الرئيسية / الاسلام والحياة / أين سنة الرسول ؟!! وماذا فعلوا بها

أين سنة الرسول ؟!! وماذا فعلوا بها

أين سنة الرسول ؟!! وماذا فعلوا بها / الصفحات: ٣٦١ – ٣٨٠

٣٦١

الباب السابع
إباحة كتابة ورواية سنة الرسول بعد مائة عام من تحريمها!!

 

٣٦٢

٣٦٣

الفصل الأول
الحقائق التي لا جدال فيها

من الحقائق الثابتة التي لا ينكرها عاقل، أن الخلفاء قد أحرقوا سنة الرسول (١). وعمموا على كافة الأمصار الخاضعة لحكمهم بأن يمحوا ما هو مكتوب من سنة الرسول (٢) ثم حرموا على المسلمين أن يرووا شيئا من سنة رسول الله (٣). تلك حقائق بغض النظر عن سوء النية، أو عن حسنها!!

وبغض النظر عن الغاية التي ابتغوها من ذلك، أو عن التبريرات التي قدموها في ما بعد.

 

قرار إباحة كتابة ورواية سنة الرسول!!

بعد مضي مائة عام على منع الخلفاء لكتابة ورواية سنة الرسول، لاح لهم أنها قد انقرضت أو أنها في طريقها إلى الانقراض، وأن تأثيرها في المجتمع الإسلامي قد انعدم أو كاد وبعد أن انحصر دورها في

 

(١) تذكرة الحفاظ ج ١ ص ٥، وكنز العمال ج ١٠ ص ٢٨٥ تجد تحريف أبي بكر للسنة التي كتبها بنفسه والطبقات ج ٥ ص ١٤٠، وراجع الاعتصام بحبل الله المتين ج ١ ص ٣٠، وتدوين السنة الشريفة ص ٢٦٤.(٢) تذكرة الحفاظ ج ١ ص ٢ – ٣، والأنوار الكاشفة ص ٥٣، وتدوين السنة ص ٤٢٣.

(٣) كنز العمال ج ١٠ ص ٢٩١، وراجع البحوث السابقة تحت عنوان ” منعهم لكتابة ورواية سنة الرسول، قبل استيلائهم على منصب الخلافة، وبعد استيلائهم عليه “!!!.

 

٣٦٤
العبادات، أو تجميل الواقع المر، أو تثبيت سلطة الخلفاء، أو تبرير سنتهم أدرك أفضل خلفاء بني أمية، خطورة نسيان سنة الرسول، وحجم الدمار الذي لحق بها نتيجة سنة الخلفاء المستقرة على منع كتابة ورواية سنة الرسول، وقد عبر الخليفة الأموي عن هذه المخاوف بأمره الذي وجهه إلى واليه على المدينة أبو بكر الحزمي بقوله ” أن انظر ما كان من أحاديث رسول الله أو سنته فاكتبه لي فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء ” (١) قال أبو ريا ” ويبدو أنه لما عاجلت المنية عمر بن العزيز، توقف ابن حزم عن كتابة سنة الرسول خاصة بعد أن عزله يزيد بن عبد الملك سنة ١٠١ ه‍، وتوقف الذين ساعدوا أبا بكر بن حزم أيضا وفترت حركة التدوين، وعندما تولى هشام بن عبد الملك جد في هذا الأمر ابن شهاب الزهري، ثم شاع التدوين في الطبقة الأولى التي تلت طبقة الزهري وكان ذلك بتشجيع العباسيين (٢).ويمكنك القول: إن تدوين سنة الرسول وروايتها قد بدأ عام ١١٣ ه‍، أي أن منع الخلفاء لكتابة ورواية سنة الرسول قد استمر قرابة مائة عام وبعد أن أباح عمر بن عبد العزيز كتابة ورواية سنة الرسول بدأ عهد جديد وهو عهد إباحة كتابة ورواية سنة الرسول، وما زالت الإباحة سارية حتى يومنا هذا ولولا عمر بن عبد العزيز لكان من الممكن أن تبقى سنة الخلفاء المتعلقة بمنع كتابة ورواية سنة الرسول حتى يومنا هذا!!! قال الشيخ مصطفى عبد الرزاق ” أما أول تدوين لسنة الرسول بالمعنى الحقيقي فيقع ما بين سنة ١٢٠ ه‍ وسنة ١٥٠ ه‍ ” (٣).

 

 

(١) موطأ مالك ومعالم المدرستين ج ٢ ص ٤٤ وكتابنا الخطط السياسية ص ١٤٣، وأضواء على السنة المحمدية ص ٢٦٠.(٢) أضواء على السنة المحمدية ص ٢٦٠ النص من الذاكرة.

(٣) تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية ص ١٩٥ – ١٩٨، وأضواء على السنة المحمدية ص ٢٦١.

