط الثالث من الاشارات يقول: “ان احكام العقل العملي يستعين بالنظرى وقضاياه اما اوليات او مشهورات”، وكذلك عبارات أخرى كما في الهيات الشفاء في مسألة استجابة الدعاء يذكر فيها ان قضايا الحسن والقبح قضايا حقة يمكن اقامة البرهان عليها.
٣ ـ بعض المتأخرين كالمحقق اللاهيجي في كتابة “گوهر مراد” والسبزواري في شرح الاسماء الحسنى ذهب إلى انها تكوينية ولا ينافي كونها مشهورة من جهة أخرى.
٤ ـ المحقق الاصفهاني ومن بعده ذهب إلى أنها اعتبارية مطلقا ولا يمكن اقامة البرهان عليها وهذا هو المذهب السائد إلى الان.
١ ـ المغالطة التي ذكرها ابو الحسن الاشعري بالتفكيك بين معاني الحسن والقبح وجعل بعض المعاني تكوينية، اما معنى المدح والذم فليس كذلك، وذلك لأنه لو كان بديهيا لأذعن به الجميع فمن ثَمّ أدرجه في المشهورات. ولم يكن هو اول من ذكر هذه المغالطة بل ان السوفسطائيين اليونانيين معاصرو سقراط قالوا بهذه المقالة وردهم سقراط في مؤلفاته ٢ ـ تعريفه للعقل العملي حيث إنه قد عرفه بتعريف هو عين العقل النظري، والاختلاف بينهما في المدرَك وأن العقل مطلقا شأنه الادراك وليس من شأنه التأثير والانفعال، فكيف يمكن تصور ان العقل له تدخل في اعمال الافعال النفسانية! بل العمليات ليست إلا تأديبات وعادات، وهذا المبنى على خلاف مبنى الفلاسفة المتقدمين كالفاربي وتقسيمهم الحكمة إلى نظرية وعملية.
٣ ـ غض ابن سينا النظر عن أحد قسمي البرهان الذين ذكرهما ارسطو وهو البرهان العياني او الشهودي ويمتاز هذا البرهان بأنه يقام على اثبات الجزئيات الحقيقية، واكتفى بالقسم الأول المعروف في باب البرهان وهو مختص بالكليات لذا يشترط فيه الابدية وعدم التغيير.
ولابأس بذكر نبذة عن هذا البرهان:-
هناك قوة في الإنسان تسمى بقوة الفطنة وهذه قوة تُرَوي أعمال الإنسان وتُراعي صدور الارادة على طبق الحكمة، فهي قوة تكون محيطة باحوال الأمور الواقعية الجزئية فتوجب انطباق الكليات على الجزئيات والوصول إلى الكمال المنشود.
توضيح ذلك:
ان ادراك القضايا حتى العملية لايكفي للوصول إلى الكمال، وانما هذا هو كمال لقوة خاصة وهي العقل النظري، وكمال العقل العملي والقوى السفلى يكون بالانصياع إلى القوة العملية، ولكن هذا وحده لا يكفي بل يجب ان تكون هناك آلة وأداة تميز حال الجزئيات الحقيقية، لا سيما في الأمور الاجتماعية، وعدم ادراك الواقع الجزئي على ما هو عليه يؤثر في عدم الوصول للكمال المنشود. لأن تنزل القضايا الكلية إلى الجزئية لا يتم إلا بأداة قادرة على استكشاف حال الجزئي علي ما هو عليه وتطبيق الكلي عليه فيكون تسلسل الادراكات بالنحو التالي:
ـ مرحلة ادراك الكمال في الاعمال والبرهان عليها وهذا يقوم به.
العقل النظري – ثم مرحلة الاذعان في العقل العملي والتأثير على القوى السفلى – ثم مرحلة تشخيص الأمور الجزئية بالدقة وتطبيق تلك الكليات عليها.
وشبيه هذا التسديد عند التنزل من الاعلى إلى الاسفل قوله تعالى: {بِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبالْحَقِّ نَزَلَ} فهو اشارة إلى السداد والعصمة في مراحل التنزيل، حيث كونه حقا لوحده لا يكفي بل يجب ان يكون السداد في النزول، وفي النفس الانسانية الادراك والاذعان وحده غير كاف بل يجب ان يحصل التسديد في التنفيذ على الأمور الخارجية الجزئية وهذا لا يكون إلا بقوة الفطنة. وهي قوة فوق القوى المادون (الغضبيية والعمّالة والشهوية) فهي تستخدم هذه القوى للوصول إلى الجزئي الحقيقي المندرج تحت الاجناس العالية، فتصدر بعد ذلك اوامرها في عالم النفس لتولد الشوق والارادة وصدور الفعل بعد ذلك.
