الرئيسية / بحوث اسلامية / الإحتجاج (ج1) / للطبرسي

الإحتجاج (ج1) / للطبرسي

الإحتجاج (ج1) / الصفحات: ٢٤١ – ٢٦٠

حتى نادى أمير المؤمنين عليه السلام: اقتلوا الجمل فإنه شيطان، وتولى محمد بن أبي بكروعمار بن ياسر رحمة الله عليهما عقره بعد طول دمائه.

وروى الواقدي (١) إن عمار بن ياسر رحمة الله عليه، لما دخل على عائشةفقال كيف رأيت ضرب نبيك على الحق؟ فقالت: استبصرت من أجل أنك غلبتفقال عمار: أنا أشد استبصارا من ذلك. والله لو ضربتمونا حتى تبلغونا سعيفاتهجر لعلمنا أنا على الحق، وأنكم على الباطل. فقالت عائشة: هكذا يخيل إليكيا عمار. أذهبت دينك لابن أبي طالب.

وروي عن الباقر عليه السلام أنه قال: لما كان يوم الجمل وقد رشق هودج عائشةبالنبل قال أمير المؤمنين عليه السلام: والله ما أراني إلا مطلقها فأنشد الله رجلا سمعمن رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: ” يا علي أمر نسائي بيدك من بعدي ” لما قام فشهد؟

فقال: فقام ثلاثة عشر رجلا فيهم بدريان فشهدوا: أنهم سمعوا رسول الله صلى الله عليه وآلهيقول علي بن أبي طالب عليه السلام: ” يا علي أمر نسائي بيدك من بعدي ” قال: فبكتعائشة عند ذلك حتى سمعوا بكاءها فقال علي عليه السلام: لقد أنبأني رسول الله صلى الله عليه وآلهبنبأ فقال: إن الله تعالى يمدك يا علي يوم الجمل بخمسة آلاف من الملائكةمسومين.

(١) أبو عبد الله محمد بن عمر بن واقد المدني كان إماما عالما له التصانيف، والمغازيوفتوح الأمصار، وله كتاب الردة وغير ذلك. تولى القضاء بشرقي بغداد وولاه المأمونالقضاء بعسكر المهدي، وهي المحلة المعروفة بالرصافة بالجانب الشرقي من بغداد عمرهاالمنصور لولده المهدي فنسب إليه. -قال ابن النديم: إن الواقدي كان يتشيع، حسن المذهب، يلزم التقية وهو الذيروى: أن عليا ” ع ” كان من معجزات النبي ” ص ” كالعصا لموسى ” ع ” وإحياءالموتى لعيسى بن مريم. -ولد سنة ” ١٣٠ ” وتوفي سنة ” ٢٠٧ ” وصلى عليه محمد بن سماعة، ودفن بمقابر خيزرانعن الكنى والألقاب للقمي ج ٣ ص ٢٣٠ – ٢٣٣

٢٤١

وروي عن ابن عباس (١) قال لأمير المؤمنين عليه السلام حين أبت عائشة الرجوعدعها في البصرة ولا ترحلها فقال علي عليه السلام: أنها لا تألوا شرا، ولكني أردهاإلى بيتها.

وروى محمد بن إسحاق (٢) أن عائشة لما وصلت إلى المدينة راجعة من البصرةلم تزل تحرض الناس على أمير المؤمنين، وكتبت إلى معاوية وأهل الشام، معالأسود بن البختري، تحرضهم عليه عليه السلام.

وروي أن عمرو بن العاص قال لعائشة: لوددت أنك قتلت يوم الجمل فقالتولم لا أبا لك؟ قال: كنت تموتين بأجلك وتدخلين الجنة، ونجعلك أكثر للتشنيععلى علي عليه السلام.

 

* * *

احتجاج أم سلمة (رض) (٣) زوجة رسول الله على عائشة في الإنكارعليها بخروجها على علي أمير المؤمنين (ع).

(١) عبد الله بن العباس من أصحاب رسول الله ” ص ” كان محبا لعلي ” ع “وتلميذه، حاله في الجلالة والإخلاص لأمير المؤمنين ” ع ” أشهر من أن يخفى، وقد ذكرالكشي أحاديث تتضمن قدحا فيه، وهو أجل من ذلك، وقد ذكرناها في كتابنا الكبيروأجبنا عليها رضي الله تعالى عنه. خلاصة العلامة ص ١٠٢

(٢) محمد بن إسحاق أخو يزيد شعر – بالشين المعجمة والعين المهملة والراء -روى الكشي عن حمدويه عن الحسن بن موسى قال: حدثني يزيد بن إسحاق شعر:

أن محمدا أخاه كان يقول بحياة الكاظم ” ع ” فدعا له الرضا عليه السلام حتى قال بالحقخلاصة العلامة ص ١٥١

(٣) أم المؤمنين أم سلمة: بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله عمر بن مخزومالقرشية المخزومية، وأمها عاتكة بنت عبد المطلب زوج النبي ” ص ” واسمها هند، وكانأبوها يعرف بزاد الركب، من المهاجرات إلى الحبشة، وإلى المدينة.

وكانت مستودعة لبعض الوصايا وميراث النبوة وكان عندها البساط الذي سار به

=>

٢٤٢

روى الشعبي (١) عن عبد الرحمن بن مسعود العبدي (٢) قال كنت بمكةمع عبد الله بن الزبير وطلحة والزبير فأرسلا عبد الله بن الزبير فقالا له: إن عثمان

<=

أمير المؤمنين إلى أصحاب الكهف. ولما سار أمير المؤمنين ” ع ” إلى الكوفة أستودعهاكتبه والوصية، فلما رجع الحسن ” ع ” دفعتها إليه. ولما توجه الحسين ” ع ” إلى العراقأستودعها كتبه والوصية وأوصاها أن تدفعها إلى علي بن الحسين ففعلت.