 

٣٦٥

مقاومة قرار إباحة كتابة وتدوين سنة الرسول

يبدو أن قرار الخليفة عمر بن عبد العزيز بإباحة كتابة وتدوين سنة الرسول، لم يشق طريقه إلى أسماع المسلمين فجأة، وإلا لأحدث هزة هائلة في المجتمع الإسلامي لقد بدأ القرار بأمر موجه من خليفة إلى والي إحدى أقاليمه، فشق القرار طريقه إلى أسماع المسلمين بالتراضي، وعلى فترت، وهذا ما سهل عليهم ابتلاع ” الصدمة ” الناتجة عن هذا القرار، فضلا عن ذلك فإن عمر بن عبد العزيز كان من أنبل وأشرف خلفاء بني أمية، لذلك وجد طريقه إلى قلوب الناس، وهنالك قول لا أدري إن كان شائعة أم حقيقة مفاده أن بين عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز قرابة رحم!!! هذه الحقيقة أو الشائعة رفعت أسهم عمر بن عبد العزيز إلى السماء!! وتصورت الجموع التي أضناها هوى الخليفة أن هذه القرابة هي سر عظمة عمر بن عبد العزيز!!! هي أسباب حالت بين المسلمين وبين الثورة على عمر بن عبد العزيز لأنه قد تجرأ وانتهك سنة من سنن الخلفاء الراشدين المتمثلة ” بمنع كتابة ورواية سنة الرسول ” لقد تساءل المسلمون بالفعل كيف يأمر عمر بن عبد العزيز بشئ نهى عنه أبو بكر وعمر وعثمان!!! ولولا الأسباب التي ذكرناها آنفا لكان للمسلمين مع عمر بن عبد العزيز شأن آخر!! ولولا الخوف من بطش الدولة وسطوتها لما انصاع المسلمون لقرار عمر بن عبد العزيز المخالف لسنة الخلفاء الراشدين!! لقد استجابوا للأمر الجديد، مكرهين كارهين!!! لأن قلوبهم قد أشربت بسنة الخلفاء الراشدين!!!.

فقد حدث معمر بن الزهري أنه قال ” كنا نكره كتابة العلم، حتى أكرهنا عليه هؤلاء الأمراء ” (١) قال أبو المليح: كان هشام بن عبد الملك

 

(١) أضواء على السنة المحمدية ص ٢٦٢، والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ف ٢ ص ١٣٥ وتقييد العلم للخطيب البغدادي ص ٢٠٧. 

٣٦٦
هو الذي أكره الزهري على كتابة الأحاديث، فكان الناس يكتبون بعد ذلك، قال الزهري: ” استكتبني الملوك فاكتبتهم، فاستحيت الله إذ كتبتها للملوك ألا أكتبها لغيرهم ” (١).ويبدو أن بعض خلفاء بني أمية وأعوانهم قد مهدوا بغير قصد الطريق لقرار عمر بن عبد العزيز، وأنهم قد استحسنوا فكرة الكتابة، في كتب، ويروى أن معاوية قد استقدم عبيد بن سارية من صنعاء فكتب له كتاب ” الملوك والأخبار الماضية ” وأن وهب بن منبه، والزهري، وموسى بن عتبة قد كتبوا في ذلك أيضا فصارت الرغبة بكتابة بعض الكتب تقليعة من تقليعات البلاط الأموي، ولكن هذه التقليعة كانت تمارس وسط قصور الخلفاء أو داخل أسوارها، ولم تكن علنية!! وهذا يعني أن القرار الذي أصدره عمر بن عبد العزيز لم يبح رسميا كتابة ورواية سنة الرسول فحسب، بل أباح كتابة ورواية العلوم كلها!!!.

 

تقدير قرار عمر بن عبد العزيز بإباحة كتابة ورواية سنة الرسول

لقد نقل قرار الخليفة عمر بن عبد العزيز الغالبية العظمى من المسلمين من حالة إلى حالة أخرى مناقضة لها تماما، ومن نمط تفكير إلى نمط تفكير آخر، ففي وقت من الأوقات كانت الأغلبية الساحقة جدا من الأمة تتقرب إلى الله ورسوله، بحرق ومحو وغسل سنة الرسول المكتوبة، والامتناع عن رواية أي شئ عن رسول الله والنفور من الكتب والتأليف اقتداء بسنة أبي بكر وعمر.

صحيح أن الإمام عليا والقلة المؤمنة قد قاوموا ذلك، وحكموا بعدم

 

(١) أضواء على السنة المحمدية ص ١٦٣ كما نقلها عن تاريخ آداب اللغة العربية ص ٧٢. 