وقوة الفطنة هي التي تقوم بالبرهان العياني الذي يحتاجه الإنسان في تطبيق الكليات علي الجزئيات، والكمال في الواقعة الجزئية مبتن على هذا البرهان فتلخص الفارق بين البرهان العياني والبرهان النظري
انه لو اذعنا بلزوم كون الاعمال برهانية فلا بد من القول بارتكاز الجزئيات على انها قضايا برهانية والذي يمكنه البرهنة على ان الجزيئات حسنة وحكيمة اما الحسن والقبح او التشريع، اي ادراك حسن وكمال الافعال الجزئية يكون باحد هذين، والاحكام الشرعية ألطاف في الاحكام العقلية.
وبتعبير اخر: ان البرهان العياني يبرهن على ان العمل الجزئي على وفق الحكمة والكمال، ولا يمكن البرهنة على كل واقعة جزئية إلا بتوسط استناد البرهان إلى قضايا يقينية لا قضايا مشهورة لا أساس لها إلا الاعتبار. فحينئذ يحصل الالتفات إلى أن قضايا العقل العملي والحسن والقبح تكوينية لا مشهورة.
ـ وحينئذ نقول ان التوحيد النظري وحده من دون تنزله إلى توحيد عملي هو توحيد أجوف، ولا يحصل هذا التنزل من التوحيد النظري إلى التوحيد في الطاعة إلا بالبرهان العياني وقوة الفطنة.
ومن هنا أن التوحيد والاعتقاد بالنبوة من دون الولاية لا يقبل: “اليوم أكملت لكم دينكم ورضيت لكم الإسلام ديناً” وسيأتي بسط الكلام فيه.
فهذه الأمور الثلاثة هي التي سببت الخلط الحاصل لدى ابن سينا وعليه ابتنى اشتباه المتأخرين.
بعد اتضاح هذا الخلط التاريخي في مسألة القبح والحسن نعرض للأدلة التي اقيمت على اعتباريتهما ومناقشتها ثم تعرض الى الادلة التي ذكرها صدر
١ ـ اختلاف العقلاء في تحسين بعض الأمور وتقبيحها باختلاف الازمنة والأمكنة، فهذا يعني عدم وجود واقع تكويني ثابت بحيث يبقى الشيء حسنا دائما أو قبيحا دائما.
٢ ـ نفس وقوع التشاجر بين العلماء حول اعتباريتهما او عقليتهما.
٣ ـ يذكرون في اثبات النفس أن الإنسان لو خلق من دون اعضاء أصلا فإنه سوف يدرك ذاته وهذا يدل على مغايرة الذات للبدن، وهكذا فيما نحن فيه فلو خلق الإنسان وحيدا في هذا العالم ولم يؤدب على العادات الحسنة ولم يلاقِ أي انسان آخر، فإنه سوف لن يحكم بحسن العدل وقبح الظلم فهذا يدل على أنهما ليسا تكوينين بل هما امران جعليان.
٤ ـ ان العقلاء انما يحكمون بهذا الحكم من اجل مصلحة اجتماعهم ونظامهم، فلو انعدم الاجتماع والنظام لما حكم العقلاء بذلك. وبعبارة أخرى أنّ هذه الأحكام للوصول لإغراض أخرى بواسطة هذا الاعتبار.
٥ ـ ما ذكره المحقق الاصفهاني:- ان الفعل المقتضي للمدح والذم على أحد نحوين إما بنحو اقتضاء السبب لمسببه والمقتضي لمقتضاه وإما بنحو اقتضاء الغاية لذى الغاية.
اما السببية والمسببية فهي تكوينية لكنها ليست ناشئة عن النزعة العقلية وقوى الإنسان العقلية، بل هي ناشئة بداوعي حيوانية كالانتقام والتشفي والغيظ. اما الغاية وذي الغاية فانها اذا ثبتت فهي تعني وتدل على الاعتبارية، لأن الغاية لهيئة الاجتماع الاعتبارية، والمدح والذم موجب لما فيه صلاح العامة فهو اعتباري محض.