وفي الدر النظيم للشيخ جمال الدين يوسف بن حاتم الشامي قال بعد خطبة لفاطمة ” ع “وكلام أبي بكر فقالت أم سلمة رضي الله عنها، حيث سمعت ما جرى لفاطمة ” ع ” المثلفاطمة بنت رسول الله ” ص ” يقال هذا القول؟!

هي والله الحوراء بين الإنس، والنفس للنفس، ربيت في حجور الأتقياء،وتناولتها أيدي الملائكة، ونمت في حجور الطاهرات، ونشأت خير نشأ، وربيت خيرمربى، أتزعمون أن رسول الله ” ص ” حرم عليها ميراثه ولم يعلمها، وقد قال الله تعالى” وانذر عشيرتك الأقربين ” أفأنذرها وخالفت متطلبه وهي خيرة النسوان، وأم سادةالشبان، وعديلة ابنة عمران، تمت بأبيها رسالات ربه، فوالله لقد كان يشفق عليها منالحر والقر، ويوسدها يمينه، ويلحفها بشماله، رويدا ورسول الله ” ص ” بمرأىمنكم! وعلى الله تردون واها لكم فسوف تعلمون! قال: فحرمت أم سلمة عطاهاتلك السنة.

نعم وفي بيتها نزلت آية التطهير.

وهي آخر من مات من نساء النبي ” ص ” ماتت في زمن يزيد سنة ” ٦٣ “راجع أسد الغابة ج ٥ ص ٥٨٨ سفينة البحار ج ١ ص ٦٤٢ – ٦٤٣.

(١) الشعبي – بفتح الأول وسكون الثاني – أبو عمر عامر بن شراحيل الكوفي،ينسب إلى شعب بطن من همدان. يعد من كبار التابعين وجلتهم، وكان فقيها شاعرا.

روى عن خمسين ومائة من أصحاب رسول الله ” ص ” كذا عن السمعاني. مات فجأةبالكوفة سنة ١٠٤ ويظهر من ابن خلكان أن الشعبي كان قاضيا على الكوفة.

الكنى والألقاب ج ٢ ص ٣٢٧ – ٣٢٨

(٢) صحابي مجهول.

٢٤٣

قتل مظلوما، وإنا نخاف أمر أمة محمد صلى الله عليه وآله أن يختل، فإن رأت عائشة أن تخرجمعنا لعل الله أن يرتق بها فتقا ويشعب بها صدعا.

فخرجنا نمشي حتى انتهينا إليها فدخل عبد الله بن الزبير في سترها وجلستعلى الباب فأبلغها ما أرسلا به إليها فقالت: سبحان الله ما أمرت بالخروج، وماتحضرني من أمهات المؤمنين إلا أم سلمة فإن خرجت، خرجت معها.

فرجع إليهما فبلغهما ذلك فقالا: ارجع إليها فلتأتها فهي أثقل عليها منا،فرجع إليها فبلغها، فأقبلت حتى دخلت على أم سلمة فقالت: أم سلمة مرحبابعائشة، والله ما كنت لي بزوارة فما بدا لك؟ قالت: قدم طلحة والزبير فخبرا أنأمير المؤمنين عثمان قتل مظلوما. فصرخت أم سلمة صرخة أسمعت من في الدارفقالت يا عائشة بالأمس أنت تشهدين عليه بالكفر، وهو اليوم أمير المؤمنين قتلمظلوما! فما تريدين؟ قالت: تخرجين معنا فعل الله أن يصلح بخروجنا أمرأمة محمد صلى الله عليه وآله قالت: يا عائشة تخرجين وقد سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله ما سمعنا؟!

نشدتك بالله يا عائشة الذي يعلم صدقك إن صدقت أتذكرين يوما كاننوبتك من رسول الله صلى الله عليه وآله، فصنعت حريرة في بيتي فأتيته بها وهو صلى الله عليه وآله يقول:

والله لا يذهب الليالي والأيام حتى تتنابح كلاب ماء بالعراق يقال له: ” الحوأب “امرأة من نسائي في فئة باغية، فسقط الإناء من يدي، فرفع رأسه إلي وقال: مابالك يا أم سلمة؟ فقلت: يا رسول الله صلى الله عليه وآله ألا يسقط الإناء من يدي وأنت تقولما تقول ما يؤمنني أن أكون هي أنا؟! فضحكت أنت فالتفت إليك فقال صلى الله عليه وآله مماتضحكين يا حميراء الساقين؟ إني أحسبك هيه.

ونشدتك بالله يا عائشة أتذكرين ليلة أسري بنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله منمكان كذا وكذا وهو بيني وبين علي بن أبي طالب عليه السلام يحدثنا، فأدخلت جملكفحال بينه وبين علي فرفع مقرعة كانت معه يضرب بها وجه جملك قال: أما واللهما يومه منك بواحدة، أما إنه لا يبغضه إلا منافق كذاب؟ وأنشدك بالله أتذكرينمرض رسول الله صلى الله عليه وآله الذي قبض فيه فأتاه أبوك يعوده ومعه عمر. وقد كان علي

٢٤٤

ابن أبي طالب عليه السلام يتعاهد ثوب رسول الله صلى الله عليه وآله ونعله وخفه ويصلح ما وهي منهافدخل قبل ذلك فأخذ نعل رسول الله وهي حضرمية فهو يخصفها خلف البيت،فاستأذنا عليه فأذن لهما، فقالا: يا رسول الله كيف أصبحت؟ قال أصبحت أحمدالله، قالا: لا بد من الموت، قال: أجل لا بد من الموت، قالا: يا رسول الله فهلاستخلفت أحدا قال: ما خليفتي فيكم إلا خاصف النعل فخرجا فمرا على علي بنأبي طالب عليه السلام وهو يخصف نعل رسول الله صلى الله عليه وآله، كل ذلك تعرفينه يا عائشةوتشهدين عليه، ثم قالت أم سلمة يا عائشة أنا أخرج على علي بعد الذي سمعته منرسول الله صلى الله عليه وآله؟! فرجعت عائشة إلى منزلها فقالت يا بن الزبير أبلغهما أني لستبخارجة من بعد الذي سمعت من أم سلمة، فرجع فبلغهما قال: فما انتصف الليلحتى سمعت رغاء إبلهما ترتحل فارتحلت معهما.