٣٦٧
شرعيته، وقاموا بجهد معاكس لسنة الخليفتين، فحثوا المسلمين على كتابة ورواية سنة الرسول، وعلى تدوين كل أقسام العلوم، وأنهم قد احتفظوا بكتبهم، ولم يسلموا الخلفاء سنة الرسول المكتوبة عندهم، لكنها كانت مجهودات محدودة الأثر أمام طاقات دولة الخلافة وإمكانياتها، ونفوذها، لقد طغى جهد الدولة على جهد الإمام علي والفئة القليلة المزمنة، لأن الناس مع من غلب حسب سنة الخلفاء، وعندما آلت الخلافة إلى الإمام علي، وجه جهده وعنايته نحو نشر سنة رسول الله، لكن من الناحية الواقعية لم يكن مع الإمام علي إلا القلة المؤمنة، أما الأكثرية الساحقة فقد كانت تتدين لسنة الخلفاء، وبالتالي لم تصغ للإمام علي، لأن الإمام عليا كان منذ اليوم الذي توفي فيه رسول الله وحتى اليوم الذي تولى فيه الخلافة كان من الناحية العملية قيد الإقامة الجبرية، ومعزولا عن المسلمين هو وأهل بيته، وكذلك القلة المؤمنة، فضلا عن ذلك فإن كل الولاة والعمال والأمراء وموظفي دولة الخلافة كانوا من الكارهين للإمام علي بن أبي طالب ولأهل بيت النبوة ومن والاهم، كان الإمام مدركا عندما تولى الخلافة أن الأغلبية الساحقة من الأمة معبأة من قديم ضده، وأن كلمته غير مسموعة عندهم، ولو كانت هذه المعوقات قد اعترضت غير الإمام علي لما استطاع أن يصمد في منصب الخلافة لأكثر من ساعة واحدة، لكن الإمام عليا طراز خاص من البشر، والقلة المؤمنة التي التفت حوله، وصدقته الولاء كانت من أنبل بني البشر!! كان الإمام عليا يعلم بأن صوته في هذه الظروف غير مسموع عند الأغلبية الساحقة من الأمة التي كانت تتعبد بسنة الخلفاء، فضلا عن تلك الحرب القذرة التي شنها على الإمام علي أعداء الله السابقون بقيادة معاوية، لقد استهلكت هذه الحرب الجزء الأعظم من اهتمام الإمام ولأن الإمام عليا كان يعلم طبيعة دين الأكثرية فقد لجأ لأسلوب المناشدة كما فعلنا سابقا حيث يسأل المتواجدين معه بالله أن من سمع رسول الله يقول كذا، أو كذا فليقف كانت أخبار هذه المناشدات. تنتشر لدى الأكثرية لكن

٣٦٨
أسماعها وقلوبها كانت مغلقة دون الإمام، وبعد عشرات السنين صار الناس يتذاكرون بمثل هذه المناشدات صحيح أن فترة حكم الإمام كانت مشعلا مضيئا وسط ليل بهيم في هذه الناحية، وصحيح أيضا أن الإمام الحسن، والإمام الحسين، والإمام علي بن الحسين، والإمام محمد بن علي، ومن وإلى أهل بيت النبوة قد ساروا على نهج الإمام علي الهادف لتدوين سنة الرسول ونشرها، وتدوين العلوم قاطبة، وصحيح أيضا أنه كان هذا الجهد الدؤوب المتواصل آثاره، ولكن هذه الآثار كانت مقتصرة على الخواص أما العوام وهم الأكثرية الساحقة من الأمة، فلم يكن لهذا الجهد الدؤوب المخلص أثر يذكر عليهم!!!لقد وضع عمر بن عبد العزيز حجر أساس التأثير على الأكثرية الساحقة من الأمة، واجتاز حاجز الخوف، وتبني وبكل رجولة قرارا حكوميا مخالفا بالكامل ومناقضا لسنة الخلفاء الراشدين!! ولم يتكتم على هذا القرار بل أعلنه، ودافع عنه، فظهر بصورة القرار المنطقي الصادر عن الدولة لغايات التنفيذ فاختلط الدفاع عن القرار بالدفاع عن هيبة الدولة، وهذا ما سهل على الخلفاء اللاحقين مهمة إكراه الأغلبية على قبوله بسطوة الدولة وقوتها ونفوذها لأن الأغلبية لا تفهم غير لغة الإكراه والتغلب، صحيح أن الأكثرية قد احتاجت لمدة ثلاثين سنة حتى تستوعب القرار، لكن آلية الدولة أكرهتها على الدخول من هذا الباب الذي فتحه عمر بن عبد العزيز رحمه الله، فلولاه لبقي هذا الباب مغلقا مئات السنين، وربما إلى يومنا هذا، لأن سنة الخلفاء المتعلقة بهذا الأمر قد اختلطت بالدين والتاريخ والممارسة العملية، وتحولت إلى عادة استقرت في النفوس ولكنها ليست كأية عادة!! لقد صارت عبادة بالفعل.