٨ ـ ما ذكره الشهيد الصدر ان تعريف العدل هو اعطاء كل ذي حق حقه، والظلم هو منع الحق، والحق امر اعتباري قانوني فكذلك العدل والظلم، ومن هذا القبيل ما ذكره العلامة الطباطبائي من عروض الحسن والقبح على الأمور الاعتبارية كالتوقير والاحترام.
و هذه الأدلة كلها مردودة و قبل ان نستعرضها نتعرض لما ذكره الاشعري بالتفكيك بين معاني الحسن والقبح و هو كما ذكرنا احد الاسباب التي ادت إلى مغالطة ابن سينا.
اننا يجب ان نلاحظ الحد الماهوي للمدح و الذم، فالمدح هو القضية المتكفلة لحمل كمال معين على موضوع معين والذم بخلافه، وعليه يعلم انه يجب ان يكون الممدوح آت بكمال فيكون المدح هو التوصيف بالكمال، والذم هو التوصيف بالنقص، ولا يمكن ان يُمدح بغير كمال او يذم بغير نقص. فيجب ان يكون هناك واقع يطابقه المدح والذم.
وبتعبير أخر: فان وظيفة المدح هو الحكاية الحقيقية عن الكمال اي المحمول الذهني الحاكي عن الكمال الحقيقي الخارجي، والذم كذلك، فالا رتباط بينهما هو الارتباط بين الحاكي والمحكي عنهما، وهما متحدان هوية ومختلفان وجوداً، فالكمال الحقيقي وجود خارجي والمدح وجود ذهني.
وحكاية وجود عن وجود أمر متسالم عليه، وأكمل صورة هو حكاية
ثم إنه لا مضايقة في ان يخلق الإنسان وجودات اعتبارية للامور الخارجية العينية وذلك لغرض الاحتياج إلى هذا الاعتبار من اجل الاجتماع والتفاهم، وهذا الوجود الاعتباري لا يلغي الوجود التكويني الخارجي العيني، ومثاله الواضح الوجود اللفظي والوجود الكتبي فهما وجوادن اعتباريان دعت اليهما الحاجة وهذان الوجودان الاعتباريان يكونان حاكيين عن الوجود العيني الخارجي. وقد تدعو الحاجة إلى اعتبار وجودات أخرى حاكية عن الوجود الغيبي وهكذا نستطيع ملاحظة الهجاء الوارد في القرآن فهو وان كان انشائيا لكنه حاك عن امور تكوينية وواقع خارجي وانما اظهره القرآن بانشاء الهجاء لاعلام الآخرين بما حصل في للأقوام الآخرين.
ثم ان الشجار في الأمر البديهي لا يؤدي إلى عدم البداهة. نوضح ذلك في علم المنطق إنه قد تعتري الإنسان أسباب تؤدي إلى انكار البديهة كالمغالطة والشبهة في قبال البديهة، وهذا الانكار لا يؤدي إلى انكار بديهية القضية.
وقد يكون الانكار في بعض الاحيان نتيجة حالة مرضية تصيب القوة العاقلة حيث لاينصاع العقل العملي لمدركات العقل النظري، فيصاب بحالة التشكيك الدائم كما وقع للرازي. فهذا كله لا يؤدي إلى عدم بداهة القضية.
٢ ـ اما وقوع التشاجر والخلاف بين العلماء فيُعلم جوابه مما مر.
٣ ـ اما ما ذكروه من ان الإنسان لو خلق وحيدا او لم يؤدب لما حكم بحسن أو قبح، فإن هذا كالمصادرة على المطلوب، بل أن العقل يحكم بحسن العدل وقبح الظلم ولولم يكن هناك اجتماع، ولو لم يؤدب فان الظلم كما سوف نبين هو ممانعة شخص لكمال آخر، فلو عرف العقل بذلك التعريف وفكّر به فإنه سوف يحكم لا محالة بقبحه.
وابن سينا نفسه وقع في التناقض حيث قال في الهيات الشفاء في مسألة استحابة الدعاء والتضرع والتوسل أن اكثر ما في ايدى الناس من الحسن والقبح حق يقام علية البرهان.