وروي عن الصادق عليه السلام أنه قال دخلت أم سلمة بنت أبي أمية على عائشة لماأزمعت الخروج إلى البصرة فحمدت الله وصلت على النبي صلى الله عليه وآله ثم قالت: يا هذه إنكسدة بين رسول الله وبين أمته، وحجابه عليك مضروب وعلى حرمته، وقد جمعالقرآن ذيلك فلا تندحيه (١) وضم ظفرك فلا تنشريه، وشد عقيرتك فلا تصحريها (٢)إن الله من وراء هذه الأمة وقد علم رسول الله مكانك لو أراد أن يعهد إليك فعلبل نهى عن الفرطة في البلاد (٣) إن عمود الدين لن يثاب بالنساء إن مال (٤)ولا يرأب بهن إن انصدع (٥)، جمال النساء غض الأطراف، وضم الذيول والأعطافوما كنت قائلة لو أن رسول الله صلى الله عليه وآله عارضك في بعض هذه الفلوات وأنت ناصةقعودا من منهل إلى منهل، ومنزل إلى منزل، ولغير الله مهواك، وعلى رسول الله

(١) أي لا توسعيه وتنشريه.

(٢) العقيرة: الصوت. وصحر الحمار: نهق.

(٣) الفرطة: بالضم الخروج والتقدم يقال: (فلان ذو فرطة في البلاد) أيأسفار كثيرة.

(٤) ثاب: رجع بعد ذهابه.

(٥) رأب الصدع: أصلحه.

٢٤٥

تردين، وقد هتكت عنك سجافه، ونكثت عهده، وبالله أحلف أن لو سرت مسيركثم قيل لي ادخلي الفردوس لاستحييت من رسول الله أن ألقاه هاتكة حجابا ضربهعلي فاتقي الله، واجعليه حصنا، وقاعة الستر منزلا، حتى تلقيه. إن أطوع ماتكونين لربك ما قصرت عنه، وأنصح ما تكونين لله ما لزمته، وأنصر ما تكونينللدين ما قعدت عنه، وبالله أحلف لو حدثتك بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآلهلنهشتني نهش الرقشاء المطرقة (١). فقالت لها عائشة ما أعرفني بموعظتك،وأقبلني نصحك، ليس مسيري على ما تظنين، ما أنا بالمغترة، ولنعم المطلعتطلعت فيه، فرقت بين فئتين متشاجرتين، فإن أقعد ففي غير حرج، وإن أخرجففي ما لا غنى بي عنه من الازدياد في الأجرة، قال الصادق عليه السلام فلما كان منندمها أخذت أم سلمة تقول:

 

لو كان معتصما من زلة أحد * كانت لعائشة الرتبى على الناس
من زوجة لرسول الله فاضلة * وذكر آي من القرآن مدراس
وحكمة لم تكن إلا لها جسها * في الصدر يذهب عنها كل وسواس
يستنزع الله من قوم عقولهم * حتى يمر الذي يقضي على الرأس
ويرحم الله أم المؤمنين لقد * تبدلت لي إيحاشا بإيناس

فقالت لها عائشة: شتمتني يا أخت. فقالت أم سلمة: ولكن الفتنة إذاأقبلت غضت عيني البصير، وإذا أدبرت أبصرها العاقل والجاهل.

 

* * *

(١) الرقشاء: من الحياة المنقطة بسواد وبياض. وفي المثل ” نهشني نهشالرقشاء المطرق “.

٢٤٦

احتجاج أمير المؤمنين (ع) بعد دخوله البصرة بأيام على من قال منأصحابه إنه ما قسم الفيئ فينا بالسوية ولا عدل في الرعية وغير ذلك منالمسائل التي سئل عنها في خطبة خطبها.

روى يحيى بن (١) عبد الله بن الحسن عن أبيه عبد الله بن الحسن قالكان أمير المؤمنين عليه السلام يخطب بالبصرة بعد دخوله بأيام فقام إليه رجل فقال:

يا أمير المؤمنين أخبرني من أهل الجماعة، ومن أهل الفرقة، ومن أهل البدعةومن أهل السنة؟

فقال: ويحك أما إذا سألتني فافهم عني ولا عليك أن تسئل عنها أحدا بعديأما أهل الجماعة فأنا ومن اتبعني وإن قلوا، وذلك الحق عن أمر الله تعالى وعنأمر رسوله، وأهل الفرقة المخالفون لي ولمن اتبعني وإن كثروا، وأما أهل السنةفالمتمسكون بما سنه الله لهم ورسوله وإن قلوا، وأما أهل البدعة فالمخالفون لأمرالله ولكتابه ولرسوله، العاملون برأيهم وأهوائهم وإن كثروا، وقد مضى منهمالفوج الأول وبقيت أفواج، وعلى الله قبضها واستيصالها عن جدد الأرض.

فقام إليه عمار فقال: يا أمير المؤمنين إن الناس يذكرون الفيئ ويزعمونأن من قاتلنا فهو وماله وولده فيئ لنا.

فقام إليه رجل من بكر بن وائل، يدعى عباد بن قيس، وكان ذا عارضةولسان شديد. فقال: يا أمير المؤمنين والله ما قسمت بالسوية، ولا عدلت بالرعية.

فقال: ولم ويحك؟!

قال لأنك قسمت ما في العسكر وتركت الأموال والنساء والذرية.

فقال: أيها الناس من كانت به جراحة فليداوها بالسمن.

فقال عباد: جئنا نطلب غنائمنا فجاءنا بالترهات فقال له أمير المؤمنين عليه السلامإن كنت كاذبا فلا أماتك الله حتى يدركك غلام ثقيف، قيل: ومن غلام ثقيف؟

(١) راجع هامش ص ١٥٤.