صحيح أن قرار منع كتابة ورواية سنة الرسول، ومنع كتابة العلوم وتدوينها وكراهية الكتب، قرار ليس له سند حقيقي من العقل أو الشرع أو

٣٦٩
تاريخ بني البشر ومن المفترض أن يحمل هذا القرار بذور زواله السريع، ولكن كم من قرارات خاطئة شذت عن هذه القاعدة، وحكمت المجتمعات البشرية مئات بل آلاف السنين فظلت أعناقهم خاضعة لمثل هذه القرارات الخاطئة في ظلال تبريرات مختلفة، وقد عبر القرآن الكريم عن مثل هذه العقلية، بقوله (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون).لقد كان قرار عمر بن عبد العزيز بالسماح بتدوين وكتابة سنة الرسول، وكتابة العلم قرارا تاريخيا من كل الوجوه، وقد سمح له وضعه وظروفه وسلطان سنة الخلفاء المستحكم في النفوس من تحقيق ذلك الأمر، وبالتالي كان من المستحيل على غيره أن هكذا قرار!.

 

بدء الكتابة والتدوين والرواية بعد المنع

لقد فتح عمر بن عبد العزيز رسميا باب الكتابة والتدوين والرواية وتأليف الكتب، بعد أن بقي هذا الباب مغلقا إغلاقا تاما طوال مائة عام ونيف إعمالا لسنة الخلفاء القائمة في جانب منها على كراهية الكتابة والتدوين والرواية لسنة رسول الله خاصة وبقية العلوم عامة، واحتاجت الأكثرية الساحقة من المسلمين إلى فترة زمنية تراوحت بين العشرين والثلاثين سنة حتى تستوعب هذا القرار المناقض تماما لسنة الخلفاء، ولكن الخلفاء الأمويين المتأخرين قد أصروا على تنفيذه، وأكرهوا الناس على قبوله، وبعد تردد قبلته الأكثرية وهي كارهة له، ومع الأيام رضيت به، واكتشفت حسناته وبركاته فأقبلت عليه في أواخر عهد بني أمية وبدأ القادرون على الكتابة بكتابة صحف متفرقة، يدونون فيها ما يروق لهم مما يسمعونه في مجالسهم، من حديث وتفسير ولغة وشعر، وحلال وحرام دون أن يستهجن عملهم مستهجن، أو يؤاخذهم على ما يكتبون مؤاخذ لأن كتابة كل شئ صارت أمرا مباحا ومشروعا، كانت هذه حالة الكتابة والتدوين في أواخر العهد الأموي.

 

٣٧٠
بعد سقوط الدولة الأموية، قامت على أنقاضها الدولة العباسية التي وجدت الباب مفتوحا للكتابة والرواية والتدوين والتأليف ووجدت القبول العام بذلك كله، وكان على رأس الدولة العباسية أبو جعفر المنصور، وهو عالم فذ وفق موازين عصره، فاستنهض علماء زمانه، فدونوا المحفوظ بالصدور، ورتبوا ما وصل إليهم من الصحف، وجمعوا الحديث والفقه، وأمدهم بما يحتاجونه، ولم يكتف بذلك بل كلف العلماء والمترجمين بأن ينقلوا له علوم الأمم الأخرى ويترجمونها من اليونانية والسريانية والفارسية إلى اللغة العربية، فانتشرت سريعا كتب الحديث والتفسير والفقه والسياسة والحكمة والطب والفلك والتنجيم والفلسفة والمنطق والتاريخ والأيام وغيرها، واستقرت مهنة الكتابة والتأليف، ثم أخذت تتطور تطورا نوعيا شاملا وفي كل فرع من فروع العلوم حتى وصلت للأفضل. 

كتابة سنة الرسول ومراحل تطورها

كانت كتابة سنة الرسول هي السبب المباشر لفتح باب الكتابة والتدوين، فمع إباحة كتابة وتدوين سنة الرسول، أبيحت كتابة وتدوين كل العلوم، وقد مرت كتابة سنة الرسول بالأطوار والمراحل نفسها التي مرت بها أكثر العلوم، ففي البداية كانت نصوص سنة الرسول تكتب في صحيفة واحدة، مع التفسير والفقه واللغة، لأن الكتابة كانت انعكاسا لمجالس العلم التي تتطرق لأمور مختلفة في مجلس واحد، ثم نمت هذه الصحف وبنموها نمت ” الكمية ” المكتوبة فيها من سنة الرسول، ثم خطرت ببال البعض فكرة تخصيص صحف خاصة لسنة الرسول، وكانت هذه الصحف تشتمل على حديث الرسول وأقوال الصحابة، وفتاوى التابعين.