٤ ـ اما ما ذكره المحقق الاصفهاني من ان سببية الفعل للمدح والذم تكون من مناشئ حيوانية، فهو غير تام وذلك لأن للعقل ملائمات ومنافرات، وبالتالي يمكن ْأن يكون المنشأ هو داع عقلي محض، ويكون العقل سبباً للمدح والذم وهذا واضح في الكُمّلين من البشر حيث نلاحظ ان انفعالاتهم ومدحهم وذمهم ليس ناشئاً من دواع حيوانية، وذلك لأن قواهم كلها منصاعة تماما للقوى العقلية فتكون كل تصرفاتهم منبعثة عن العقل، فعندما يذمون ظالما مثلا لا يكون الذم بداعي
ومن الجهة الأخرى أي عندما نُخبر بأن رضا الله في رضا فاطمة “ان الله يرضى لرضا فاطمة ويغضب لغضبها” فانّ هذا يعني عصمتها لأن هذا يعني سلامة النفس والانقياد إلى القوة العاقلة التي هي في اختيار مشيئة الله، والتعبير المزبور إنما يطلق ويصدق عندما يكون العبد تمام مظهر الطاعة والتبعية لربه.
٥ ـ اما اشكال الشهيد الصدر فجوابه بمخالفته لتعريف الظلم والعدل، فان التعريف الصحيح للعدل هو وصول كل موجود إلى كماله المطلوب من دون اعاقة وممانعة موجود آخر، والظلم هو مما نعة موجود من وصول موجود آخر لكماله. فالعدالة الاجتماعية مثلاً هي وصول كل افراد المجتمع في حسن نظام المجتمع إلى كمالاته الممكنة من دون اعاقة الافراد الاخرين. أما عندما تصل طبقة لكمالها على حساب طبقة أخرى فانه يكون من الظلم الاجتماعي، والتشريع انما يكون عادلا لأنه يكون كاشفا عن الكمالات المخبوءة في الأفعال والتي بها يصل الإنسان لكمالاته.
فالعدل كمال والظلم نقص، فيكون توصيف العدل والظلم بالحسن والقبح تكوينيا لا اعتباريا.
٦ ـ أما ما ذكر من ان المدح والذم من الانشائيات. فقد ذكرنا ان الانشاء لا يصدر إلا من داعي، وهذا الداعي أمر تكويني، فالهجاء هو اظهار للنقص التكويني والمدح ابراز للكمال الخارجي الحقيقي. والبلاغيون قد اذعنوا بان اقسام الانشاء هي عناوين لماهيات الدواعي.
فتبين من كل ما سبق ان الحسن والقبح امران تكوينيان واقعيان وليسا اعتباريين كما ذهب اليه جلّ المتأخرين.
أدلة واقعية الحسن والقبح:
ونلفت أخيرا إلى براهين أقامها صدر المتألهين تثبت تكوينية الحسن والقبح ذكرها بعد ان كان قد انكر واقعيتهما عندما تعرض لهما ابتداءً، وهذا يلفت إلى الخلط والتردد الحاصل لدى مَن أتى بعد ابن سينا، بسبب الاضطراب الحاصل في كلماته والبراهين التي ذكرها للدلالة على واقعية الحسن والقبح فيه ثلاث:-
١ ـ العناية الالهية:
اي أن للحق تعالى عناية بخلقه والقاعدة الفلسفية المثبتة هنا هي ان علمه بالنظام الاتم والاكمل ورضاه به لهذا النظام. توضيح ذلك:
ان الباري يكون على اكمل واشرف واعلى ما يمكن ان يكون في مقام ذاته، فالصادر من الحق يكون كذلك حيث ان ايات ومخلوقات الله تدل على صفة الكمال في الباري. والنظام الذاتي يكون علة للنظام الخلقي وافاضة الكمال على ما دون هو من العناية وهكذا يستفيد الملا صدرا أنّ علم الباري هو منشأ افاضة الكمالات للمخلوقات، وصفة العناية هذه هي التي تفيض ما يعرف بالنظام الأحسن والأكمل حيث يكون كل عالم من العوالم بنحو يؤدي إلى تحقيق الكمالات الوجودية بنحو اكثر وأرفع فعناية الحق توصل تلك الموجودات الفاعلة بالارادة إلى أكمل ما يمكن أن تكون عليه، ومن هنا يستدل على ضرورة التشريع والتقنين الالهي حيث إنه يرشد الفاعل الارادي إلى طريق هذا الكمال.
ومؤدّى هذه القاعدة (العناية) يمكن ان يستبدل بقاعدة اللطف المعروفه إلا ان الاولى الحاكم بها هو العقل النظري والثانية الحاكم بها هو العقل العملي.