٢٤٧

فقال: رجل لا يدع لله حرمة إلا انتهكها فقيل أفيموت أو يقتل؟ فقال: يقصمهقاصم الجبارين بموت فاحش يحترق منه دبره لكثرة ما يجري من بطنه، يا أخابكر أنت امرء ضعيف الرأي، أو ما علمت أنا لا نأخذ الصغير بذنب الكبير، وأنالأموال كانت لهم قبل الفرقة، وتزوجوا على رشدة، وولدوا على فطرة، وإنمالكم ما حوى عسكركم، وما كان في دورهم فهو ميراث. فإن عدا أحد منهم أخذناهبذنبه، وإن كف عنا لم نحمل عليه ذنب غيره، يا أخا بكر لقد حكمت فيهم بحكمرسول الله صلى الله عليه وآله في أهل مكة، فقسم ما حوى العسكر، ولم يتعرض لما سوى ذلكوإنما اتبعت أثره حذو النعل بالنعل، يا أخا بكر أما علمت أن دار الحرب يحلما فيها، وأن دار الهجرة يحرم ما فيها إلا بالحق، فمهلا مهلا رحمكم الله فإن لمتصدقوني وأكثرتم علي – وذلك إنه تكلم في هذا غير واحد – فأيكم يأخذ عائشةبسهمه؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين أصبت وأخطأنا، وعلمت وجهلنا، فنحن نستغفرالله تعالى، ونادى الناس من كل جانب: أصبت يا أمير المؤمنين، أصاب الله بكالرشاد، والسداد، فقام عباد فقال:

أيها الناس إنكم والله لو اتبعتموه وأطعتموه لن يضل بكم عن منهل نبيكمحتى قيس شعرة، وكيف لا يكون ذلك وقد استودعه رسول الله صلى الله عليه وآله علم المناياوالقضايا وفصل الخطاب على منهاج هارون وقال له: أنت مني بمنزلة هارون منموسى إلا أنه لا نبي بعدي فضلا خصه الله به وإكراما منه لنبيه صلى الله عليه وآله حيث أعطاهما لم يعط أحدا من خلقه.

ثم قال أمير المؤمنين عليه السلام: انظروا رحمكم الله ما تؤمرون فامضوا له، فإنالعالم أعلم بما يأتي به من الجاهل الخسيس الأخس، فإني حاملكم إنشاء الله إن أطعتمونيعلى سبيل النجاة، وإن كان فيه مشقة شديدة، ومرارة عديدة. والدنيا حلوةالحلاوة لمن اغتر بها من الشقاوة والندامة عما قليل. ثم إني أخبركم أن جيلا منبني إسرائيل أمرهم نبيهم أن لا يشربوا من النهر فلجوا في ترك أمره فشربوا منهإلا قليل منهم، فكونوا رحمكم الله من أولئك الذين أطاعوا نبيهم ولم يعصوا ربهم

٢٤٨

وأما عائشة فأدركها رأي النساء، ولها بعد ذلك حرمتها الأولى والحساب على اللهيعفو عمن يشاء، ويعذب من يشاء.

عن الأصبغ بن نباتة (١) قال: كنت واقفا مع أمير المؤمنين عليه السلام يومالجمل فجاء رجل حتى وقف بين يديه فقال يا أمير المؤمنين كبر القوم وكبرنا،وهلل القوم وهللنا، وصلى القوم وصلينا، فعلى ما تقاتلهم؟ فقال أمير المؤمنين عليه السلامعلى ما أنزل الله جل ذكره في كتابه. فقال: يا أمير المؤمنين ليس كل ما أنزلالله في كتابه أعلمه فعلمنيه. فقال علي عليه السلام: ما أنزل الله في سورة البقرة. فقاليا أمير المؤمنين ليس كل ما أنزل الله في سورة البقرة أعلمه فعلمنيه. فقال علي عليه السلام

(١) الأصبغ بن نباتة – بضم النون – المجاشعي الحنظلي كان من خاصة أمير المؤمنينومن ذخائره وقد بايعه على الموت.

وكان من ثقاته ” ع ” روى أنه دعا يوما كاتبه عبيد الله بن أبي رافع فقال، أدخلعشرة من ثقاتي! فقال: سمهم يا أمير المؤمنين فسماه في أولهموكان رحمه الله من فرسان أهل العراق، وكان يوم صفين على شرطة الخميس،وقال لأمير المؤمنين ” ع “: قدمني في البقية من الناس فإنك لا تفقد لي اليوم صبراولا نصرا، قال عليه السلام: ” تقدم باسم الله والبركة ” وأخذ رايته وسيفه، فمضىبالراية مرتجزا فرجع وقد خضب سيفه ورمحه دما، وكان إذا لقى القوم لا يغمد سيفهوكان شيخا ناسكا عابدا، قال: كنت أركع عند باب أمير المؤمنين ” ع ” وأناأدعو الله عز وجل إذ خرج أمير المؤمنين ” ع ” فقال: ” يا أصبغ! ” قلت: ” لبيك “قال: ” أي شئ كنت تصنع؟ ” قلت: ” ركعت وأنا أدعو الله ” قال: ” أفلا أعلمكدعاءا سمعته من رسول الله ” ص “؟ ” قلت بلى. قال: قل: ” الحمد لله على ما كان والحمدلله على كل حال ” ثم ضرب بيده اليمنى على منكبي الأيسر وقال: ” يا أصبغ لئن ثبتتقدمك، وتمت ولايتك، وانبسطت يدك، فالله أرحم بك من نفسكروى عن أمير المؤمنين عليه السلام عهده للأشتر ووصيته لمحمد بن الحنفية، وعمر بعدأمير المؤمنين عليه السلام ومات مشكورا.

رجال الطوسي ص ٣٤، رجال العلامة ص ٢٤، سفينة البحار ج ٢ ص ٧، ٨، ١٠

٢٤٩

هذه الآية: ” تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهمدرجات وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتلالذين من بعدهم من بعدما جائتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهممن كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد (١) ” فنحن الذين آمناوهم الذين كفروا. فقال الرجل: كفر القوم ورب الكعبة. ثم حمل فقاتل حتىقتل رحمه الله.