في بداية القرن الثالث الهجري وجد شكل آخر لتدوين سنة الرسول، وهو تدوين حديث الرسول وحده، دون أن تدون فيه أقوال الصحابة أو فتاوى التابعين، فظهرت المسانيد كمسند العبسي الكوفي، ومسند البصري، ومسند

٣٧١
الحميري وغيرهم، وجاء الأعلام من بعدهم فسلكوا بنفس المنهاج كأحمد بن حنبل وابن راهويه وغيرهما، كانوا يكتبون في هذه المسانيد حديث رسول الله وحده أو الحديث المنسوب إلى رسول الله، سواء أصدر عن الرسول بالفعل أو لم يصدر عنه، فالعبرة بادعاء الراوي، أو بزعمه، ولم تكن هنالك طريقة واضحة المعالم لمعرفة ما قاله الرسول بالفعل وما تقوله الرواة عليه، وقد تفاقمت هذه المشكلة في ما بعد خاصة وأن أصحاب رسول الله كلهم كانوا قد ماتوا ولم يبق منهم على قيد الحياة صحابي واحد عندما أذنت دولة الخلافة بكتابة ورواية سنة رسول الله، بل والأعظم من ذلك أن أكثرية جيل التابعين كانوا قد ماتوا أيضا!! وزاد المشكلة تعقيدا ثقافة التاريخ المعادية لأهل بيت النبوة، لقد أشربت الخاصة والعامة هذه الثقافة، فأثمرت حساسية خاصة من أهل بيت النبوة ومن والاهم ولولا هذه الحساسية المستحكمة في نفوس الأغلبية الساحقة من الأمة، لكان بإمكان أهل بيت النبوة أن يحلوا هذه المشكلة، لأن أئمة أهل بيت النبوة ورثوا علم النبوة كله، وسنة الرسول كلها مكتوبة ومبوبة ومحفوظة عندهم، لا زيادة فيها ولا نقصان وكان بإمكان الأئمة لو استشيروا أن يدلوا العلماء على سنة الرسول الصادرة عن الرسول بالفعل، وأن يدلوهم على ما تقوله الرواة على رسول الله، لكن أكثر علماء الحديث تجاهلوا بالفعل وجود أهل بيت النبوة، وتجاهلوا حديث الثقلين، ووكلوا أنفسهم إلى فهمهم واجتهادهم، فالبخاري وهو أول الرافعين لشعار صحة الحديث لم يرو عن الإمام جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب حديثا واحدا، مع أنه قد روى عن المجاهيل ومستوري الحال، ومن لا يصلحون خداما لحفيد النبي وعميد أهل بيت النبوة في زمانه!! أمام اختلاط الأحاديث الصحيحة ” أو التي سموها صحيحة ” بالأحاديث التي سموها غير صحيحة نشأت فكرة فرز الصحيح عن غير الصحيح، وجمع الأحاديث الصحيحة في كتب خاصة، سموها كتب الصحاح، وقد تمت عملية الفرز عندما ظهرت طبقة البخاري ومسلم. 

٣٧٢

لولا سنة الخلفاء لحفظت سنة الرسول ولما اختلف اثنان فيها!!

لو لم يحرق الخلفاء سنة الرسول المكتوبة، ولو أنهم لم يمنعوا المسلمين من كتابتها وروايتها مدة مائة عام ونيف، لوصلتنا سنة الرسول مكتوبة محفوظة بلا زيادة ولا نقصان، تماما كما وصلنا القرآن الكريم!!

ولما اختلف اثنان في سنة الرسول، ولتناقلها الناس جيلا بعد جيل، ولما كان هنالك من داع للجهود الجبارة التي بذلها العلماء في ما بعد دون طائل للوقوف على سنة الرسول، وفي وقت يطول أو يقصر سيكتشف المسلمون حجم الدمار الذي ألحقته سنة الخلفاء بسنة رسول الله! بل حجم الدمار الذي ألحقته سنة الخلفاء بدين الإسلام نفسه!! لقد قصمت سنة الخلفاء ظهر الإسلام بالفعل، وأعاقت حركته!!

فماذا استفاد الخلفاء يوم أحرقوا سنة الرسول التي كانت مكتوبة عند المسلمين؟؟ وماذا جنوا يوم أحرقوا الكتب التي كانت محفوظة عند المسلمين؟! وأي نفع حصلوا عليه يوم أمروا ولاتهم بمحو سنة الرسول المكتوبة في الأمصار والولايات الخاضعة لحكمهم؟! وما هي فائدتهم من منع المسلمين من أن يحدثوا شيئا عن رسول الله؟! ثم ما هو وجه المنطق بالاستمرار في هذه السياسة مائة عام حتى يفنى جيل الصحابة كله؟!! لقد تحولت سياسية الخلفاء ملزمة للدولة والرعية معا، وما زلنا حتى يومنا هذا نجد من يدافع عن هذه السياسة، ويبررها بتبريرات ما أنزل الله بها من سلطان!! وما خطرت حتى ببال الخلفاء والذين وضعوا هذه السياسية التي تحولت إلى سنة!!