ونعود فنقول ان الافعال يجب ان تؤدي إلى الكمال المطلوب، وهذا يقتضي ان يكون لهذه الافعال في الواقع كمال مُعين (العلم تابع للمعلوم الذاتي وهو النظام الكمالي الذاتي، فالعلم (فعله الصادر) يتحدد طبقاً للكمال الذي في المعلوم وهذا يعني ان في الأفعال الإرادية في حد نفسها كمال ونقص وأن الخير والشر نابع من واقع الفعل الإرادي، وأن الحكم التشريعي الإلهي على طبق ما في الأفعال من خير وشر، فهو كاشف عما هي عليه في الواقع، لا كما يقوله الاشعري ان واقع الفعل تابع لنمط التشريع ولا هوية له في نفسه، أو لك أن تقول ما قدمناه من أن حقيقة المدح الاخبار عن الكمال، والذم الاخبار عن النقص فللافعال الإرادية في نفسها مدح وذم أي حسن وقبح.
٢ ـ تجسم الاعمال:
وهي قاعدة مهمة نقحها بوضوح فائق فلاسفة الامامية مسترشدين بالروايات الواردة في ذلك ومؤداها ان تكرار الفعل يولد ملكات اما حسنة نورانية او ملكات رديئة، وكلما ازدادت ترسخت في النفس اكثر حتى تصبح جوهرية، ومن هنا قالوا ان الإنسان ليس هو النوع الاخير بل يتلبس بعد الصورة الإنسانية بصورة وفعل اما ملكي أو شيطاني أو بهيمي أو سبعي. وهكذا وفي كل نوع هناك شعب أخرى. بيان ذلك:
ان الإنسان في سعيه نحو الكمال انما يبتغي ان يحصل على ما له ثبات، الكمال العرضي يكون في معرض الزوال فتعود حاله إلى ما كانت عليه قبل تحصيله.
فهو يسعى لأن يحصل على كمال ذاتي يكون بنحو جوهري لا يكون معرضا للزوال، وبهذا يتكامل ويصعد في سُلّم الكمالات ويثبت عند كل درجة، ويحصل هذا التغيير الجوهري عن طريق الافعال المؤدية للكمال حيث يحدث الفعل ـ عند تكراره والمواظبة عليه ـ حالات في النفس تنتقل إلى هيئات ثم تتنقل إلى ملكات فتشتد حتى تصل وتصبح فصولا جوهرية.
بالاضافة إلى ذلك فإن البدن يكون بشكل يتناسب مع القوة التي يتملكها الإنسان وغيره، فمثلاً في الذئب الهيئة الجسمانية لها تناسب مع القوة التي يمتلكها، ودلت الروايات على ان الاجسام الاخروية هيئتها تابعة للفصول الجوهرية التي يتكامل بها الإنسان أو يتناقص.
اما تطبيق القاعدة على ما نحن فيه، فهو أن موارد الحكم بالحسن هي نفسها في موارد الفضائل والكمالات، حيث يتبين انها توجب تجسم تلك الأعمال بصورة نورانية، وموارد الحكم بالقبح هي نفسها موارد النقص التي تتجسم بصور رديئة ظلمانية، فيظهر من ذلك ان الحكم بالحسن والقبح ليس اعتبارياً بل امراً عقلي له من مناشيء تكوينية.
٣ – قاعدة الغاية:
وهذه قاعدة تبحث في ابحاث العلل، وهي تعني وجود ارتباط بين صدور الفعل وغايته، بمعنى انّ تصور النتيجة المترتبة على الفعل القصدي تكون دافعاً لرغبته للقيام بذلك الفعل، فهناك ارتباط بين الوجود العلمي للغاية وفاعلية الفاعل، وهناك ارتباط بين الوجود الخارجي للفعل والتوصل للغاية، فالوجود العلمي هو في سلسلة العلل المتقدمة على الفعل والثاني متأخرة عن وجود الفعل. وقد وردت هذه القاعدة في بيانات عدة {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } فهناك تقدير مقدّم على الخلق وهداية لهم بعد الخلق، فالمخلوقات في سير تكاملي وهو الغاية التي من اجلها خلقت، وهذا البرهان بهذا النحو يختلف عن برهان النظم وان اقتربا من بعضهما. وانكار العلة الغائية يساوق انكار العلة الفاعلية.