عن المبارك بن فضالة عن رجل ذكره قال أتى رجل أمير المؤمنين عليه السلامبعد الجمل، فقال: يا أمير المؤمنين رأيت في هذه الواقعة أمرا هالني من روح قدبانت وجثة قد زالت، ونفس قد فأتت، لا أعرف فيهم مشركا بالله تعالى، فاللهالله مما يجللني من هذا إن يك شرا فهذا نتلقى بالتوبة، وإن يك خيرا ازددنا منهأخبرني عن أمرك هذا الذي أنت عليه، أفتنة عرضت لك فأنت تنفع الناس بسيفك (٢)أم شئ خصك به رسول الله؟.

فقال عليه السلام: إذن أخبرك، إذن أنبئك، إذن أحدثك، إن ناسا من المشركينأتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وأسلموا، ثم قالوا لأبي بكر: استأذن لنا على رسول الله صلى الله عليه وآلهحتى نأتي قومنا فنأخذ أموالنا ثم نرجع. فدخل أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه وآلهفاستأذن لهم، فقال، عمر: يا رسول الله أنرجع من الإسلام إلى الكفر؟ فقال: وماعلمك يا عمران ينطلقوا فيأتوا بمثلهم معهم من قومهم، ثم إنهم أتوا أبا بكر في العامالمقبل فسألوه أن يستأذن لهم على النبي فاستأذن لهم، وعنده عمر فقال: مثل قولهفغضب رسول الله صلى الله عليه وآله ثم قال: والله ما أراكم تنتهون حتى يبعث الله عليكم رجلامن قريش يدعوكم إلى الله فتختلفون عنه اختلاف الغنم الشرود، فقال له أبو بكرفداك أبي وأمي يا رسول الله أنا هو؟ قال: لا. قال عمر: فمن هو يا رسول الله؟ فأومىإلي وأنا أخصف نعل رسول الله صلى الله عليه وآله وقال: ” هو خاصف النعل عندكما، ابن

(١) البقرة: ٢٥٣.

(٢) أي تأخذهم بطرف سيفك من بعيد.

٢٥٠

عمي، وأخي، وصاحبي، ومبرئ ذمتي، والمؤدي عني ديني، وعداتي، والمبلغ عنيرسالاتي، ومعلم الناس من بعدي، ومبينهم من تأويل القرآن ما لا يعلمون ” فقالالرجل: اكتفي منك بهذا يا أمير المؤمنين ما بقيت. فكان ذلك الرجل أشد أصحابعلي عليه السلام فيما بعد على من خالفه.

عن ابن عباس رضي الله عنه قال لما فرغ علي عليه السلام من قتال أهل البصرةوضع قتبا على قتب (١) ثم صعد عليه فخطب، فحمد الله وأثنى عليه فقال:

يا أهل البصرة، يا أهل المؤتفكة (٢) يا أهل الداء العضال (٣)، أتباعالبهيمة (٤)، يا جند المرأة (٥) رغا فأجبتم (٦) وعقر فهربتم، ماءكم زعاق (٧)ودينكم نفاق، وأخلاقكم دقاق. ثم نزل يمشي بعد فراغه من خطبته فمشينا معهفمر بالحسن البصري وهو يتوضأ فقال: يا حسن أسبغ الوضوء. فقال: يا أمير المؤمنينلقد قتلت بالأمس أناسا يشهدون أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبدهورسوله، يصلون الخمس، ويسبغون الوضوء. فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: قد كانما رأيت فما منعك أن تعين علينا عدونا. فقال: والله لأصدقنك يا أمير المؤمنين لقدخرجت في أول يوم فاغتسلت وتحنطت وصببت علي سلاحي وأنا لا أشك في أنالتخلف عن أم المؤمنين عائشة هو الكفر، فلما انتهيت إلى موضع من الخريبةناداني مناد: ” يا حسن إلى أين أرجع فإن القاتل والمقتول في النار ” فرجعت ذعرا

(١) القتب – بالتحريك – رحل البعير.

(٢) المؤتفكة: المنقلبة قال تعالى – في قرى قوم لوط التي انقلبت بأهلها -:

والمؤتفكة أهوى، وفي الحديث البصرة إحدى المؤتفكات.

(٣) الداء العضال – بعين مضمومة -: المرض الصعب الشديد الذي يعجز عنهالطبيب.

(٤) يريد: الجمل الذي ركبته عائشة.

(٥) يريد: عائشة.

(٦) رغا فأجبتم أي الجمل رغا والرغاء – كغراب -: صوت ذوات الخف وقدرغا البعير يرغو رغاءا إذا ضج ورغت الناقة صوتت فهي راغية.

(٧) الزعاق – كغراب -: الماء المر الغليظ الذي لا يطاق شربه.

٢٥١

وجلست في بيتي، فلما كان في اليوم الثاني لم أشك أن التخلف عن أم المؤمنينعائشة هو الكفر، فتحنطت، وصببت علي سلاحي وخرجت أريد القتات، حتى أنهيتإلى موضع من الخريبة فناداني مناد من خلفي: ” يا حسن إلى أين مرة بعد أخرىفإن القاتل والمقتول في النار ” قال علي عليه السلام: صدقك أفتدري من ذلك المنادي؟

قال: لا. قال عليه السلام: ذلك أخوك إبليس، وصدقك أن القاتل والمقتول منهم (١)في النار، فقال الحسن البصري الآن عرفت يا أمير المؤمنين أن القوم هلكى.

وعن أبي يحيى الواسطي (٢) قال: لما افتتح أمير المؤمنين عليه السلام اجتمعالناس عليه وفيهم الحسن البصري ومعه الألواح، فكان كلما لفظ أمير المؤمنين عليه السلامبكلمة كتبها، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام – بأعلى صوته – ما تصنع؟ فقال نكتبآثاركم لنحدث بها بعدكم، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: أما أن لكل قوم سامريوهذا سامري هذه الأمة، أما إنه لا يقول لا مساس ولكن يقول لا قتال.