 

٣٧٣

الفصل الثاني
القوى والتوجهات التي رفدت حركة كتابة وتدوين سنة الرسول

لقد فتح باب الكتابة والتدوين لكتابة وتدوين سنة الرسول، ومن هذا الباب، عبرت فكرة كتابة وتدوين كل شئ، كان الشروع بتدوين السنة وكتابتها مناسبة لتعبر فيها كل القوى والتوجهات المتواجدة في المجتمع عن وجودها ولتقدم من سنة الرسول أو من ” السنة المنسوبة للرسول ” ما يدعم هذا الوجود وقد اختلفت مساهمات هذه القوى بحركة كتابة وتدوين السنة، باختلاف دورها في بناء المجتمع الإسلامي ومساهمتها في صناعة ماضية وحاضره، لقد أمدت هذه القوى حركة التدوين بسيول عارمة من النصوص الصحيحة أو المختلفة التي ظنت بأنها ستخدم وجودها وتوجهاتها، وترغم أنوف أعدائها وكانت شهية العلماء مفتوحة لكتابة وتدوين كل ما يعثرون عليه، والعلماء أنفسهم ينتمون إلى هذه القوى المختلفة، ومن المؤكد أن التوجهات المختلفة قد أثرت في علماء الكتابة والتدوين، ولونت ما كتبه العلماء المنتمون إلى كل توجه باللون الخاص لذلك التوجه، وأروع ما في حركة التدوين والكتابة تلك، عدم وجود قيود أو تدخل من دولة الخلافة، اللهم إلا من خلال العلماء الموالين لها، وهم الأكثرية الساحقة، أو من خلال نفور العامة مما يتعارض مع قناعاتها، وسنستعرض هذه القوى تباعا،

٣٧٤
تبعا لحجم قوتها، وتأثيرها على حركة كتابة وتدوين سنة الرسول، أو السنة المنسوبة للرسول. 

معاوية والأمويون

كان معاوية وولاته قد وضعوا مئات الألوف من الأحاديث الباطلة المفتعلة بفضائل لا أول لها ولا آخر، وبمناقب لا وجود لها إلا في أذهان رواتها وحتى يزيد معاوية الطين بلة، ويخلط الأمور خلطا يصعب إعادة فرزه فقد أمر معاوية رعيته بحفظ ورواية هذه الأحاديث المفتعلة، وأمر معاهده العلمية بتدريسها، وتناقلها المسلمون جيلا بعد جيل، وتبنتها دولة الخلافة رسميا، واعتبرتها جزءا لا يتجزأ من وثائقها ومناهجها التربوية والتعليمية، وصار الناس يعتقدون بصحتها، لقد شاعت بينهم، وعندما أباحت دولة الخلافة في ما بعد كتابة وتدوين سنة الرسول، كتب العلماء هذا الكم الهائل من الأحاديث المفتعلة، مسلمين بصحته وهو باطل ومفتعل كما يقول ” ابن نفطويه ” (١) وساعد على تسوية هذه الأحاديث المفتعلة أنها قد وضعت والكثير من جيل الصحابة على قيد الحياة.

 

أولياء الخلفاء الأول

كذلك فإن أولياء الخلفاء الأول وهم قوة عظمى من قوى المجتمع، – حتى أن الأمويين أنفسهم يعتبرون أنفسهم جناحا من أجنحة أولياء الخلفاء الأول – وفي سبيل تبرير أعمال الخلفاء الأول، وضعوا كما هائلا من الأحاديث التي تجعل كل خطوة قد خطاها الخلفاء الأول، وكل فعل فعلوه منسجما بالكامل مع أمر الله وسنة رسوله، لقد صورت هذه الأحاديث الخلفاء بصور أزهى من صور الأنبياء، وكانت وسائل إعلام الدولة قد تناقلت هذه الأحاديث جيلا بعد

 

(١) شرح النهج ج ٣ ص ٥٩٥ و ٥٩٦ تحقيق حسن تميم. 

٣٧٥
كتاب أين سنة الرسول ؟!! للمحامي أحمد حسين يعقوب (ص ٣٧٦ – ص ٤٠٠)

٣٧٦
أبي طالب هو أول من أسلم، وهو ابن عم النبي، ووالد سبطيه، وزوج ابنته، وهو الذي ركع العرب بسيفه ورمحه، وأنه حامل راية الرسول في كل المواقع!!سذج وأغبياء أولئك الذين يعتقدون أن معاوية سيقول هذا أو ذاك!!