اما تطبيق ذلك على الحسن والقبح فبيانه ان الفاعل الإرادي لا يفعل فعلاً إلا لأجل غاية وهذه الغاية هي تحقيق الكمال، فالكمال يتحقق بهذا الفعل وهذه هي الموارد التي يحكم بها العقل بالحسن، فالحسن راجع لكمال يتحقق بواسطة هذا الفعل فهو أمر واقعي، والكمال المقصود هو كمال للقوة العاقلة وما فوقها من درجات النفس وتكون موجبة للقرب الالهي، اما في موارد القبح فان الكمال الذي تحققه بالافعال هي كمالات للقوى الشهوانية والغضبية.
فدعوى الاشعري ان لا حسن ولا قبح واقعي في الافعال يساوق انكار العلة الغائية، وانكار العلة الغائية يؤدي إلى انكار العلة الفاعلية.
فتلخص من مجمل البحث ان الحسن والقبح العقليين امران تكوينيان واقعيان بالادلة المثبتة سواء على مبنى المتقدمين كابن سينا او على مبنى صدر المتألهين.
التنبيه الثاني:
الخطأ في الفكر البشري
ومن الأمور المهمة التي يجب الإشارة إليها هو في كيفية نشأة الخطأ في الفكر البشري وقد اثار هذا التساؤل كثير من الفلاسفة والمناطقة واجابوا باجابات متعددة.
منها: ان علوم المنطق تتكفل عصمة الفكر عن الخطأ، ويبقى على عاتق الإنسان مراعاته عند التطبيق، فالخطأ الناشيء هو من سوء التطبيق.
ومنها:- أن الخطأ ينشأ بسبب خطأ نفس مواد الأقيسة حيث ان بعضها نظري، وكلما ابتعدت القضايا عن البداهة زادت نسبة الخطأ.
ومنها:- ان الخطأ هو نتيجة عدم توازن في افعال النفس فقد ذكرنا سابقا ان الاذعان والجزم الحاصل لدى النفس هو غير النتيجة، وان وظيفة العقل النظري هو الادراك، فالخلل يحصل عندما يحصل تجزم واذعان غير متناسب مع درجة الادراك الحاصلة لدى العقل النظري.
وقد سعى الفلاسفة والمفكرون لازالة هذا الخطأ أو على الأقل تقليل نسبة الخطأ. ومن تلك المحاولات ما دعى اليه السيد الشهيد الصدر(رحمه الله)باعتماد منهج الاستقراء وتراكم الاحتمالات في الفكر البشري بدلا من القياس الارسطي، والاستقراء طريقة رياضية عملية. حيث تتضاءل احتمالات الخلاف حتى تصل إلى نسبة قليلة جداً بحيث تقوم النفس بالغاء احتمال الخلاف، وتتعامل مع النتيجة
التنبيه الثالث:
الثابت والمتغير
من المسائل المهمة التي تبتني على مسألة الحسن والقبح هي ثبات التشريع وتغيره. فبناء على اعتبارية الحسن والقبح وإنه لا واقع حقيقي وراء تطابق آراء العقلاء فإن الحسن والقبح يتغير بتغير الزمان والمكان وبالتالي لا يوجد ما هو ثابت في التشريع بل هو متغير. وبناء على انهما امران واقعيان فالنتيجة خلافها.
ـ وقد يصاغ هذا البحث بصياغة أخرى وهي ان ختم النبوة يعني أن لا حاجة إلى النبوة حتى يوم القيامة، وذلك لأن العقول تكون قد تكاملت بواسطة تلك النبوة الخاتمة ولا تحتاج إلى رعاية نبي ولا وصي ولاهدايتهما.
ـ وقد تصاغ بنحو ثالث، كما ذكره العلامة الطباطبائي وخلاصته ان الارادة تنبعث من جهات اعتبارية لا حقيقية، وحسب تغير هذا الاعتبار تتغير وجهة سير هذا الإنسان.
أما جواب هذه الصياغات:
أولاً: بما مر بالبراهين التي اثبتت تكوينية الحسن والقبح.
ثانياً: ان دعوى تكامل العقول يعني وقوف السير والبحث والفحص العلمي لدى البشرية لاطلاعهم على الحقائق واصابتهم لها، والحال انا نجد من أنفسنا الاذعان بعدم توقف هذا السير ولن يتوقف هذا السعي الحثيث لدى الفطرة