 

* * *

احتجاجه (ع) على قومه في الحث على المسير إلى الشام لقتال معاويةوفيما أخذ عليهم من العهد والميثاق بالطاعة له حال بيعتهم إياه.

روي أنه عليه السلام لما عزم على المسير إلى الشام لقتال معاوية قال – بعد حمدالله والثناء عليه والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله -: اتقوا الله عباد الله وأطيعوه، وأطيعواإمامكم، فإن الرعية الصالحة تنجو بالإمام العادل، ألا وإن الرعية الفاجرة تهلكبالإمام الفاجر، وقد أصبح معاوية غاصبا لما في يديه من حقي، ناكثا لبيعتي،

(١) أي القاتل والمقتول من أصحاب الجمل في النار

(٢) أبو يحيى الواسطي واسمه سهيل بن زياد الواسطي له كتاب.

لقى أبا محمد العسكري أمه بنت محمد بن نعمان أبي جعفر الأحول الملقب بمؤمنالطاق المتكلم المشهور.

رجال الشيخ ص ٤٧٦ رجال النجاشي ص ١٣٧

٢٥٢

طاغيا في دين الله عز وجل، وقد علمتم أيها المسلمون ما فعل الناس بالأمس،فجئتموني راغبين إلي في أمركم، حتى استخرجتموني من منزلي لتبايعوني،فالتويت عليكم لأبلو (١) ما عندكم فراددتموني القول مرارا وراددتكم، وتداككتمعلي تداك الإبل الهيم على حياضها حرصا على بيعتي، حتى خفت أن يقتل بعضكمبعضا، فلما رأيت ذلك منكم رويت في أمركم وأمري، وقلت إن أنا لم أجبهم إلىالقيام بأمرهم لم يصيبوا أحدا منهم يقوم فيهم مقامي ويعدل فيهم عدلي، وقلت واللهلا ليتهم وهم يعلمون حقي وفضلي أحب إلي من أن يلوني وهم لا يعرفون حقيوفضلي، فبسطت لكم يدي فبايعتموني يا معشر المسلمين، وفيكم المهاجرونوالأنصار، والتابعون بإحسان، فأخذت عليكم عهد بيعتي، وواجب صفقتي، عهدالله وميثاقه، وأشد ما أخذ على النبيين من عهد وميثاق، لتقرن لي، ولتسمعنلأمري، ولتطيعوني، وتناصحوني، وتقاتلون معي كل باغ علي أو مارق إنمرق، فأنعمتم لي بذلك جميعا، وأخذت عليكم عهد الله وميثاقه، وذمة الله وذمةرسوله، فأجبتموني إلى ذلك جميعا، وأشهدت الله عليكم، وأشهدت بعضكم علىبعض، فقمت فيكم بكتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وآله، فالعجب من معاوية بن أبيسفيان ينازعني الخلافة، ويجحد لي الإمامة، ويزعم أنه أحق بها مني، جرأة منهعلى الله وعلى رسول الله صلى لله عليه وآله، بغير حق له فيها ولا حجة، ولم يبايعه المهاجرونولا سلم له الأنصار والمسلمون.

يا معشر المهاجرين والأنصار وجماعة من سمع كلامي، أما أوجبتم لي علىأنفسكم الطاعة، أما بايعتموني على الرغبة، أما أخذت عليكم العهد بالقبول لقولي؟

أما بيعتي لكم يومئذ أوكد من بيعة أبي بكر وعمر، فما بال من خالفني لم ينقضعليهما حتى مضيا ونقض علي ولم يف لي؟! أما يجب عليكم نصحي ويلزمكمأمري؟ أما تعلمون أن بيعتي يلزم الشاهد منكم والغائب؟ فما بال معاية وأصحابهطاغون في بيعتي؟ ولم لم يفوا لي وأنا في قرابتي وسابقتي وصهري أولى بالأمر ممن

(١) أي لأختبر ما عندكم.

٢٥٣

تقدمني؟ أما سمعتم قول رسول الله صلى الله عليه وآله يوم الغدير في ولايتي وموالاتي؟

فاتقوا الله أيها المسلمون وتحاثوا على جهاد معاوية القاسط الناكث، وأصحابهالقاسطين الناكثين، اسمعوا ما اتلوا عليكم من كتاب الله المنزل، على نبيه المرسللتتعظوا، فإنه والله أبلغ عظة لكم، فانتفعوا بموعظة الله، وازدجروا عن معاصيالله، فقد وعظكم الله بغيركم فقال لنبيه صلى الله عليه وآله: ” ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيلمن بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتمأن كتب عليكم القتال أن لا تقاتلوا قالوا وما لنا لا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنامن ديارنا وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين (١) “وقال لهم نبيهم: ” إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك عليناونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزادهبسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم (٢) ” أيها الناسإن لكم في هذه الآيات عبرة، لتعلموا أن الله جعل الخلافة والأمرة من بعدالأنبياء في أعقابهم، وأنه فضل طالوت وقدمه على الجماعة باصطفائه إياه، وزيادةبسطه في العلم والجسم، فهل تجدون أن الله اصطفى بني أمية على بني هاشم، وزادمعاوية علي بسطة في العلم والجسم.

واتقوا الله عباد الله وجاهدوا في سبيله قبل أن ينالكم سخطه بعصيانكم لهقال الله سبحانه: ” لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بنمريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ماكانوا يعملون إنما المؤمنين الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهموأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون (٣) ” وقال سبحانه: ” يا أيها الذينآمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدونفي سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون يغفر لكم ذبوبكم

(١) البقرة: ٢٤٦

(٢) البقرة: ٢٤٧

(٣) المائدة: ٧٨

٢٥٤

ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوزالعظيم (١) “.

اتقوا الله عباد الله وتحاثوا على الجهاد مع إمامكم فلو كان لي منكم عصابةبعدد أهل بدر إذا أمرتهم أطاعوني وإذا استنهضتهم نهضوا معي لاستغنيت بهم عنكثير منكم، وأسرعت النهوض إلى حرب معاوية وأصحابه فإنه الجهاد المفروض.