كان من الطبيعي أن لا يقول معاوية لا هذا ولا ذاك!! وكان من الطبيعي أن يدعي، بأنه الأقرب للنبي، والأولى به، فهو والنبي من بني عبد مناف، وأنه كان كاتبه الخاص للوحي، وأمين سر الرسول على ما يوحى إليه، وكان من الطبيعي أن يؤدي عن رسول الله ما يشاء، فهو ملك الشام الحقيقي، وكان من الطبيعي أن يتحدث عن سيرة الرسول، وأن يختلق لنفسه ولأبيه ولأخيه وبني عمومته أدوارا تليق بوالي الشام!! ثم إنه ليس ملزما بأن يتولى عملية الاختلاق وهنالك المئات الذين يتبرعون للقيام بهذه العملية!!

وهكذا فعل كل الولاة في ولاياتهم، وبهرت هذه الأحاديث التي بثها الولاة حديثي العهد بالإسلام من أهل البلاد المفتوحة، فرووها، وشاعت بينهم ونظروا للولاة كعباقرة، وكصحابة مقدسين!!

وعندما فتح باب التدوين والكتابة عثر العلماء الباحثون عن سنة الرسول على هذا الكنز ” الرسمي ” الجاهز، فكتبوه كله، وأعطوه أهمية خاصة، لأن له طابع الوثاق الرسمية.

فلو قال أحد قادة جيش الشام المعروفين ” أ ابن ب ابن ج ” حدثني كاتب وحي رسول الله معاوية ابن أبي سفيان قال سمعت رسول الله يقول كذا وكذا لكان كافيا، ولكان حديثا صحيحا، إسنادا ومتنا، فمعاوية صحابي ومن العدول حسب القواعد، ” أ ابن ب ابن ج ” عدل وضابط وهو ثقة وعلى صلة دائمة بمعاوية بوصفه القائد الأعلى للجيش فالحديث صحيح ١٠٠ / ثم إن معاوية قد رأى الرسول بالفعل وجلس معه، فما هو وجه الغرابة بهذا الحديث الصحيح!! ويتكرر المثال مع عمرو بن العاص في بلاد مصر، ومع المغيرة بن شعبة والوليد بن عقبة في بلاد العراق… الخ فالإسناد

٣٧٧
صحيح، والرواة ثقة، والمتن جيد، فما الذي يمنع من نسبة هذا الحديث إلى رسول الله!! وما الذي يمنع من وصفه بالصحيح!! لقد كتب العلماء هذا الكنز كله!! 

آل محمد يستحقون ما أصابهم!!!

كذلك فإن بعض أولياء الخلفاء الأول، وأولياء بني أمية وفروا لعلماء الكتابة والتدوين كمية خاصة من الأحاديث التي تبرر تجاهل الخلفاء لمكانة آل محمد وأهل بيته وتجاهل منزلتهم عند الله ورسوله، وتبرر الظلم الذي لحق بهم، والإذلال الذي أصابهم، فوضعوا أحاديث تهز مكانة أهل بيت النبوة، وتبرر الإجراءات التي اتخذها بعض الخلفاء بحقهم جورا وظلما، وتصور أهل بيت النبوة بصورة الطامعين بملك قريش، ومن ينازعون الأمر أهله، وتعطيهم ومن والاهم درجة المواطنة من الدرجة الثانية، وتهبط بمستواهم إلى مستوى الأشخاص العاديين، وتجردهم من امتيازاتهم، فتظهرهم بمظهر أفراد من قبيلة قريش، ولا صلة خاصة لهم برسول الله، وتظهرهم بمظهر الصحابة العاديين، وتأخذ منهم أدوار البطولة التي مارسوها بالفعل، وتعطى هذه الأدوار لأشخاص مغمورين، بينهم وبين البطولة دنيا وفي أحسن الظروف والأحوال تساوي بينهم وبين أعداء الله السابقين، أصحاب التاريخ الأسود، فعلي بن أبي طالب، وجعفر وعقيل هم في أحسن الأحوال صحابة كأبي سفيان ويزيد ومعاوية وابن أبي سرح، وهند صحابية تماما كفاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين!! والأنكى من ذلك أنهم قد جعلوا أبا طالب عم النبي، ومربيه صغيرا، وحاميه وحامي دعوته، وقاهر أعدائه في النار، وجعلوا إمام الكفر، وألد أعداء الله ورسوله، وقائد جبهة الشرك أبا سفيان في الجنة!! إن هذا لهو البلاء المبين!! فأبو طالب في النار بالإجماع، وأبو سفيان في الجنة بالإجماع، ووضعت آلاف الأحاديث لتمرير ذلك، وعندما أخذ العلماء يكتبون ويدونون سنة الرسول

٣٧٨
كانت تلك الأحاديث محفوظة وغضة في الذاكرة، ومسندة، لأن دولة بني أمية قد سقطت للتو، فكتبها العلماء بحذافيرها. 