ومن كلامه عليه السلام يجري مجرى الاحتجاج مشتملا على التوبيخ لأصحابهعلى تثاقلهم عن قتال معاوية والتفنيد متضمنا اللوم والوعيد.

أيها الناس إني استنفرتكم لجهاد هؤلاء فلم تنفروا (٢) وأسمعتكم فلمتجيبوا، ونصحت لكم فلم تقبلوا، شهودا بالغيب (٣) اتلوا عليكم الحكمةفتعرضون عنها، وأعظكم بالموعظة البالغة فتنفرون عنها، كأنكم حمر مستنفرةفرت من قسورة، وأحثكم على جهاد أهل الجور فما آتي على آخر قولي حتىأراكم متفرقين أيادي سبا، ترجعون إلى مجالسكم تتربعون حلقا، تضربون الأمثالوتنشدون الأشعار، وتجسسون الأخبار، حتى إذا تفرقتم تسألون عن الأخبار جهلامن غير علم، وغفلة من غير ورع، وتتبعا من غير خوف، ونسيتم الحرب والاستعدادلها، فأصبحت قلوبكم فارغة من ذكرها، شغلتموها بالأعاليل والأضاليل، فالعجبكل العجب، وكيف لا أعجب من اجتماع قوم على باطلهم، وتخاذلكم عن حقكميا أهل الكوفة أنتم كأم مخالد حملت فأملصت (٤) فمات قيمها وطالأيمها (٥) وورثها أبعدها، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إن من ورائكم الأغبرالأدبر جهنم الدنيا لا تبقي ولا تذر، ومن بعده النهاش الفراس، الجموع المنوعثم ليتوارثنكم من بني أمية عدة ما الآخر منهم بارق بكم من الأول، ما خلا

(١) الصف: ١٠

(٢) النفر الخروج إلى الغزو وأصله الفزع.

(٣) الشهود: الحضور.

(٤) أملصت المرأة: أسقطت.

(٥) الأيم: التي مات زوجها.

٢٥٥

٢٥٦

وإمام أهل الشام يعصي الله وهم يطيعونه، والله لوددت أن معاوية صارفني بكم صرفالدينار بالدرهم، فأخذ مني عشرة منكم وأعطاني واحدا منهم، والله لوددت أنيلم أعرفكم، ولم تعرفوني، فإنها معرفة جرت ندما لقد ورثتم صدري غيظا،وأفسدتم علي أمري بالخذلان والعصيان، حتى لقد قالت قريش إن عليا رجلشجاع لكن لا علم له بالحروب، لله درهم هل كان فيهم أحد أطول لها مراسا منيوأشد بها مقاساة (١) لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين، ثم هاأنا ذا قد ذرفتعلى الستين، لكن لا أمر لمن لا يطاع، أما والله لوددت أن ربي قد أخرجني منبين أظهركم إلى رضوانه، وإن المنية لترصدني فما يمنع أشقاها أن يخضبها؟ – وتركيده على رأسه ولحيته – عهدا عهده إلي النبي الأمي وقد خاب من افترى، ونجامن اتقى وصدق بالحسنى.

يا أهل الكوفة قد دعوتكم إلى جهاد هؤلاء ليلا ونهارا، وسرا وإعلانا، وقلتلكم اغزوهم فإنه ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا، فتواكلتم (٢) وتخاذلتموثقل عليكم قولي، واستصعب عليكم أمري، واتخذتموه ورائكم ظهريا، حتىشنت عليكم الغارات، وظهرت فيكم الفواحش والمنكرات، تمسيكم وتصبحكم،كما فعل بأهل المثلات من قبلكم، حيث أخبر الله عز وجل عن الجبابرة العتاةالطغاة، المستصعفين الغوات، في قوله تعالى: ” يذبحون أبنائكم ويستحيون نسائكموفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم (٣) ” أما والذي فلق الحبة وبرئ النسمة لقدحل بكم الذي توعدون.

عاتبتكم يا أهل الكوفة بمواعظ القرآن فلم أنتفع بكم، وأدبتكم بالدرة فلمتستقيموا لي، وعاقبتكم بالسوط الذي يقام به الحدود فلم ترعووا، ولقد علمت أن

(١) أي: أطول ممارسة وأشد معالجة.

(٢) أي أحال كل منكم الأمر إلى صاحبه ووكله إليه ولم يتوله أحد منكم.

(٣) البقرة: ٤٩.

٢٥٧

الذي يصلحكم هو السيف، وما كنت متحريا صلاحكم بفساد نفسي (١) ولكنسيسلط عليك سلطان صعب، لا يوقر كبيركم، ولا يرحم صغيركم، ولا يكرمعالمكم، ولا يقسم الفيئ بالسوية بينكم، وليضربنكم، وليذلنكم، وليجرنكم فيالمغازي، وليقطعن سبلكم، وليجمعنكم على بابه، حتى يأكل قويكم ضعيفكمثم لا يبعد الله من ظلم، ولقل ما أدبر شئ فأقبل، وإني لأظنكم على فترة،وما علي إلا النصح لكم.

يا أهل الكوفة منيت منكم بثلاث واثنتين (٢) صم ذووا أسماع، وبكم ذوواألسن، وعمي ذووا أبصار، لا إخوان صدق عند اللقاء، ولا إخوان ثقة عند البلاء.