القلة الصادقة المؤمنة

من المؤكد أن قلة مؤمنة صادقة كانت تعيش في المجتمع، ومن المؤكد أنها قد توارثت الكثير من سنة الرسول الصحيحة، ومن المؤكد أنها قد ساهمت بحركة التدوين، ودونت، ما توارثته من سنة الرسول، وأن الكثير مما لدى هذه القلة، قد تسرب للعلماء، وأن العلماء قد دونوه، ولكن إسهام هذه القلة كان بحجم وجودها في المجتمع محدود التأثير، ومع هذا فإن أهل بيت النبوة والقلة المؤمنة، كانوا عمليا هم المصدر الوحيد لكل الأحاديث الصحيحة.

 

أهل بيت النبوة ومن والاهم

أهل بيت النبوة ومن والاهم لم يتوقفوا عن كتابة وتدوين السنة حال حياة النبي وبعد وفاته، وفي كل الظروف التي مرت بهم، كانوا يتوارثون كتبهم وعلومهم كما يتوارث الناس ذهبهم وفضتهم، ويحافظون عليها كما يحافظون على حياتهم، وكانوا يحثون الناس على كتابة السنة والاحتفاظ بها، وروايتها، ويوم ناشد الخليفة الثاني المسلمين أن يأتوه بكتب السنة المكتوبة لديهم لأنه يريد أن يجمعها وأن يأتوه بالكتب المحفوظة لديهم لأنه يريد أن يقومها، عرفوا مقاصد الخليفة فلم يسلموه شيئا مما عندهم، كان أهل بيت النبوة يمارسون الكتابة والتدوين والرواية سرا، وعندما فتح باب الكتابة والرواية والتدوين أمام الجميع، استفاد أهل بيت النبوة من هذا التطور، فأفاضوا على الناس من العلوم، ما يحتملون فأخذ منهم بعض العلماء ما راق لهم، وكتبوه في ما كتبوا.

 

٣٧٩

الكذابون ” الصالحون “!! يكذبون من أجل الرسول لا عليه!!

لقد مارس الكثير من المسلمين الكذب والوضع على رسول الله ولكن بشكل مستتر ودون أن يعلنوا عن ذلك، إنما أوهموا العلماء بأنهم قد رووا ما سمعوا تماما وانطلى ادعاؤهم على العلماء بالفعل، فكتبوا كل ما رواه الرواة الكاذبون، واحتلت هذه المكذوبات مواقعها في كتب الحديث المدونة. وكان قصد هذا الطراز من الناس الدفاع عن توجه معين يعتقدون أنه التوجه الأصح، لذلك مارسوا الكذب لإثبات صحة التوجه الذي يرونه، ومن المؤكد أنه قد كانت لهذه الطوائف من الناس أسبابها الخاصة لتستحل حتى الكذب على رسول الله!!!

وباستثناء أهل بيت النبوة لم يخل فئة من الفئات التي ذكرناها، من كذابين هان عليهم الكذب على رسول الله لإثبات وجاهة هذا الشئ أو ذاك!! وهذا الطراز من الكذابين لم يحاول تبرير كذبه علنا، أو ممارسة هذا الكذب بصورة علنية إنما كان يظهر الكذب بصورة الصدق، ويمثل دور الصادق في ما يقول، مع أنه في قرارة نفسه يعلم بأنه كاذب.

في ما بعد ظهرت فئة من الناس، لم تر بأسا ولا حرجا من ممارسة الكذب على رسول الله علنا ولكن لغايات ” نبيلة ” وحاولت هذه الفئة أن تبرر كذبها هذا، وأن تحصل على رخصة من رسول الله بإباحة كذبها!!

فقد روي عن أبي هريرة مرفوعا بأن الرسول قد قال: ” إذا حدثتم عني حديثا تعرفونه ولا تنكرونه فصدقوا به، ” قلته أم لم أقله ” فإني أقول ما يعرف ولا ينكر، وإذا حدثتم عني حديثا تنكرونه ولا تعرفونه، فكذبوا به، فإني لا أقول ما ينكر ولا يعرف!! ” (١).

 

 

(١) مشكل الآثار للطحاوي، أضواء على السنة المحمدية ص ١٣٧. 

شاهد أيضاً

الابحاث العرفانية –  السيّد محمّد الحُسين‌ الحسينيّ الطهرانيّ

الابحاث العرفانية –  السيّد محمّد الحُسين‌ الحسينيّ الطهرانيّ کتاب الشمس الساطعة منهج‌ المرحوم‌ القاضي‌ قدّس‌ ...