اللهم إني قد مللتهم وملوني، وسئمتهم وسئموني (٣) اللهم لا ترض عنهمأميرا ولا ترضهم عن أمير، وأمث قلوبهم كما يماث الملح (٤) بالماء أما والله لوأجد بدا (٥) من كلامكم ومراسلتكم ما فعلت، ولقد عاتبتكم في رشدكمحتى لقد سئمت الحياة، كل ذلك تراجعون بالهزء من القول، فرارا من الحق،وإلحادا إلى الباطل الذي لا يعز الله بأهله الدين، وإني لأعلم أنكم لا تزيدونني غيرتخسير، كلما أمرتكم بجهاد عدوكم اثاقلتم إلى الأرض وسألتموني التأخير، وفاعذي الدين المطول، (٦) إن قلت لكم في القيظ سيروا، قلتم الحر شديد، وإنقلت لكم في البرد سيروا، قلتم القر شديد (٧) كل ذلك فرارا عن الحرب، إذاكنتم عن الحر والبرد تعجزون، فأنتم عن حرارة السيف أعجز، فإنا لله وإنا إليهراجعون.

(١) أي متطلبا صلاحكم بفساد ديني.

(٢) منيت به: امتحنت واختبرت به.

(٣) سئمه: مله.

(٤) يماث الملح: يذوب.

(٥) لم تجد لك بدا من كذا أي: مخلصا منه.

(٦) المطول: الكثير المطل وهو: تأخير أداء الدين بلا عذر.

(٧) القر بالضم – البرد.

٢٥٨

يا أهل الكوفة قد أتاني الصريح يخبرني أن ابن عمر قد نزل الأنبار (١)على أهلها ليلا في أربعة آلاف، فأغار عليهم كما يغار على الروم والخزر، فقتلبها عاملي ابن حسان، وقتل معه رجالا صالحين، ذوي فضل وعبادة ونجدة، بوأ اللهلهم جنات النعيم، وأنه أباحها، ولقد بلغني أن العصبة من أهل الشام (٢) كانوايدخلون على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة فيه تكون سترها، ويأخذون القناعمن رأسها، والخرص من أذنها، والأوضاح من يديها ورجليها وعضديها، والخلخالوالميزر عن سوقها، فما تمتنع إلا بالاسترجاع والنداء: ” يا للمسلمين! ” فلا يغيثهامغيث، ولا ينصرها ناصر، فلو أن مؤمنا مات دون هذا ما كان عندي ملوما، بلكان عندي بارا محسنا، واعجبا كل العجب من تظافر هؤلاء القوم على باطلهم،وفشلكم عن حقكم، قد صرتم غرضا يرمى (٣) ولا ترمون، وتغزون ولا تغزونويعصى الله وترضون، فتربت أيديكم يا أشباه الإبل غاب عنها رعاتها، كلمااجتمعت من جانب تفرقت من جانب.

 

* * *

احتجاجه (ع) على معاوية في جواب كتاب كتب إليه في غيره من المواضعوهو من أحسن الحجاج وأصوبها (*).

أما بعد فقد أتاني كتابك تذكر فيه اصطفاء الله تعالى محمدا صلى الله عليه وآله لدينه،وتأييده إياه بمن أيده من أصحابه، فلقد خبأ (٤) لنا الدهر منك عجبا إذ طفقت (٥)

(١) الأنبار: بلدة على الشاطئ الشرقي للفرات ويقابلها على الجانب الغربي هيت

(٢) العصبة – بضم العين -: جماعة من الرجال نحو العشرة وقيل من العشرةإلى الأربعين.

(٣) الغرض – بالتحريك -: الهدف الذي يرمى إليه.

(*) تجد هذا الكتاب في ج ٣ ص ٣٤ من نهج البلاغة.

(٤) خبأه: ستره وأخفاه.

(٥) طفق: جعل.

٢٥٩

تخبرنا ببلاء الله عندنا، ونعمته علينا في نبينا، فكنت في ذلك كناقل التمر إلىهجر (١)، أو داعي مسدده إلى النضال (٢) وزعمت أن أفضل الناس في الإسلام فلانوفلان (٣) فذكرت أمرا إن تم اعتزلك كله، وإن نقص لم يلحقك ثلمه، وماأنت والفاضل والمفضول، والسايس والمسوس، وما للطلقاء وأبناء الطلقاء والتمييزبين المهاجرين الأولين، وترتيب درجاتهم، وتعريف طبقاتهم، هيهات لقد حن قدحليس منها (٤) وطفق يحكم فيها من عليه الحكم لها. ألا تربع أيها الإنسان علىظلعك وتعرف قصور ذرعك (٥)، وتتأخر حيث أخرك القدر فما عليك غلبةالمغلوب، ولا لك ظفر الظافر، فإنك لذهاب في التيه، رواغ عن القصد (٦) ألاترى – غير مخبر لك لكن بنعمة الله أحدث -: إن قوما استشهدوا في سبيلالله من المهاجرين ولكل فضل، حتى إذا استشهد شهيدنا قيل: ” سيد الشهداء “وخصه رسول الله صلى الله عليه وآله بسبعين تكبيرة عند صلاته عليه (٧)، أو لا ترى أن قوماقطعت أيديهم في سبيل الله ولكل فضل، حتى إذا فعل بواحدنا كما فعل بواحدهم

(١) مثل يضرب لمن يحمل الشئ إلى معدنه لينتفع به فيه وهجر معروفةبكثرة التمر.

(٢) المناضلة المرامات يقال: ناضله إذا راماه، ومسدده: الذي يعلمه الرميوهو مثل يضرب لمن يتعالم على معلمه ومثله قوله:

 

أعلمه الرماية كل يوم * فلما اشتد ساعده رماني

(٣) يريد أبا بكر وعمر.

(٤) القدح: السهم وهذا المثل يضرب لمن يفتخر بشئ ليس فيه.

(٥) أربع: توقف وانتظر يقال: ” أربع على نفسك أو على ظلعك ” أي:

توقف ولا تستعجل والظلع العيب. أي أنت ضعيف فانته عما لا تطيقه ويقصر عنه باعك

(٦) أي حائد عن القصد.

(٧) هو حمزة بن عبد المطلب عم الرسول ” ص ” وقد مر ذكره في هامشص ١٩٤ فراجعه.

شاهد أيضاً

في رحاب الملحمة الحسينية 9  عبد الستار الجابري

في رحاب الملحمة الحسينية 9  عبد الستار الجابري اثار ثورة الامام الحسين (عليه السلام) ثورة ...